بيتر إيلي غوردون*- أكاديمي أمريكي
ترجمة: ربيع ردمان- كاتب ومترجم يمني
منذ عهدٍ قريب وفي بعض الأوساط الصغيرة من الحياة الأكاديمية، كانت كلمة “النظرية” تَشِعُّ بريقًا نافذًا إلى حدّ السِّحْر. لقد كانتْ بمنزلة علامةٍ على “عمق المعالجة” sophistication وكذلك علامة على الحرية، ترتقي بأتباعها إلى عَالَمٍ متفرد من الأفكار الأوروبيَّة التي تضفي ملكة الاستبصار في استكشاف الحقائق المضمرة في اللغة أو الثقافة أو التاريخ.
هناك معنيان مترابطان حتى وإن كانا غالبًا ما يسيران في اتجاهين متعارضين. فمن ناحية، انطوى مصطلح “النظرية” على دلالة الامتياز، وتنمية مهارات رفيعة في القراءة والتأويل لم يكن يحوزها سوى النُّخْبَة. ومن ناحية أخرى، كان المصطلح يحمل في طياته فكرةً مُتْرَعةً بالأمل عن ممارسة تحررية، وبذلك فكلُّ من يرغب في “ممارسة النظرية” يفعل ذلك لأنَّه وُعِدَ، في يومٍ ما وبطريقةٍ ما، بالارتباط بالعمل الأخلاقي والسياسي الذي يقود إلى تغيير العَالَم. فإذا كانت النظرية بمنزلة السؤال، فالممارسة هي الإجابة. غير أن الإجابة ظلتْ حتى في سنوات الحماس الشديد للنظرية مُرْجَأةً دائمًا لوقتٍ آخر.
في الوقت الحاضر بعد أنْ اضمحلَّ الشغفُ بالنظرية إلى حدٍ كبير، قد يكون من المتعذر تفسير لماذا كان يُنْظر إليها في السابق باعتبارها شديدة الجاذبية. من المؤكد أن أصولها غير المألوفة كان لها دور في هذه الجاذبية. وعلى كُلٍّ، فالنظرية لم تكن اسمًا لمذهبٍ محدد؛ لقد كانت مصطلحًا يتسم بالمرونة على نحوٍ واسعٍ بحيث يستوعب مختلف الأفكار والحركات الفكرية الوافدة كمنتجات مجلوبة من القارة الأوروبية. فالأسماء الرفيعة الممثِّلة للنظرية –ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجاك لاكان، ولويس ألتوسير– كانتْ في معظمها من الفرنسيين، وهؤلاء خضعوا لتأهيلٍ شديد الصرامة في المُعْتمد الفلسفي الأوروبي.
عندما تُرجمتْ أعمالُهم إلى اللغة الإنجليزية كان حظها من حفاوة الاستقبال نادرًا في دوائر المشتغلين بالفلسفة الناطقة بالإنجليزية الذين اعتبروها دخيلةً على ميدان الفلسفة؛ إذ بَدَتْ لهم مثل طفلٍ جامحٍ لا يُظْهِر قدرًا من الاحترام للمعايير المعتمدة في الوضوح والحجج العقلانية. لكنها قُوْبِلَتْ باستقبالٍ وحفاوةٍ جارفة في أقسام الأدب، وصارت تُعرف هناك بـ “النظرية الفرنسية”، وتتضمن مزيجًا زاخرًا من الأفكار جعلت الكثير من طلاب الدراسات العليا في حالة نشوة إلا أنه غالبًا ما كان يداخلهم الشعور بالحيرة تجاهها، رغم أنه من المستحسن أن يحتفظ المرء بحيرته لنفسه. تحولتْ النظريةُ في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين إلى موجةٍ اجتاحت العلومَ الإنسانية كما لو أنَّها دِيْن جديد. لقد آمن بها الكثيرون، وقاومها البعض، وظلتْ هناك فئة قليلة يساورها الشك في أنها تعيش في ظل ثورةٍ فكرية. غير أن النظرية لم تكن تختلف عن العديد من الثورات، فما يبدأ مُتْرَعًا بالآمال سرعان ما يتحول إلى عقيدةٍ مُتكلِّسة. لقد تحولت النظرية إلى موضة، وبعد ذلك فقدت بريقها.
الصيف بين الفيلم والكتاب
“صيف النظرية” هو على وجه التقريب عنوانٌ لكل من فيلم وكتاب (أُضيف إلى عنوان الفيلم كلمة “طويل” كصفة للصيف). يستعرض العملان تاريخًا غير معروفٍ إلى حدٍ بعيد بالنسبة للقراء الناطقين بالإنجليزية: الكيفية التي جُلِبَتْ بها النظرية إلى ألمانيا، وما أثارته من حواراتٍ فكرية بين المثقفين والفنانين، وما تولَّد بوحيٍ منها من أساليب جديدة تتعلق بالتفكير في الأدب والمجتمع. لقد صِيْغَ كلٌّ من الفيلم والكتاب على نحو بارع، فكلاهما ممتعان للمشاهدة أو القراءة إلى حد أنهما يوقظان الفرحة بقدوم الصيف رغم أنهما يناقشان موضوعاتٍ ذات وزنٍ ثقيل.
