»1«
ما بين الكتابة وطقوسها وشائج قوية, أو قل, إن الكتابة وطقوسها مترابطان بشكل يستدعي كل منهما إذا حضر الآخر, وكأن الكتابة بهذا المعنى لا تتكامل إلا مع خارجها, ولم لا, فالكتابة على ذاتيتها هي استحضار »الآخر«, أو استدراج الخارج عن طريق إخراج الداخل.
والمسألة ليست مسألة ترف, أو عادات برجوازية, أو حتى نوع من الاستعراض, والطقوس المختلفة من أجواء وألوان وروائح وملابس وأصوات تركز »الحالة« وتدفع بها إلى أقاصيها وذراها, والطقوس أيضا محفز ات بالمعنى السيكولوجي للكلمة, وهي مجموع ؛الأناس المتعدد والمتشكل والمنضبط ما بين غرائزية معتمة تنفلت وما بين مثالية تتشوق إلى الذوبان.
والطقس مثل القصيدة, باعتباري نقطة التقاطع بينهما, وبميلاد القصيدة يتولد »متجه« آخر هو نتيجة أو محصلة القوى الحاضرة والضاغطة.
وقصيدتي تلد في طقوس أحرص عليها كل الحرص, وأتقصدها كل التقصد, وأعمد إليها كلما انتابتني تلك »الحالة« التي أعرفها, فأكاد أطلب من مكاني أكثر من النظافة والترتيب, وأطلب الصمت العميق, وأتهيأ »لها« باللباس اللائق والطهارة بمعناها الجسدي الحرفي.
وبهذا المعنى, فإنني فعلا أتصرف وكأنني على موعد مع ضيف عزيز, أو كأنني لا أرغب أن أستحضر الشعر إلا بلياقتي, وكأنني لا أرغب أن يحضر الشعر وأنا غير مستعد له أو بغير ما احب أن يلقاني, مع العلاقة بين ميلاد القصيدة وكل هذه الترتيبات التي تكاد تقترب من الغريزة الطبيعية أو بالأحرى المكتسبة.
هل لأن هناك إرثا طويلا وعريضا عن »إلهامية الشعر« أو »ألوهيته« ?
هل لأن الشعر كلام خاص يقوله أناس خاصون ?!
هل كان ذلك لما للشعر من قدرة على نقل أو جر الشاعر من حالة عادية إلى أخرى غير عادية ?!
لا ادري بالضبط, كل ما أدريه أن قصيدتي تحب أن تلد في جو مختلف, يرفعها من مجرد استقبالها في المطبخ أو الفناء الخارجي, وأنها ترغب برائحة خاصة ومكان خاص.
»2«
كيف تبدأ القصيدة ?
اقف الآن مستجمعا كل ذرة من تركيزي الذهني لأتابع ملايين أو بلايين المرات التي طاف شيطان الشعر حولي أو رفرف في مخيلتي.
وشيطان الشعر هذا قد يكون كلمة عابرة قالها بائع خضراوات أو سائق سيارة, وقد يكون وجها جميلا لامرأة تدخل عامها الثمانين, وقد يكون صوتا عميقا أو دافئا أو مجلجلا , وقد يكون لحنا يأخذ بمجامع الجسد ليرميه في أتون من جنون الحركة أو الحرية, وقد يكون رائحة لطيفة تمر على الجسد والروح فتوقظهما, وقد يكون شعورا قويا دافقا يجعل الدموع تطفر من العينين, وقد يكون كل مؤثر له قدرة على تحريك شيء ما في دواخلنا.
شيطان الشعر هذا خفيف, ناعم, هوائي, انه يشبه رمادا ناعما جافا , يتحرك لأبسط وأق ل من نفحة لطفل في الثانية من عمره.
وهكذا, فإن ميلاد القصيدة يبدأ غامضا , وبعيدا , ومبهما , غير محدد المعالم ولا واضح القسمات, تبدأ القصيدة بكلمة أو رائحة أو إيقاع, أو حتى مجرد رغبة طاغية بالقول أو التعبير -أعتقد أن هناك في قلب كل فنان رغبة صاعقة بالتعبير تعكس ميله القوي للمشاركة.
