وأخيرا ، أصبح لي بيت أسكنه ويسكنني . . .! !
بيت صغير، أنيق ، يحتل الطابق الثاني من بناية حديقة في حي سكني ناشئ على أطراف المدينة .
ورغم الجهد الذي كان علي أن أبذله وأنا أقطع المسافة الطويلة من أقرب موقف يصله الباص إلى بيتي، إلا أن السعادة كانت تجتاحني ، كلما صعدت درجات المبنى الست والعشرين ، وهممت بإخراج السلسلة الطويلة التي يتدلى منها مفتاح الباب الخارجي بكبرياء ، بين المفاتيح الأخرى.
في الحقيقة ، لم يسبق أن كان لي بيت كهذا ، أو كغيره ، فمنذ أعلنت تمردي على العائلة ، وأنا (ابن شوارع ) كما يحلو لأصدقائي أن يدعوني، فتنقلت خلال ثلاث سنوات (هي عمر تمردي الذي بدأته قبيل تخرجي من الجامعة بشهور) بين ثلاثين بيتا وشقة وغرفة هي ليست لي، ولم يكن شيء مما فيها من ممتلكاتي، حتى انني اكتسبت لقب (حبة القلية ) عن جدارة .
وعندما دخل البيت إلى حياتي ، تبدلت طباعي، وانقلب بعضها رأسا على عقب ، فبالأضافة إلى أنني أصبحت أكثر ميلا للتعري، واستعراض جسدي الناحل أمام المرأيا المعلقة على الجدران بأحجامها المختلفة ، اكتسبت عادة جديدة لم أكن أستسيغها سابقا وهي ترك أصابعي تلهو بالسلسلة المعدنية ذات المفاتيح الخمس : واحد لخزانتي التي كنت أستخدمها أثناء دراستي الجامعية ، والثاني لباب بيتي، والثالث والرابع والخامس لا أعرف من أين حصلت عليها ، إذ ليس لها أبواب . . .! !
(3)
بيتي مكون من ثلاث غرف ، وصالة متوسطة المساحة ، ومطبخ واسع وحمام وتوابعه ، وفيه ثماني نوافذ ، وخمسة أبواب ، عدا الباب الخارجي، وهو رقم قياسي، لا أظن أن أيا من بيوت أصدقائي كان له مثله ، ولا أعتقد أن أحدا منكم يخالفني في أن مساحة الحرية الفردية التي يشعر بها المرء في بيته تتناسب طرديا
مع عدد الأبواب والنوافذ فيه .
وعلاوة على ميزاته المعمارية ، وطلاء جدرانه المختار بعناية ، فبيتي يحقق لي مطلبا طالما سعيت للوصول إليه ، وهو العزلة . . ..
العزلة التي اخترتها ، حينما اخترت أن أسكن في هذه المدينة الجنوبية حد التطرف ، مفترضا أنني سأنجز مشاريع لا أخر لها ، تأجلت بسبب انشغالاتي الدائمة واكتظاظي بالعلاقات التي استنزفتني ، وبددت طاقاتي خلال تواجدي في العاصمة . . .
نعم . . . لقد حقق لي بيتي الحد الأعلى من العزلة ، التي يا ما بحثت عن حدها الأدنى ، مما جعلني أنغمر بالسعادة ، كلما فكرت فيها ، لا أصدقاء ، لا أقارب ، لا ناس أعرفهم أو يعرفونني ، حتى ان لا أحد يخطئ عنوانا يبحث عنه فيطرق بابي ولو على سبيل الاستفسار.
وبهذا الانقلاب في حياتي، بدأت أعي ما يقصدونه با( البيت ) . ان تكون ملكك ، وأن تفعل ما يحلو لك ، دون أن تشعر انك مراقب من أحد ، مادامت الستائر الزرقاء السميكة تنزرع هنا وهناك في وجه زجاج النوافذ الشفيف .
