لاشك أن الانتاج الشعري الغزير الذي فاضت به قريحة الشاعر العمانى الكبير الراحل عبدالله الخليلي (1922- 2000م) لم يصل كاملا الى قراء الشعر العربي رغم الدواوين التي صدرت في حياته: "من نافذة الحياة" و "وحي العبقرية" و "وحي النهى" و "بين الفقه والادب" و "على ركاب الجمهور" الى جانب بعض القصائد التي نشرت متفرقة في الصحف والمجلات ولم تتضمنها هذه الدواوين.
وقد كان الشاعر- رحمه الله- غزير الانتاج، وازداد هذا الانتاج غزارة وتنوعا في السنوات الاخيرة بعد طبع دواوينه التي أشرنا اليها، ولم تكن رحلة المرض التي مر بها في أخريات حياته عائقا له عن مواصلة انتاجه بل انها على العكس دفعته الى الانغماس فى بحور الشعر وكأنه يتداوى به ويرسل من خلاله دعاءه وزفراته وأناته وتأملاته، ولقد ظل يقظ القريحة متوقد الذهن حريصا على أن يدون قصائده ومقطوعاته ولمحاته ويتأنق في كتابتها بيديه ما ساعدته الظروف على ذلك، ويملي على جلسائه حين يشق عليه الامر، ويودع هذه الفيوضات أجهزة التسجيل حين يخلو به المجلس ويراجع ما كتب او ما أملى أو ما سجل، ويطمئن الى الصورة الاخيرة ويستبقيها دون ما عداها إلا ما ند عنه انطلاقا من حرص المحيطين به على الاحتفاظ ببعض مسوداته. وسلوك كهذا يؤكده خلطاؤه وابناؤه، يبعث على الاطمئنان الى امكانية الحصول على جل تراثه ان لم يكن كله، وعلى امكانية حفظه مم الضياع ومحاولة اخراجه بطريقة ملائمة تساعد على التمتع به ودراسته والافادة منه واثراء التراث العربي عامة والعماني خاصة بهذا العطاء الشعري المتميز. لكن ذلك الهدف لا يكفي للوصول اليه حسن النوايا، وانما يتطلب قدرا كبيرا من الحذر ومن الجهد، ومن اسهام المؤسسات الاكاديمية والثقافية العمانية، ومن جهد الباحثين المتخصصين حتى يظهر ذلك النتاج بصورة مناسبة.
ان جانبا من هذا العطاء الثري، ضمته مجموعة كبيرة من الأوراق، وحملت عنوان "ديوان فارس الضاد عبدالله بن علي الخليلي" وهي ما تزال قيد الاصدار، وقد أتيح لي أن ألقي نظرة عليها وانا بصدد اعداد هذا المقال وأود أن أتوقف أمامها قليلا، لفتح الحوار حول الطريقة المناسبة للعناية بالتراث الشعري لرواد من أمثال عبدالله الخليلي.
وأول ما ينبغي تسجيله في هذا الصدد هو الاشارة الى الأهمية القصوى لها ثم القيام به حتى الآن من جمع للاوراق المتناثرة، وتفريغ للأشرطة المسجلة، ورقم هذا كله على الآلة الكاتبة، ثم جمعه في أوراق يضمها غلاف، او حفظه على أقراص ممغنطة، فتلك كلها خطوات اساسية، يمكن ان تبنى عليها الجهود التالية، ولم يكن من الممكن في غيابها القيام بأي جهد أكاديمي أو تحقيقي او تصنيفي او طباعي لاحق، والقيام بهذا الجهد ومتابعته سنوات وشهورا يؤكد توافر ذلك الحس الحضاري والفني الراقي عند من تصدوا له وادراكهم أنهم يحافظون على تراث عام لأمة وليس على ميراث خاص لأسرة.