الإبهام الأولي هذا, يتجمع ويحتشد, ويتركز ويتحدد بالمثيرات من جهة والحفر تحته من جهة أخرى, وذلك بتذكره, واستثارته, وعرضه واستعراضه في لحظات كثيرة في اليوم الواحد, واد عي أن هذه الفكرة المبهمة تدهمني في لحظات السهو أو لحظات التأمل أو -وهذا من العجيب – في لحظات جيشان الشعور غضبا أو فرحا.
وبتكثف العمليات المحيطة بهذا الإبهام, يتحدد الاتجاه, اتجاه الشعور على الأقل, تصبح الفكرة- على عدم وضوحها – اكثر صلابة, إذ تتجمع أفكار أخرى مشابهة, تتجاذب فيما بينها بالتشابه أو التناقض, أو تتناسل الفكرة الأولى عددا من الأفكار الجزئية المرتبطة بها إسنادا أو نقضا , ربما كان من غير العلمي أن أسمي هذه الآليات اسم فكرة, بالمعنى الحقيقي, فمن الواجب, وتحريا للدقة, فإن هذه »المشاعر« تبحث عن »أفكارها« وليس العكس, فالمشاعر الغامضة تحب أن تتسم ى.
وبتسمية المشاعر, فإنها تتوزع بطريقة اقرب إلى المنطق, بمعنى الترتيب, التقديم والتأخير, الأولى فالأولى, الأهم فالمهم فالأقل أهمية, ولكن هذا لا يريح أيضا , إذ لابد من المراجعة, والمقارنة, والمقايسة, والاستحضار, والمقابسة.
وهذه عمليات واضحة, فالقصيدة -عمليا – ليست بنت واقعها فقط, إنها نتاج طويل من الخبرة الشخصية والجماعية, الفردية والجمعية, »الأنوية« و»الأخروية«, القصيدة فيها ؛الآخر« حاضرا , شئت هذا أم أبيت.
وفي حالة بقاء »الدافع« قويا ومسيطرا , وفي حالة أن تم الرضا بين هذا »الدافع« من جهة, وباقي الإحالات من جهة أخرى, فإن القصيدة تكون مهيأة وناضجة.
وحتى تكتب القصيدة, فإن »حالة« ما يجب أن تتوافر حقا لكتابتها, وهنا, نحن لا نتكلم عن شيء لا يمكن لمسه أو الإحساس به, فـ»الحالة« هذه تشبه الكآبة إن لم تكن هي, وتشبه الحزن في حالات هدوئه إن لم يكن هو. »حالة« الشعر حالة خاصة, ليست غضبا ولا فرحا , ولكنها جيشان شديد, قابض, موت ر, منطو ومتجه إلى الداخل. وهكذا أدخل إلى كتابة الشعر تحت تأثير عجيب من هذا الانعزال والانطواء الشبيه بطغيان الكآبة أو حديد الحزن.
ولكن, هل كنت دقيقا في الكلام عن القصيدة وميلادها بكل هذا الوضوح وهذه النصاعة? هل حقا تتولد القصيدة ضمن هذه الترتيبات التي تبدو مرتبة ومنطقية إلى أبعد حد?
وهل يمكن إضاءة العتمات السحيقة التي تختمر فيها القصيدة?!
الحقيقة, أو للحقيقة, فإنني أبدو مبالغا في الكلام بهذه الدقة, إذ أن القصيدة في بعض الأحيان تنفجر انفجارا , كسد فاض فجأة بما يحجز خلفه, وأقول تنفجر, لأنها الكلمة الأكثر مناسبة في هذا المجال, إذ تنبجس القصيدة مثل نبع مرة واحدة, مختارة شكلها ولغتها وإيقاعها دون تمهيد أو تهيئة أو اختمار.
وأكثر من هذا, فإن ما كان مبهما منذ البداية, واتضح مع الوقت, يلد مختلفا تماما عما كان في البداية, أي أن كل ؛العمليات الواعية« تتحول إلى نتائج أخرى لحظة الولادة – وهذا من أعاجيب الشعر- فما نرتبه للقول بوعينا, يلد غير ما أردنا في لاوعينا, وهذا يحدث كثيرا .. وكثيرا جدا .
