تتنوع تجربة عبدالله الطائي بين فنون أدبية مختلفة ؟ إذ لم يتوقف قلمه عند لون واحد من ألوان الأدب. فكتب الشعر، والقصة، والرواية ، والمسرحية ، والمقالة ، والدراسة البحثية (1)" ، والرسالة الأدبية ، والمذكرات الشخصية ، ولعل قراءة هذه الأعمال مجتمعة تنبئنا بحجميها الكمي والكيفي. ذلك أنه استطاع _عبر ثلاثين عاما(2) _أن يشكل لنفسه خارطة أدبية أهلته بعض مكوناتها أن يتخذ مكان الريادة في الأدب العماني الحديث (3)
ويمكن إرجاع هذا التنوع الخصب في تجربته الأدبية الى العوامل التالية:
1 – قدرته الفكرية ومواهبه الأدبية ، وسعة ثقافته التي ساعدته على طرق فنون شتى.
2 – تشجيع زملائه له ابان اغترابه وبخاصة عندما كان في البحرين والكويت ؟ إذ توطدت علاقاته بشعراء وكتاب ومؤرخين كان لهم باع في تلك المجالات ، ولعلنا نذكر صداقاته بابراهيم العريض وأحمد الخليفة وعبدالرزاق البصير: إذ كان لكل هؤلاء وغيرهم دور في إذكاء ذلك
التنوع (4).
3 – وجود مناخ ثقافي استوعب تطلعات الطائي الأدبية تلك ، ويتمثل ذلك في الأندية التي كان يتولى ادارتها الثقافية ، والجلسات الثقافية والفكرية الخاصة التي كان يقيمها أصدقاؤه سواء في البحرين أو الكويت.
4- تجربته الحياتية الخاصة المنبثقة من ظروف بلاده ، والتي حتمت عليه ضرورة توثيقها وتسجيلها، وتشجيعها أحيانا عبر مضامين شتى من الابداع الأدبي، ويتضح ذلك في بعض أعماله وبخاصة القصصية والروائية.
5-المهن والوظائف التي عمل فيها، أسهمت بشكل كبير في خلق ذلك التنوع. فالإذاعة والصحافة أذكت حسه الابداعي في مجال كتابة المقال بكافة أنواعه ، كما أن اشتغاله بمهنة التدريس شجعه على محاولة تأليف كتاب في التاريخ أو بعض مقالات فيه (5)، وطرح بعض إرهاصات المسرح المدرسي ، ومحاولة إخراجها(6).
6-الظروف السياسية والثقافية للعصر الذي عاشه ، فالأولى تمثلت في ذيوع وانتشار المد القومي، الذي أثر في اتجاهات الأدباء، وميولهم الفكرية الرامية الى مضامين قومية عديدة كالنضال ضد المستعمر والوحدة وتسجيل الوقائع السياسية وغير ذلك ، ويمكن أن فتمثل لذلك برواياته وقصصه القصيرة.
أما الثانية وهي (الظروف الثقافية ) التي عاشتها البلاد العربية الأكثر تطورا كمصر والعراق والشام ، فقد أتاحت لأدباء الخليج أن يتأثروا بها، وبخاصة فيما يتعلق بتنوع الانتاج الأدبي ، فقد أحس هؤلاء الأدباء أن بلدانهم تفتقر الى هذا النمط الأدبي ، الأمر الذي أدى الى أسلوب المجاراة أحيانا، ومن ثم طرح تلك المستويات ، دون النظر الى مدى إمكانية الابداع فيها.
وأمام التنوع في الانتاج الأدبي والفكري للطائي، يمكننا قراءة تلك المؤلفات احصائيا على النحو الموجود بالجدول أسفل الصفحة:
ويتضح من الجدول أن إنتاج الطائي كان متوزعا بين مخطوط ومطبوع ؟ إذ يبلغ عدد الانتاج المطبوع(1) ثمانية أعمال أدبية ، بينما الانتاج الذي لا يزال مخطوطا تسعة أعمال أدبية وتاريخية ويمكن تجلية هذا الانتاج في المجالات التالية:
أولا: الشعر
يبلغ ما كتبه الطائي في هذا المجال ثماني وسبعين قصيدة موزعة على ثلاثة دواوين هي "الفجر الزاحف " وداعا أيها الليل الطويل "، و" حادي القافلة ".
ومن هذه الدواوين الثلاثة يمكن اكتشاف بداية كتابته للشعر، وهي مؤرخة بعام 1947، عبر قصيدته المخطوطة. " قلب محطم " وكذلك أخر قصيدة كتبها وهي مؤرخة بتاريخ 10/7/1973، وعنوانها "قصيدة لم تتم "، وقد كتبها قبل وفاته بثمانية أيام ، وفي ذلك دلالة واضحة على أن الشعر كان رفيقه طيلة حياته القصيرة ، حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
والطائي غزير الانتاج في مجال الشعر: إذ تضم تلك القصائد قرابة 2092بيتا، ولعل إلقاء نظرة شمولية على سياقها تاريخيا وفنيا، وموضوعيا ، يعطي انطباعا أوليا عن مجال الحركة والتفكير فيها: إذ أن تجربته تنطوي في داخلها على مجال واسع تدخل ضمنه معالم التجديد في نمطية القصيدة شكلا ومضمونا ولعل ذلك مرده الى الأفق الواسع الذي يتحرك فيه الطائي ويتحرك معه النتاج الأدبي في عمان ، هذا الأفق يتمثل في المجالات الثلاثة عمانيا فخليجيا فعربيا عاما.
