محمد زرّوق
ناقد وأكاديمي تونسي
لا يعرفُ -كما كبار الشعراء- كيف يُخاتِلُ العالم، كيف يكون صيرفيًّا، يحسب المال ويعدّ الأملاك ليحقِّق الوجود الحسن، هو في جانب منه شاعرٌ إنسان يعيش مأساة الإنسانيّة، يعيش وقْعَ ألم الحياة، لا يُتْقِن لُعبَة الوجود تناغمًا مع مختلف حالاته، هو الإنسانُ الشاعرُ الذي يعيش المعنى، يكبُر بين يديه وهمًا وخطابًا، يُعالجُ من الكون قضاياه الإنسانيّة، ويأْلم في كلّ لحظةٍ، ولذلك، فهو -كالشعراء الحقيقيّين- كالماء يجري، إن استقرّ وطاب له المقام ركد وفسد. حياة الشعر عند زاهر الغافري هي إيقاعٌ من الحبّ والألم والسفر، وكذا دومًا كان الشعراء يدورون في مثلّث المعنى دون قصْدٍ أو تقصُّد، يبعثون الحياةَ بانقضائهم، يعيشون الكلمة ويموتون فيها. زاهر الغافري ليس شاعرًا من جبّة قدماء الشعر، وإنّما هو شاعرٌ قد تشرَّب الحداثة، وعاش تجاربها، صار الشعر الحديث بمختلف تقلّباته وفلسفاته ورؤاه مرجعه وطينته التي منها يقدّ زخارفه. عاش الحياةَ شاعرًا ومات شاعرًا. يتحدّث الكثيرون عن المنفى خصيصةً وسمةً في شعر زاهر الغافري، وأنا أقف ضدّ هذا المنحى، فليس المنفى هو العبارة الملائمة لارتحال الشاعر، وإنّما هو اغترابُ المكان والوجود، هو القلق الذي عبّر عنه المتنبّي بقوله: “أَلِفتُ تَرَحُّلي وَجَعَلتُ أَرضي/ قُتودي وَالغُرَيرِيَّ الجُلالا/ فَما حاوَلتُ في أَرضٍ مُقامًا/ وَلا أَزمَعتُ عَن أَرضٍ زَوالا/ عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي/ أُوَجِّهُها جَنوبًا أَو شَمالا”. فليس للشاعر الحقّ أن يُرابط مكانه فعلًا وعقلًا، فهو دائم القلق، لا يهْنَأ، ولا يقرُّ له قرار، وذاك منبع شعره ومأتى إبداعه. ينحت زاهر الغافري شعره من هذه المادّة، مادّة الحياة، وينهل من هذا البئر الجاري الذي لا تنضُب معانيه، فلم يكن زاهر في منفى قسريّ، ولم ينْفِ نفسه، وإنّما كان لافظًا التوطّن والهجْعة، يحوم دوما ومرجعه إلى مكانه أليفِ قلبه، قرية سرور في عُمان، وعلى نقيض ما يظنّ البعض، فإنّ الثابت الوحيد في حركة المكان التي اختارها زاهر هي مدينة مسقط، يألفها ولا يطيل النأي عنها، يبتعد عنها ليقرب منها، هي بقايا قلبه النابض، وهي المكان الآمن الذي يهجع فيه. شعره نفثةٌ من قلبه، يطوف المدى باحثًا عن المعنى، عن تحقّق الوجود، عن الكينونة، عن أجوبة تاريخيّة أبديّة لأسئلة أرّقت الشعراء والفلاسفة، ولعمري فإنّ زاهر الغافري هو من جنس الشعراء الذين جمعوا بين المُؤْرِقَيْن الفلسفة والشعر. هو من جنس الشعراء الذين تاهوا في مساحات الوجود، وأحسنوا الظنّ بالشعر فألهاهم عن بقيّة الكون. تغلب “الأنا” في شعر زاهر الغافري، “الأنا” الباحثة عن ذاتٍ لم تجد سبيلَ الكون، لم تأْلف ألاعيبه ولا ما ينصرف إليه النَّاس من متاع الوجود، “الأنا” الشاعرة المتبصِّرة