وكما يبدو, فإن المسافة التي تفصل القصيدة ما بين مشروعها الأولي ولحظة ميلادها مسافة خطرة جدا تتحدد فيها الاتجاهات النهائية والأشكال النهائية, هذه المسافة الأخيرة التي تحول القصيدة من مشاعر ورغبات إلى كلمات على الورق مسافة تجري فيها عمليات لا يمكن رصدها أبدا , ولا يمكن التحكم فيها, ولا يمكن أيضا معرفة ما الذي يحصل حتى تنقلب الأمور رأسا على عقب.. هل هذه المسافة هي التي قال عنها الفرنسي فوكو »هي ما لا نعرف عن الشعر«.
»3«
هناك عمليات واعية في الشعر, وهناك حالات فيزيائية ملازمة لقول الشعر أو اجتراحه, إذ يمكن ملاحظة الكآبة أو الحزن أو الجيشان الشديد والتركيز العالي للمشاعر على صورة توتر الجلد وخفة الجسد وتنبهه, ويمكن أيضا بذات الطريقة ملاحظة العمليات الأخرى المرافقة التي تتحكم في شكل التعبير ووزنه وكتلته وحجمه واختياره.
إن العمليات الواعية لقول الشعر تظهر واضحة أيضا في كثير من تضاعيف النص وأجوائه, ومن هنا, فرق العرب بين نوعين من الشعر: المطبوع, والمصنوع, في إشارة إلى من »يكتب الشعر« أو »يكتبه الشعر«.
وأدعي هنا بحق أنني أنتبه إلى هذه النقطة تماما , بمعنى أن القصيدة التي أشعر أن »غيري« كتبها هي قصيدتي بحق, في حين أن القصيدة التي أحس أنني كتبتها أنفر منها وأحاول أن أخفيها.. والشاعر يدرك ذلك بحدسه قبل ناقديه أو قارئيه, وحتى لو حازت القصيدة المصنوعة على إعجاب الناس, هناك بوصلة أخرى في نفس الشاعر.. بوصلة تعرف وتشير إلى الحقيقي فقط.
» 4 «
جزء آخر من العلاقة الواعية بالشعر هي الاحتشاد له عن طريق القراءة والاطلاع.
القصيدة وكما أسلفت هي عمل فردي حقا ولكنه يتضمن كل ما فعله »الآخر« بي.. وكل ما تركه لي.. القصيدة تنفتح على التاريخ من جهة والعالم الموضوعي من جهة أخرى.. القصيدة محصلة قوى روحية ونفسية وتاريخية, وبهذا, فإن الاطلاع المعرفي يشكل لي دعامة حقيقية وركيزة قوية لقول الشعر..
القراءة حث واستثارة ونقاش صامت مع الآخر, ومنها وفيها, تتحرك القصيدة باحثة عن نقيضها. واعتقد ان القراءة هنا -وبهذا المعنى- تمنح القدرة على الامتداد والانتقال والحوار والمعرفة والتأمل والنقض والتعزيز والحذف والإضافة والاستقراء.. والكلمة المقروءة خير وسيلة للانتقال من المحسوس إلى المجرد على عكس الصورة تماما التي تورطنا بالمحسوس فقط.. والشعر لا يكتفي بالمحسوس, وفي معظم الأحيان لا يكتفي به فقط وانما ينقضه, ويخلق محسوسات أخرى بعلاقات أخرى.
» 5 «
ومن كلامنا السابق, فإن الشعر بهذا المعنى يوضحني, بمعنى انه يؤطر رغباتي, ويسميها, ويصل بمشاعري بإعطائها ما تستحق من كلام, وتجعل مني موسيقى وايقاعا يناسب ما ثار في نفسي.. هل هذه هي رجاحة الشعر?! الشعر هنا يوضح تأملاتي, يجلي ما استعصى علي من الشعور, ويظهر ما دق وخفي من ذلك الألم الضاغط في الصدر.. الشعر يفتح لي فضاءات ناعمة ورخية ؛للقول« الحر السلس دون اعتبار للبروتوكول أو القواعد أو المحاذير..