والاوراق التي تحمل عنوان "فارس الضاد" كثيرة، تشكل سفرا كبيرا، وهي تضم أكثر من مئتي قصيدة او مقطوعة، وقد حملت كل منها رقما مسلسلا، وتحمل القصيدة الاخيرة منها رقم 204، وحمل بعض منها "عناوين" للقصائد او المقطوعات، أو إشارات الى المناسبة التي قيلت فيها، وذيل بعضها بالتاريخ الذي كتبت فيه من خلال تسجيل التأريخين الهجري والميلادي أو احدهما، وتركت نحو مئة وخمسين قصيدة او مقطوعة دون اشارة الى تاريخ كتابتها. وكذلك كان الشأن في مكان الكتابة الذي كانت تتم الاشارة اليه أحيانا، كأن يشار الى ان القصيدة كتبت في مسقط او سمائل او باريس او لندن أو القاهرة أو لبنان، ولكن الاشارة المكانية تهمل في معظم الأحايين، وقد يكون في ذلك اشارة الى أن القصيدة ولدت في مهدها الطبيعي، في بيت الشاعر. وتبلغ صفحات هذا السفر أكثر من خمسمائة صفحة مكدسة السطور لا يفصل فيها بين القصيدة وتاليتها أي فراغ في الصفحة الواحدة، ومعنى ذلك أنها لو حولت بلغة الطباعة الحديثة الى صفحات شعرية لتجاوزت ألف صفحة بالتأكيد، وربما فاقت ذلك ببعض المئات، وذلك كله يعطي انطباعا أولا، مؤداه، انه مع جودة المادة الشعرية وأهميتها في هذا السفر، إلا انه ينبغي التريث قبل طبعها في مجلد واحد، مراعاة لمقتضيات الطباعة الحديثة ولذوق القارئ العصري، ولحق الشعر على طابعه وقارئه في ان تجد القصائد مجالا للتنفس، وحدا أدنى من التلاؤم بين الوحدات الشعرية التي يضمها ديوان واحد، وهو حد لا يكفي فيه أن تكون القصائد كلها منسوبة الى مؤلف واحد كما سيتضح ذلك فيما بعد. أما العنوان الذي يتصدر الأوراق وهو "فارس الضاد" فهو عنوان قديم اختمرت فكرته في ذهن الشاعر في حياته وتجسدت في بعض قصائده التي تضمها هذه المجموعة ومنها قصيدة: "شاعر الضاد" التي تبين مدى احساس الشاعر بمتعة الفروسية فوق صهوات خيل اللغة الشموس:
شاعر الضاد قد ركبت من الضا
د جموحا يهوى بغرم ضروس
شاعر الضاد قد لطفت ورقت
من حواشيك طرة الملبوس
شاعر الضاد كم عقرت على الضا
د خميسا يرمى بقلب خميس
وركبت الفصحى الى الله فانقا
دت سيوفا تهوى بوجه عبوس
انما الضاد للذي يركب الضا
د جريئا على جنان تبيس
وخبير بالضاد طردا وعكسا
عالم عن مكيلها والمقيس
شاعر الضاد قد نبغت فجرد
ك جوادا في شعرك الملموس
وهذا الشاعر الذي تجرد جوادا هو الفارس الذي تجلت فروسيته في كثير من قصائد هذه المجموعة وغيرها، وظهر عشقه للغة في ذاتها وللشعر في ذاته وتمكنه من وسائلهما والعدو في مضمارهما مؤهلا له لحمل لقب "فارس الضاد".
واذا كانت القصيدة التي تحمل هذا اللقب "شاعر الضاد" غير مؤرخة في الديوان، فان النية في اطلاق لقب "فارس الضاد" على مجموعة شعرية للخليلي يعود فيما يبدو الى أوائل العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي عقد التسعينات، الموازي للعقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري.
