تلك الجنة
نصغي إلى حد يث الذكريات
ترويه أمنا الناحلة :
".. مر الفيضان هنا ، مرتين
ودمر كل شىء
كان البستان جنة متشابكة
لا تخترق بعد الظهر
إلا بسراج ! "
ها هو البستان ، وأنا أوهم نفسي بأنني أعود إليه ، ولا أقر بأنني أراه للمرة الأولى.. إنني استعيد كلام أمي عن إقامتنا فيه في السنة الماضية.
،أركض مراقبا نفسي ، أكثر مما يراقبونني ، عند عبور القناطر، أو تسلق الأشجار: أشجار التوت والصفصاف والنبق (السدر) وتأمل شجرة (ألبمبر)، أو النظر نحو أعماق الجداول الصغيرة، أو التوغل إلى جنوب البستان ، نحو تخوم المقبرة، التي رأيت فيها لأول مرة طائر (الهدهد) العجيب ،.يقف على نخلة صغيرة في طرف المقبرة، وفي سكون ظهيرة الصيف . . لقد كمنت له بين الأحراش الأراقبه ، كي لا يفزع ويطير.. لقد بدا لي حكيما مثل سيده (سليمان الحكيم )، طائرا لم يلون سوى بعض الريش في رأسه تاجا مهيبا، أما جسده فلم يتخذ سوى الرماد – الجدي المتزن والغامض -، لونا له .
تلك الظهيرة من ظهيرات عديدة "يخنس " فيها كل شيء ، حتى الريح ، عدا نسمات سرية لا يحسها إلا السائر وحيدا في هذا القيظ ، وتيبس السعف والأغصان .. إنه لحر لاهب في ظهيرات البستان .. سكون أعظم من سكون الليل ، بحيث أنك تفاجأ بسقوط تمرة غائصة بعصيرها ، تنهبد خلفك ، او عند قدميك .. ناضجة، وتنفعص على قراب البستان الناعم الملتهب !.
أتناولها ساخنة فأزيل عنها قشرتها المغبرة والمتربة، فتخرج لي أعماقها المكتنزة بالعسل المذهل وأتطلع إلى عذوق النخل على اختلاف أنواعها، فاسعى الى الفوز ببعض "خلال " البرحي ، وتلك جريمة في البستان ، إذ أن جني الثمار في تلك الساعة الجهنمية من ظهيرة الصيف ، يعد – بحق – جريمة لا تغتفر. لأن ذلك – حسب تعاليم الكبار – مضر بالنخلة وحرام ، فقد يفسد كل الثمر، وقد لا تثمر النخلة في السنوات القادمة!
كما أن ذلك يعد جريمة نكراء إذا ما كان الاعتداء واقعا على نخلات تثمر نوعا نادرا من التمر، أو ليس منه في البستان سوى نخلة واحدة، كالقنطار والغائص وما شابه وأنتبه لنفسي فأجد أن كل مغامراتي هذه ليس لها ما يبررها سوى رؤيتي لذلك الطائر الغريب .. الهدهد!.
ويأتي المساء وتنتشر في البستان ظلال بهيجة، رغم وضوح الشمس ، وبعد غيابها. . وتشيع في البستان حشرة جميلة ندعوها (البازنينو)، تلك الحشرة الرشيقة، ذات اللون ابني ، وما كان منه بلون أسود كنا ندعوه "بازنينو سيد" أي من نسل النبي ! وكثيرا ما تابعت ذلك البارنينو من هنا إلى هناك ، خصوصا البازنينو السيد، لأنه نادر مثل السادة بين الناس . . إنه على نسق ما يدعى (فرس النبي ) إلا أن (فرس النبي ) له شكل مختلف وتعجيزى بين الحشرات المعروفة ثمة (الزنبور) يشبه هذه الحشرات ، ولكننا نخافه على نحو مرعب ، ولا يفيدنا الخوف منه ، ولا ينفع معه تجنبه فمعسكراته موجودة بين ظهرانينا، ورغم أنه لا يهاجم إلا من يهاجمه ،ولكننا لم نكن بمنجاة من لسعه الشديد والمخيف ، لأن هناك من الصبيان من يمارس على الدوام استفزاز (دركة الزنابير – خيلة النحل ). وتلك الخلايا موجودة في حفرة حدار طيني على طرف البستان قرب المقبرة، أو قرب التنور.- أو قي جذع نخلة عجفاء، فتهب تلك الأسراب تلسع كل من تصادفه قريبا من لحظة الهجوم (وهناك من يقول إنها لا تخطيء مهاجمها، فلا تكف عن ملاحقته حتى تلسعه هو بالذات ).