الشعر يوضحني لأن قيوده مختلفة وقوانينه قوانين أخرى, ويسمح لي- وربما هذا هو الأهم- أن أقول أشيائي كما أريد, وكأن الكلام العادي لا يكفي- وهو لا يكفي حقا – وكأن كل القول الذي قيل لا يؤدي نفس المعنى الذي أريد, ولهذا »اخلق« كلامي تماما , على قدر شعوري, وعلى حجم تأملاتي.
» 6 «
ولأن الشعر »حالة«, يجب استغلالها جيدا وإلا ضاعت. حالة الشعر التي وصفناها – فيزيائيا وروحيا – تفرض علي بالذات ان استغل كل دقيقة فيها, ولهذا عندما اكتب, فإن الورق يجب ان يكون ابيض, ابيض ناصعا , يشبه الغرفة النظيفة المرتبة, ويشبه المكتب المرتب, ويشبه ثيابي اللائقة, ويشبه الصمت الذي يلف المكان, في قلب الليل.
وتبدأ القصيدة, واذا حالفني الحظ, وكتبت الجملة الأولى, فإن القصيدة لابد مكتوبة, لا انتظر ولا أتوانى أو أتباطأ, وإذا فشلت في الجملة الاولى, توقفت تماما .. وكأن كل شيء يتبخر.. ويجف.. وعندها لا أجبر نفسي أو روحي على شيء.. إنني انصاع تماما لهذه الحالة, ولا أعاندها ولا أتعمدها ولا استولدها.
حتى أثناء الكتابة, تعاندني فكرة ما, تغلبني اللغة, تتعارض اللغة وفكرتها, أو الفكرة ولغتها, فأحني رأسي للفكرة, أعطيها ما تستحق من كلام, أتلطف معها, فالتف عليها بالكلام, أخرجها كما تريد, ولا اغصبها على ما أريد…
وخلال تدفق القصيدة, انساق وراء هذا السلسال, أطاوعه, أتهاود معه, ولا أقسر الأشياء ولا أفرضها, انساب مع الكلام, وينساب الكلام معي, اشعر بذلك القرب بيني وبين ما اكتب, وألاحظ كثيرا ان الفترة الزمنية التي ألد فيها القصيدة تختفي الأشياء من حولي من صوت ولون ورائحة, كما أفقد الإحساس بالزمن تماما.
إن المطاوعة للقصيدة أو قل الالتحام بها, لهي من الفترات الزمنية التي تحتوي على متعة شديدة وعميقة إلى درجة انتفاء كل الأشياء خارجها.
» 7 «
والقصيدة تكتب خارجها أيضا , وهي واعية لواقعها الموضوعي, ولكنها ومع ذلك, خيار شخصي أيضا , مجال فردي بالتأكيد, ولهذا فإنني لا أفكر بالجمهور حقا أثناء الكتابة, ومع ذلك فإن الجمهور حاضر فيها, ففي نهاية الأمر… القصيدة هي بنت جمهورها, ولهذا لا يمكن أن تخونه أو تقف ضده أو تصدمه… القصيدة بنت ذوق جمهورها وزمنيته ومكانه… والشاعر الحقيقي خير من يدرك ؛القاع الغامض« للجمهور الذي ينتمي إليه. ومن هنا قالت العرب إن »الشاعر لسان قومه« بمعنى أنه خير من يعرف الخفايا والخبايا والمزاج النفسي والروحي لقومه.
» 8 «
والقصيدة في نهاية الأمر نص من الكلام, هذا الكلام خاص, فيه علاقات كمية من كتل الموسيقى على أنواعها, يخلقها ذلك التآلف أو التضاد بين الحروف والكلمات, وعلاقات أخرى لا تدرك بالأذن وحدها, العلاقات بين الكلام تخلق علاقات بين الكلام ومتلقيه, فالنص بعلاقاته مجتمعة, وبالتقائه القارئ وعلاقاته الأخرى أيضا , تتخلق كيمياء بينهما, المتلقي من جهته يبحث عن علاقات شبيهة في النص… إنه يقارن علاقاته التي يعرفها ويدركها بالعلاقات داخل النص.. ومن هنا تنشأ الذائقة النقدية والاستحسان… أو الرفض.