ففي هذه الفترة بدأ التأهب، فيما يبدو، لطباعة ديوان يحمل هذا العنوان "فارس الضاد" وكتبت بعض المقدمات وكلمات التقريظ على هذا الاساس، ومن بينها كلمة سماحة مفتي السلطنة، الشيخ أحمد بن حمد الخليلي والتي كتبت في رجب الأصم 1414هـ وجاءت فيها اشارة واضحة الى العنوان المقترح حين قال "وقد سبق لشاعرنا اصدار دواوين من شعره أهمها "وحي العبقرية" الذي جمع فأوعى من أغراض الشعر المختلفة ما يشفي غليل كل ذي بغية في الأدب، وها هو ذا يقدم من جديد الى عشاق الأدب ورواد المعرفة ديوانه "فارس الضاد" الذي يضم بين دفتيه من زاد الثقافة وسليل الأدب ما يكفي كل سائب ويروي كل ظامئ".
وكذلك كان الشأن في مقدمة أخرى كتبها الشيخ سليمان بن خلف الخروصي وأرخها بعام 1415هـ/ 1994م، وأشار خلالها الى الخليلي بأنه "فارس الضاد" وهو أعرف من أن يعرف وأجل من أن يذكر" ثم ختم المقدمة بقوله: "وفي هذه الصفحات من الديوان (فارس الضاد)، يطلع القارئ على شعر رائع، وأدب بارع، وحكم باهرة، وأمثال سائرة… الخ)).
وكذلك كان الشأن في كلمة تقريظية للشيخ ابراهيم الكندي، حملت تاريخ شعبان 1413هـ (فبراير 1994م) وتمت الاشارة فيها الى "الديوان، ذلك النجم الوقاد "فارس الضاد". فالتسمية إذن تعود الى الفترة التي اتجهت فيها النية الى اصدار ديوان "فارس الضاد" وجرى تجميع مادته وكتابة مقدماته، ثم توقف الاصدار لأمر ما، وتراكم على الانتاج بعد ذلك ما خلفته نحو سبع سنين من الحصاد الشعري فتضاعف الحجم وتداخلت القصائد، ومن هنا فان التريث قد يكون مطلوبا مرة أخرى، قبل أن يطلق على الكل ما كان يراد اطلاقه على الجزء.
×××
إن التواريخ المسجلة في ذيل بعض القصائد تعطي مؤشرا واضحا على اتساع المدة الزمانية التي كتبت خلالها قصائد هذه المجموعة وهي مدة، تكاد تبلغ ثلاثين عاما تمتد من أوائل السبعينات الى أواخر التسعينات في القرن العشرين الميلادي، فهناك مثلا قصيدة "قاعة الأفكار":
ودعيه من قاعة الأفكار
ودعيه لقسوة التذكار
ودعيه فانه في ذهول
يتهاوى كفاقد الابصار
ودعيه عساه يسترجع الرشد
وإن كان شارد الأفكار
وقد كتب في آخر القصيدة "سمائل: 1972"
والى حقبة السبعينات أيضا تنتمي قصيدة ة "وحي تونس":
دعاني على هذى الربوع أهيم
فثمت تأثير الجمال عظيم
ويرتع بي بين الحدائق شاعر
وطائر فكري كيف شاء يحوم
وقد ذيلت القصيدة بتاريخ 8/8/1974، وقد وضعت هذه القصيدة في مجموعة فارس الضاد تحت رقم 100، ويلفت النظر أن تكون احدى القصائد السابقة عليها وهي قصيدة "اخوانى"، والتي تحمل رقم 98، قد كتبت في 5/11/1990م، أي بعد هذه القصيدة بنحو ستة عشر عاما، وان تكون احدى القصائد التالية لها وهى قصيدة "الشأو والشأن" والتي تحمل رقم 103، يعود تاريخها الى 26/9/1992م، أي بعد قصيدة "وحي تونس " بنحو ثمانية عشر عاما، وهذا يدل على ان ترتيب المقطوعات والقصائد فى "الديوان المقترح" لم يتم الالتفات فيه الى التناسق الزمني على الاطلاق، ولا الى التناسق الموضوعي، كما يمكن ان يفهم من عناوين هذه القصائد ذاتها.
