في الركن المعتاد بمقهاي الأثير وبجوار النافذة جلست. وضعت الصحف أمامي قبل أن أطلب مشروبي المعتاد من " عم ميسرة " : قهوة زيادة " دوبل ".
مضت فترة طويلة منذ اعتيادي على هذا الطقس الذي أمارسه ثلاثة أيام في الأسبوع مخصصة أساسا للقاء الأصدقاء. أحضر قبل موعدهم بساعة أشرب أثناءها القهوة بينما استكمل قراءة الصحف التي لم يتسع وقتي في الصباح لقراءتها. ربما أبتعد بذهني عن المكان محلقا خلف فكرة طارئة أو أشرد قليلا وعيناي تتابعان الفتى والفتاة الجالسان على الجانب الآخر المواجه للمقهى والمطل على النيل فأفيق من شرودي وقد انفرجت شفتاي عن ابتسامة كبيرة كرد فعل لرؤيتهما يضحكان في براءة. أتلفت حولي مضطربا خشية أن أكون قد ضبطت متلبسا بفضولي فأسرع بدس رأسي بين صفحات الجريدة التي أتصفحها محاولا مداراة إرتباكي. وهكذا انضم الى طقوسي هذه ، مشهد الفتى وفتاته اللذين تزامن لقاؤهما مع موعد حضوري الى المقهى. يمكثان ساعة واحدة.. ثم يذهبان.
كنت أسعد لرؤيتهما في كل مرة تقع عيناي عليهما.. فقد كان وجودهما يرسخ يقيني في الايمان بالحب. وأن الفتاة التي أحببتها طويلا قبل أن تتركني وتلقي بنفسها في أحضان "عريس جاهز" ليست مثالا.. تجربة حياة مشتركة فاشلة – كما اعتاد أحد أصدقائي أن يقول.. فالحق موجود ومازال رغم توافر كل عناصر تدميره الداعية في زماننا الرديء هذا.
وكان وجودهما يجعلني أبتسم ساخرا من ذلك الهاجس القابع في أعماقي كوسواس قهري خبيث يتحداني في برود ويجعلني أمتلي ء باضطراب المقامر الذي رهن كل حياته ، وربما زوجته أيضا، بموضوع رهانه.
خفق قلبي بعنف في تلك المرة التي رأيت فيها الفتاة للمرة الأولى جالسة بمفردها.. ربما أنه تأخر قليلا لظرف أو لآخر.. لعله مريض.. ولكن لم هذا التشاؤم.. فلعله يشتري لها شيئا أو أنه ذهب ليقضي حاجة له هنا أو هناك. وعندما أوشكت الساعة على الانقضاء كان البرد يشملني بشكل جعلني انتفض وأنا أقاوم الارتجافات الواهنة التي أمسكت بجسدي النحيل.
حضر الجميع صاخبين كعادتهم غير أنني لم استطع مشار كتهم الصخب هذه المرة. فلم استطع طرد مشهد الفتاة وهي ترحل وحيدة سائرة في هدوء من مخيلتي. كما لم استطع منع كم الأسئلة الذي كان يتصاعد الى رأسي بلا انقطاع ويتحول بمرور الوقت الى هدير شديد الصخب.
كنت مضطربا تماما في طريقي الى المقهى هذه المرة. وعند وصولي وقبل أن أدخل الى المقهى أسرعت ألقي نظرة على المكان حيث يجلسان وغاص قلبي عندما رأيت الفتاة تجلس وحدها هذه المرة أيضا.. هادئة.. ساكنة دون أي حركة. وهززت رأسي بعنف لأطرد الضحكة الصاخبة التي راحت تتردد في سمعي بفعل ذلك الوسواس البشع كما حاولت أن أبدو ثابت الجأش في مواجهة هذا الوسواس السخيف.. أتصنع هدوء الواثق من احراز النصر في اللحظة الأخيرة محاولا استبقاء الأمل في نفسي بكل ما أوتيت من قوة.. ولكن دون جدوى.. لم يحضر الفتى.. ومرت الساعة.. وقامت الفتاة لتذهب وحدها في هدوء ورغم شدة انشغالي بالأمر فلم أحدث به أحدا من الأصدقاء. كنت أشعر أن الموضوع يخصني بشكل من الأشكال أنا وحدي.