أما علاقتي بالنص, باعتباري كاتبه أو مبدعه, فهي علاقة مبهمة حقا , ولا يمكن الحديث عنها بهذه السهولة, ذلك أن النص بما يحمل من فردية وجماعية, من تضمين وتنصيص, من ذاتية وموضوعية, من إضافة وتأثر, يصبح عمليا شيئا »خارجا« »برانيا« – ومن هنا, فإنني أقطع علاقتي بما أكتب تماما , ولا يربطني بديواني المطبوع سوى اسمي فقط.
أعترف حقا أنني بعد الانتهاء من كتابة نص شعري, أفقد صلتي تماما به, أشعر أنه يصبح كائنا له حياة أخرى غير حياتي, وله علاقات لا أعرفها ولا أدركها, ومن هنا أيضا استغرب قدرة بعض النقاد على الحديث عن قصيدتي بشكل اعجز أنا أن أقوله أو حتى انتبه إليه.. يصبح النص بعيدا عني.. وفي بعض الأحيان أغار من العلاقات الحميمة التي ينسجها نصي اكثر مني.
» 9 «
لا أجانب الحقيقة إذا قلت إن النص له قدرة عجيبة على نقلي إلى عالمه الخاص, وانه يفرض علي شكلا من أشكال التعامل والمعالجة, إذ يفرض علي مفرداته وتعابيره و»قيمه« الخاصة ومكانه وزمانه.
ان للنص كينونة خاصة خارجة عني, وبتشكله التدريجي يشكلني معه, ومن ثم تزداد المسافة بيني وبينه, وفي هذه الحالة علي أنا أن افهم العلاقات داخل النص, الذي يتطور بعيدا عني.
ومن هنا, اعتقد ان لكل قصيدة أجواءها الخاصة بها, مفردات وإيقاعات وألحانا , شكلا ومعنى.
واذكر في هذا الصدد انه عندما كتبت ديوان »حليب اسود« فوجئت تماما بأن »طريقة الكلام ونوعيته« اختلفت تماما , وكأنني اذهب إلى هناك, وأعود إلى شوارع القرن الثاني الهجري وقصوره واحيائه..
وأحب هنا أن افصل قليلا.. إذ ان النص في الديوان اشتمل علي, بمعنى ان النص صار يحكمني ويوجه تفكيري ويغير مفرداتي, وجعلني استحضر المعاني الأولى والمشاعر الغامضة والغارقة في مثيلاتها, بحيث كان علي أن انتبه إلى دوافع وميول ما كنت اقدر على اصطيادها لولا هذا »الكلام«.
ولهذا أقول ان المفردة الشعرية وغير الشعرية أيضا تحمل معها زمانها ومكانها وخصوصيتها الشديدة والمركزة.. والنص المكو ن أصلا من مفردات يحملنا عادة إلى مفرداته التي تحملنا إلى جميع دلالاتها الممكنة والمحتملة.. وهذا هو الإدهاش.. النص المؤول.. الشعر تأويل أصلا..
»10«
بناء على الكلام السابق, وتخصيصا لتجربة »حليب اسود«, فإن النص الشعري في هذا الديوان بالذات, هو نص حواري, فيه نقاش ومراجعة, فيه نقض واثبات, فيه آخر, فيه مسرح وحكاية. وفي المسرح والحكاية هناك »أنا« و»أنت«, وبالتالي هناك تقمص, هناك قطع مسافة ما بين أنا وأنت, وهناك اعتراف »بالأنت«. وما كان يمكنني ان اقطع هذه المسافة لولا هذا »الحب« ولولا هذه »المعرفة«.
نعم, ادعي أنني احب ما اكتب عنه, انفعل به, أتقمصه, أتفحصه إلى الدرجة التي اسمع فيها تنفسه ونبضه وكل خلجاته..
وادعي صادقا ان »هارون الرشيد« كان صديقي طيلة كتابتي لديوان »حليب أسود«, جلست معه, وطربت في مجلسه, وسمعته وهو يشكو وهو يتأمل وهو يأمر بتصفية البرامكة.
وادعي أيضا أن الأميرة »العباسة« شقيقة الخليفة كانت صديقتي, وأنني اعرفها عرقا عرقا , شعرة شعرة. وبسبب من ذلك, تحدث الجميع في الديوان بنفس القوة ونفس القدرة على التعبير, دافع الجميع بلا استثناء عن مواقفهم بأقصى وأقوى ما لديهم من حجج ومرافعات.