كان الأهل يعلموننا طريقة "مستحيلة" لتجنب آثار لسعة الزنبور، هي آن نقول لحظة يلسعنا : "لدغت يا علي ." فيشفى موضع اللسع حالا.. ولكن الشرط هو ألا يصدر من الملسوع آي صوت بعد اللسعة مباشرة، سوى القول : "لدغت يا علي " ولا أظنت بشرا يستطيع ذلك ، حتى لو كان متيقظ الذاكرة، فهو لابد أن يتأوه أو يتوجع قبل أن يلفظ تلك "الجملة السحرية" وأمضى في هذا الوقت ، إلى المساهمة في سقي المزروعات . .
الفلاح يسقي بواسطة (الدلو) الذي يأتي بالماء من الجدول ،مندلقا في مجرى رئيسي يوزع الماء على مجار فرعية صغيرة حول" المشارات " التي هي المساحات ا لمفصلة وا لمحددة، ألمزروعة بأنواع مختلفة أو متشابهة من الخضراوات حين يلمحني الفلاح أو ابنه ، أو أي من كان يقوم بعملية السقي ، يبادرني قائلا: "أ أنت قادم لمساعدتي ؟" فأجيب بفرح :
نعم .. فيقول : "خوش .. روس ". والترويس يعني أن أنتبه إلى المساحات المزروعة، متى ماشبعت فأقطع عنها الماء بواسطة المخدة الليفية المجبولة بالطين ، التى تمنع دخول المزيد من الماء إلى تلك المساحة (المشارة)، كما علي أن أرفع تلك المخدة لأسمح بدخول الماء الى (المشارة) غير المروية بعد.
إن ذلك يستدعي انتباها استثنائيا، فعلي أن أوفر الماء الكافي ، لا أقل من اللازم فلا ترتوي ، ولا أكثر من ذلك فتختنق ، كما أن علي أن أحافظ على سلامة الممرات الجافة للتنقل بين المساحات المزروعة، فيغمرني صوت الساقي بالثناء علي أحيانا لانتباهي ،أو بالصراخ علي ، لأنني حجبت الماء عن مساحة من الأرض ، في حين لم أفتح السبيل من جانب آخر، ففاضت بالماء مساحة أخرى من الزرع حتى اتقنت هذه الصنعة، وعرفت قوانينها، وحفظت مصطلحاتها.
وفي المساء الرطب ذي النسيم ، امضي إلى الجداول ، أبحث عن ثمار الشطآن ، فأفتح ثمر (الشفلح ) ذي البطون القرمزية المتقدة، وألتهمها بتلذذ، عارفا أن هناك ثمرة طبيعية أخرى تشبهها في الهيئة الخارجية إلى حد كبير، ولكنها سامة، وهي ثمرة (البطوش ).. أما نبات (شيخ اسم الله ) الطبيعي فقد كنا في موسم ظهوره نمضي إلى جمعه من أرض البستان . – انه نبتة قصبية صغيرة، تضم في داخلها ثمرة غريبة، قوامها خيوط كالحرير، طرية، ذات طعم خاص ، وهي تؤكل إلا ما احتوته النبتة المتقدمة في العمر (شبخ اسم الله الشايب" لأنه يكون ذا خيوط خشنة حريفة الطعم . كنا نمارس لعبة بهذه الثمرة قبل أكلها. . نجمع أكثر من ثمرة طرية، ونضع الحصيلة في منديل ، وغالبا قي طرف (الدشداشة"، ثم نروح نضغطها على الجبهة والحنك ، ثم على على الخد الأيمن ، ثم الأيسر، على التوالي ،مرددين أهزوجة ساذجة:
ديج لو دياية؟ (ديك ام دجاجة؟)
ديج لو دياية؟
منا طلني عمي (من هنا ضربني عمي )
منا سيل دمي !