وبكل تلك المقاييس يعد الطائي رائدا في مجال اتساع الأفاق أمام الشعر العماني المعاصر، من حيث ارتباطه بالشعر الخليجي خاصة ، والشعر العربي عامة ، ومن حيث ارتياده مواطن جديدة. وتفاعله مع الحركة العامة للشعر العربي الحديث.
ثانيا: الرواية
كتب الطائي روايتين هما: "ملائكة الجبل الأخضر" و"الشراع الكبير" والأولى تدور أحداثها الدر امية العامة متخذة من مبادي، القومية العربية الرامية الى الوحدة ما يدعم توجهات المؤلف وأفكاره في ذلك الوقت.
وتنحصر أطر هذه الرواية الموضوعية بين اتجاهين وطني وقومي، لذلك يرسم الكاتب مجال الحركة لشخصيات الرواية وأبطالها عبر مساحة زمانية ومكانية كبيرة نوعا ما: فالأبطال الرئيسيون يتحركون من القاهرة الى بغداد والكويت مرورا بالبحرين ، وامارات ساحل الخليج. وتجدر الإشارة الى أن الطائي بدأ كتابة هذه الرواية في البحرين عام 1958، وأتمها في الكويت عام 1962، وطبعها في بيروت (مطابع الوفاء) عام 1963.وهذه الدائرة توافق مجال الحركة لشخصيات الرواية وأحداثها المرتسمة في أبعاد مكانية كثيرة ، وهو توافق يرجع في ذات الوقت الى حياة الطائي المتنقلة.
أما الرواية الثانية: "الشراع الكبير" ، فهي رواية تاريخية تتحدث عن كفاح الخليج العربي ضد المستعمر البرتغالي في القرن السادس عشر. مستلهمة أهداف الوحدة والتكاتف والثورة ضد الاستعمار. وقد كتب الطائي هذه الرواية ما بين عامي 69- 1971، وتولى أبناؤه طباعتها من بعده.
ثالثا: القصة القصيرة
تأتي القصة القصيرة لدى كاتبنا تالية في انتشارها وتطور مراحلها، ونمو مذهبها الفني للرواية: ويعتمد الباحث في الرأي على دليل الانتاج الأدبي للطائي نفسه ؟ إذ يجد أن شيوع الرواية – وبعض فنون الأدب الأخرى كالمقالة ، والقصيدة على قلمة ، أكثر من شيوع القصة كما وكيفا. وكما هو واضح فإن الطائي لم يكتب أكثر من سبع قصص احداها طويلة(7) وهي "المغلغل"، أما الست الأخريات فطابعها طابع القصة القصيرة ، وهي "خيانات…!" و" أسف "، و" اختفاء امرأة " ، و"دوار جامع الحسين " ، و" مأساة صبحية ". و" عبدالبديع ". وقد اختار الطائي بنفسه للقصص الأربع الأولى تلك العناوين. أما القصص الثلاث الأخرى فتركها بلا عنوان ، وقد تولى أبناؤه من بعده اختيار عناوين لها.
وتشير تواريخ القصص الأربع الأولى ، الى أن الطائي قام بكتابتها عام 1942، أثناء تواجده في بغداد طالبا في مدارسها الابتدائية والإعدادية ، وهو بذلك أول من طرق هذا الفن الأدبي على الصعيد العماني، مشكلا ريادته له تاريخيا. أما القصص الثلاث الأخرى فلم يؤرخ لتاريخ كتابتها، وتقودنا طبيعتها وأحداثها الى أن الطائي كتبها في الفترة المتأخرة من الستينات في أثناء تواجده بدولة الكويت. ومن هذا المنطلق يمكن أن نجعل نظرتها الى هذا الفن متأثرة – الى حد كبير – بالنظرة الى فن الرواية مما قد يشير في النهاية الى أن الطائي كان روائيا أكثر منه كاتبا للقصة
القصيرة.
رابعا: المسرحية
يعود للطائي فضل الريادة في كتابة المسرحية في الأدب العماني؟ إذ سجلت مسرحيتاه "جابر عثرات الكرام " و" بشرى لعبدالمطلب " أول نصوص يدخل بها الأدب الحديث في عمان مجالات جديدة تتلاءم مع مجال الأعمال الدرامية الأخرى التي عرف بها من خلال أدب الطائي كالقصة القصيرة والرواية.
والطائي بهذا العمل الابداعي المتميز "وقتها" في الأدب العماني، يبرز لنا حقيقتين واضحتين:
الأولى: أن الطائي حين كتب مسرحيته الأول "جابر عثرات الكرام " قدمها في إطار مسرحي ينطوي على ملكة أدبية واضحة في النظم الشعري، الملائم لفن التجسيد المسرحي. إنه إطار إبداعي يهدف الى تأصيل حقيقي لفن ليس من السهل ارتياده. ولا شك أن الموقع الشعري الذي كان الطائي يحتله في خارطة الأدب العماني يعد عاملا حاسما في خلق ذلك الاطار الشعري لمسرحيته هذه.