وللدقة, وحتى يكون الكلام دقيقا , ودقيقا جدا , فإن الشخصيات التي اكتب عنها هي أنا أيضا , هي ما ارغب وما أتمنى وما احلم وما اطمح وما اكره وما ارفض.
الشخصيات هي تنويعات للمشاعر والرغبات والميول الدفينة, واعتقد هنا ان المبدعين على اختلاف أنواعهم يخرجون ميولهم على شكل شخصيات. وبالتالي فإنهم يقتطعونها من خضم هائل ومضطرب من كل الطيف الشعوري المقبول وغير المقبول وما بينهما.
» 11 «
العلاقة ليست ميكانيكية بين الكتابة كاستجابة, والواقع الخارجي كمثير, ذلك ان الكتابة تحتاج فيما يبدو إلى مفتاح معين وخاص حتى تفيض وتفرض نفسها علي – نقصد هنا الكتابة التلقائية الإبداعية التي تضغط بشكل لا يمكن مقاومته, ولا نعني بها الكتابة الواجبة أو المهنية.
ولا يمكن حصر المثيرات الخارجية والداخلية, ولكنها في معظمها لا تدفع بنا إلى الورق.. وفي بعض الأحيان, فإن النشاط العقلي والروحي عصي على الفهم.. إذ إننا نرتاح في بعض الأحيان لأن نتحول إلى باردي الإحساس.. عديمي الاستجابة.. فارغي التفكير.. وكأن دماغنا مسطح دون التواءات أو نتوءات..
وفي بعض الأحيان نفقد الاهتمام أو حتى التمييز بأننا قادرون على الكتابة أو التفكير..
هذه الحالات تنتاب الجميع على ما اعتقد, اقصد بها, الحالة التي نفقد فيها القدرة على الاستجابة, أو حتى القدرة على الحساسية العالية تجاه الخارج.. ولكن, وعلى ما يبدو, فإن هذه الحالة ضرورية جدا لانفجار صمام الكتابة.. وهكذا, فجأة, نذهب إلى الورق, لنتدفق كما لم يحدث من قبل.. وكأن كل هذا الكمون كان ضروريا لهذه اللحظة الفائقة.
» 12 «
في فترة ما, يقع كل مبدع في وهم كبير مفاده ان الفن سيغير الدنيا, وان كتابة قصيدة تشبه ظاهرة طبيعية, ومع الوقت يكتشف ان الفن أحد الروافد الفرعية أو ذات الأهمية الأقل في مجريات الواقع الموضوعي.
سينتبه المبدع إلى ان القوى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والطبيعية تلعب الدور الأقوى في تشكيل الرؤى والاتجاهات. وأن الفن – كل فن – يخلق إرثا جماليا وقيميا موازيا.
ومع الوقت أيضا يطمئن الفنان لأن يلتفت إلى نفسه.. وسيعترف بينه وبين نفسه ان الفن هو خياره الشخصي وأنه مجاله الحيوي وانه فرديته أولا.. وانه فضاؤه الذي يطلق فيه حيرته وقلقه وأسئلته.
سينتهي المبدع في النهاية إلى ان يقلل من تأثير الجماعة فيه, وأن ي بهت من دور الآخر, ليصبح الفن اكثر خصوصية وذاتية.
وربما كان لخصوصيتنا نحن الذين واجهنا الاحتلال وآلته الوحشية ذلك الإحساس العارم بأن القصيدة تحمل سلاحها ونظام دفاعاتها, ولكن ذلك تغير.. صرنا نعرف ان القصيدة لها عالمها الخاص الذي لا تتجاوزه, ولها قوة تأثير معين لا تتعداه.
لقد كانت هناك غفوة جميلة وغفلة رائعة وربما مقدسة مفادها ان الشعر سيغير الدنيا, وربما كانت هذه الغفلة ضرورية لنكتب المغامرة والجرأة والعنفوان, وحتى نصل الآن إلى مرحلة الوعي والنضج, حيث نكتب قصيدة ذات حرارة اقل ولكنها تدوم اطول, انني أشكر هذا الوسواس الذي بدأ يدب في رأسي مؤخرا
المتوكل طه كاتب من فلسطين