الفيلم صنعة المخرجة الألمانية إيرين فون ألبيرتي Irene von Alberti، وهو بمنزلة لوحة نُفِّذتْ ببراعةٍ لجماعةٍ محددة تضم ثلاثَ شاباتٍ –نولا وكاتيا ومارتينا– يتشاركن السَّكن في شقةٍ داخل منطقةٍ صناعية مهجورة في برلين الحالية. يظهر المكانُ أشبه بجزيرة صغيرة تسودها البوهيمية وقد اتُّخذ قرار بإزالتها من أجل إفساح المجال لتشييد “مدينة أوروبا”، وتتمثل في بناء مركز تجاري فخم للرأسمالية العالمية. (بعد إصدار الفيلم بسنوات، بدتْ معالم تطوير تلك المنطقة واضحة للعيان). يتسم أبطال الفيلم بالاندفاع ولكنهم جادُّون في الوصول إلى أهدافهم. إنهم يقاومون جاذبية الاقتصاد الجديد ويتوقون إلى التعبير الإبداعي في مجالات المسرح أو الرسم أو السينما.
يقوم الفيلم على التناوب بين مشاهد مرحة وأخرى قاتمة. كثيرًا ما تصادف الشابات الثلاث شبابًا ويطرحن السؤال: هل هذا الرجل بالذات أمر ضروري بالفعل أم أن بالإمكان استعماله فقط كمصباح أرضي للزينة؟ يلوحن بأيديهن ثم يرددن: إنه مجرد مصباح للزينة. ومن المشاهد المثبطة للمعنويات بشكلٍ بالغ حين تَدْفَعُ مارتينا حقيبةً تضم أعمالها الفنية إلى وكيل مواهب أقبل عليها يُفَسِّر مضامين أعمالها وفي الوقت ذاته يتصور الكيفية التي يمكنه من خلالها أن يحقق بهذه الأعمال نجاحًا تجاريًا. وإزاء عاصفة كلماته المنهمرة تقوم مارتينا بجمع محتويات حقيبتها وتنسحب من المشهد.
فون ألبيرتي مخرجة ألمانية فريدة من نوعها فهي صاحبة قناعات نسوية راسخة وتتمتع بروح دعابة حادة. يعيدنا فيلم “صيف النظرية الطويل” بنزعته السوريالية وضرباته الخفيفة من السخرية إلى فيلم “الصينية” أو بالأصح “على الطريقة الصينية: فيلم قيد الإعداد” للمخرج [الفرنسي] جان لوك غودار في عام 1967 يصور شبابًا من الماوييين الفرنسيين يخططون لاغتيال شخصيات أثناء تسجيل مناظراتهم، ومن هنا حمل الفيلم عنوانًا فرعيا “فيلم قيد الإعداد”. وكانت المحصلة ممارسة لعوب عن المرجعية الذاتية. يقوم غودار في أحد مشاهد الفيلم الشهيرة بتصوير حوار في قطار بين فيرونيك بوصفها واحدة من بين الطلاب المناضلين وفرانسيس جانسون بصفته الحقيقية أستاذًا في جامعة نانتير حيث كانت الممثلة تؤدي دور فيرونيك كطالبة فيها. تبدو فون ألبيرتي مفتونة أيضًا بهذا التشابك بين الخيال والواقع. نولا هي نفسها صانعة أفلام وثائقية شابة، والفيلم الذي نشاهده هو التسجيلات التي أجرتها لصناعة فيلمها. تقوم نولا بتصوير فيلم جاد رغم أنه غير مترابط بعض الشيء حول موضوع “الأفراد الذين يعملون على تحسين ذواتهم ووعيهم الجمعي”. والموضوع على سبيل التورية التَّهكمية؛ فما يستحوذ على اهتمامها في واقع الأمر هو السؤال عما إذا ما كانت هناك أي سعادة تتعالى على اللحظة الراهنة. وما يطفو فوق سير الأحداث يتصادى مع سؤال لينين الشهير: “ما العمل”؟
غير أن نولا على عكس لينين، فهي لا تعرف ما يجب القيام به. وعلى مدار الفيلم، نتابع حركتها وهي تنتقل في برلين عبر الحدائق والمكاتب وفوق أسطح المنازل، لإجراء حوارات مع منظرين ألمان بارزين (حقيقيين، وليسوا ممثلين) مثل الفيلسوفة راحيل ياجي Rahel Jaeggi والمؤرخ الثقافي فيليب فيلش Philipp Felsch. فيلش هو مؤلف كتاب “صيف النظرية”، ومن كتابه استعارتْ فون ألبيرتي عنوان فيلمها.
