مما كان يميز عبد الرحمن، هي طريقته الخاصة بقراءة الكتب، لقد كان يتناول كتابا بعد أن يختاره بناءً على اسم الكاتب وتراثه أو الموضوع وأهميته بالنسبة له أو للآخرين، وفي جميع المجالات من فكر وسياسة وأدب ومذكرات وتاريخ…..
تبدأ طريقة القراءة التي لها أيضاً ظروفها وتقنياتها، فالقراءة ليست للتسلية وتمضية الوقت إنها حالة جادة من التيقظ والتعلم والمعرفة، إضافة للدهشة والتقدير لإمكانية الكاتب، فكثيراً ما يتوقف عن القراءة وفي يده الكتاب متسائلاً ومعجباً بأسلوبه أو بمادته أو بمعالجته للموضوع ويعود مسرعاً للاستمرار بشغف ونهم، هذا إذا حاز إعجابه، أو حالة من النرفزة والانزعاج، لغير ذلك، فهو برأيه أن الكتب صنفان: «الكتب الرديئة جداً والعظيمة جداً تتميزان بصفة مشتركة: أنك لاتنتهي منها حتى يتملكك غضب لا تستطيع مقاومته. أن تبعدها، أن تدمرها. هذا ما يحس به الإنسان، ولكن سبب الإحساس مختلف. الكتب الرديئة تريد أن تنسى الوقت الذي صرفته، التفاهات التي قابلتها.
أما الكتب العظيمة عندما تريد أن تدمرها، فأنت تريد أن تدمر هذا الأثر الملعون الذي يعلق بجدران الشرايين، ويترك في النفس ألماً وعذاباً.»
أما الملاحظة الأخرى: هي تناول القلم والدفتر، ليخط ملاحظاته بعد انتهائه من القراءة، ولم يكن يقصد النقد أو النشر، وإنما ملاحظات له وحده. هذه الكتابات الأولية لم تكن دراسات نقدية بحته، وإنما حتى لايمر الكتاب مرور الكرام، ليحفر في ذاكرته لوقت طويل، يستمتع به، ويحدث الأصدقاء،وكثيراً مايصبح هذا الكتاب، أو ذاك، حديث المجموعة كلها، وأحياناً كثيرة ينتقل من يد ليد ليستقر بعيداً، ويفقد من المكتبة في كثير من الحالات.
هكذا يقرأ عبد الرحمن.
ولدى مطالعتي لأوراقه، والتي تنتمي لأوائل السبعينات، والتي لم تنشر سابقاً، تشير إلى طريقته في القراءة والتعليق على بعض الكتب، حينها، وكيف يراها، وما وجد فيها، محفزة قارئ هذه الأوراق لإعادة قراءة تلك الكتب، أو اكتشافها مرة أخرى وهذا ما حصل لي، من هنا اخترت كتاب المؤلفات الكاملة للكاتب يوسف ادريس، والذي كان يعتبره رائد القصة القصيرة بامتياز.
المؤلفات الكاملة، ليوسف إدريس
القصص القصيرة: حادثة شرف، آخر الدنيا، لغة الآي آي.
أولاً: حادثة شرف
1- محطة: قصة تحدث كل يوم. في الأنوبيس، في الشارع، في مستوصف، في أي مكان يمكن أن يلتقي فيه الناس.
وفي هذه الأمكنة التي يلتقي الناس فيها، يمكن أن تحدث قصة، ويمكن أن لا تحدث،وحتى لو حدثت يمكن أن نراها أو لا نراها، وحتى لو رأيناها، قد نراها من زاوية الحدث الذي لا يخلق رداً، استجابة، أو أنه يتحول إلى لحظة مضغوطة تعني كل إنسان.
في هذه القصة يحول يوسف إدريس الشيء العادي إلى غير عادي , وهذه مهمة الفنان، أن يلتقط اللحظات الأكثر أهمية، الأكثر عمقاً ويعرضها، ومن أي زاوية يعرضها، إنه يفعل ذلك من خلال عيون معادية تقريباً، أو من خلال عيون عاجزة في أحسن الأحوال. وأثناء ما ترى العيون المعادية أو العاجزة، تبرز ملامح الوجوه: رجال كبار بياقات وقورة ومعاطف في وقت لاحاجة للمعاطف، ومحاولة للراحة الكاملة في الباص، على حساب الآخرين، وفضول ومقارنة، ثم تنتهي بشتيمة جبانة بعد أن ينزل الأطراف الآخرون!
إن وظيفة القصة القصيرة جمع فيضان الأشعة الصغيرة المبعثرة المتلاشية في نقطة تجمع واحدة، وفي لحظة معينة، إطلاقها. قد ترجع إلى الماضي، قد تتحدث عن المستقبل، قد تهذي، قد تتعثر، ولكن المهم أن تطلق الخرطوشة عندما يمر الطائر، عندما يظهر الهدف، وإذا حصلت عملية الجمع، والضغط، ولم تطلق الخرطوشة في مكانها، في وقتها ضاعت.. فقدت أهميتها.
وهكذا يستطيع يوسف إدريس أن يجمع لحظات الماضي التي تعنيه عندما كان طالباً في الجامعة، ويضع بؤرة ضوء يمكن، في وقت لاحق، أن ينطلق منها الضياء، ويصف الذي يركب بجانبه،في صورة الماضي البعيد، المزحوم العقل والشباب، والكلمات، والذي يندلق بعينيه في محاولة يائسة لالتقاط شيء، ويجعل منه بؤرة ضوء ثانية، قد ينطلق منها الضياء أيضاً.. ثم، الأخ الصغير، برأسه وتكوينه الذي لا ينم عن قوة أو حيلة ويجعله في لحظة أكثر من مجرد مرافق، والبطلان، الحياة وهي تحاول أن تشق طريقها….كل ذلك من أحداث عادية، يومية، تقع كل لحظة تحت أعيننا، ولكن المهم التقاط اللحظة تماماً ومركزتها.. وهذا هو الفرق بين الفنان واللافنان بشكل موجز.. المواد الأولية نفسها، البيئة، الناس، وحتى الحوادث، ولكن من أين تنظر إليها، كيف تستعملها، ومتى، وفي النهاية ماذا نريد منها.. هنا الخطورة..