( 4)
مرت خمسة أسابيع كما اشتهي، قرأت فيها ثلاثة عشر كتابا ، وأنجزت قصتين وقصيدة طويلة ، وغيرت مكان سريري أربعين مرة ، وكتبت تسع رسائل لأصدقاء أحياء ، وآخرين راحلين ، لن تصل اليهم لأنني لم أبعثها ، وفكرت بمشروع رواية أحشد فيها هذا الكم الهائل من التجارب خلال الثلاثين غيمة التي انقضت من شتاء بعمري .
لكن شعوري بالوقت بعد ذلك بدأ يتغير، ومزاجي أصبح غائما على الغالب ، الأيام تتباطأ ، والليالي تزحف بثقل على كاهلي الهش ، وبيتي يتحول إلى قبر يضيق علي بالتدريج ، ما أقبح اعتياد الأشياء ، وما أشد وطأة عزلتي التي اخترتها بارادتي ، هل من عاقل يختار منفى ليستأنف حياته فيه ؟
تمنيت لو أن لي جيرانا كباقي الناس ، يقضون مضجعي في ليالي وحدتي ، يؤنسونني بشجاراتهم الصغيرة ، وسهراتهم المكتنزة بالثرثرات ، بأصواتهم الهادرة .
. . . لو يا رب تمنحني جارا واحدا ، أسمع صرير باب بيته حين يدخل اليه أو يخرج منه ، لأتأكد انني مازلت على قيد الحياة ، لا على قيد العزلة التي تتنامى داخلي كغول نهم وتحيل أيامي إلى أسود فاحم لا أحتمله . . . .!
(5)
أدركت أنني أوقعت نفسي في ورطة غير محسوبة النتائج ، ماذا لو أسكنت معي شخصا أخر، أقول له : صباح الخير، أو مساء الخير، أرد عليه التحية فقط أنتظر قدومه كي أشعر أن هناك من يشاركني الحياة ، وأستعجل خروجه كي أتنعم بوحدتي القصيرة … لماذا لم أختر شقة في عمارة تزدحم بالساكنين ، كي أتعرف إلى ذاتي جيدا وسط زحامهم ، بدل أن أضيعها/ أضيعني هنا ، في غبش السكون اللانهائي الذي يطبق على ضلوع المكان . ..
(6)
اهتديت – بعد عناء في التفكير- على حل يخرجني من مأزق وحدتي ، استدعيت أحد المتخصصين في "الكهرباء" ، وطلبت منه ضبط جرس الباب الخارجي ، بحيث يقرع كل نصف ساعة بالضبط ، ثم يتوقف بعد دقيقة " أوتوماتيكيا" ودون أن يلمسه أحد . . . إنها خير وسيلة للتحايل على الوحدة ، فكلما سمعت رنين الجرس أوهمت نفسي أن هناك من هو بالخارج ، ينتظر أن أفتح الباب له ، ولكنه يعود أدراجه حين يظن أنني لست هنا . . .
انهمكت في القراءة والكتابة ، وفطنت كل نصف ساعة إلى وجودي، واصبح الجرس صديقي الذي يتفقدني دائما ، ويعيد التوازن بيني وبين العالم . . .
في اليوم ذاته اشتريت عشر ساعات بأحجام مختلفة ، مزودة جميعها بمنبهات ذات أصوات متباينة في الإيقاع والحدة ، من الناعم الرومانسي إلى الفج الغليظ ، وقمت بضبط كل منبه عند وقت معين ، أصبحت أسمع صوتا كهديل الحمام ، وأنا في الحمام ، وفي المطبخ ، جرس خشن يخترق أذني، وعند انشغالي بالقراءة يقترب مني صوت مقطوعة موسيقية بهالة فيروزية ، وهكذا ملأت بيتي بالأصوات ، وصار من الروتيني أن يتزامن رنين جرس الباب المنتظم في توقيته مع صوت أحد المنبهات الموزعة بين الغرف الثلاث والصالة ليصنعا معا "أوركسترا" تسعدني أكثر مما تزعجني
(7)
لكني لم أحسب النتائج جيدا ، إذ كنت مضطرا إلى الاستيقاظ أثناء نومي عشرات المرات كل ليلة ، تلبية للأصوات المنبعتة هنا وهناك من قلب الظلام ، محاولا إسكات ما تصله يداي منها ، أضحى الليل مقبرة من الأصوات التي تتوغل في لا وعيي ، وتولد كوابيس ترعبني كلما أغمضت جفوني خلسة لاصطياد نومة قصيرة لا أطالها .