الثاني: إن الطائي لم يكن بمعزل عن التقليد: تقليد الكتاب المسرحيين البارزين في الخليج كإبراهيم العريض الذي كتب مسرحيته الشهيرة آنذاك "وامعتصماه " ، وكذلك عبدالرحمن المعاودة وغيرهما من الأدباء الذين قدموا كثيرا من أعمالهم عبر المسرح المدرسي ومن هذا المنطلق جاءت مسرحيتا الطائي السابقتان في هذا الاطار، لا تختلفان عن تقليد المسرح المدرسي إذ قدمهما لهدف تعليمي يدخل فيه إذكاء النشاط المسرحي لدى طلابه ، ولفت أنظارهم لهذا الفن الأدبي الجديد، وقد قدم لذلك الفرض مسرحيته الأولى "جابر عثرات الكرام " عام 1942، في مناسبة رسمية ، هي زيارة السلطان سعيد بن تيمور للمدرسة السعيدية.وتلاها في العام نفسه بالمسرحية الأخرى "بشرى عبدالمطلب » التي قدمت على المسرح نفسه
(8) (أي مسرح المدرسة السعيدية بمسقط ). ويمكن قراءة وتحليل هذين العملين المخطوطين ، في ضوء موقعهما التاريخي والفني الذي يكمن في كونهما بدايات غير مرتكزة على خصائص مسرحية خالصة ؟ ومن ثم فإن مستواهما الفني العام لم يحقق قدرا كافيا لنواة أو حركة مسرحية أيا كان اتجاهها. شأنهما في ذلك شأن الارهاصات المسرحية التي قدمتها مدارس منطقة الخليج ، "كالهداية " في البحرين و "المباركية " في الكويت وغيرهما آنذاك. ويعود ذلك الى كونهما جهدا بدائيا يحمل صياغات خطابية لموضوعات جاهزة من التاريخ لم يكن يعدها الطائي كفنان يمارس الفن المسرحي، كما يمارس تجربته الابداعية التي تعبر عن صميم شخصيته. بل كان هاجسه فيهما تعليميا لا فنيا، ولذلك انصرف عن كتابه
غيرهما(9).
وربما بسبب هذه القلة عدديا، وكيفيا أرجأ طباعتهما ونشرهما، بل حتى اعدادهما للنشر والطباعة ، على غير عادته في نتاجه المخطوط الذي يشير اليه عادة في أغلفة كتبه المطبوعة ، بل حتى في تأريخه لحركة المسرح وبداياته في الخليج ، كما فعل في كتابه (الأدب المعاصر في الخليج العربي) ؟ فليس من اليسير أن يغفل هذا الانتاج لو كان يحمل قيمة فنية كبيرة في نظره ؟ لأن أحدا لا يستطيع أن يتغاضى عن أي عمل مسرحي – مهما كان شأنه – يقدم في تلك الفترة المبكرة من تاريخ المسرح ليس في منطقة الخليج فحسب بل في الوطن العربي أيضا.
من هذا كله _ وبناء على تلك المعايير الفنية المتواضعة التي تبدو في خصائص هاتين المسرحيتين – يمكننا الاكتفاء بتقديم قراءة وصفية تعريفية لموضوعاتها بعيدا عن أطر النقد الفني الذي يستوجب شروطا معينة في النص ، والعرضين المسرحيين ، وهذه الشروط ربما لا تتوافر في الكثير من الأعمال المسرحية التى قدمتها المدارس في الخليج في فترة كتابة الطائي لهاتين المسرحيتين أو ربما قبلها (10) باستثناء مسرحية الشاعر إبراهيم العريض «وامعتصماه » (11) التي كتبها عام 1932.
مسرحية "جابر عثرات الكرام "
هي مسرحية شعرية تتكون من ثلاثة فصول قصيرة نظمها الطائي على لسان ثلاث شخصيات رئيسية هي: شخصية خزيمة وعكرمة بن ربعي الفياض ، والخليفة سليمان بن عبدا لملك. إضافة الى بعض الشخصيات الثانوية أمثال الحاجب ، وثلاثة سائلين ، والسجان.
وتدور أحداثها حول القصة التراثية المعروفة "جابرعثرات الكرام "، التي يقوم فيها عكرمة الفياض بدور البطولة ، وعكرمة هذا كما يقول: صاحب كتاب "العقد الفريد" أحد أجواد الكوفة وكرمائها المشهورين (12). وقد وظفه الطائي هنا بدلالته التاريخية ، وبقصته المعروفة. حيث نراه في مشاهد المسرحية في موقف المحاور لخزيمة ، وهو أحد الكرما، أيضا، فهناك سائلان يرجوانه أن يجود عليهما، لكن خزيمة لا يملك ما يجود به عليهما سوى رد ائه ، وفجأة يطل عكرمة متلثما، ويسمع ما يدور بين خزيمة وسائليه ، ويتدخل باعطاء خزيمة كيسا من المال ليجود به عليهم ، ويرفض خزيمة في باديء الأمر بحجة أن هذا المال من المال العام ، ولا يجوز تبذيره إلا أن عكرمة يؤكد له عزمه على إغاثته وأنه هو "جابرعثرات الكرام " إذا ما ألمت صروف الدهر.