ويوسف نجح
2- شيخوخة بدون جنون:
عم محمد آخر، يماثله كثيرون. رجال كبروا في السن أكبر مما ينبغي، وبدل أن يستلقوا على الفراش وينتظروا نهايتهم، فإنهم يقبلون أن يقوموا بأعمال الحانوتية. ويبدو هؤلاء الناس متشابهين لدرجة أنهم أكثر ما يكونون شبهاً بالأطفال الصغار الذين ولدوا البارحة، ليست عليهم سمات الحياة، ليست لديهم علامات فارقة، يركضون، يضحكون، يقسمون أيماناُ أن الوفاة عادية وبدون جنون،وينتظرون دورهم لكي يموتوا. لفرط الرتابة التي تميز حركاتهم يظن الإنسان أن لاشيء في هذه الدنيا يحركهم، وهم رغم قيامهم بواجباتهم بسرعة، إلا أنهم يقومون به دون إحساس من أي نوع، هكذا يظن الإنسان، وهكذا يرى وجوههم وهي تستجيب لنكتة الطبيب دون أن تشعر بالذنب، وهي توافق على أن يكون لها اسم واحد، وهي تقلب الجثث وتشعر شعور الموتى من أجل إثبات أن الوفاة طبيعية وليس نتيجة السم أو حادث،هؤلاء الناس يبكون عندما تموت قريباتهم،لا يستجيبون للمزاح، أو للضحكات، وتنزل دموعهم عندما تتلقى الصفعات، وأخيراً تتحرك للقيام بأكثر من الواجب عندما يموت فرد من أفرادها.
من هم هؤلاء الناس ؟ فراشون، أذنة متقاعدون، عسكر متقاعدون، ناس لم يعد لهم أحد في هذه الحياة، وليس عندهم مصاريف من أي نوع. جفت عظامهم، قصرت ملابسهم، فقدت ملامحهم ما يميزها بوجه خاص ويعنى استقلالها، وأخيراً فقدت رغبة الكلام لأنه ليس عندها شيء مهم تريد أن تقوله.
وحتى الركض الضعيف أمام الطبيب، من أجل إفساح الطريق، لتقليب الميت، لوقف عربات الكارو أو إنزال أيدي الباعة للحظات كي يمر، عندما يقوموا بكل هذه الأعمال، فإنهم يقومون بها لإقناع المعلم أنه مازال بإمكانهم أن يكونوا نافعين ويؤدوا عملاً.
والنهاية.. عندما يموت عم محمد، وهو أي واحد، لا ترتفع أصوات النحيب لتودعه، لاتبكي عين، وحتى الملابس أو الأغطية تتحول إلى جرائد ألمانية قديمة، وحول البيت كلاب ضالة، والأرجل المتيبسة من الروماتيزم لا أحد يستطيع أن يحركها، ولا حتى الميت نفسه.. عندما تصل الصورة القاتمة إلى نهايتها الحزينة يتحول المعلم نفسه إلى قبطان يغسل ويكفن العم محمد، ويتحول جلد الأمس صفعة الأمس، إلى دمعة كبيرة ووداعية. وموكب الحانوتية، الذي لاوجوه فيه، وجميعهم أسماؤهم العم محمد، موكب الحانوتية هذا يشبه وداعاً رسمياً للحياة كلها.
3- طبلية من السماء
كيف نستطيع أن نقول أشياء كبيرة وخطيرة على لسان المجانين والأولياء والأطفال الصغار؟
كيف نستطيع أن نقولها كلها، على أهميتها، ويظل الشيء الذي نقوله أقصوصة أو قصة أو رواية دون أن ينزلق إلى الخطابة أو البرهان أو محاولة الإقناع ؟
يوسف إدريس في هذه القصة يريد أن يقول أموراً خطيرة للغاية: الجوع الفقر يساوي الكفر تماماً. هذا أولاً، الله هذا الذي يجلس بعيداً عن البشر، ويحكمهم، لماذا لايفعل شيئاً لإنقاذهم،لماذا لايطل برحمته لكي يقدر الناس علىالتحمل ؟ هذا ثانياً. وهذه الحياة البائسة الفقيرة في القرية المنعزلة التي لا تعرف السرعة ولا تأبه بها، وناسها يكدحون من مطلع الشمس حتى مغيبها، لكي يموتوا في النهاية موت الكلاب. الحياة في هذه القرية، والبشر فيها لا يمتون بصلة إلى البشر إنهم أقرب إلى الدواب.
وجاء هذا الإنسان الضمير، الذي يحاول أن يفتح عيون الناس على الحياة:
السرعة.. إنه يركض في الوقت الذي يسكن الناس، ويعتبرون الركض حالة مرضية، ولكن في النهاية يركضون وراءه حتى يصلوا الجرن في أطراف القرية.. ولم يركض الصبية الصغار، وإنما الشيوخ الوقورون، كانوا من جملة من ركضوا،ولكن بحكمة ووقار، حتى وصلوا.
والله هذا الغامض المقدس، البعيد، الذي تقدم له دائماً القرابين، لم يبق كما هو، وإنما جاء الحاج علي لكي ينزع عن جبروته، لينكأ غموضه وقداسته، وليمزق هذا الخوف الذي يمنع الناس من النظر إليه أو يخاطبه.. يخاطبه الحاج بلهجة تهديد وتأنيب ويطلب منه طلبات محددة وعاجلة، إذا لم يلبها فإن غضب الإنسان ينزل عليه.. وهنا يكف الناس عن النظر إلى الله تلك النظرة الحائرة، يتجرأون على النظر إليه، على انتظار معجزات، على أن يفعل شيئاً !
والحياة الشاقة الصعبة التي تجثم على قلوب الناس، لا يترك الشيخ أمرها يمضي دون أن يشتمها، أن يقول فيها ما يستحق، وأن يحاول إقناع الناس برفض هذه الحياة الذليلة التي لاتعني أكثر من ملء المصران، ثم انتظار الموت.