الحاملةُ بين جنباتها ألمَ البشر. لم يعرف الشاعر سرّ لعبة الحياة الماديّة الغالبة، وليس من شأنه أن يعرفها، بل هو يُعرض عن موبقاتها وضَلالها وفسادها ونفاقها، لأنّه رحق من معين الكون الأصليّ، من مأتى الشعر الحقّ، يقف الشاعر على وجه العالم الفجّ، ويُدرك أنّه جاهلٌ بمعرفة اللّعبة، يقول: “الليلُ يتنفس ببطء، الأختُ في مكانها/ تغزل صوفَ الحياة. نزلاءُ الأعالي يمرحون/ في الغابات وأنا وحيد. هناك ينتظرني/ ليلٌ آخر، أنا الكائنُ ذو الأخطاء الكبيرة/ لم أعرف اللعبة قط/ على الأرجح تنقصني المهارة/ لأدخل في قلب العالم/ تحت راية الصّيارفة”. «أنا» الشاعرُ هي جوهره، يسعى إلى تعقّلها وإدراك جوهرها، فمنها وبها يتحقَّق وجودًا وكونًا، «أنا» الشاعر التي تستشعر الوحدة والاغتراب لأنّها مختلفة، لها دقيق المعاني ورقيق المشاعر، فعليها دومًا مدار الشعر، هذه الأنا التي تأبى أن تكون مقيمةً، ثابتةً، وَسمها زاهر بأنّها زائرة، يقول في ديوان أزهار البئر على وزن أزهار الشرّ لبودلير: “دعُونِي أمرُّ/ أنَا الزائرُ/ أحمل فوق جناحيَّ غُبَارَ اللَّيالي/ وفي جوفي تسكنُ جمرةٌ/ هي شمسُ السنين الطويلة”، «الأنا» الزائرُ هي الصورة التي كان عليها الشاعرُ، وكان عليها الإنسان، يجوب العوالم ساعيًا إلى الهروب من الزمن، ومن التيبُّس فيه، لعلّ الارتحال أن يحييه، وأن يخفّف عليه وقْع الإحساس بأثر الزمن وفعله، وهو مُدرِكٌ أنّه يُحارب طواحين الهواء، وأنّه لا مَهْرب من فعل الزمن، وإن تحرّك في المكان، رحلة المكان لا توقِفُ الزمن. “أنا” الشاعر مُسْند إليه الهموم والفِكَر وحيرة الباحث عن المعنى، يقول في قصيدة ظلّ المرآة: “أنا الوحيد الهارب منذ عصور/ أبحث لو كنت أبحث تحت ضلع/ الليل/ عن رعشة الأسطورة/ إنني أسمع ظلك الآن/ وهو يجر صوته في المرآة/ ويتركني وحيدا/ كأسير وقع في كمين ولن يقوم/ منه إلا بمعجزة”، “الأنا” ظلٌّ لذاتٍ حائرة، تبحث في الكون عن قرارٍ ليست بظافرةٍ به، وتتوالى الصُور المعبِّرة عن هذه الذات القلقة، الضيفة في كونٍ لم يُصنَع لها، الهروب بحثًا عن “رعشة الأسطورة” عن تلاقٍ مخصبٍ بين الإنسان وعَجْزه عن فهم قوانين الطبيعة (الأسطورة)، وتتكرّر وِحدة الذات الشاعرة، وفرادتها في ظلّ هذا القلق الوجودي المخصب. «أنا» الشاعر بؤرة هامّة في شعر زاهر الغافري، منها يُمكن أن نُدرك أبعاد شعرٍ تخلَّص من البُنَى الغرضيّة وتجرّد من النمطيّة واسترجاع صيغ الشعر القديم. إنّ هذه الحيرة الشعريّة البادية في سيادة الغنائيّة والتعويل على صُوَر شعريّة حادثة ومُربكة للذهن القارئ قد ميّزت شعر الغافري وجعلته يدخل في أَخَرةٍ من زمن التنازع العربيّ بين دعاة اتّباع نهج قديم الشعر وبين قلَّة من الشعراء في عُمان نازعوا القديم وجوده وأحدثوا في الشعر في عُمان ما لم يكن فيه، فئةٌ عُدَّت ضالَّةً على رأسهم زاهر الغافري وسماء عيسى وسيف الرحبي، فئةٌ من شباب الشعر اختارت الحداثة نهجًا واعتقادًا وفكرًا وكتابة في الشعر، ودخلت في حوارٍ مخصب مع فئةٍ ثانية ما زالت تعتقد في قُدرة القصيدة العموديّة بشكلها وأغراضها على البقاء في ظلّ تغيّر الكون من حولها. نازع زاهر الغافري هذا الراكد الثابت السائد في الشعر العُمانيّ بالشعر، بالكتابة، وأقام عالمًا شعريًّا جامعًا بين الكتابة النثريّة وقصيدة التفعيلة، ضارِبًا عرْض الحائِط كلّ ما يُمثّل اجترارًا أو التزامًا أو تقيُّدًا بقوانين في القول تُعطِّل القائل وتُثْقل على القارئ. في صُورةٍ ثانية من تحقّق “الأنا” الشاعرة، واعتمادها مركزًا للشعر، يعمد الشاعر في قصائد عديدة إلى مُخاطَبة آخرٍ جَنيسٍ له، يُجرّد الشاعر من ذاته ذاتًا يُخاطِبها كما فعل أسلافه الشعراء القدامى، يُخاطِبُ ذاته ويُجادلها في المصائر التي ينتهي إليها الإنسان، في أفق الوجود، في الرؤية إذا اتّسعت أو ضاقت، في الموت، وهو رُكن الثالوث الأشكل، هو الثيمة التي أرَّقت الشعراء، وتحوّلت من واجب الوجود إلى ممكن المعنى، من منتهى حتميّ مصيريّ إلى غرضٍ شعريٍّ يراه الشاعرُ من كوِّته، ويبعث منه حياة الدلالة الرحبة وأفق التأويل الوسيع، قصيدة “لن” هي انحباس لأفق الشعر الوسيع، وبعضٌ من مرارة الشاعر التي كان يتذوّقها من عبء الوجود، يقول: “لن تذهب إلى أبعد من هذا ولن ترى/ لن/ ترى إلى أبعد من النافذة حتى ذلك/ النبع لن ترى ذلك النبع الذي يسعى/ المرء لأن يغرق فيه كي يولد ثانيةً/ تريدُ أن تمتحن المصير على الحافة؟/ لكنك على الأرجح رجلٌ ميتٌ يمشي/ في الظلام يُرددُ أغنيةً عن منفاه الطويل/ لن تذهب ولن ترى ولن يظهر لك الملاكُ/ في القلعة./ إلى هنا انتهت المغامرةُ إلى الأبد/ وانكشف عُريُ الزمان”. يُخاطِبُ الآخر الذي هو هو ، ويُنوّعُ ضمائره، فيُشرك القارئَ مِحَن الشعر، وهواجس الوجود، وآثام الاغتراب، وآثار المنفى الذي اختاره الكاتب نفسه، ففي مخاطبة الآخر تمثُّلٌ للذات وتوليد لمخاطَب من جنس المتكلّم، فينساب الشعرُ من الذاتين (المخاطِبَةُ المخاطَبَةُ) منتجًا أفقًا تصويريًّا تفقد فيه العلاقة بين الألفاظ دلالتها التي وُضِعت في أصل اللّغة لها، ليُكْسبها الشاعر علاقات معنويّة حادثة فيُصبِح الصمت أجنحةً قابلة للذوبان، بكلّ ما يُمكن أن يحمله هذا الأفق التدلاليّ من إمكان تحميل “الصمت” أبعادًا مُخْصبَةً تُخرجه من حيّز انقطاع المعنى إلى دائرة وفْرَة المعنى. وكذا حادثُ الشعر إذ هو الأقدر على إعادة ممكن العلاقات بين الألفاظ تركيبًا يَخرج عن دائرة القول العاديّ ليُؤسّس آفاقًا من التخيُّل تحتاج إلى كدِّ رويَّةٍ وإجهاد خاطر وإتعاب ذهْنٍ لبلوغ قسطٍ من المعنى. يقول الشاعر زاهر الغافري في بابِ تجريد ذاتٍ للمخاطَبة واعتمادها تُكأةً لتوليد ممكن المعاني: “ستعرف اليوم أكثر مما مضى/ أن الصمت أجنحة قابلة/ للذوبان/ أو بلدة نائية مغمورة بالثلوج/ صرختك تصب في الأنهار/ رموشها الطويلة/ وبين عظامك تزهر عادة/ أشجار الصبر والحقيقة”. كيف تصير للصرخة رموشٌ طويلة؟ وكيف تُزهر أشجار الصبر والحقيقة في العظام؟ إنّه الشعر يُحدثُ علاقاتٍ مجازيّة ويبني من عوالم التأويل ما يثير في القارئ شتّى المعاني، وقد استطاع شاعر الحداثة زاهر الغافري أن يُلامسَ هذا البُعد التخييليّ الذي يُتيحه عالم الشعر. من ملْء المعاني ينهل الشاعر آفاقه التي تعجزُ اللّغة الصارخة العاديّة على قوله، وقديمًا كانت اللّغة واسطة إبلاغ، وكانت دوما عاجزة عن التعبير عمَّا يختلج في ذاتِ الشاعر من وهج المعنى، لم تكن الأداة لغةً كانت أو موسيقى أو ألوانًا قادرة في واضح دلالاتها على حمْل كلّ المعنى، ولذلك يغلب الإيحاء في كلّ الفنون، في كلّ الآداب، وعلى رأسها سيّد الآداب والفنون، الشعر، فقد حُدَّ بأنَه نظامٌ تصويريّ لا يقول المعنى وإنَّما يُوحي به، فما يبدو لك جليًّا بيّنًا إنّما هو حمَّال أوجه ودلالات وممكنات، تظلّ الحقيقة فيه أملًا غير مُدرَك، فكيف يرى الشاعر هذه الحقيقة التي يُوهِم بأنّه أدركها، وهو في الحقيقة لم يُدرك إلاّ أنّه تعلّم أن «يبني منازله حذو البركان» على قول زردشت. “أزهارٌ في بئر” ديوانٌ حاملٌ لشتّى المعاني التي انتهى إليها الشاعر، مَسْكُ الفراغ ومسْلك الوهم وانعدام الحقيقة هي هدْأة المعنى ومنتهى الرحلة، الخطرُ المحدِّقُ هو الحقيقة، عدم الطمأنينة هي الفكرة الفلسفيّة التي آمن بها الشاعر على مذهب نيتشة، لذلك يقول: “ها هي الحقيقية تنزل بين يديك أخيرا:/ ذات يوم كان لأحلامك رائحة/ الأبدية/ أنظر اليك كمن يستجدي حجارة/ عذراء/ أنا ظلك الذي كان/ مرآتك وقد عكست أزهارك في بئر/ أنا الغريب الآن، كم بكيت عليك،/ على ثمار الليل./ ومن أجلك، من أجل قدر يشبه جنة/ مسمومة بت لا أقوى على النوم إلا/ على حافة السكين”. من سبعينيّات القرن الماضي وزاهر الغافري يبحث عن المعنى، يبحث عن الحقيقة، عن هجعةٍ لعلّه واجِدها في الموت، أمَّا الشاعر، فإنّه على ارتحالٍ دائمٍ وإن سكن المكانَ، هذا دأبه، كما دأب أغلب الشعراء الذين أضافوا إلى الشعر وبُرِّزوا فيه، الشعرُ عدوٌّ للسكون والهدوء وانعدام السؤال، “على قلق دائم” ذاك هو قانون الشعر الأبديّ. من سبعينيّات القرن الماضي وهو يخوض حرب الحداثة، مؤمنًا بالوجود، يهجر العالم “ليمشي على حافته”، يختلط في عالمه الشعريّ اليأسُ بالضوء، والظلمةُ بالأمل والنجومُ بالرياح، وفي الشعر مهادٌ لالتقاء الأضداد، كما النفس البشريّة حمّالةُ أهواء وأمزجةٍ: “تمشي على حافة العالم/ لتصل إلى الوديان التي أضعتها/ في طريقك تشع الحجارة/ كذهب الذكرى/ الرحلة طويلة للغاية/ الريح تتبع تلويحة