كما أنه – من طرف آخر – يرفض إبداء هويته له حينما سأله عن اسمه ويجود خزيمة بجزء من ذلك المال ، ويحسن بالباقي حياته ، لكن قصته هذه لم تبق في حيز الستر؟إذ سرعان ما انتقلت الى مركز الخلافة بدمشق ، فيعلم بها الخليفة الأموي سليمان بن عبدا لملك ، فيرسل وفدا الى خزيمة الذي كان واليا عنده على هذه المنطقة. ويدور حوار بين خزيمة الوالي وبين رئيس وفد الخليفة.. نستشف منه وضاء الخليفة عليه وتقديره له بتأكيد ولايته بصورة رسمية حيث ناوله رئيس الوفد خطاب الخليفة له بهذا الشأن. كما أن هذا الخطاب من طرف آخر يتضمن تنفيذ الحكم بالسجن على عكرمة من جراء تهمة ألصقت به. ولم يستطع الدفاع عن نفسه فيها، وهي "اختلاس المال العام "… ولم يكن خزيمة يعلم بأن ذلك المال المختلس هو الكيس الذي أعانه به ذلك الرجل الذي جاءه على حين غفلة ، ويسر له مطالب سائليه. كما لم يكن يعرف كلية أن ذلك الشخص هو عكرمة بن ربعي الفياض ، لأنه أخفى اسمه وستره وهنا أيضا لم يعرف أن هذا الرجل المحكوم عليه ، هو الذي أعانه ، لهذا نفذ خزيمة أمر الخليفة بالسجن وطال السجن به ، ويتعلل خزيمة لكل من جاء يشفع له بعظم ذنبه ، حتى يئس الناس من إطلاق سراحه ونتيجة لذلك أرسلت امراته رسولا الى خزيمة.. ويدور حوار طويل بينه وبين الوالي ، يذكر فيه ذلك الرسول صفات (عكرمة ) ومناقبه في الكرم والجود، والمروءة واعانة المحتاج ، وجبر عثرات الكرام ، كما يذكر الوالي بأن (عكرمة ) قد جاد عليه ذات يوم في أثناء محنته ؟ إذ يقول له:
كيف تهين جابر الرزية * ليلة كنت ظاهر البلية
ويكتشف خزيمة بشاعة فعلته ، بعد أن عرف أن ذلك الرجل الذي أطل عليه ليلة عسره: هو عكرمة الفياض. وهنا يخالجه الندم ، فيذهب فورا الى عكرمة وهو في السجن.. ويقدم له اعتذاره عن عدم معرفته له وعلى خطئه في حقه ، وما لحقه من عذاب السجن بسبب ذلك ويرمي خزيمة قيود عكرمة ، ويأخذ بيده ويعتذر له اعتذارا متكررا، ثم يذهب به الى الخليفة سليمان بن عبدا لملك: وهناك يشرح خزيمة للخليفة خطأه في سجن عكرمة ، وأنه ليس بسارق خزانة دولته ، ، بل هو رجل نبيل شجاع ذو مروءة أغاثه وقت سحنته ،وجاد عليه في عسره وهنا يعجب الخليفة بموقف عكرمة ذلك ، ويأمر له بالولاية على (أذربيجان وأرمينيا ).
وتصفو علاقة عكرمة بخزيمة ،ويسمو موقف عكرمة ، وصبره وقدرته على تحمل أعباء السجن بغية الحصول على المجد الخلقي الذي لا يضاهى.
هذه هي أحداث المسرحية ، التي نستشف من مشاهدها السريعة الخاطفة ما يجعلنا نعتبرها أقرب الى أن تكون "اسكتشا" مسرحيا يحمل بعض مقومات الأداة المسرحية الأولى ؟ حيث نمو الحدث الدرامي، وتطوره تبعا لتطور القصة التاريخية المستوحاة بواقعيتها وحقيقتها دون تدخل المؤلف في خلق أية صياغة دراسية تظهر موقفه الابداعي المتميز:كما أن قصرها ، واختزالها للأحداث إضافة لقلة أدوار شخصياتها تؤكد لنا مصداقية ذلك الاعتبار.
وأكثر ما يشدنا في هذه المسرحية هو سبقها الزمني لمستويات عصرها وريادتها للأدب المسرحي في التجربة العمانية فهي تلغي كل المقولات التي تعتبر بدايات المسرح في عمان في بداية السبعينات ، إضافة الى طابعها الشعري، الذي حاول به الطائي مجاراة رواد المسرح الشعري في عصره ، سواء في الوطن العربي ممثلا في شوقي، أو في الخليج ممثلا في إبراهيم العريض ، وعبدالرحمن المعاودة ، الذين نعزو اليهم تأثر أديبنا بهم في هذه المحاولة المسرحية (أو في هذا النمط الأدبي الجديد عنده ).
وحين نتأمل بعض الملامح الفنية لهذه المسرحية نجد أنها _ تسير على نهج حواري ، لا يعتريه أي تدخل وصفي آخر من قبل المؤلف. اللهم إلا فيما يتصل بتقديمه الأولي لبداية فصوله ، والذي ظهر بشكل موجز على نحو ما نلمحه في عباراته التالية "خزيمة في بيته " بالنسبة للفصل الأول ، وينكشف المسرح عن أمير المؤمنين سليمان ، وحوله رجال دولته ويدخل الحاجب أولا بالنسبة للفصل الثاني.