لمرات عديدة، ثم نفتح القماشة بهدوء، فنحصل على "شيخ اسم الله " وقد اتخذ هيأة ديك أو دجاجة، أو ما أشبه ذلك ، فنأكله .
.. وفي ليالي الربيع ، أذ يتضح المد والجزر، وتكثر الاسماك في الأنهار، يلجأ الكبار – مستعينين بنا – إلى صيد الأسماك بواسطة (السكرة) – أي قطع مجرى الجدول الماضي نحو نهر (العشار) بشبك يقام والجدول طافح بالماء وحين ينسحب الماء وقت الجزر، تنحصر الاسماك عندنا وتظل تتقافز على ماء ضحل وطين .
كانوا يقيمون تلك الشباك من سعف النخيل ، وأغصان الرمان والتوت وغيرها، وينتظرون انحسار الماء، فينزلون إلى قاع النهر يجمعون السمك الذي قطع عليه السبيل ، وانحسر عنه الماء. . الماء الذي نسبح فيه حتى احمرار العيون ، واختلاج الانوف ، وانسداد الآذان . . وكان لدينا طشت برونزى كبير وثقيل ، مربع الشكل ، حرفه متر واحد، يضعني فيه أخي حميد في الامسيات ، ويجري بي في جداول البستان ، وهو يكرر تنبيهي ألا أتزحزح عن موضعي ، كي لا يختل التوازن ، فيغوص الطست الثقيل .
.. ويغوص الطست! لأنني ربما التفت اليه كي أتأكد مما يقوله لي . . فينقذني بيديه ، ويضعني على الجرف ، ثم يغوص ليخرج الطست من أعماق الجدول .. ويعنفني ، وهو يلهث من التعب ، فأحسد – عند ذلك – البطات التي تعوم في النهر دون أخ كبير ولا طست ولا تحذيرات !
كلبة
كلبتنا
تمضي إلى الاقاصي
وحين نصرخ بأسمائها
تأتي عدوا
كالريح في الحكايات
وتجثو عند أقدامنا
نرمي لها (لا شىء ) في الهواء
فتعدو نحوه ..
برشاقة ومرح !
أظل امشي في البستان ، أركض وأتجول ، وأتسلق شجرتين أو ثلاثا لا غير، رغم كثرة الأشجار.. لقد كنت أعقد صداقة مع الشجرة كي اتسلقها وأختلف إليها كل حين ، ولذا لم أكن أفكر بتسلق أشجار جديدة، أو عديدة، بعد أن اخترت أشجاري الاثيرة . لقد حسمت المسألة، وإن أهم أشجاري وأقربها إلى نفسي هي شجرة التوت العظيمة الوارفة التي تظلل مساحة من البستان ، خالية إلا من العشب الطبيعي وعامرة بالفيء.
. . تأتيني أصوات الطيور من كل ناحية.. صوت (البلبل )،ذلك الطائر الصغير الجميل الصوت ، الجميل الشكل بتلك البقعة الصفراء البرتقالية التي تلون عجزه الصغير.. يفسرها الكبار لنا بقصة عجيبة هي أن هذه اللطخة البرتقالية المصغرة ، إنما هي ختم على مؤخرة هذا العصفور الخائن للنبي .. فهذه الرقعة هي منديل النبي ، سرقه هذا العصفور (حين كان من البشر) فأخفاه تحته ، فمسخه الله طائرا صغيرا موسوما على مؤخرته بسرقته المخزية.. ولكننا مع كل ذلك نحبه ، ويطربنا صوته الذي يختلط بالبهجة الخضراء للنخيل والاشجار ووشوشة الجداول .
وثمة صوت آخر ليس فيه ذلك التطريب ، ولكنه مثير لكثرة ما يوحي به من الثرثرة الحيوانية الجميلة طول النهار، ذلك هو صوت (أبو الزعر).. أصغر طائر في البستان ، يكمن معظم الوقت مع أنثاه وصغاره في عشه البالغ الصغر. أما طائر (المهلهل ) فانه يلم بالبستان ، خطفا سريعا، وهو يطلق صوته المتتابع بزغردة قوية وسريعة، ويمضي بعيدا.