هذه الأشياء كلها قيلت، وبثقة حلوة،وعلى لسان قديس أبله أو أبله وقديس والبراعة تكمن في القدرة على خلق التوازن بين الأشياء التي تقال، والطريقة التي تقال فيها، والناس الذين يقولونها، وهذا التوازن رغم قدرته على خلق شحنات عاطفية جميلة ومؤثرة، فإنه يبقى خطراً إذا أفلت من يد القصاص ليصبح وعظاً أو هذياناُ دون معنى.. وقد استطاع يوسف إدريس أن يخلقه ويحافظ عليه !
4- اليد الكبيرة
هبط من القطار وصل إلى قريته مرة أخرى. كان يريد أن يعيش بنفس الجو ويستعيد اللحظات كلها: أيام كان طفلاً، أيام كان صبياً، ثم لما كبر وأصبح يلبس البنطال الطويل.. ولما ابتعد عن القرية، ولما عاد إليها كانت الذكريات والأجواء التي عاشها من قبل. وفي هذه الأجواء يلمس الدفء. ويستمع إلى أحاديث أبيه التي تشبه الأناشيد، ويحتمي، حتى كبره، بهذه الخالة التي تنظر إليه نظرة تعتبره. كأنه لم يترك الطفولة أبداً.
في هذه المرة، هبط من القطار وفي ذهنه أن يحيي كل الذين يعرفهم. أن يمشي على نفس الطرقات الترابية التي مشى عليها عندما كان صغيراً، ولكن ما كاد يترك المحطة، باتجاه البيت ذي الباب الصفيحي حتى قابلته خالته،..تترك الأشياء التي بين يديها كما كانت تفعل من قبل، سلم ومشى، وصل البيت. كان كل شيء قد تغير، السقوف، أرض الحوش، الكنبة، أعشاش الحمام، النخلة التي كبرت وأكلت النخيل الصغير، والدالية التي ماتت من كثرة المياه، ليس هذا كل شيء،فإن الجو الدافئ الذي كان يقابله كلما وصل القرية، افتقده منذ اللحظات الأولى، كان البيت خاوياً لدرجة أن يكون أصم، والحياة قد فارقته ولن تعود إليه مرة أخرى، حتى الشمس وهي تنزف ضياءها كانت عبارة عن خيوط من الضياء المغبر الذي يشق النفس بالأسى أكثر ما يبعث في العين القدرة على الرؤية.
إن شيئاً هاماً وقع.. في الإسترجاع الذي لايتعب لحياة الأب، تبلغ القصة ذروتها ولو كانت الطريقة واضحة، في كيفية وصول الخبر إليه، لواجهنا قصة نادرة، ولكن هذه الفجوة الصغيرة، والتي قد تصدر من ذهن حزين ومتعب أكثر مما يدفعها المنطق، هذه الفجوة لا تغير في التوتر، في أهمية الخاصة الكامنة في القصة.
ماذا يعني الأب ؟ ماذا تعني الأم ؟ ماذا تعني العلاقات بين أفراد العائلة ؟ والسفر البعد،ثم العودة، ثم السفر مرة أخرى، ولكن المشاعر الصغيرة، رغم ابتعادها، تظل تثقل الصورة حتى تجعل منها لوحة، وتجعل من الأب أكثر من يدين كبيرتين، أكثر من صدر أكثر من كلمات. إنه الملجأ، في الوقت الذي يفنقد الإنسان الأمان والحب، واليد التي تشد دون أن تحمل مسماراً أو سكيناً.
هناك عشرات المشاعر المماثلة التي يمكن للإنسان أن يحلق فيها، المهم زاوية الرؤية 30-8-1971 .
5- تحويد العروسة
قصة عادية، تتناول تقليداً كان سائداً في الشرقية، ثم زال.
الشخصيات: المجتمع برجاله ونسائه وأطفاله في تلك المحافظة ؛ ثم عنبر رمز الماضي الذي يتصور أن الدنيا ما تزال في مكانها، كما كانت قبل عشرين أو خمسين سنة، ولكنها تكون قد تغيرت في هذي السنين، بعد موت راعيه الأول، ثم راعيه الثاني، وهو الآن في كنف راعٍ ثالث لم يعرف هذه التقاليد، وإنما سمع بها منذ وقت طويل، لكنه لم يعشها ولا يعترف بها.
عنبر هذا محاولة تشبث، محاولة يائسة ومهزومة.
والشيخ رجب محاولة التوفيق بين الماضي والقدرة الفعلية على المواجهة.
رجل عادي، ملك بضعة فدادين من التقتير والجوع، يريد السلامة،ولكن يدفع رغماً عنه لأن يكون في المقدمة. والإنسان في المقدمة يواجه مواقف يجب أن يقول كلمة، أن يتصرف،والشيخ عندما يتصرف ينطلق من القدرة الحقيقية، والواقعية، لإمكانيات الناس الذين دفعوه،ولذلك يأتي تصرفه محكوماً بهذه الإمكانيات، ولكي يثبت أنه في المقدمة، وأنه يستطيع أن يتصرف، يوافق. وتبدأ المشكلة من موافقته: كان يواجه الماضي، وطبيعي أن يهزمه، ولكن هزيمة التغير أكثر منها هزيمة القوة..
وبانتهاء المشوار الأول، تبدأ القصة تأخذ شكلاً كاريكاتورياً.. من أجل تنمية شخصية الشيخ رجب، ومن أجل إثبات أن الدنيا تغيرت.. قد تكون قد نجحت، ولكن ليس فيها من الحرارة.
قصة عادية فقط.
6- حادثة شرف:
الحب هو العيب. كان.ومازال تقريباً، في أغلب أجزاء هذا العالم المتخلف. الحب محرم، غير مرغوب فيه من قبل الآخرين كطريق للحياة والعلاقات. والناس منذ ولدوا حتى الآن لايكفون لحظة واحدة عن الحب، لكنهم يحاولون أن يحبوا بسرية وتمويه، وفاطمة بنت القرية الصغيرة إمرأة قمحية ناضجة، كل شيء فيها جميل يغني، عيناها، لون بشرتها، صدرها الذي يقفز في الهواء لكي يضرب الرجال، لكي يعذب الذكور، حتى الأطفال الصغار الذين يحاولون أن يتعروا عندما يرونها لإثبات ذكورتهم المبكرة..
فاطمة بمقدار ماهي مغرية مشتهاة، مرغوبة، بمقدار ماهي أمل وأمنية، فإنها مستحيلة.لايفكر أحد أن يتزوجها لفرط إغرائها وجمالها، ولذلك تظل غلالة من الرغبة والحلم، وهي تسير في أرض العزبة حاملة الأكل لأخيها الذي يخاف عليها، ويخاف أن تقع الحادثة التي يخاف منها، وغريب الوسيم الذي يغوي النساء، يمثل رغبة كل الرجال، ويمثل الفتوة الثاوية في قلوبهم. أغرى عدداً كبيراً من النساء، والنساء بمقدار ما يخفن منه، فإن هذا الخوف يكون طريق وقوعهن. وفاطمة، تقع.
والعزبة التي كانت تنتظر الوقوع، كل يوم، والتي كانت تتلهف على أن تسمع أخبار هذا الوقوع، وتستعجله، متأكدة أن كل شيء سوف ينتهي وكانه لا وقوع بقوة قاهرة لا يمكن أن يقف في وجهها أحد.
ولكن عندما تقع الحادثة، تفاجىء أهل العزبة كلهم، وتبدأ الدراما تدق أعصاب الناس وحياتهم، وينزف في الجو ريح تحمل رائحة الدم.
فرج أخو فاطمة يشرب المعسل ويضع رأسه بين راحة يديه ويطرق كأنه امرأة تبكي، وينتظر أن تمنحه قوة غامضة القدرة على التصرف، التصرف المناسب، ليس مهماً أن يكون القتل، وليس مهماً أن يكون النصر، ولكن المطلوب تصرف يلائم الحالة وينتهي إلى نتيجة.
وفاطمة بين نساء مشوهات الروح، يعرفن كل شيء، ولكن يردن أن يسمعن كل شيء بالكلمات، وكأنه دقات جرس، وفاطمة لا تعرف كيف تقول..وفي النهاية عندما توافق على أن يجرى عليها الفحص وتستبعد الماشطة التي تدبر لقاء الرجال والنساء تحت ستار خياطة الملابس، لتصبح أم جورج هي المرأة الوحيدة التي تستطيع أن تصدر حكماً. وتجر فاطمة. موكب يمتلىء حزناً وشماتة وغلاً وانتقاماً وطهارة وتلقى مثل حيوان مشاكس على السرير ويتبرع النسوة بأن يمسكن يديها وساقيها، وأم جورج التي تحكم زوجها وتقوده إلى الكنيسة كل أحد، لاتعرف كيف تواجه حالة مثل هذه، ولكن الزغاريد التي يختم فيها هذا الفصل مثل نعوة موت.
صحيح أن فاطمة عذراء، أو هذا ما تنتهي إليه أم جورج، ولكن شيئاً هاماً يكون قد سقط وتلاشى في نفس اللحظة. وسقوطه يتم دون كلمات من أي نوع. هذا الشيء هو البراءة. براءة الحياة، براءة العلاقات، براءة الإنسان.
وفرج وهو يضرب أخته، ويجبرها أن تنام تلك الليلة على البلاط، كانت بداية تلاشيه، أصبح يمثل الإنحدار إلى الناحية الثانية، بمعنى عدم قدرته نهائياً على أن يستعيد فاطمة أو يمارس عليها سلطاناً فعلياً.
وعبدون الذي يحاول إغراق قريب في البئر، يريد من هذه المحاولة أن يؤكد على قوة إبنه، القوة التي يفتقدها هو.
وعرف الناس.. أصبح كل شيء واضحاً، ومعرفة الناس سابقة ومؤكدة من قبل، وكان ممكناً أن تستنتج أو يتسامح فيها، ولكن من أجل أن يعذب الإنسان ويداس، خلقت التقاليد ووضعت لها حواش وأصبح هذا الشيء الغامض، الذي يسمى المجتمع، أو المجموع أو الكتلة، يريد خلقاً وحقوقاً خاصة به، وعلى الفرد أن يدفع، أن يدفع باستمرار ودون أن يسأل !
مشاهد بائسة، مليئة بالعذاب، وهي تمثل مرحلة انتقال، انتقال الناس من الظلال إلى الضوء من الماضي إلى الحاضر، فالحب الذي كان عيباً، كان محرماً اصبح الناس يمارسونه بعلانية أكثر من السابق، لكن لم يجدوا له تقاليد تعترف به وتصونه.. وفي هذه المرحلة يجب أن يدفع ثمن لكل شيء !
نهاية حادثة شرف تمثل قوة إضافية !
فاطمة ماتزال الأنثى المرغوبة، الطاغية الأنوثة، ولكن أصبحت عيناها تنظران بجرأة حتى لأخيها، وتنفض عن نفسها غبار اليد التي تمتد وتتطاول بعد أن حكمت على المجتمع حكماً مبرماً، وفقدت براءتها.
وغريب الذي أقسم أن يكون عادياً، بسيطاً، لا يغوي النساء، التزم فترة بهذا القسم، ثم تخطاه وعاد سيرته الأولى، وبدأ يعتبر كل امرأة حلالاً له، لافرق بين كبيرة وصغيرة،قريبة أو بعيدة..ما عدا فاطمة التي ظلت مستعصية عليه، وكأنها تمثل شيئاً مستحيلاً !
7- سره الباتع
هذه مجموعة قصص، بطولها وتنوعها ونهايتها.
وإذا كان السلطان حامد بداية معركة صغيرة بين طفل صغير والإمتحان، عن طريق الشموع، فإنها تنتهي بأن يصبح معركة وطنية كبيرة، ترجع إلى الماضي، أيام نابليون وجنرالاته، ولها امتداد حتى الآن ,
الطفل بداية الدنيا، الجبانة وهذا المقام المليء بالشمع السائل، الرفض للتقاليد وبداية التفتح، الجد الذي يستقبل الغرباء ويستمتع بالمحرمات المتمثلة بالقهوة الممنوع منها، وهذه العلاقة بين الطفل وجده وبداية الأسئلة الكبيرة.