ليست العلاقة بين الفيلم والكتاب متينة وإنما ذات بُعْد إرشادي. يتناول فيلش تاريخ الشغف الألماني بالنظرية الفرنسية خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين؛ فيما يُعدُّ فيلم ألبيرتي (ونولا أيضًا) بمنزلة استكشاف بلا حدود ثابتة للإمكانات التي يمكن أن تقدمها لنا النظريةُ في الوقت الحاضر. بينما تجلس نولا في الحديقة في انتظار فيلش لإجراء حوارٍ معه، تشغل وقت انتظارها في قراءة كتابه. ما تخلص إليه من مجمل حوارها معه أن إحياء الشغف الفكري الخاص بالجيل السابق قد لا يكون بالأمر السهل. وتتساءل: «هل دخلنا الآن في “شتاء النظرية الطويل”؟» هل تخلينا عن الوحدة القديمة بين نظرية القراءة والثورة السياسية؟ يرد فيلش بالإيجاب موضحًا أن الناس لم تعد تقرأ بالكثافة التي كانوا عليها من قبل. ثم يشير إلى وجود مفارقة؛ وهي أن المجال العام مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي أصبح بأكمله منهمكًا في الكلمة المكتوبة. غير أن إمعان النظر في كل ذلك المكتوب يستحيل رياضيًا. لقد صار الجميع يكتب، ولم يعد هناك مَن يقرأ.
مدرسة فرانكفورت
فيلش صاحب أسلوب مـتألق وقراءة كتابه تمثل متعة بالغة العذوبة. فهل هذا يدحض ما يدعيه داخل الفيلم؟ على كُلٍّ، فنولا تقرأ كتابه وهي بمنزلة عينة لنا كقراء. كُتِبَ “صيف النظرية” بأسلوب جذاب وساخر يأخذ المثقفين بجدية أقل مما يحب المثقفون أن يأخذوا أنفسهم –لا يقف عند وصف أفكارهم فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى وصف أنماط حياتهم وشؤونهم الخاصة– لكنه يفعل ذلك بمنتهى البراعة والفطانة بحيث نادرًا ما يخشى المرء أن تكون الأفكار قد تعرَّضتْ لأيّ تشويه. مما لا ريب فيه أن فيلش لا يفترض أنه هو نفسه من كبار المُنَظِّرين. وطريقته في عرض الأفكار لا تستتبع القيام بتقييمها؛ فالأفكار تبدو مثل شخصياتٍ في مسرحية. وكتابه ضربٌ من ضروب التاريخ الفكري، وليس فلسفة؛ فهو يسعى إلى فهم كيف تحولت النظرية إلى موضة في ألمانيا وكيف سطع نجمها ولماذا توارى. وربما يكون بالإمكان استشفاف وجهة نظره في القول إننا إذا كنا نعيش شتاء النظرية، فالمتاح لدينا اليوم هو استعادة ماضيها.
لتسليط الضوء على هذه الحكاية، يعمد فيلش إلى تنظيم تاريخه حول نجاحات إحدى دور النشر: ميرف Merve، وهي دار نشر صغيرة حديثة الإنشاء أسّسها بيتر جنتي Peter Gente وزوجته ميرف لوين Merve Lowien في عام 1970. كانت جميع المطبوعات المبكرة للدار بحجم الجيب، وغالبًا ما كانت مقرصنة أو غير قانونية من نصوص قصيرة مترجمة إلى الألمانية من الفرنسية. قد تأتي عناوينها على نحوٍ غامض (مثل “جذمور”، مقال اشترك في كتابته الفيلسوفان الفرنسيان جيل دولوز وفيليكس غوتاري عام 1977) أو بسيطة بشكلٍ مراوغ (مثل محاضرة فوكو عام 1978 التي تحوَّلتْ إلى مقالةٍ بعنوان “ما هو النقد؟”). كانت إصداراتها الأولى بأسعار زهيدة ومثبتة بالدبابيس، وغير مجلدة ويمكن التعرف عليها بسرعة من خلال تصميم معين لأغلفتها يكتفي بالحد الأدنى ولكنه بالألوان. لا يزال للدار حضور حتى اليوم، وقد يصادف المرء في مكتبات من نوعٍ محدد صفًا كاملًا من كتب ميرف في شاشة عرض متعددة الألوان. لكن حاليًا يمكن العثور على كتبها بشكلٍ أكثر في محال بيع الكتب في المتاحف، ولم تعد تحمل الوعد باليوتوبيا السياسية.
قد يبدو أن تركيز فيلش على ناشرٍ واحد غير مُجدٍ، لكنه كمؤرخ ثقافي حصيف على دراية أن ما قد يبدو هامشيًا في حقبةٍ ما ربما يغدو مُحدِّدًا لمركزها في كثير من الأحيان. إن تاريخ دار ميرف ليس سوى تاريخٍ مُصَغَّر لثورةٍ كبرى في الحياة الفكرية الألمانية. (هناك قصة مماثلة تُروى عن دار نشر أمريكية هي (Semiotext e) أسسها الراحل سيلفير لوترينجر في عام 1974 وكانت تنشر كتبًا بحجم الجيب متخصصة في ترجمة النظرية الفرنسية إلى الإنجليزية).