وهناك قصائد تنتمي الى أوائل حقبة الثمانينات مثل القصيدة الموجهة الى الاستاذ احمد الفلاحي أيام كان يعمل مستشارا ثقافيا في البحرين:
سلام يرتدى حلل الفلاح
يوجه وجهه نحو الفلاحي
كأن أريجه بالمسك يسري
ونغمته بحي على الفلاح
وخلال القصيدة ترد أبيات موجهة الى شاعر البحرين الشيخ احمد بن محمد آل خليفة صاحب ديوان "العناقيد الاربعة" والذي كان قد أهدى ديوانه للشاعر عبر صديقهما المشترك، أحمد الفلاحي.
ويمتد تاريخ ما اثبت من قصائد ليغطي معظم سنوات العقود الثلاثة، اضافة الى قصائد كتبت غفلا من التاريخ وهي تمثل نحو ثلث الديوان، وقد يساعد التعرف على تواريخها في تصنيف بعض مراحل الشاعر الفنية.
×××
فى الدواوين السابقة للشيخ عبدالله الخليلي كان هنالك لون من الحرص على وجود تناسق "موضوعي" بدرجة أو بأخرى بين القصائد المتجاورة، سواء ضمها ديوان مستقل، او جزء من ديوان، ولا شك أن السمة الواضحة لديوان مثل "على ركاب الجمهور" هي سمة القصائد القصصية الطويلة المكتوبة على شعر التفعيلة، وان النصائح والمواعظ والحكم تغلب على "وحي النهى" وان "وحي العبقرية" على تنوع موضوعاته النسبي حرص على ان يضم القصائد التي تنتمي الى حقل واحد، الى بعضها البعض، مثل "الوطنيات" و "القوميات" و "الآلهيات "… الخ، ومع ان الحدود ليست فاصلة دائما في الشعر، فإن هذا النوع من التبويب الذي درجت عليه بعض الدواوين الكلاسيكية يساعد الى حد ما على تشكيل وحدة المذاق.
والاوراق التي تحمل عنوان "فارس الضاد" تتداخل فيها هذه الحقول وغيرها الى أبعد مدى، وتحتاج دون شك الى لون من اعادة النظر في تنسيقها وتبويبها ووضع بعضها في دواوين مستقلة أو أجزاء متميزة من ديوان، قبل ان يدفع بها الى الناس في كتاب مطبوع.
ومن أهم المجالات التي تلفت النظر في الديوان مجال الاهتمام بالشاعرية والخيال في ذاتهما، وتأمل الشاعر في مواهبه وادواته وعالمه الخاص، وهو تأمل تتضح من خلاله الفروق منذ الوهلة الاولى بين "الشاعر" و"الناظم " ويثبت الخليلي قدمه بجدارة في أرض الأول منهما، وان كان يجنح بين الحين والحين الى بعض مجالات الثاني، في قصيدته "الزوراء" تأتي هذه السبحات في عالم الشعر:
أرؤى ما ينتابني أم تراء
أم خفايا يتيه فيها الخفاء
شق جنح الدجى كما فلق الفجـ
ـر وخاض الصلاة منه نداء
واجتلاني عليه ومضة نور
وحداني ونفثتي لألاء
أيها الشعر كم تلطفت باسمى
ولكم قد تلطف الشعراء
وحدوت اليراع وهو بكفي
فاذا باليراع وهو حداء
واذا بالسطور مثنى فمثنى
قسمة الضاد والبيان اجتلاء
وأنا تحت نير تلك القساما
ت جواد قد هده الاعياء
إن هذا اللون من النشوة الشعرية، كثيرا ما يعتري الشعراء المبدعين، فيحلقون في آفاقهم ويحملون على أجنحتهم من يجيد الاصغاء الى ترانيمهم، وفي قصيدته "الحمول " يكشف الخليلي عن لحظة من لحظات الشاعرية المجنحة:
وأنا امتطي الزمان وان كنـ
ـت أعاني من شفرتيه ندوبي
أركب الجد فيه رحلين رحليـ
ـن أقاسيم شاعر موهوب
رحلة الصيف والشتاء ومهري