ورغم ذلك ، فقد تعايشت مع المسألة باعتبار أنها أمر واقع لا مناص منه وتحولت الأصوات الليلية من مجرد نشاز لا أستسيغه ، وشر لابد منه إلى طقس محبب لدي ، أبرز فيه قدراتي على التخيل ، ومعرفة مصدر كل صوت لايقافه ، خصوصا بعد أن درجت على تبديل مواقع الساعات المنبهة كل يوم ، لأمارس لعبتي المفضلة معها .
(8)
بدأت أتقبل فكرة أن الأصوات كائنات تسكن معي في بيتي ، تشاركني الوقت والهموم ، وتقتسم معي تفاصيل يومي ، ووجدتني من غير تخطيط مسبق أقيم علاقة معها ، بعد أن أصبحت جزءا من عالمي ، إذا لم ترن ساعة عند الوقت الذي ضبطتها عليه ، اعتقدت أنها مريضة ، أو مصابة بصداع ، رغم أن مشكلتها قد لا تتعدى نفاد طاقة البطارية ، وبلغ الأمر بي أنني اخترت للساعات أسماء وهبتها اياها، أناديها ، وأدللها بها ، وأميزها عن بعضها بعضا .
لكنني لاحظت قبل أيام ثلاثة أن عددا من المنبهات تطق أصواتها في غير الأوقات التي اعتدت عليها ، قلت لنفسي انه من الطبيعي أن يحدث لها هكذا خلل ، لكثرة الاستعمال ، وهذا لن يضرني مادامت في النهاية تعمل ، وتذكرني بوجودها ووجودي.
(9)
المؤسف هو ما حدث فجر هذا اليوم … أمر لم يكن على البال ، ولا على الخاطر. . . أفقت هلعا على صوت ضخم مفاجئ ، صوت أعرفه ولا أعرفه ، صوت يبدو أنه يتقصدني أنا بالذات ، وضعت سبابتي في أذني، محاولا تخفيف شدته ، ولكن ذلك لم يجد نفعا ، ولم يتوقف الصوت الذي لم يكن سوى صوت جرس الباب والمنبهات مجتمعة ، التي فقدت أعصابها وخرجت عن أطوارها . . . أدركت عندئذ أنها سئمت لعبتي السمجة المتكررة معها ، أي أن تصرخ ، فأسعي إلى تكميم أفواهها ، والقضاء على مكامن "الفتنة " فيها . . . أسرعت باتجاه أقرب منبه مني ، حاولت اسكات صراخه ، فلم أفلح ، وكذا كان الحال مع المنبه الثاني والثالث إلى العاشر، حتى صديقي (جرس الباب ) تمرد علي ، ورفض الانصياع لتوسلاتي ، كلها كانت أقوى مني، وكأنها تتحداني، وتعلن احتجاجها على "قمعي" الدائم لها . . .
أعلنت هزيمتي ، وخرجت بجنون من بيتي حاملا حقيبة ملابسي بما حوت إلى الشارع ، وهأنذا أكتب قصتي من المقهى ، وقد قررت الا أعود إلى بيت تسكنه كل هذه الأصوات . . .
بيت كان لي وحدي
جعفر أحمد العقيلي (قاص من الأردن)