مثَّل منتصف ستينيات القرن العشرين بداية التمرد الفعلي للجيل الصاعد من الطلاب الألمان على الثقافة الرسمية القائمة على نزعة مسايرة التقاليد السياسية والتوسع الرأسمالي اللذين سادا خلال فترة الثلاثين عامًا من النمو الاقتصادي المعروف باسم المعجزة الاقتصادية. راح البعض يتطلع إلى الشخصيات البارزة في معهد البحوث الاجتماعية (الشهير بمدرسة فرانكفورت)، وكان يضم فريقًا من المثقفين المهاجرين ذوي التخصصات البينية أمثال ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو اللذين عادا من أمريكا بعد الحرب. أُعْجِبَ الطلاب الراديكاليون بالمعهد بخلاف المحافظين الذين كانوا يَحُطّون من قَدْره حيث صار له قوة لم تكن في الحسبان ومصدر إلهام لليسار الألماني. كان توجه المعهد النظري ماركسيًا على نحوٍ غامض ولكنه أبعد ما يكون عن الثورية، فقد تبدَّى له العالم الحديث كعَالَمٍ غارقٍ في التسليع شبه الكلي ولم يبق فيه سوى منفذ ضيق للخيار السياسي. قام أدورنو خلال سنوات الحرب بتأليف كتاب “الحد الأدنى من الأخلاق”، وهو كتاب يقوم على فقراتٍ قصيرةً متفرقة جَمَعَتْ بين النقد الفلسفي والثقافي في نثر لا مثيل له وإن بدا ممتنعًا في كثير من الأحيان. نُشِرَ الكتابُ في ألمانيا عام 1951 بُعَيْد عودة أدورنو إلى أوروبا، وأصبح بمنزلة كتاب صلوات يومية للقراء الشباب، ونموذجًا للشكل الذي ينبغي أن تكون عليه النظرية: صياغتها في هيئة مقالات، وغير نسقية، وذات رؤية جوَّالة. لقد أضحتْ النظرية ممارسة نقدية، أو حتى أسلوب حياة.
أخذ مؤسِّسو ميرف يخططون لإنشاء دار نشر تسير وفق هذه الرؤية للشكل الذي قد تكون عليه النظرية. لكنهم أدركوا أيضًا أن هذا سيعني تمردًا في صفوف مثقفي ألمانيا الغربية؛ فلا بد أن يتحرروا من هيمنة دور النشر الألمانية المعروفة مثل زوركامب Suhrkamp، وهي دار نشر تأسست في عام 1950 مثَّلت إصدارتها الرصينة في الفلسفة والنظرية الاجتماعية التجسيد الفعلي لفكر اليسار الليبرالي في ألمانيا الجديدة. لقد كانت هذه روح العقلانية المستنيرة والطموح العالمي التي سوف يقرنها القراء بيورغن هابرماس أكثر من غيره، فهو الفيلسوف الذي عمل في مطلع حياته العلمية مساعدًا لأدورنو في فرانكفورت، ثم سطع نجمه في السبعينيات باعتباره أبرز ممثلي الجيل الثاني للنظرية النقدية في مدرسة فرانكفورت.
في واقع الأمر، كانت هناك رابطة وثيقة بين معهد فرانكفورت وزوركامب. وستتولى الدار نشر كل الأعمال المهمة لأعضاء المعهد. ولعل هذا ما حدا بالناقد الأدبي جورج ستاينر George Steiner أن يذهب إلى حد وصف فكر اليسار الليبرالي في ألمانيا الغربية بأنه “ثقافة زوركامب”. صار بوسع أدورنو في عام 1965 أن يعلن بشكلٍ جدير بالقبول أن هذه “حقبة النظرية”، ولا نكاد نصل إلى السبعينيات حتى كانت زوركامب قد استقطبت قاعدة واسعة من القراء لسلسلتها الأكاديمية “زوركامب للكتب العلمية”، وجاءت جميع كتب السلسلة ذات الغلاف الورقي بلونٍ أزرق داكن موحَّد ومُمَيَّز. من بين العناوين التي تم نشرها في تلك السلسلة، المجلد الأول من الأعمال الكاملة المنشورة لأدورنو والمكونة من عشرين مجلدًا، وذلك في عام 1970 بعد عام من وفاة أدورنو.
استقبال “النظرية الفرنسية”
على مدى العقد التالي سوف تتغير النظرية؛ فتغدو أكثر تقلّبًا وأكثر تجريبيةً. عندما بدأ المحررون في دار ميرف في اكتساب أرضيةٍ خاصةٍ في عالم النشر الألماني التنافسي، وجدوا أنفسهم يسلكون مسارًا جديدًا وغير مألوف تباعد بشكلٍ حاد عن روح العقلانية التي عملتْ زوركامب على ترسيخ حضورها الكبير. ولعل أهم تغيُّر واضح كان التباعد المتزايد عن الماركسية. أصدرتْ ميرف كتبها في سنوات النشاط الأولى ضمن سلسلةٍ أطلقت عليها عنوان “الجدل الماركسي الدولي”. وجرى تغيير اسم السلسلة فيما بعد إلى “خطاب ميرف الدولي”. ويعد هذا التغيير علامة على تحول معين في التوجه الأيديولوجي إذ راحتْ تبتعد عن لغة الجدل الرصينة والتحول باتجاه النظريات الجديدة المجلوبة من فرنسا.