موغل في شمالها والجنوب
وكأن الدنيا حوالي سطر
من حروف توحي بكل عجيب
وكأن السماء وهي نجوم
تتجلى عنها عيون الرقيب
وكأن الفضاء خيمة عرس
عرست حولها حداة القلوب
وكأن النسيم في حافيتها
نفحة من رداء غير لعوب
وكأن المياه تنساب فيها
نفس الروح او جلاء الكروب
وكأن الأرض التي تعتليها
قبضة من محاسن وعيوب
وكأن الحسان بين رباها
طيب عرف أو لمسة من طيب
وكأني والكون مد وجزر
زورق بات موجه يرتمي بي
وتستمر الصورة على هذا النحو من التدفق الغنائي الجميل، وتتكرر أداة التشبيه "وكأن" في صدر الأبيات، زهاء عشرين مرة متتالية وهي تغرس مجموعة من المرايا الناصعة التي يرى من خلالها الشاعر روعة الكون ويرينا إياها. والى جانب هذه النزعة الغنائية الصافية التي توجد في عدد طيب من قصائد الديوان وخاصة في مجالات الشكوى والانين والمناجاة الروحية والتجليات الصوفية والرثاء والتي تمثل نمطا شعريا متميزا، يمكن افراده والتمتع به في اطار ديوان معقول الحجم، الى جانب هذه النزعة، توجد نزعة درامية واضحة في عدد لا بأس به من قصائد الديوان، والنزعة الدرامية في شكلها القصصي او الملحمي او المسرحي ليست غريبة على طموحات عبدالله الخليلي الادبية عامة، والشعرية خاصة، فكتاباته النثرية تحتفي من بين ما تحتفي به بالمقامات، وله فيها نتاج جيد، وتلم بين الحين والحين بالاقاصيص، ودواوينه الشعرية السابقة ضمت قصائد قصصية كثيرة بل ان واحدا منها وهو: "على ركاب الجمهور" يتسم كله بالطابع القصصي.
وفي مجموعة "فارس الضاد" توجد قصائد قصصية كثيرة، بعضها يحتل اكثر من عشرين صفحة متتالية، مثل قصة "الملك ووزيراه " والتي تتعدد فيها الشخصيات بين الملك والوزير الكبير والوزير الصغير، وزوجة الملك الاولى وزوجة الملك الثانية، الى جانب شخصيات ثانوية تتناثر هنا وهناك مثل "بائع الحكمة" وخدم القصر، ووالد الزوجة الثانية، وافراد من قبيلته، ويدور فيها الحوار الشعري ساعيا لتشكيل قصة لها عقدة وتبحث عن حل، وفيها جوانب مشوقة، وجوانب غامضة تنجلي شيئا فشيئا، ويدور بناء القصة الشعرية على مقاطع متتالية من بحر الخفيف تتغير فيها القافية في كل مقطع، لكن الاصوات لا تتداخل ولا تتقاطع اثناء الحوار وانما يرد كل صوت على حدة ثم يعقبه بعد ان ينتهي صوت آخر يعقب عليه موافقا او معارضا، ويعطي الشاعر للمقاطع عناوين جانبية مثل: الملك يحدث نفسه، الملك يحدث وزيريه، الوزير الكبير يستأذن الملك في السفر لبعض شؤونه، الوزير الكبير يحدث نفسه… الخ ومن نماذج حواراتها بين الوزير والشيخ "بائع الحكمة":
الشيخ: أنا شيخ ولي تجارة مثلى
فادن مني لمتجر الحكماء
الوزير: أي شيء تبيع، قل لي، فاني
لا أرى قط ما يراه الرائي
الشيخ: أنا في متجري أبيع كلاما
جملا أحكمت به احكاما
جمل حشوها سلامة عقبا
ك وان انت لم تعرها اهتماما
قيمة الجملة الفريدة ألف
من نقود البلاد فابتع كلاما