أما البقية الباقية من الأحداث فيظهرها الحوار بلفة شعرية تستحوذ فيها الشخصية الواحدة في الحوار مع مثيلتها ، على أكثر من خمسة أبيات أحيانا. دون أن يقدم المؤلف أية دلالة ايجابية تظهر معالم الشخصيات الداخلية (أي النفسية )،حتى ولو كانت تتألم ، أو تتوجع من جراء السجن ، كما هو الحال مع عكرمة ، فلا يبدو عليه ألم الوحدة أو التوجع. أو الانفعال من جراء سجنه بلا ذنب ، فكل شخصيات المسرحية شخصيات ذات مظهر خارجي وتلك واحدة من هنات هذا العمل المسرحي.
أما اللغة الشعرية نفسها ، فتعتريها بعض الهنات في الوزن ، رغم صفائها ، وسلاستها ونقائها وسهولتها ووضوحها، ومن ذلك قوله على لسان كبير وفد الخليفة (سليمان بن عبدا لملك ) لخزيمة:
(فاذهب الى عكرمة فخر الكريم * وقل له ذي سنة بين الانام )
وأيضا قوله على لسان الأمير "ذاك مر في زمان خالي تسوه ذكراه وتؤذي بالي " حيث نجد أن مراعاة الشاعر للوزن ، جعلته يثبت (ياء) الاسم المنقوص (خالي ) وان كانت القاعدة النحوية توجب حذفها في الاسم المنقوص المجرور أو المرفوع الذي لم يقترن "بأل ".
كذلك نراه يحول بعض همزات الوصل الى همزة قطع مراعاة للوزن ، كما في كلمة "اسمية في قوله على لسان خزيمة رباه عونا ارتجيه * كي أصون (إسمية ).
وعلى كل حال فهذه الهنات تغتفر في سبيل تلك الريادة التي فتح بها الطائي فنا أدبيا جديدا في الأدب العماني الحديث ، تطور بعده الى آفاق جديدة نلمحها في التقنيات الجديدة في المسرح المعاصر.
ب- مسرحية " بشرى لعبد المطلب ":
هي مسرحية نثرية ، تقع في فصلين ، وتستوحي القصة التراثية القديمة التي تدور أحداثها في اليمن قبيل ولادة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بين الملك: سيف بن ذي يزن ملك اليمن ، ووفد قريش المكون من عبدالمطلب وعبدالله بن جدعان ، وبعض الرجال. وجاء هذا الوفد لتهنئة الملك بانتصاره على الأحباش في حربه لهم ، حيث تدل الروايات التاريخية على أن البطل اليمني (سيف بن ذي يزن ) كان سليل بيت من ملوك حمير. وقد احتفظت الذاكرة الشعبية باسمه ، لما له من شأن عظيم في التاريخ القومي العربي؟ إذ يعود اليه الفضل في طرد الأحباش من جنوب الجزيرة العربية بعد أن ظلوا غالبين عليه منذ عهد (ذي نواس ). وتذهب بعض الروايات الى أن سيف بن زي يرن تغلب على الأحباش بمساعدة الملك الفارسي (كسرى أنو شروان ) وأطاح بحكمهم على اليمن. وبسط سلطانه على أرض أجداده في ظل الحماية الفارسية. ويرجح الباحثون أن انتصاره هذا يمكن أن يرجع الى عام.570م أو نحوها (…). وهو تاريخ قريب من تاريخ ولادة الرسول الأعظم "محمد" (صلى الله عليه وسلم ). كما كان الملك يرهص بالسلام. ويؤمن بالتوحيد؟ لذا كان اختيار الطائي له موضوعا لمسرحيته هذه قائما على استيحاء هذه الدلالات العقائدية التاريخية.فهذه السيرة في -حد ذاتها – ذات مكانة بارزة بين السير الشعبية في الذاكرة العربية ، بسبب روعة النضال القومي لصاحبها الملك سيف بن ذي يزن ضد الأحباش وهي دلالة موحية للطائي بأهمية النضال القومي وطرد المستعمرين في تلك الفترة.
المسرحية لا تخرج في أحداثها الدرامية – عن واقعيتها المعهودة وحدثها التاريخي المنصوص عليه في كتب التراث ، فهي تصور زيارة وفد قريش لهذا الملك. فبعد ضيافة دامت شهرا من الزمان أكرم فيها الملك ضيوفه ، وأعز شأنهم ، لما بين أولئك الضيوف (بني هاشم ) وبين الملك سيف من قرابة أسرية يكشفها الوفد عن طريق عبدالمطلب في الحوار الذي دار بينهما في باديء الأمر على النحو التالي:
الملك: مرحبا بوفد قريش.. مرحبا بأهل بيت الله ، وأيهم أنت أيها
المتكلم.
عبدالمطلب: عبدالمطلب بن هاشم.
الملك: (مقاطعا ) ابن أختنا؟
عبدالمطلب: نعم ابن أختكم.
الملك: (يخطو ويشير الى عبدالمطلب بمكان قريب منه ): يواصل قائلا له: مرحبا وأهلا وناقة ورحلا سهلا وملكا يعطى عطاء جزلا. وقد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم ، فأنتم أهل الليل والنهار لكم الكرامة ما أقمتم ، والحباء إذا ظعنتم "(13).
وبعد جلسات متعددة. يكشف الملك سيف بن زي يرن لعبدالمطلب في نهاية أيام ضيافته له بأن لديه خبرا يخصه ، وهو يتعلق بنبوءة الرسول الأعظم (محمد)(صلى الله عليه وسلم) ، فيقدم له صفاته وهو لا يزال طفلا.