والضياع في هذه الحياة، يتذكر في لحظة كل الأشياء التي نسيها سنوات، وينسى في لحظة أخرى كل ما يجب أن يتذكره، وتثقل مشاكل كل يوم ذاكرة الإنسان، حتى تصبح ذاكرة جديدة ليس لها علاقة بالماضي، وماهي إلا لحظة أخرى حتى ينفجر الماضي مرة ثانية. ويكبر الطفل ويتيه، وتبدأ أسئلة تأخذ طابعاً جديداً مختلفاً.
السلطان حامد، ليس هذا المقام المعتم، إنه الأشباح واللفة الخضراء والعذاب. من هو؟ لماذا هو موجود ؟ من بنى هذا المقام ولماذا بناه؟ وفي رحلة الصبا الأولى يكشف الطفل الكبير أن السلطان حامد موجود في كل الأمكنة، أو على أقل تقدير في أكثر الأمكنة، ويأخذ السؤال صيغة جديدة أقرب إلى العجب والخوف، والذاكرة هذا الغربال الذي لا يستقر فيه كل شيء يضيع يغيب، يختفي، وفي لحظات أخرى يتمزق، وتنبثق على السطح الأسئلة، بطريقة جديدة، السلطان بين الرفض ورغبة الإكتشاف. والسلطان بين الرمز الملوث والرمز المقدس، ويواصل حياته بهذا الإطمئنان القدري
وبطريقة أقرب إلى جنون المغامرين واكتشافه تظل ألغاز السلطان حامد تلوب في ذاكرة هذا الطفل الذي كبر الآن حتى أصبح رجلاً، ويحمل معه ألغازه، ولكن بطريقة المغامرين واكتشافه في كل مكان. عن طريق الوصول والغرق في ذات مجهولة لاتكشف عن نفسها إلا لمن يفتح عليهم الله، وإلى الرجل الغريب الذي رفض أن يكون صاحب أطيان أو موظفاً حكومياً، وبدأ مع الشركات، لكي يصبح ممثلاً لعقل جديد، ولكن بشروط سيئة،وطريقته في اختبار العالم بشكل بدائي.. ثم هذا الغريب الذي ينزل ضيفاً عند جده، وهو في طريقه إلى رحلة مجهولة وصوته وهو يردد مدد، مدد، وحديثه الذي يشكل بداية لحل هذا اللغز، ولكن بطريقة مثيرة ومعذبة.. ثم الغرق مرة أخرى في الحياة، وسفر الذاكرة البعيد، حتى تكون تلك الصدفة البلهاء التي حملت امرأة إلى مستشفى، وبداية الإكتشاف.
ورسالة الأثري الذي أصبح محامياً عن السلطان مصادفة..الرسالة التي تقول الكثير، على السلطان والشعب السلطاني.
هذه القصة القصيرة الطويلة تحتاج إلى دراسة مستقلة. لابد فيها نقاط عديدة تشكل قوة وضعفاً في وقت واحد.
فهي قوية حين تظل رموزها تمثل نزعة الإكتشاف المثيرة الغامرة في حياة الإنسان، وعلى طوال مسار حياته لاينساها نسياناً حقيقياً. وهي الناس بأنواعهم، وعقلياتهم المتفاوتة، سواء من حيث علاقتها بالماضي أو تمثيلها لآرتباطات معينة. وهي نموذج لبطولة الناس البسطاء في طريقة الرفض والمقاومة.
ولكن في الجانب الآخر.. صفة أكثر مما هي اكتشاف، صفة وضعت في قلب قصصي، كان أكثرها خطَ هذا الإكتشاف المفاجىء لأمرأة كان ممكناُ ألا توجد،ألا تتكلم، ولأمرأة بمواصفات معينة، كان يمكن أن تكون غيرها، لا تهتم بتتبع المراجع التاريخية، ولا ترسل ما كتب حول الموضوع في النهاية.
إن الرسالة التي تكشف كل هذه الخوارق جاءت من نقطة، من مكان، معتم، لو اكتشفها في دار الكتب، عند شيخ في قرية بعيدة، في صدر أحد الغرباء الذين يمرون على الجد، في المجتمع العلي..لو أن هذا تم بهذه الطريقة.. ولكن !
ملاحظة:
من الأشياء الملفتة للنظر أن كل لحظة تؤخذ في هذه القصة مستقلة، وكأن لها علاقة باللحظات الأخرى، وكأنها عالم مستقل له أركانه وجوه..ولكن في ثانية تقوم الواو بحفلة ربط رائعة، قلما تتوفر لهذا المرض في أماكن أخرى أو لدى أشخاص آخرين. 31-8-1971 .
ثانياً: لغة الآي آي
1- حالة تلبس
مرة أخرى يعود يوسف إدريس إلى الحياة اليومية البسيطة، حياة إنسان ما، يمكن أن يكون أي إنسان. ومن خلال لحظة ما، حدث ما، يمكن أن يكون لحظة في حياة أي واحد، وحدث لأي واحد، يبدأ يراقب ويرصد، ثم يسجل، بعين مليئة بالحنان والتفاهم.
فتاة من سوهاج، ويمكن ان تكون من أي مكان، صغيرة، سنة أولى جامعة، في فناء الكلية، وفي هذا الفناء الداخلي المليء بالظلال والرطوبة، والذي لايصله أحد، تسحب الفتاة من حقيبتها الكبيرة علبة السجائر، وتمسك بيدها الأخرى الكبريت، تريد أن تدخن سيجارة.
آلاف البنات، ملايين، يدخن. ولكن عملية الرصد، كانت هذه المرة، من غرفة العميد، وهو يتابع هذه اللحظات الكبرى.
سحبت العلبة، أمسكتها بيدها، فتحتها، بأصابع مرتجفة سحبت سيجارة فلتر، أمسكت
السيجارة، بللتها، قربتها من فمها، أخرجت علبة الكبريت، فتحتها، أخرجت العود، وبطريقة النساء أولعت وسحبت نفساً.. كان النفس عميقاً مرتعشاً، امتصته كله إلى الداخل، نزل إلى أعماقها، سرى تحت جلدها حتى وصل إلى أصابعها.. ويتابع هذه الجزئيات الصغيرة غير المنظورة، وبعيون عميد الكلية، الذي يركض مثل بندول الساعة المتعبة بين زوجته ورئيس الجامعة.. ويفكر بالفصل، بالضرب، بألاف العقوبات الأخرى. وهي ماتزال تدخن، كل نفس، كل حركة صغيرة للسيجارة باتجاه الفم، زمن مديد مليء باللذة والعذاب معاً.