والى جانب هذا النمط من القصص الشعرية الحوارية توجد القصة الشعرية السردية وبعضها يشكل حكايات واقعية معاصرة ترد فيها كلمات مثل "المدير" و"المكتب" بل وترد فيها اسماء بعض المعاصرين التي يتم التعريف بها في الهامش، مثل قصة "سراب بقيعة" وبعضها الآخر يستمد مادته من اعماق التاريخ ومن التراث الديني مثل قصة "المسيح والخائن"، او التراث العربي قبل الاسلام مثل قصة "هند والكاهن"، واحيانا تختار القصة السردية وضع عناوين داخلية تتغير معها القافية ولكن يظل المتحدث الراوي هو الشاعر كما حدث في قصة "أخت الزليخا" التي تمتد نحو مئتي بيت تتخللها عناوين مثل: "خطاب في السر، الاب يوصي بولديه خالهما" ويتم اختيار اسماء عصرية مثل نجاة زوجة الخال، وعبلة، والمختار للأبناء، نجاة تناجي قلبها، نجاة تبدأ المهمة:
فسآتيك في ثياب الشذاء
يا حبيبي أجر فضل الرداء
وأدير المصراع للباب غلقا
كالزليخا في حسنها الوضاء
وتستمر القصة على هذا النحو من العناوين الداخلية مازجة بين الموروث الديني في قصة "زليخا ويوسف" وبين احداث عصرية مشابهة.
وتتتابع القصص الشعرية السردية في المجموعة على هذا النحو تارة تستمد من أحداث التاريخ مثل قصة "ايمان الفاروق" وتارة تنسج من خيال الحاضر، كما في قصة "البائسة" وأخرى تستلهم حكايا البادية كما هو الشأن في حكاية "مضل البعير" او تقود مرة أخرى الى استلهام فكرة القصور ومكائد النساء كما في قصة "الغار الرهيب " التي تستخدم طريقة العناوين الداخلية.
ولا تتوقف أنماط الشعر الدرامي في هذه المجموعة على ما يمكن ان يسمى بالقصة الشعرية، سواء منها الحوارية او السردية وانما تمتد الى أنماط أخرى يقترح الخليلي منها نمطا يسميه "الصورة الشعرية" التي تشتمل على مشاهد متعددة، كما حدث في قصة "جذيمة والاحداث" التي قدم لها الشاعر بقوله: "صورة شعرية تشتمل على عشرين مشهدا في عصر ما قبل الاسلام" ويمهد لها الشاعر بمقطوعتين قصيرتين، تحمل الأولى عنوان "تقديم" والثانية عنوان "توطئة"، ثم تتوالى المشاهد، المشهد الاول، المشهد الثاني… الخ، ويحتفظ الشاعر فيها بدور الراوي مع مزج بين الطريقة الحوارية والطريقة السردية، ولعل هذا هو ما دفع الشاعر لان يطلق عليها صورا ومشاهد تصل أبياتها الى نحو مئة وثلاثين بيتا من بحر الخفيف.
ومن الأنماط التي تقدمها المجموعة ايضا نمط يطلق عليه "شبه الملحمة" ويتمثل هذا في قصيدة "ذبذبات الاثير" وهي قصيدة يقول الشاعر في مقدمتها انها "أشبه ما تكون بملحمة تاريخية فى ستة ادوار وفي مئة وعشرين بيتا" ويلاحظ استخدام كلمة "الدور" هنا في مقابل المشهد في الصورة القصصية السابقة، والواقع ان القصيدة استعراض تاريخي لامجاد الخليج، ودعوة الى نهضة أبنائه.
ان وجود هذه الانماط من الشعر القصصي او الدرامي في مجموعة "فارس الضاد" يكاد يجعل منها قسما خاصا، له مذاقه وطرائق التمتع به، ويمكن ان يستقل بديوان خاص، يشكل في ذاته حجما ملائما للحجم المعتاد في الدواوين العصرية، ويقدم فرصة للدارسين للوقوف أمام خصائص هذا اللون الفني عند الخليلي ولمتذوقي الشعر في ان يستقبلوا طائفة متناسقة المذاق.