الملك: إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الامامة ولكم به الزعامة الى يوم القيامة.
عبدالمطلب: أبيت اللعنة ، لقد أتيت بخبر ما أتى بمثله أحد، فلولا هيبة الملك واجلاله واعظامه ، لسألته كشف بشار ته إياي ما أزداد به سرورا.
الملك: نبي هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد، اسما أحمد، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه والله باعثه جهارا وجاعل له انصارا يعز به أو لياءه ويذل به أعداءه ، يكسر الأوثان ، ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ، ويزجر الشيطان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله وينهي عن المنكر ويبطله (14).
ويستطرد الملك في وصف صفات الرسول (صلى الله علية وسلم) ، وامارات نبوته ، وما سيلاقيه من عنت ، وما سيقوم من جهاد في سبيل نشر دعوته ، ويحذر عبدالمطلب من تآمر اليهود عليه ، ففي كتابهم إشارات الى بشائر نبوته.
وبعد أن يستمع عبدالمطلب لوصايا الملك المتعلقة بالحفيد القادم ، يهتف فرحا، مجاهرا بقوله: بشراك عبدالمطلب.. بارك الله فيك يا محمد.. أي عوض عوضني الله عن أبيك عبدالله..!
والمسرحية كما تتبين لنا من طابعها… لا تحظي الا بقليل من الخصائص الدرامية. اللهم الا فيما يتصل بتقديم موضوعها التاريخي التقليدي الذي لا يوحي بأية دلالات رمزية ، يسعى الكاتب أن يبثها من خلاله ، ولعل غرضه التعليمي كان المسيطر على حسها العام ، وقد تمثل ذلك في طابع المسرحية القصيرة واختزالها للقمة التاريخية ، وبعدها عن الرؤية الدرامية وعناصرها ، ولولا ريادتها التاريخية وسبقها الزمني لما سواها من مسرحيات جاءت على نفس النمط في الفترة المتأخرة _ لجازفنا باستبعادها عن النمط المسرحي ، وأعتبرناها (اسكتشا مسرحيا أوليا). وأظنها بكل مواصفاتها تلك قريبة منه ، حيث الشخصيات المحدودة وذات الوجه الواحد، وذات الصفة الحوارية وغرضها تقديم الحادثة التاريخية بعينها.
وفي المقابل لذلك أشد ما يجذبنا اليها لغتها القوية السلسة ، التي تنم عن ثقافة لغوية عالية ، وقراءة في مصادر التاريخ العربي بشكل جيد، ولعلنا نلمح ذلك كله في حسن اقتباس (الطائي) للمقطع التالي من خطبة معروفة لعبدالمطلب وفي هذا المقطع يخاطب الملك سيف بن ذي يزن ، قائلا:
"إن الله أحلك _ أيها الملك _ محلا رفيعا، صعبا ، منيعا شامخا، باذخا ، وأنبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن ، وأنت أبيت اللعنة ملك العرب وربيعها الذي به تخصب وأنت (أيها الملك ) رأس العرب الذي اليه تنقاد، وعمودها الذي فيه العماد ومعقلها الذي تلجأ اليه العباد.."(15).
وهكذا نجد في هذا الاقتباس ما يدل على ذوق أديب مثقف يختار نصا يمثل هذه اللغة السلسة ، القوية الجزلة التي تثير مشاعر الفخر والاعتزار في قلب الملك الذي تختزن ذاته عصارة تاريخ حافل بالأمجاد والقوة ، وهذه اللفة تناسب مقامه الرفيع ، وقد خاطبه بها وفد قادم لتهنئته ، مما يوحي بتفاعل المؤلف مع أحداث قصته ، تفاعلا يدل – من طرف آخر – على إعجابه بها إعجابا شديدا. وكما أشرنا سابقا فإن منبع هذا الاعجاب هو الالله الرمزية على النضال القومي العربي القديم ، فما أحري الطائي أن يقدمها لقرائه وهو يرى وطنه العربي الكبير في تلك الفترة (أواخر الأربعينات ) يرزح تحت وطأة الاستعمار. وفي القصة أيضا جانب تعليمي ينبع من هذا الحس الوطني،، ويريد توصيله الى تلاميذه في المدرسة التي كان يدرس فيها (السعيدية ) والتي قدمت هذه المسرحية على مسرحها.
خامسا -المقال
نال المقال من أديبنا عناية كبرى: إذ يبلغ مجمل ما كتبه في هذا المجال
( 281) مقالا تتنوع بين أنماط عدة أهمها: المقال الأدبي والمقال التاريخي ، والمقال الاجتماعي ، والمقال الاسلامي.
وترجع بداية كتابة الطائي لفن المقال ، الى إذ يجد الباحث مجموعة من المقالات المخطوطة كتبها حينما بحان طالبا في بغداد. وأول مقال من هذه المقالات عنوانه "في العيد"، وقد كتبه في 18/ 10/ 1940، وهناك مقالات أخرى وخواطر، كتبها الطائي في هذه الفترة المبكرة من حياته ، مثل "وقفة على البحر." وقد كتبها في 2/ 5/ 1942، وبعض الرسائل الأدبية التي تتخذ بعض ملامح المقال الأدبي، وقد كتبها الى زكي مبارك في 1940.