سرى التغيير أيضًا في الأحوال الشخصية لمشرفي الدار، حين التقى جنتي بامرأة أخرى هي هايدي باريس Heidi Paris، تركت زوجته الأولى ميرف لوين الدار (مع ذلك ظلت الدار محتفظة باسمها الأول). لقد جسَّدتْ باريسُ المرأةُ الأصغر سنًا والأكثر جسارةً في اهتماماتها روحَ مايو 1968. تبيَّن لباريس، مثل العديد من الطلاب في ذلك الوقت، أن الماركسية في حالة جمود، فهي نظام متصلِّب مثبِّط للطاقات الإبداعية والغريزية في الفنون، وبإشراف جزئي منها بدأتْ الدارُ في قراءة ونشر أعمال مترجمة لمؤلفين فرنسيين مثل ميشيل فوكو وجان فرانسوا ليوتار. يولي فيلش في كتابه أهمية كبيرة لنشاط القراءة. الواقع أنه لم يكن لدى جنتي ولا باريس الطموح ليصبحا منظرين بنفسيهما؛ لقد اعتقدا أن القراءة كانت منذ البداية ممارسةً تحويلية. تقول باريس إن «قراءة فوكو كتناول المخدر، تحفزك على التفكير. إنه يكتب مثل الشيطان». نظَّمت باريس وجنتي في عام 1976 مجموعة قراءة لقراءة كتاب “ضد أوديب” لدولوز وغوتاري قراءةً متأنية، وهو أحد النصوص الأكثر صعوبة في موجة الفلسفة الفرنسية الجديدة. لقد استغرقت المهمة منهم خمس سنوات.
ما الذي يفسر هذا الحماس؟ يعود جزء من الإجابة بالتأكيد إلى الإدراك الواسع النطاق لدى اليسار داخل ألمانيا وفي غيرها من البلدان أن النموذج الماركسي قد استنفد أغراضه. كما كان للترجمة الفرنسية لكتاب ألكسندر سولجينتسين “أرخبيل غولاغ” في عام 1974 دور في تسليط الضوء على الوحشية الفظيعة للشيوعية السوفيتية، وأسهمت في ترسيخ حركات فكرية جديدة لم تكن تبدي تشككًا في الرأسمالية فحسب وإنما أيضًا في جميع أشكال السلطة المؤسسية المعقلنة. ويُعدُّ كتاب فوكو “المراقبة والعقاب” (1975) نموذجًا لهذه الرؤية الجديدة للمجتمع الحديث بوصفه نظامًا كليًا للمراقبة والسجن. لم يعد المستهدف بذلك جماعة معينة أو إجراء اقتصاديًا، بل الواقع الأساسي للبنية الاجتماعية في حد ذاتها. رأى فوكو أن كلّ المساعي المبذولة لفرض قدرٍ أكبر من النظام داخل المؤسسات لم يؤد إلا إلى مزيد من تعزيز سلطتها بحيث صارتْ الذات الإنسانية مشاركةً في وضع القيود على نفسها. في حوار فوكو مع الماوييين الفرنسيين، حذر أيضًا من أشكال العدالة الشعبية التي كانت موضع شك. فمجرد وضع طاولة بين القضاة والمتهمين يشكل علامة على نشوء مجتمع تأديبي.
لقد أدى تراجع الاهتمام بالماركسية كنظرية اجتماعية إلى وجود فراغ فكري صار بالإمكان أن تشغله اهتمامات جديدة. كان في طليعة المستفيدين من هذا التغيير إعادة اكتشاف فريدريك نيتشه، الذي حاول النازيون أن يصنعوا منه رائدًا فكريًا، لكنه ظهر الآن للقراء الألمان بمنظور مختلف وغير مألوف. وفي إطار ثقافة كانت لا تزال تتصالح مع ذكرى الرايخ الثالث، لم يكن تجديد الاهتمام بفلسفة نيتشه داخل ألمانيا ممكنًا إلا لأنه جرى استعادتها من الخارج بعد أن خضعت هناك لإعادة تفسير جذرية. كان الفلاسفة الفرنسيون في أواخر الستينيات والسبعينيات يقرأون نيتشه بعيون جديدة وبدون أعباء التاريخ. ألقى ليوتار في عام 1972 ورقة بحثية في مؤتمر عُقد تحت عنوان “نيتشه اليوم” في سيريسي لا سال [بلدية في منطقة المانش]، وصف فيها الماركسية أنها “une dérive”، أي انحراف عن المسار؛ وعلى النقيض من ذلك دعا إلى مبدأ “التكثيف”، وتحطيم جميع التسلسلات الهرمية. لم يمدح السياسيين، بل الرسامين التجريبيين، وموسيقى البوب، والهيبيز،، الذين تقدم تجربتهم الحياتية “تكثيفًا” أكبر… وأكثر من 300 ألف كلمة لفيلسوف محترف”.
النيتشوية الجديدة
أبدى جنتي وباريس حماسًا لهذه الرؤية، وقاما في عام 1978 بنشر ترجمة ألمانية لنصوص ليوتار في طبعة جديدة ذات لون وردي زاهٍ تحت عنوان “تكثيفات” Intensitäten، وصارت من أفضل مبيعات ميرف. فيما بعد أصدرت ميرف محاضرات أخرى عن نيتشه، ومن بينها طبعة ألمانية تضمَّنتْ مدخلًا إلى نيتشه كتبه دولوز. يقول فيلش: لقد كان التأثير العام الذي أحدثته موجة النيتشوية الجديدة أنها أدخلت روح المرح إلى الجدل الفلسفي الألماني الذي يصفه فيلش بالتحرر. كتب دولوز: «أولئك الذين قرأوا نيتشه دون أن يضحكوا، لم يقرأوا نيتشه على الإطلاق».