×××
الى جانب هذين الفنين الرئيسيين في مجموعة "فارس الضاد" وهما اللون الغنائي، واللون القصصي الدرامي. واللذان يمكن ان يشكل كل منهما مجموعة مستقلة، توجد طائفة أخرى من "المقطوعات" أو القصائد القصيرة التي تحمل مذاقا متميزا، وفن المقطوعات فن دقيق لا يستطيع النهوض به الا المتمرسون في فنون القول، لانه ينشد الى الكثافة والتكامل، ويحاول ان يقدم في أبيات قليلة، ما تقدمه القصيدة الطويلة، ويذكر في نفس الوقت بشعر الحكمة والابيات السائرة وبيت القصيد وغيرها من المصطلحات التي كانت تطلق على الابيات الشائعة التي تستحسن وتجري على ألسنة الناس، ومقطوعات الشيخ الخليلي تأخذ أحيانا شكل الحكمة والعظة مثل:
إن شئت ان تعرف الانسان معرفة
صحيحة في كريم الخلق والنسب
ففي ثلاث من الأحوال تعرفه
في أخذه النوم او في الضيف والغضب
او اللمحة الغزلية مثل:
طاف بي طائف الهوى فتمنيت
جمالا يلفه تذكاري
فاذا بالمنى تنزل سيبا
واذا بالجمال في أزراري
فتمتعت من هواه ولكن
لحظات قصيرة الاعمار
وقد تشكل المقطوعة قصة شعرية قصيرة:
ومشوق بات يشتاك الهوى
حسكا والليل يغريه به
صاح بالنجم أما تنقذني
قال من بعدي على مصعبه
فتولى واذا من خلفه
هازئ يضحك في ملعبه
وينادي من يرد عيش الهوى
يهنى الهون على مركبه
وهذه المقطوعات شائعة في مجموعة "فارس الضاد" شيوعا يجعلها تشكل حيزا معقولا يسمح لها ان تتجمع في ديوان صغير او في جزء من ديوان. وهنالك قصائد أخرى في المجموعة تنتمي الى فنون شعرية قديمة يعزف الشاعر على ايقاعها، مثل فن الموشحات، وفن التخميس الذي يلجأ اليه الشاعر مرات عديدة في مواجهة قصائد تراثية او معاصرة وفن المشترك اللفظي الذي يتناوله الشاعر بين الحين والحين كأن يلجأ الى كلمة مثل "العجوز" فيستخدمها في قصيدة واحدة اثنتين وسبعين مرة في اثنتين وسبعين معنى مختلفا، وكذلك الشأن في كلمة "الخال" وفن المطارحات الشعرية الذي ترد منه نماذج متعددة في الديوان، وغالبا ما يعود الشعراء اذا طبعت دواوينهم في حياتهم الى أمثال هذه المطارحات فيفرقون فيها بين ما كتب لساعته استجابة لمكاتبة صديق وأدى مهمته في حينه، وبين ما يستحق ان يثبت في تاريخ المطارحات الشعرية، وفي هذا الاطار أيضا تدخل قصائد "الألغاز" التي أصبحت فنا من الفنون التي تنسب الى تاريخ "النظم" أكثر من نسبتها الى الشعر وينطبق هذا التصور ايضا على قصائد "الأسئلة والاجابات" التي كانت شائعة بين الفقهاء- الشعراء في مرحلة سابقة، وهي- على أهميتها من الناحية الفقهية- لا تعد مما يدخل في باب "الامتاع الشعري". إن الخطوة الهامة التي اتبعت في تقييد مجموعة "فارس الضاد" ينبغي ان تتلوها خطوات مماثلة في تمحيصها وتصنيفها وتوزيعها على مجموعة من الدواوين تلائم ذوق القارئ العصري، وتعطي للتراث الشعري للشيخ عبدالله الخليلي مزيدا من فرص الانتشار والامتاع على مستوى الوطن العربي.
أحمد درويش (أستاذ النقد الادبي والأدب المقارن بجامعة القاهرة، مستشار جامعة السلطان قابوس)