والطائي غزير الانتاج في هذا المجال ، ويعود ذلك الى مهنته الصحفية والاذاعية التي ساعدت في إذكاء روح الكتابة المقالية فلا غرر أن نجد انتاجه موزعا بين صحف واذاعات الخليج والوطن العربي، ولقد تم تتبع الانتاج عل نحو يشير الى أن الطائي كتب فيما يقارب من أربع عشرة صحيفة ، وتحدث عبر أربع اذاعات ، وذلك على امتداد حياته القصيرة.
ولقد تم جمع بعض ذلك الانتاج في كتب عديدة قام أبناؤه بطباعتها من بعده ، ومازال الأكثر منه مخطوطا، أو منشورا في الصحف. وأهم هذه الكتب. "الأدب المعاصر في الخليج العربي" ، وقد طبعه معهد البحوث والدراسات التابع للجامعة العربية عام 1974 وكذا "دراسات عن الخليج العربي" وقد طبع في مسقط في مطبعة الألوان الحديثة عام 1983، وكذلك "شعراء معاصرون " عام 1987، و" مواقف " عام 1990.
سادسا: السيره الذاتبة
تعتبر سيرة الطائي الذاتية من طلائع السير الذاتية التي كتبها كتاب الخليج العربي وشخصياته الأدبية والثقافية ؟ فقد شرع في كتابتها بتاريخ 23/ 9/ 1949، وسجل احداثا كثيرة في الخمسينات والستينات والسبعينات ، ونحن نجد أخر يومية كتبها ترجع الى 9/ 9/ 1971، وبين هذين التاريخين (البداية والنهاية ) يمكن تناول هذه السيرة حسب المراحل التالية:
1- مرحلة مسقط –باكستان وجدت مخطوطة – كنص أدبي – تتكون من 54 صفحة من الحجم المتوسط وتتناول حياته الاجتماعية داخل أسرته ، ووظيفته كمدرس في المدرسة السعيدية ، وما لاقاه فيها من صعوبات إدارية وتعليمية ، أدت به في نهاية المطاف الى الهجرة الى باكستان ليعمل مدرسا، في كلية اللغة العربية ، ومن ثم رجوعه الى مسقط مرة أخرى لما لاقاه من ظروف اقتصادية حتمت عودته ، وفي مسقط وباكستان يسجل أحداثا، ومواقف طريفة ، حدثت له سواء في عمله الوظيفي أو نشاطه الثقافي أو على صعيد علاقاته بأصدقائه (16). ويشير ضمن كشفا ذلك الى معالم جريئة تصور رؤاه الفكرية والثقافية ، في تلك الفترة المتقدمة من حياته.
كما أنه عني بتسجيل نشاطه الأدبي في هذه المرحلة ، فهو يظهر لنا قراءاته وكتاباته ومتابعاته الثقافية كما يعرض لنا مناسبات بعض قصائده وأيضا مسرحيتيا اللتين يذكر عنهما أنهما مثلتا في المسرح المدرسي في المدرسة السعيدية بمسقط في تلك الفترة.
ويبدي في سيرته – في هذه المرحلة – روحا قصصية عذبة ، واهتماما خالصا بشتى النواحي ، أو ما يمكن أن نسميه طبيعة الحياة اليومية للعصر الذي عاش فيه ففي سيرته يقظة الفنان ودقة المؤرخ وتحريه ، وقد ساعده أسلوبه الأدبي، على تقديم كل ذلك بلغة سلسة عذبة ، صافية يمكن ملاحظتها من خلال هذا المقطع الذي صور فيه أسباب هجرته الى باكستان.
"خرجت من مسقط ساخطا بالحياة برما بحاضري، كارها لمحيطي: كم دعوت انه أن يكتب لي الخروج ! دعوته حين ينهمر الغيث ، ويهدر الرعد.. دعوته حين ينعم علي أن أتوجه اليه. دعوته حين أرى الهلال. أو تطول بي الطريق ، وحسبك ذلك شاهدا على الحال التي تعوزني اذ كنت بالوطن وعلى النفسية التي دفعتني الى هجرانه "(17).
ويستمر الطائي في تقديم أحداث حياته في هذه المرحلة بنفس هذا التوهج العاطفي، هذه الحرارة المتوقدة التي تجذب القاريء، ولا تدعه يفارقها، فهو مشدود نحوها شدا كبيرا، وتلك واحدة من أنماط التأثير الذي يخلقه النص الأدبي في قارئه.
2- مرحلة البحرين – الكويت:
لم يكمل الطائي كتابة سيرته في هذه المرحلة كنص أدبي متكامل ، وانما تركها على هيئة يوميات سجل فيها باقتضاب ، ما حدث في أيامه من أحداث مهمة كان أغلبها ذد طابع حياتي واجتماعي وثقافي عام.
وتقع مذكراته اليومية لهذه المرحلة فيما يقارب 68 صفحة مخطوطه بخط يد أ عني فيها بقضايا الا`سرة اولا فهو يصف علاقاته الاجتماعية ، وصلاته بأصدقائه وأهله ، كما يصف أولاده من حيث تواريخ ميلادهم وميولهم وطبائعهم ، وصفاتهم وسير دراساتهم وأحلامهم وما يستجد في نموهم عقلا وجسما ويسجل رحلات أسرته ، وزياراتها، وما حدث فيها من مواقف مهمة ذات تأثير في مجرى حياته كحالات وفاة بعض أهله ( عمه – خاله – والديه ) وأيضا حالات الزواج التي تتم في نطاق أسرته.