لكن إذا كان نيتشه قد جلب الضحك إلى الفلسفة الألمانية، فإن خريف ألمانيا في عام 1977 جلب موجة من العنف -عمليات اختطاف وقتل نفّذها منتسبون إلى فصيل الجيش الأحمر- أدخلتْ اليسار في حالة من الفوضى. سافر محررو ميرف إلى باريس وقاموا بزيارة فوكو وحاوروه حول الأحداث الأخيرة. وحسبما أفاد فيلش، فقد حُفظت محادثاتهم في شريط تسجيل. أعرب جنتي عن خشيته من أن توجه ألمانيا الغربية إلى محاربة الأعمال الإرهابية قد يجعل منها دولة بوليسية: رد فوكو بعبارات كانت محيرة إلى حدٍ ما. وبدلًا من أن يتطرق فوكو إلى تفاصيل الأزمة الحالية، راح يتحدث بشكل مفصل عن نقاط تاريخية عامة مع إشارات إلى القرن السابع عشر ومَلِك الشمس [لويس الرابع عشر مَلِك فرنسا]. قال فوكو: المشكلة تكمن في أن فصيل الجيش الأحمر لا يزال يتصور أنه كان يقاتل نظامًا قديمًا. لقد أخفق في إدراك أن طبيعة السلطة الحديثة لم تعد تكمن في الدولة. وكان يجدر به فهم “الفيزياء الدقيقة للسلطة”، إنها ديناميكية نظامٍ بلا مركز تتوزع السلطة من خلالها في كل أنحاء الكيان الاجتماعي.
كتب فيلش: بعد عام 1977 «اتخذت “النظرية” منحنى مختلفًا». استمرت دار ميرف في نشر الأعمال المترجمة، لكن سمعتها في النظرية الطليعية أخذت تتلاشى. لكن ما حققته الدار من مكاسب من حيث الثروة قد يتيح لها أن تصدر طبعات بغلاف مقوى توضع جنبا إلى جنب مع غيرها من المجلدات الأكاديمية في مكتبات الجامعات. أخذت ميرف تُصدر بوتيرةٍ متزايدة كتبًا في النظرية بأغلفةٍ ذات نوعٍ من البريق الجمالي بدتْ مناسبةً بشكلٍ أفضل للعرض فيما يعرف بـ “المكعبات البيضاء” في عالم الفن. بالنسبة إلى دار نشر كانت قد أعلنتْ عن نفسها كناشر مختلف فإن نجاحها لم يكن يخلو من مفارقة. يقول فيلش: «ما فقدته الدار في نجاحها هو أجواء الخطر التي كانت تحيط بها».
في منتصف الثمانينيات جاءتْ موجةٌ جديدة من النقد من قِبَل هابرماس، عميد النظرية النقدية، الذي قدَّم في كتابه “الخطاب الفلسفي للنظرية” (1985) مسحًا تاريخيًا ومراجعةً رصينة لإخفاقات الطليعة الفكرية منذ نيتشه. يستحق فصلا الكتاب المتعلقان بدريدا وفوكو تنويهًا خاصًا لسريان مفعولهما في تصنيف هذين الرمزين من رموز ما بعد البنيوية الفرنسية كمفكرين لا يتحلَّيانِ بالمسؤولية سياسيًا وذوي مَيْلٍ محتمل إلى اللاعقلانية وغير مبالين بالمسؤولية التي تقتضيها الفلسفةُ الموجهة للجمهور. ذهب كثيرون إلى أن هذه المراجعة تتسم بالمغالاة وتفتقر إلى الفهم على نحوٍ واضح، لكنها رسمتْ مفاصل الخلاف بين النظرية النقدية و”النظرية الفرنسية” الذي سيستمر لسنواتٍ عديدة. في هذه الأثناء، شهدت دار ميرف تغييرًا في القيادة التحريرية. انتحرت هايدي باريس في عام 2002؛ وبعد خمس سنوات، تقاعد بيتر جنتي وانتقل للعيش في شمال تايلاند، حيث توفي في الوقت الذي كان فيلش أنهى متطلبات البحث لكتابه “صيف النظرية”.
يتمتع فيلش بموهبة في تضفير التاريخ الفكري مع الحكاية الشخصية دون الانزلاق إلى مجرد ثرثرة. وفيما يخص أولئك الذين يولون قدرًا أكبر من الاهتمام بجوهر الأفكار، فإن سرده قد يثير أحيانًا الشك في أن الشغف بالنظرية في ألمانيا كان موضةً بقدر ما كان فلسفةً. وعلى الرغم من أن فيلش لا يتعمّق في مسائل المنهج، إلا أن كتابه يمثِّل طريقة معينة لوصف تاريخ الفلسفة دون ممارسة التفلسف على نحوٍ فعلي.