وغير بعيد عن شجرة التوت ، وعلى ضفة جدول صغير،أراقب زوجة الفلاح وهي تسجر التنور، وأتحين اللحظة المناسبة كي اصيح من موضعي العلي ، مطالبا بـ (حناوتي ) -رغيفي الصغير. كان الرد على ذلك يأتي بوتائر مختلفة في كل مرة، فأحيانا يأتي الرد صمتا، وأحيانا بالقول تؤمر عيوني " وأحيانا بلفته وابتسام ، وأحيانا بتبرم ، تبعا لتوقيت الطلب ، ومزاج الخبازة ، وربما لسوء اشتعال الحطب ، أو لجودة اختمار العجين، وهذا علمني – مبكرا – أن أعرف كيف اتقدم لطلب شيء ، أي شيء . . علمني مبكرا كيف أسكت عن حاجتي ، احتراما لشخص ما، أو تقديرا لظرف خاص ، أو وضع متوتر.. علمني مبكرا أن لكل شيء ثمنا، ثمنا من الاحترام والتفهم ، ومراعاة الآخرين ، مع عدم التخلي عن الحق .. لك حناوة يا مهدي ، ولكن لا تتدلل فتطلب أن يوصلوها إليك وأنت قابع في قلب شجرة التوت . انزل واحملها بنفسك . ." ولا أقول لهم شيئا، بل أهيىء نفسي لتلقف الرغيف المشتعل ، فيكون ساخنا كالشمس ، أحمر كالشمس ، مستديرا كقرص الشمس . .
الشمس التي أدمنت على مراقبتها في كل تحولاتها من خلال أوراق شجرتي الاثيرة.. شجرة التوت !
لم تكن تلك الحناوة،أو الحناوات " المنحة" تدخل في عداد المؤونة اليومية المحسوبة لكل فرد، ولكل وجبة، انها منحة الخبازة للصغار الموجودين حولها في تلك الساعة، وهي أحيانا تشرك اثنين او ثلاثة بحناوة واحدة، ولكنني كنت افضل ان اتمتع بأكل حصتي ، مهما تكن صغيرة، جالسا في قلب الشجرة الوارفة، وربما اختلطت رائحة الرغيف برائحة التوت ، فجا كان أم ناضجا.. اتفنن في أكلها، وأنا أراقب إلى يساري ، الجدول الذي تطفو البطات على صفحة مائه دون أن تغرق !! وأراقب في الجهة الاخرى قرص الشمس يتوهج توهجا يجعلني اركن إلى مراقبتها من بين الاغصان ، مغالبا، بالدمع ، ادامة النظر فيها، وهي بعد في عزها، ولكنني أتمكن منها حين يتوهج لونها برتقاليا، وهي تهبط رويدا الى ما وراء العالم ، الى ما وراء بستان الجيران .
مرة . . وكان الفجر ربيعيا عذب الرطوبة، أحسست أن أخي عبدالحميد يتحرك باتجاه باب الحوش في البستان ، فتحركت منسلا وراءه .. اجتاز الباب فتبعته .. اتخذ سمته في ذلك الفجر نحو البستان ، اقتربت منه ، فأحس بي ، وأشار إلى بمزاج رائق أن اتبعه ، وسألته :
– إلى أين ؟
-ماعليك .
وسرت خلفه ، أطأ ممرات البستان الندية، بقدمي العاريتين ، متسائلا إلى أين ، ولكنني كنت أتابع دون اعتراض ، فرغم سؤالي المتكرر لم يجبني أخي إلا باشارة واحدة تقول امش دون كلام أو سؤال . . قطعنا مسافات في البستان ، وعبرنا قناطر. وفجأة ت ينبطح أخي على مساحة من الأرض عامرة بالاعشاب النجمية، ويهم بها بشفتيه ، ظللت مشدوها وأنا أراه يرتشف الندى المتجمع على تلك الأعشاب ذات الأوراق العريضة، وأسمعه يقول لي بانتشاء:
-إنه أطهر الماء !
هممت مثله بالارتشاف ، دون استمتاع واضح ، بررته لنفسي بأنها لعبة كبار، ثم بالتفكير أنها ليست لعبة كل الكبار، فأنا لم أصادف هذا إلا الآن ، إلا مع أخي عبدالحميد.