إن عبقرية القصاص أن ينظر إلى الأشياء العادية نظرة غير عادية، لأن في كل عادي شيء غير عادي، والمهمة الأساسية هي اكتشاف غير العادي من العادي وتركيز الضوء عليه، لكي تبرز دقته وقوته وغير عاديته.
وهذا هو الفرق بين قصاص وآخر، قصاصون آخرون يفتشون عن الأحداث الكبرى، الخارقة، ولديهم مواد أولية كبيرة الحجم، ثقيلة، ولكن الأحداث، في النهاية، عبارة عن مواد أولية كبيرة الحجم وثقيلة، دون أن تتحول إلى لحظات مكهربة تمشي على أسلاك متوترة خطيرة.
المهم زاوية الرؤيا، لحظة المعالجة، طريقة المعالجة، وبعدها إلى حادث مهما كان صغيراً وعادياً يتحول إلى حادث كبير وغير عادي !
2- الزوار
مرأة بائسة، عانس، زارت عشرات الناس في حياتها، وقدمت خدمات كثيرة، ولكن هذا كان في الماضي أما الآن فإنها ترقد، ومنذ بضعة شهور في مستشفى، لايزورها أحد، ولاتنتظر أحداً بعد أن مرت الأيام ولم يأت أخوها أو الذين زاروها.
وإلى جانب هذه المرأة التي لايزورها أحد ترقد امرأة أخرى، تضيق بكثرة زوارها، وتعلن هذا الضيق بكلمات قاسية مباشرة.
هذا الإطار.. ولكن ما تكاد الأيام تتتابع بطيئة مشحونة بانتظار يائس، حتى تتغير الصورة، وقد دخلها خيط صغير:
المرأة الأولى، مسكينة، تبدأ تقدم خدمات صغيرة لزوار مصمص، تبدأ الخدمات من الخروج من الغرفة لكي يستعمل سريرها مكاناً للجلوس، ويمتد إلى العناية بالأطفال وتقديم الكراسي، تنتهي بأن تعتبر زوار مصمص زوارها، فتبدأ معهم الأحاديث، حتى لايجدون وقتاً يقولون فيه كلمة لمن جاؤوا يزورونها.
بدأت سكينة تعرف جميع زوار مصمص، تعرف أسماءهم وصلة القرابة بينهم وبين مصمص، وبدأت تنتظر زياراتهم بلهفة، وكأنهم جاءوا يزورنها.
وهنا تختل العلاقة بين المرأتين. سكينة تقوم بواجب، رتب لها من الأيام حقوقاً، تحاول الآن أن تستمتع بهذه الحقوق، استمتاعاً صغيراً مشروعاً، لا يتعدى كلمات تتبادلها مع هؤلاء الزوار ومصمص التي كانت تضيق بعدد الزوار وغلظتهم، بدأت الغيرة تأكلها الآن، عندما تشعر أن هؤلاء الزوار لم يقولوا لها كلمة طوال وقت الزيارة.
وتبدأ رحلة العذاب. ولكنه عذاب محكوم بالمرض والعزلة وهذه العلاقات التي أصبح لها طبيعة خاصة من العشرة الطويلة والآلام المشتركة، ورغم ذلك، فإن كل الشروط التي تغذي العذاب قائمة تنتظر لحظة التفجر، تعبر عن نفسها ؛ ولما تجد مصمص الفرصة مناسبة، تبدأ رحلة الإنتقام، ولكن في لحظة أخرى، لحظة يقظة الإنسان، تحتار كيف تنادي سكينة، تبدأ معها معركتها، هل تناديها بإسماً مجرداً ؟ هل تقول لها يا بنت يا سكينة ؟ هل تستعمل تعبيراً ثالثاً؟ تحتار في ذلك، وتكون هذه الحيرة بداية الإنسان وبداية التسليم.. بعد صراع طويل حالت، دون زمن، تمر خلاله كل صور وأسباب المعركة، تنتهي إلى لا شيء..
بقى اسمعي يا..
واحتارت
لا.. ولا حاجة، ده كانت كلمة كده وعدت..
3- قصة ذي الصوت النحيل:
مرة أخرى المجنون يتكلم، ولكن هذا المجنون مهزوم، جن لأنه هزم، والهزيمة لأنه فقد ما كان يعتبره حقاً له. أصبح ينظر إلى الناس كأنهم أعداء، وأشد ما يهوله العيون. كانت عيون الناس الذين تحته، وجميع الناس تحته، عميقة، لاسعة، تبتلع وتغرق، لأنهم لم يروا شيئاً من قبل، أول شيء رأوه وأهم شيء هو.
وبدأ يهذي ويتصور أنه محاصر، محاصر بالعيون، تريد أن تطبق عليه، أن تقتله، ولا نجاة له أبداً.
أغرى البواب، وحارس الكراج، اغرى الناس أن يقولوا له ماذا يفعل الناس تحت، ماذا يريدون
منه، ولكنه لم يصل، ضاعت جهوده عبثاً.. أما أخوه فقد حاول أن يقول له: اصبر الدنيا أصبحت هكذا، وخلاصاً من هذا المأزق.. ارحل. فتش عن بيت آخر، ولكنه لا يريد أن يسلم وجاء وقت أصبحت امرأته مع الناس الذين تحت وينظرون إليه تلك النظرة التي تخيفه.. وهزم.
قصة متوسطة، تحاول أن تعبر عن مرحلة معينة، وأثر هذه المرحلة على الناس. زاوية الرؤية متواضعة.. وقد لايكون مطلوباً من قصة قصيرة أكثر من ذلك.
4 – الورقة بعشرة.
ما هي السعادة ؟
رجل متنغص الحياة في البيت مع الزوجة والأولاد والرتابة، يريد في ذكرى ميلاد زواجه أن يفعل شيئاً ليكسر طوق الملل والتفكير المسيطر على حياته مع زوجته، لم يجد الا هدية يقدمها إليها لتكون جسراً للأمن.. ولم تكن الهدية إلا ورقة نقدية كتب في البياض الذي فيها كلمات حلوة بخط أنيق.