نقد النظرية
من المؤكد أن المثقفين، وخاصة في التقليد الأوروبي أو ما يسمى بالتقاليد “القارية”، كانوا يدركون منذ زمن بعيد حقيقية أن الفلسفة ليست مجرد ممارسة للارتقاء بالعالم؛ بل هي ناتجة عن التاريخ، وأنها في النهاية ممارسة للتأمل في ماهيتنا وما نحن عليه في لحظتنا التاريخية. وعلى نحو ما قال هيجل مرة، الفلسفة بنت «زمنها الخاص المُدْرَك في الأفكار». لكنْ هناك أيضًا فرق بين وضع المثقفين في وسطهم التاريخي وبين النظر في مسألة ما إذا كانت أفكارهم تتمتع بأية ميزة. وقد تمكَّن فيلش ببراعته كمؤرخ ثقافي من تقديم صورة حية ومسلية في كثير من الأحيان عن المثقفين الذين لم تكن النظرية تمثل لهم ممارسة أكاديمية بل أسلوب حياة. وهذا ما كانت عليه الفلسفة دائمًا من عهد الرواقيين إلى فوكو. لكن هل نحتاج حقًا إلى معرفة أن فوكو كان يتسكع في النوادي الليلية في برلين مع ديفيد باوي؟ ربما لا، ربما نعم. لا يملك المرء حيال ذلك إلا أن يشك بقوةٍ أن الشغف بالنظرية الفرنسية أصبح مجرد وعي ذاتي بمكانتها بوصفها اتجاهًا ثقافيًا.
هذا الوعي العميق بصورتها هو المسؤول عن تحويل الحركة إلى ما أسماه فرانسوا كوسيه François Cusset (باللغة الإنجليزية) “النظرية الفرنسية”، وهو اسم جمع لا يشير إلى متن مستقل من الأفكار بل إلى حساسية عامة جرى تجسيدها عندما جُهِزت للتصدير إلى الخارج. نُشِرتْ دراسة كوسيه المستفيضة حول هذه الظاهرة المميزة بدايةً باللغة الفرنسية منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، وكان من الواضح أنها كُتبت للقراء الفرنسيين. الغرض المعلن منها هو علم اجتماع التلقي الأمريكي، لكن نبرتها تتراوح بين الشك والازدراء (أحيانًا). ينظر كوسيه إلى “النظرية الفرنسية” على أنها “متن نصي أمريكي غير طبيعي”، فهي مسخ تأويلي نجم عن “بتر السياق” أو حتى عن “إكراه تصنيفي”. يبدو كوسيه غير مقتنعٍ أنَّ كلَّ نشاطٍ فكري ينطوي على نوعٍ من الترجمة، وذلك لاستحالة وجود لغة أو ثقافة يمكن وصفها أنها ذات قابلية للعَزْل، كما لا توجد نظرية أو دعوى فلسفية تتسم بالثبات التام في سياقها الأصلي بحيث يتعذر نقلها ولا أن تَضْطَرِم بخيال القراء في مكانٍ آخر. وعلى نحو ما لاحظ إدوارد سعيد مرة أن «الأفكار والنظريات تنتقل من شخصٍ إلى شخص، ومن موقف إلى موقف، ومن حقبة إلى حقبة». ما أعنيه وما تعنيه قد يتقاربان ولكنهما لن يصلا إلى التطابق أبدًا. فالمهمة العظيمة التي ينهض بها المترجم لا تتمثل في إعادة إنتاج نسخة مطابقة للأصل، وإنما في توسيع جسور التفاهم المتبادل. وإغلاق هذه الجسور سوف يؤدي إلى تجميد المعنى بشكلٍ كلي.
يبدو فيلش أكثر تعاطفًا مع العديد من المنظرين والقراء الذين تزدحم بهم قصته. ويوضح أن هدف أولئك كان «غرس الفلسفة الباريسية في البلدان الناطقة بالألمانية، ليس فقط من خلال الترجمة، ولكن من خلال استيعاب نصوصها الأصلية». ومع ذلك، فإن محاولة المرء تحويل نفسه إلى منظر فرنسي يمكن أن ينجم عنه “هفوات أسلوبية باروكية”، وهو نوع من التمثيل المسرحي أو التقليد حيث يتبنى المرء سلوكيات الفلاسفة الفرنسيين المكتوبة والمنطوقة. ففي القرن الثامن عشر، وقبل أن يسمع أحد عما صار يُعْرف بما بعد البنيوية أو السيميائية، كان جان جاك روسو يعاني من حساسية شديدة تجاه التكلف والحركات المسرحية في صالونات باريس. أما أولئك الذين عايشوا فترة خفوت الحماس الأمريكي للنظرية الفرنسية في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، فكان بإمكانهم في كثير من الأحيان رصد لمسة التصنع لدى زملائهم حين انخرطوا ضمن الاتجاه الجديد في الفلسفة بكل ما يتضمنه الانخراط من حماسة المتحولين. كانت هناك سلوكيات أو شعارات أو مصطلحات تقنية مميزة يمكن من خلالها للمبتدئ التعرف إلى جماعته. ولم يكن غريبًا، في عصرٍ أصبحتْ فيه السخرية والمرجعية الذاتية من القوالب الشائعة في الأدب والثقافة الجماهيرية، أن «أصبح من غير الممكن فصل أو تمييز النظرية عن المحاكاة الساخرة للنظرية» (الاقتباس من فيلش).