اليد/ واليأس يضيء/ عينيك الحالمتين/ بالنجوم”. رحلةٌ مديدةٌ من إنتاج الشعر وتوليد المعاني وآفاقٌ وسيعةٌ تركها زاهر الغافري وأسئلة جديدةٌ انضافت إلى تراكمِ أسئلة مَن سبقه من الشعراء الحالمين، الراسخين في عالم الشعر، التاركين أثرًا من عميق آلامهم. من سبعينيّات القرن الماضي وهو يعرف ويُدرك ويصرخ أنّه “ضيفٌ في هذا العالم”، وأنّه واجدٌ في منهى ضيافته بيته الذي يعود إليه، وأنّه باحثٌ عن حقيقةٍ ما، هو لا يدري كنهها ولا يعرف سوى أنّه في مهبّ الريح في عالم ضالٍّ مضلٍّ. شعرُ زاهر الغافري داخلٌ في باب شعر المعاني الذي يحتاج إلى عقلٍ مدبّرٍ وفكرٍ يُعمَل فيه، فقد أراده صاحبه حاملًا لشتّى ظنونه ومختلف ما ينوء به من نظرٍ في الوجود وتأمُّل فيه. الشاعر المرتحل في حياته لم يجد له مأوى حتّى في الشعر، فالشعر أيضًا وهمٌ وتهويمٌ، هو محض توهّج وفيض خاطر، غير أنّ ألم الاغتراب والنفرة من الوجود يظلّ قائمًا هاجسًا قاتلًا، يلحق كلّ ذي حسٍّ يعي الوجود ويُدرك عمقه. غُربة الإنسان بابٌ وسيعٌ للمعنى، قال فيه الشعراء وأفاضوا، وزاهر الغافري واحدٌ من هؤلاء الذي اكتووا بنارِ المعنى ووجدوا في الشعر ملاذًا للقول، للمجاز، مساحة رحبة تُجيزها اللّغة في تغيير صفة الكون، وبعثِ صورٍ وصفات، وخلْقِ عوالم من الصور المتحرِّكة الحاملة لرحيب المعاني.
يبقى الموت عنصرًا في الوجود يعجز العقل عن إدراكه، العقل الدينيّ أوجد للموت أبوابًا ومنافذ، والعقل العلميّ قال فيه ما لم يشفِ الغليل البشريّ، والبوْحُ الشعريّ أدركه تخييلًا وبَعثًا لممكنٍ من الوجود أو العدم حسب آفاق الشعر، وزاهر الغافري يستحضر الموتَ، ويحضر في معجمه بقوّة الدلالة، يأخذ من الأشكال والأبعاد صورًا عديدة، فهو لا يعني النهاية ولا يُقرَن بالفناء، بل لعلّ رحلة الشعر التي يخوضها الشاعر هي رحلة إدراكٍ للموت واستعداد لخوضه، ولذلك فإنّ الموت عنده أحيانًا هو نعمةٌ بديل نقمة الشعر، هو الهدْأة التي يُسافر الشعراء طلبًا لها ورغبةً فيها، الموت ليس انقطاعًا عن الكون بل هو إدراكٌ جديد ووعيٌ آخر بالوجود، ولذلك ينحني الشاعر “لغصن الموت” لأنّه يزيده جمالًا ويجعل الأسماك تقفز من عينيه، ليتحوّل إلى مدى بحريّ واسع، “لعلنا سنزداد جمالًا بعد الموت/ فنسمع من يقول: انظر كيف تقفز الأسماك من عيونهم/ هكذا ننحني لغصن الموت». يأمل الشاعر أن يحتلّ بعد الموت منزلةَ متعة الوجود وأن يترك الشعر قرين المأساة والأسئلة، يأمل أن يجد الأجوبة، هدْأة المسافر، “لهذا سأتركُ لكم الشعرَ/ يكفيني أن أرى تلويحة اليد من أعلى السحابة”. يعود الشاعرُ الشيْف أخيرًا إلى داره، وقد ترك في زيارته لهذا الكون الفاسد الفاني آثامًا من الشعر يقتدي بها السائرون في الأسئلة، الباحثون عن جوهر الوجود، المرتحلون في عشق المعنى، الهانئون بنعمة البوح.