هو الأقرب لي في حياة البستان .. هو الذي يقرأ كتبا دينية كثيرة. . وهو الذي يتلوها على الغيب أمام الوالد الذي لم أره يفتح كتابا إلا نادرا، ولقد سألت أخي مرة : كيف يسألك أبي عن هذه الكتب ، ويعرف صحة جوابك ، دون أن يقرأ هو ما في هذه الكتب ؟ ! فأجابني ، وهو يداري انزعاجه من السؤال . " ما عليك " .
كان عبدالحميد يستخدمني ساعيا له لجلب الكتب من بيت البستان الى حيث يجلس ، فقد علمني أسماءها مقترنة بألوانها واحجامها .
يتكىء على جذع شجرة الرمان عند ضفة الجدول ، فيأمرني . اجلب لي (مثير الاحزان )، فأمضي مسرعا إلى البيت لأجلب ذلك الكتاب الضخم ، ذا الغلاف الجلدي الأحمر.
هكذا شاء الأب لأخي هذا أن يكون مقيما معه في البستان ، يقرأ الكتب الدينية. أما أخواى الاخران : عبدالكريم ومحمد كاظم ، فهما لا يظهران إلا مرة كل أسبوع ، يواظبها أخي كاظم ،أما أخي الأكبر فلربما مر شهر دون أن نراه ، إنه يبعث كاظما بدلا عنه والنقود الاسبوعية المتفق عليها.
انكشف أمام الجميع مشهد النهر والضفة الاخرى التي تمثل شارع المدينة الرئيسي الذي يربط البصرة القديمة بالعشار.. انكشف كل ذلك ، حين أطيح بالنخيل المحاذي للنهر، وشق الطريق الجديد، موازيا للطريق العتيق على الضفة الأخرى لنهر العشار.
نخلات السيد حبيب
ظلت جذوع النخل القتيلة
مطروحة على أرض البستان أياما
وظل السيد حبيب
شيخ الثمانين
يأتي كل مساء
يجلس قبالتها
وينشج!
لم يستطع أحد أن يثنيه
وهو لايفتأ يبكي ويردد:
إنها مثل أولادي
إنها مثل أولادي !
وجاءت الحفارات تخلص النهر من التراكمات في قاعه ، وتلقى بها على فسحة الطريق الذي شق حديثا، فعلمنا أن تراكمات النهر هذه ستفرش على الطريق الجديد. كان ذ لك في الصيف ، وامتد إهمالها حتى الخريف وأولى الشتاء. ولقد اعتاد الكبار أن يسموا هذا الإهمال "خلق حكومة"! ! – أي أنها غير مجبرة على إنجاز ما تريد انجازه ، وليس ثمة من هو فوقها كي يأمرها با لاسراع .
كان الصغار والكبار يتخذون أماكنهم بعد الظهر على ضفة النهر لاصطياد السمك بالصناره ، وكنت اتعامل مع هذه الهواية بمزاج غامض . . انني اتذكر صيد الاسماك ايام الخريف ، وتلك "الجبال " من الطين المتيبس التي صارت تحجب البستان عن ضفة النهر، لاكما كان يحجبه النخيل الذي يكشف عما يخفيه بجمال أخاذ.. كنت أتعب في اجتياز تلك لا الجبال " حتى أصل إلى ضفة النهر، حافيا، أعاني من وجع لذيذ في الكعبين ، يأتي كل خريف ! كل خريف كل خريف يعاودني ألم لذيذ في الكعبين فأصطفي أصدقائي :
أوراق ا لخريف
صيد الاسماك
والنظر عبر الأنهار
يقل عندي الكلام
ويزيد الحزن العميق
والسعادة التي لا يعرفها سواي
تقل حماقاتي
فلا قتال
ولا جدال حول شىء
استمع الى الحكايات
وأمضي نحو البراري
متحسسا بحب غامض
ألم الكعبين!