فكر، تردد، اعتبر، اعتبر الفكرة مزحة سمجة، لأنها لن تغير في طبيعة الحياة التي صنعتها الأيام، ولا يمكن لهدية، حتى لو كانت ورقة نقدية من فئة العشرة جنيهات أن تفعل شيئاً.. وهذا ما اصطدم به، في البداية، ولكن في لحظة إشراق، انبثقت فجأة في عقلي الزوج والزوجة معاً، تعانقا بكيا معاً، تذكرا الحياة الماضية، حياتها المشتركة. واكتشفا السعادة التي يعيشان فيها !
محاولة متعبة لإكتشاف السعادة، لم أشعر أن يوسف ادريس استطاع أن ينجو من لحظات الضعف التعيسة التي قادت خطواته في هذه الذاكرة المقفرة، وبالتالي، لا أعتقد أنه سعيد بما فيه الكفاية، إلا إذا كانت تذكره بالقصص الأحسن التي كتبها. 31-8-1971
5-فوق حدود العقل:
يبدو أن مهنة الطب تعلم الإنسان أن ينظر إلى الأمور الصغيرة والداخلية، لأن بداية علاقة الطبيب مع المريض أن ينزع عنه ملابسه ويسمع دقات قلبه، ومن خلال الدقات يكتشف العالم الآخر، غير عالم أربطة العنق والقميص والحذاء، وفي العالم الآخر تكمن الحياة الحقيقية، وباكتشافها يمسك طرف الخيط الحقيقي.
هكذا بدأ تشيخوف كقصاص، بدأ من خلال نظرات الطبيب الفاحصة التي تكتشف أين موضع الألم، ويوسف إدريس يسير في نفس الطريق، طريق أن يمسك بالسماعة. يضعها على القلب ليسمع ويكتشف.
وهذه القصة، الفاجعة الضاحكة، يبدأ في غرفة مأمور الصحة الذي يكتب استمارة إنسان، وكتابة الإستمارة تعني إما أن يحال إلى مستشفى المجانين أو أن يبقى في صف العقلاء..وبعد أن تنتهي الإجراءات وتكاد القضية أن تنتهي، تستوقفه، لاستكمال الشكل، معلومات إضافية، كان من الممكن أن يسوغها أي إنسان آخر. ومن خلال هذا الإستدراك تبدأ المأساة تتكشف !
رجل في بداية عمره، لم يمض على زواجه سوى فترة قصيرة، يقف أمام الطبيب مكتوف الأيدي لكي يستكمل شكلياً إجراءات فحصه وإحالته إلى مستشفى المجانين، وإلى جانبه يقف جندي ملمع مريب الوجه، وبعد أن يتعب الطبيب من الأسئلة ويدون في الإستمارة المعلومات، ويكاد ينتهي الأمر، تبرز الخانة الصغيرة الفارغة، خانة قريب المجنون، والشرطي الذي جاء به. وهنا تتحول القضية إلى مأساة. انتهى تحديق المجنون إلى الأرض، وكأنه ينظر إلى منتصف الكرة الأرضية، لتبدأ الأسئلة نفسها، ولكن من جديد، وبضوء جديد.
امرأة تدعي أنها زوجة المجنون، رسمت حواجبها بدقة، وضعت المساحيق، وتحفظ الكلمات إياها، كلمات الرثاء والتفجع، وفي اللحظة التالية يدخل رجل ثالث، يبدولأول وهلة أن ليس له علاقة، ولكن في اللحظة الثانية يتبين أنه الأخ الثالث والذي كان مريضاًبالأعصاب فعلاً من قبل، ولكن يعز عليه أن يترك أخاه الأصغر، لأخيه الأكبر، يدخله مستشفى المجانين من أجل ثلاث قراريط ميراث من الأرض.
يحسن عدم تلخيص القصة أكثر، لأنها غير قابلة للتلخيص أولاً، ولأن مقاطعها من الثقل والتأثير بحيث يجب أن تقرأ كل كلماتها. ومن خلال الكلمات، تتغير المواقف، تتغير الوجوه، تتغير معاني الأسئلة والإجابات، يصبح الذهن المحايد، الذي لايطمع بثلاثة قراريط، يسمع الإجابات التي كانت كافية لإرسال إنسان إلى مستشفى المجانين، تصبح نفس الإجابات طريق إنقاذ إنسان.
حتى محاولة إنقاذ الأخ الأكبر، المفتري، الذي يريد تحقيق طموحه بامتلاك فدان كامل من الأرض، تصبح هذه المحاولة كبيرة، حتى لتغير موقف الطبيب البارد القاسي.
هذه من القصص القليلة، على صغرها، التي تحمل شحنة مأساوية هائلة الأثر !
6- هذه المرة
السجن والحب أناشيد يوسف إدريس التي يترنم فيها بشوق وعذاب، مثلما ترنم آراغون بعيون إلزا.
والسجن هنا ليس الجدران والباب القاسي الكبير الذي لايفتح أكثر من ذلك، قبل ذلك وبعده، السجن طريق داخلي لاكتشاف النفس تبدأ الشكوك واللهفة والحيرة والإنتظار، وتبدأ رحلة الصمود أو السقوط.
من المفيد معرفة الوقت الذي كتب فيها ادريس هذه القصة، لأن معرفة ذلك يفسر إلى حد كبير أثر السجن الذي يلاحقه مثل شبح، والذي سيدفع به إلى الجنون أو السقوط.
ومن خلال هذه القصة، جانب منها، تدوي صرخات العسكري الأسود، بدوي مسحوق الهمس، تدوي عذابات الليالي الطويلة، التي تصل بعذابها حدود قصر ديستويفسكي في ذكريات بيت الموتى.
وهذه القصة التي كان السجن إطارها، ونفح رطوبة شتائية في العلاقات بين السجين وزوجته، فجَر في لحظة أناشيد الحب المخنوق، والشكوك المدوية.