اشتد البرد تماما وأنا في طريقي الى المقهى.. لفني شعور غامض بالخوف زاد من وجيب قلبي. وترسخ شعوري هذا بفعل الغيوم الكثيفة. اكتشفت جفاف حلقي. وزاد إحساسي بالقلق. كأنت روحي عكة من الاضطراب كهلام أحاطت به النيران تماما كما لحانت مشاعري عندما بدأت شكوكي في حبيبتي وأنا أراقبها إثر عودتها من عملها كل يوم أو عندما أدعت كذبا أنها ستتزوج بالرغم منها. وعندما قررت أن أذهب اليها بعد انتهاء موعد العمل لمراساتها اذا بي أفاجأ بها وهي تتوجه الى سيارة قريبة تبتسم للجالس فيها وتجلس بجواره وينطلقان. كنت أشعر ان قلبي يحترق تماما كما شعرت في ليلة زفافها.. حيث كنت أجلس وحيدا.. أراها الآن ترقص معه.. تغني له.. وهي ترتدي ثوب الزفاف الأبيض عل الجسد النحيف الأثير وقد أعد من أجله.. تردد له كل ما كانت تقوله لي.. وتخلع من أجله ثوب الزفاف. هاهما عاريان الآن.. تتأوه على مسمعي بحبه. ها هو يقبلها في المواضع الحسية.. أما هي فتنشب أظافرها في ظهره كما كانت تفعل معي.. وها هو يطوق بجسده جسدها كلا. لم يفعلان هذا أمامي.. لم لا يتركاني وشأني.. آه ه.. هذه العاهرة لم تفعل بي هذا ؟! ها هي تذوب غير أبهة بالآلام التي تمزق أحشائى وتعكر روحي وتشعل حريق قلبي بينما تنام هي بين ذراعيه وقد استقرت فطفته في أحشائها.. أأه ه.
سرعان ما تساقط المطر على الفتاة التي جلست وحيدة ساكنة وكأن الأمر لا يعنيها رغم خلو الطريق من المدرة تباعا تجنبا للأمطار التي بدأت في الهطول بفرارة الأن.
انطلقت أعدو الى الجانب الآخر من الطريق. عندما اقتربت منها وجدتها ترتجف بشدة غير أنها لم ترجف وانما صوبت عينيها الى الأفق واجتاحتني غصة شديدة عندما داهمني الحزن العميق الساكن في نظرة عينيها.
– أرجوك يا سيدتي.. أن تقومي.. فالمطر شديد.. وقد تبللت تماما حانت منها التفاتة خاطفة باتجاهي ولكنها سرمحان ما عادت تحدق بالأفق.
ووجدتني أسألها في حذر:
– أين.. رفيقك ؟
حولت رأسها باتجاهي غير أنها لم تجب. وسرعان ما تدفقت من عينيها الدموع التي اختلطت بقطرات المطر التي كانت تغسل وجهها الشاحب. ثم إنها وقفت قبل أن تبدأ سيرها في هدوء وكأنها لا تراني وتركتني أقف مذهولا. واختلط صوتي وأنا أصيح مناديا عليها بصوت ارتطام المطر الذي اشتد تماما بالأرض.. وكانت رائحة التراب المبلل تملأ أنفي. بينما استمرت هي تسير في هدوئها العجيب.
عدت الى المقهى وأنا في حيرة شديدة. يقترب "عم ميسرة " مبتسما فأنظر له في وجوم. أطلب القهوة منه. يتسرب الى أعماقي إحساس قوي بالاكتئاب يتأخر الأصدقاء عن موعدهم. أتجرع القهوة واجما وشاردا أخيرا يحضر الأصدقاء.
– هل عرفت ما حدث ؟
– ماذا حدث ؟
-انتشلوا جثة فتاة من النيل الآن.
– متى ؟
-منذ لحظات. قدمنا من هناك لتونا.
– أين؟
-على مقربة من هنا… أسفل كوبري طلخا.
– ماذا كانت ترتدي؟
– ثوبا أسود على ما أذكر.
هل صعدت الغصة شديدة الى حلقي؟ هل كانت تلك دموعي؟ هل ركضت في الطريق تجاه التجمهر الكبير؟ هل رأيتها ترقد على الشاطيء في هدوئها المعهود وقد شحب وجهها تماما وتخلت عيناها عن أحزانها؟
– هل تعرفها ؟
جاءني صوت الشرطي الواقف خلفي. غير أنني لم أشعر برغبة في الرد عليه.. وسرت بعيدا في هدوء. وتجمعت في حلقي بصقة عندها لمحت طيف ابتسامة على وجه الشمس التي أوشكت على المغيب بعد أن خفت حدة الغيوم قليلا.. غير أنني في اللحظة التالية أجهشت.
ابراهيم فرغلي (كاتب مصري يقيم في عمان)