أتخذ موقعي بين الصيادين ، أرمي الصنارة، بعد أن اعبئها بالطعم ، ويتبرع أحدهم لإرشادي ، حين يرتعش خيط صنارتي أول مرة . . يشير علي – غالبا – بألا استعجل شد الخيط ، حتى يتكرر الارتعاش ، كي تطمئن السمكة وتتمكن الصنارة من صيدها.. وحين يشار علي بشدها، تتراقص متلامعة مع أشعة آخر النهار، سمكة "بنية " مذهلة، فاحمل صيدي إلى الأم التي تحيله عشاء فاخرا بعد حين !
قضاء فترة المساء قرب النهر يحمل الكثير من الاثارات ، فحين يضجر الجميع من الصيد وما يتطلبه من الصبر والاناة يلجأون إلى الحماقات الغريبة يصطاد أحدهم سمكة (أبو الزمير) التي لا تؤكل والمكروهة في المعتقدات .. انها سمكة خطرة، لها زعنفة حادة وقوية قي ظهرها، فيلجأون الى غرز (كربة) نخل في تلك الزعنفة، ثم يعيدون (أبو الزمر) إلى النهر، فتعيقه الكربة المثبتة على ظهره عن الغوص في الماء، فيظل يدور مضطربا، وهو يصيح (خوك. . خوك. .) فيفسرونها قائلين : " انه يستنجد بنا قائلا: أخوك أخوك .. أي أنا أخوك فلا تعذبني !".
وحين بظفرون بسلحفاة تتمشى على اليابسة فانهم يمسكون بها، وبالطين يصطنعون سياجا على ظهرها، ثم
يسكبون شيئا من (النفط الأبيض ) على الظهر المسيج بالطين ، ويشعلونه ، فتروح المسكينة تركض هلعة، تحاول إدراك ا لماء، ولكنهم يقطعون عليها الطريق ، وقد يفسحون لها كي تبلغ الماء، إذا عن لهم ذلك ، ليروا كيف ستنطفىء النار، أو كيف سينهار جدار الطين من فوق ظهرها، أو كيف سيتبقع ماء النهر بالنفط
الأبيض .
ولهم في النفط مآرب أخرى!
كيف تصنع قدحا من قارورة !
يمسكون بالقارورة فيملأونها بالماء إلى الحد المطلوب لحجم القدح ، ثم يأتون بخيط مبلل بالنفط ، ويربطونه على الزجاجة من الخارج ، عند الحد الذي يرتفع اليه الماء.. ثم يشعلون الخيط وما هي إلا لحظات حتى تتفرقع الزجاجة قاذفة بجزئها العلوي الزائد عن الحاجة، فيحصلون على الجزء الأسفل : قدحا صنعوه بأنفسهم ! .
لم يكن يستهويني من هذه الألعاب ، سوى صنع القدح ،فقد كنت أشفق على (أبو الزمر) من ذلك العذاب ، كما كنت أظل أحك ظهري ، مادامت السلحفاة المحترقة لم تعد ثانية إلى النهر،غير أنني كنت أمارس أيضا إغاظة (أبو الجنيب ) في أصائل الصيف والخريف . . أفتح صندوقه ، وأسمعه عبارات استفزازية، فيغضب الحيوان الصغير، ويخرج زبدا عسلي اللون من فتحة الصندوق في جذعه ، ولكنني لم أكن امعن في الاغاظة، بل افلته
من يدي عاجلا، فلطالما شدتني اليها حركات طيور وحشرات أخرى.. فثمة البازنينو البني يتنقل من غصن إلى غصن ، وربما توقف على خيط الصيد، يغادوه حين يرتجف ، ثم يعود إليه ،وهو لا يبتعد عنه إلا بضعة سنتيمترات .. ولربما ضيعت سمكه ، حفاظا على البازنينو واقفا على حبل صيدي ، يغادوه ويعود اليه على هوى الشد الذي تحدثه السمكة التي أنساها حبا بالحشرة الرشيقة !في حين تبتعد عنا (الزبطة – الذعرة) الى
الضفة الاخرى، وهى مهووسة بارجاف ذيلها الطويل الرشيق الذي لا يهدأ لحظة، مكتسبة بذلك أدق اسم معبر عن طبع هذا الطائر القلق . . فهي با لفصيح (ذعرة) وبا لعامية (زيطة)1.
مهدي محمد علي (شاعر وكاتب عراقي)