ليست هذه قصة، إنها أنشودة عذاب، أنشودة بكل معنى الكلمة، سريعة، متوترة، مترنمة، تريد أن تمزق، أن تصرخ. والكلمات لم تعد كلمات، أصبحت أسلحة مخيفة. كل كلمة لها عالم مستقل، معبرة أكثر من كلمات الشعر، أحد من السكين، تريد أن ترفرف وتفاخر باستقلالها وقوتها أن تثبت شيئاً، أن تعبر عن شيء.لم يكن ادريس بارعاً في اختيار لهفة الكلمات مثلما هو في هذه القصة.
لم يعد الحب علاقة بين رجل وامرأة، بين رجل وزوجته. أصبح شيئاُ مستقلاً تماماً يعربد وحده، يكتشف، يتسلق جدران السجن، يفلت من العيون، من الشفاه، من أشياء ليس لها أسماء ابداً.. بالعربدة والتسلق يضيع، لا يصبح علاقة مباشرة، وإنما أكثر من ذلك وأقوى، وهذا الإحساس غير المنطقي، الذي لاتعبر عنه الكلمات يصبح قانوناً أقوى من القوانين المنطقية وأصلب منها. يريد أن يصل، أن يثبت، أن يعبر عن.. لا أعرف. صرخة مجنونة في سكون أبدي مدمر لا تصله الشمس ولا تقربه صلاة المصلين، إنها تنبت فجأة في مكان ما، ليست فسفوسة على طرف الفم، إنها عذاب ولد في لحظة ليس لها علاقة بالزمن، ونمت بسرعة حتى سيطرت، ثم بدأت تذوب، تتراجع، تريد أن تنتهي، ولكن لا تستطيع. والكلمات التي قيلت، والتي قيلت بشكل معين أزمت الموقف أكثر، ودفعته إلى ذروة التوتر أكثر من قبل. أصبح قوياُ.
ربما كانت هذه القصة من أجل القصص التي تصادف الإنسان في حياته، وأية كلمات لا تعنى أكثر من محاولة إفساد لها ! 31-8-1971 .
7- لغة الآي آي
بدا لي عنوان هذه القصة، وعنوان الكتاب كله، مثيراً ؛ مثيراً للرفض وحتى للإشمئزاز، لأني أحسست في البداية أنه من قبل الدلع، وأقرب إلى الفنطازية منه إلى شيء جدي.لكن لا يكاد الإنسان يشرع بقراءة هذه القصة، ويحس بعالمها حتى يتملكه الخوف، يبدأ باكتشاف لغة جديدة أكثر قدرة على التعبير من اللغات المتداولة، من كلمات التفجع والإغتراب والعذاب التي يصطدم بها الناس أينما ذهب.
إنسان يريد أن يستبقي شيئاً من طفولته. حاول ذلك من خلال الإسم الذي أطلقه على ابنه، ولكن ظل يشعر أن شيئاً ينقصه. تعلم، حصل على الدكتوراة، أصبح رئيساً في معهد، إنساناً مرموقاً، ولكن شيئاً قوياً يشده إلى ذلك الماضي، وإلى ذلك الوجه بالذات الذي فجر فيه الرغبة والطموح منذ وقت مبكر.
فهمي، حالة تقع بين الواقع والضمير. بين الرغبة والمستحيل.
الطفل الذي كان يجلس معه على نفس المقعد، وهو صغير، ظل شبحه يطارده، يدفعه، حتى ظن نفسه أنه رحل، ولكن هذا الظن سقط وانهار في لحظة، وهو يرى فهمي، ذاك، مريضاً،
ووجهه متدل إلى الأرض، وعندما سحبه من يده وأدخله إلى بيته مثل لص، وأوصى الخادم أن يرعاه، ووضعه في المطبخ، واصطحب زوجته إلى المسرح لكي لاتقضي ساعة مع مريض، محاولات الهروب هذه لم تجد.
بدأ الأمر، فجأة.الأرق علة صغيرة فتحت الباب لعلة كبيرة. وذاك الإنسان الجثة التي يعربد فيها الألم، يتحول إلى صرخات لاتدخل كلماتها في قاموس، وقف شامخاً مثل ضمير استيقظ فجأة، أصبحت الآهات، أصبحت الآي بالأصح، عذاباً، شيئاً أكثر وأقوى من كل كلمات اللغة العربية، بما فيها من ألم وتفجع وصراخ واستقامة.
هذه قصة مجنونة. نعم مجنونة. والكلمات مثل علامات طريق، لاتعني أكثر من دلالة متواضعة لحالة يصعب حصرها وتحديدها.
انسان مصاب بسرطان المثانة، لايخفف ألمه، دواء اخترعه بشر. يصرخ، يمزق الفراش، يعض يديه، يتلوى، يريد أن يصعد إلى قمة ويلقي بنفسه، يزحف مثل كلب، يريد أن يتخلص ولو لحظة من العذاب.. ولا أحد يستطيع أن يعاونه..والطب لم يستطع شيئاً سوى أنه………للزوجة المدللة التي لا تفهم طفولة هذا الذي يحاول أن يفعل شيئاً لم تشارك فيها، لم ترها وحتى لم تسمع بها. وهو مشدوه يريد أن يعيد ماضيه الضائع، طفولته، يريد أن يسترجع هذه الوجود الذي طالما دفعه في أيامه الماضية كلها.
أبشع صراع يمكن أن يحصل. مقاومة الألم الأصم، مقاومة يائسة، مقاومة لا تسلَم، والإنسان الآخر، الذي يحاول جزئياً أن يشعر بالألم، يريد أن يفعل شيئاً، أن يسمع صرخات الألم على أقل تعديل..ويبذل جهوداً من أجل أن يصل إلى هذه اللذة، ويخلق أول مرة، ويخلق للمرة الألف، ولكنه في النهاية يبول على الشهادة والزوجة والمركز الإجتماعي والجيران، ويحمل كتلة الألم ويركض بها لعله يستطيع أن يعمل شيئاً.
أجمل نهاية لقصة قصيرة.
وفي النهاية تبرز لغة الآي، لغة الوجع الموحش الأصم، أقوى من كل كلمات العربية الفصحى، وأغنى من سيبويه وابن المقفع! ويجدر بالإنسان أن يعتذر للأحكام السريعة والمسبقة !
31-8-1971
عبد الرحمن منيف