أُفول يثير الشَّجن
أضحتْ المحاكاة الساخرة سلاحًا أثيرًا للنيل من النظرية الفرنسية لدى من كانوا يقفون منها موقفًا معارضًا. كَتَبَ أستاذ الأدب كلاوس ليمان Klaus Laermann في عام 1986 مقالًا ساخرًا بعنوان “اللاكانية والدريدية” انهال فيه بالانتقاد اللاذع على التيار برمته، متهمًا زملاءه الألمان بـ “الفرانكولاترية” Frankolatrie [تقديس الثقافة الفرنسية]. قوبل المقال بإشادةٍ واسعة بين القراء الألمان، بل نال جائزة جوزيف روث Joseph Roth للكتابة الصحفية. ولعل أكثر الأمثلة شُهرةً عن المحاكاة الساخرة ذاك الذي حدث عام 1996 في الولايات المتحدة، حين عمد آلان سوكال Alan Sokal أستاذ الفيزياء في جامعة نيويورك إلى استخدام استراتيجية مماثلة لخداع محرري مجلة “النص الاجتماعي” الأكاديمية الذين نشروا له مقالة رجَّحَ فيها أن الجاذبية عبارة عن بناء اجتماعي. كان سوكال يعرف أن ما كَتَبَه مجرد لغوٍ فارغ، وقد رأى البعض في المشهد فضيحةً واعتبروه آخر مسمار يُدق في نعش النظرية. لكن التسلية في أمثال هذه الحالات ذات تأثيرٍ محدود. وعلى كل، فالسخرية ليس لها تأثير الحجة العقلانية. قد تكون النظرية في بعض الأحيان شكلًا من أشكال المحاكاة الساخرة للذات، مما أتاح لمنتقديها منفذًا إلى نقاط الضعف. لكن هناك شيء ما يفْقِده المرء حين يلجأ إلى المحاكاة الساخرة بدلًا من النقد.
قد تكون المحاكاة الساخرة إحدى النقاط الأخيرة للتلاقي بين كتاب فيلش وفيلم فون ألبيرتي. حين يلتقي المتعهد الفني الماهر بمارتينا داخل الفيلم –وتقريبًا أوشك أن يغرقها بلغته الاصطلاحية عندما راح يطالع أعمالها– تَحَدَّثَ بلغةٍ حدّدها عالما الاجتماع أليكس رول وديفيد ليفين على أنها “الفن الدولي باللغة الإنجليزية” International Art English، وهي لغة متخصصة “مُثقلة برطانة خطاب النظرية تجدها في كل مكان”. تأتي خاتمة فيلش بنبرةٍ غامضة، مُظْهِرًا قلقه من أن النظرية قد تدخل مرحلة الشتاء. إنَّه شديد التقدير للنظرية لدرجة أنه لا يبدي شعورًا بالابتهاج لأفولها. يكتب فيلش بأسلوب الحياد المرتبك، كما لو كان يعلم أن جميع الحركات الفكرية مقدر لها أن تعاني من المصير نفسه: تبدأ بوعود التحول الجذري، وما تلبث أن تفقد سحرها وتتقوض مكانتها حين تظهر على الساحة اتجاهات جديدة.
لعل رد فيلش على نولا صحيح؛ فعلى الأرجح نحن نمرُّ حاليًا بمرحلة انحدار. هناك أسباب وجيهة تثير بواعث القلق من أن ممارسة قراءة النصوص العويصة في طريقها إلى الزوال. يزداد عدد الأشخاص الذين يظهرون في مترو الأنفاق والحدائق العامة وهم في وضعية انكباب على وميض عالمهم الرقمي الخاص. إنهم لا يقرأون كثيرًا؛ بل يتصفحون. يقومون بإرسال الرسائل النصية ويكتبون تغريدات، غير أنَّ عَالَمَ تويتر ليس سوى ساحة عروض لذوات متأهبة للقتال لا يُشبه كثيرًا النموذج المثالي للمجال العام عند هابرماس.
ورغم ذلك، فالمثقفون الذين يظهرون في فيلم فون ألبيرتي يمثلون دليلًا مقنعًا على أن النظرية لم تَمُتْ وأن النقد الموجه للجمهور يواصل ازدهاره. إنها لحقيقة مؤسفة أن ذلك النوع من النظرية الذي ازدهر في العقود الأخيرة من القرن العشرين انتهى به المطاف إلى نَزْعةٍ مَدْرَسِيَّة scholasticism، جرى فيها التعتيم على المسائل الحقيقية ذات الصلة بالمعاناة والتحول الاجتماعي. لكن يتعين علينا ألا نخلط بين مصير إحدى الموضات الفكرية وبين المصير العام للنظرية. سوف يهل صيف آخر.
الهوامش
بيتر إيلي غوردون: أكاديمي أمريكي في قسم الفلسفة وأستاذ كرسي أمابيل بي. جيمس للتاريخ في جامعة هارفارد. يتركز اهتمامه على الفلسفة الأوروبية الحديثة وبشكلٍ خاص حول الفلاسفة الألمان أدورنو وهايدجر والنظرية النقدية. أصدر العديد من الكتب، منها “أدورنو والوجود” (2016)، و”المهاجرون الدنيويون: النظرية النقدية ومسألة العلمنة” (2020)، و”سعادة هشة: أدورنو ومصادر المعيارية” (2024).
– نُشرتْ هذه المقالة في مجلة Boston Review في ربيع 2024.