ويعني بتتبع نشاطه الثقافي والأدبي، من خلال ثتابته في الصحف واذاعته للبرامج الثقافية في الاذاعة سواء في الكويت أو البحرين. حيث نجد رصدا لكل ما نشره أو أذاعه في هذه الفترة ، إضافة الى ما قام به من أنشطة في النوادي والجمعيات الثقافية فهو يسجل دوره في أنشطة (اتحاد الأندية الوطنية ) في البحرين بصفته سكرتيرا لها حيث محاضراته في المناسبات الدينية والوطنية ، وحيث استضافته للشخصيات الفنية والثقافية فهو يقول في إحدى يومياته "بدأنا الموسم الثقافي لاتحاد الأندية بمحاضرة ألقاها الأستاذ رسول الجشي. ونستعد الآن للمحاضرة الثانية عن التعليم العام والفني. وننتظر وصول الاستاذ محمد فؤاد جلال للاشتراك في هذا الموسم "(19).
3- مرحلة الامارات -عمان
وهي مرحلة أقل وطأة على كاتبها من سابقتيها، ونلاحظ قلة تسجيل الطائي ليومياته فيها، ويكتفي بالاشارة المقتضبة اليها ناهيك عن بروز عنصر الحذر من الاستطراد في شرح بعض مجرياتها.
أما حياته الأدبية والثقافية في هذه الفترة سواء في الامارات أو في عمان ، وهي تقترن بتوليه مناصب استوجبت منه عنصر الكتمان ، حتى في سيرته الذاتية التي أعلن في البداية أنه سيتوخى عنصر الصدق في تسجيلها.
ويكتفي في هذه المرحلة بتسجيل وقائع من خلال مهامه الوظيفية الرسمية التي قام بها حين كان وزيرا ممثلة في اشتراكه في "وفد الصداقة " وزياراته للاقطار العربية والأجنبية معرفا بنهضة عمان الحديثة. ويذكر زيارته لسويسرا في 2/ 5/ 1971، والعراق في 5/6/ 1971، ولبنان
5/ 6/ 1971، والأردن في 9/6/ 1971. ويسجل في هذه الزيارات المواقف التي حدثت له على صعيده الشخص ، دون أن يشرح مظاهر تلك الزيارات على صعيد المهمة الرسمية التي أوكلت اليه في تلك الزيارات ، وهي مهة تندرج في اعتقادنا في إطار منصبه الوزاري الذي يحمل أسراره ، ويتوخى كتمانها وحتى في هذه المذكرات الخاصة.
وفي هذه المرحلة نلاحظ إشارات طفيفة الى رحلاته وتنقلاته وزياراته لمناطق عمان ، وذلك لأداء مهاو وظيفية فرضتها عليا مهنته كوزير للاعلام والشؤون الاجتماعية من أجل النهوض قدما بوسائل التنمية في الوطن المتفتح على عهد جديد يحمل أبعاد التحضر والرقي والازدهار.
خواص سيرة الطائي الذاتية في هذه المراحل الثلاث من مذكرات الطائي تتحقق خواص وشروط السيرة الذاتية _ الى حد ما _ فهو يعتمد فيها على وثائق ، ورسائل وشواهد يثبت بها حقائق حياته ، وكثيرا ما نلمح تأكيداته عليها وقد وجدنا بالفعل تلك الرسائل "مؤرشفة " في مكتبته الخاصة ، وملفات عمله في حقل التعليم والاعلام إضافة لرسائله الخاصة التي احتفظ بها لهذه الغاية.
كما أن سيرته جاءت متنامية مشبعة لمراحل حياته ففي المرحلة الأولى يصور طفولته وشبابه ، وما اكتنفهما من ظروف وما أحاط بهما من مصاعب ، في المرحلة الثانية يتتبع مراحل شبابه وعطاءاته المتوهجة ، في كافة الأصعدة ، وفي المرحلة الثالثة يظهر قناعاته بالعمل الثقافي ، ورفضه لكل ما كان ينادي به ، خاصة أنه وجده متحققا في إطار النهضة الحديثة التي أراد أن يستكمل به دوره الريادي في قضايا التنمية والتحضر لكن العمر لم يمهله كثيرا.
ونلمح في هذه المرحلة الأخيرة استقراره الذهني، وخضوعه لمستويات شتى من القناعات خاصة الفكرية ، لذا لم يكن انتاجه الأدبي فيها مشتعلا كما كان في المراحل السابقة.
كذلك لا يلجأ الطائي في سيرته الى الخيال كثيرا في تصويره للمواقف: فأغلب ما جاء في سيرته عبارة عن حقائق واقعية مدعمة بالأدلة والبراهين ؟ ولعله كان على وعي بأن فن السيرة الذاتية دديعتبر فنا لا بمقدار صلته بالخيال ، وانما لأنه يقوم على خطة أو رسم أو بناء للحقائق فهو أدب تفسيري للظواهر المحيطة به "(20) وهذا النوع من الأدب يخلق خلقا من حيث صلة صاحبه بغاية محددة تهديه الى اختياراته للحقائق: وهو كالراوي ، والقاص يحاول أن يكشف عن الصراع ، سواء مع نفسه أو مع الناس من حوله ، ولكنه لايستطيع أن يحكم خياله في أجزاء ذلك الصراع فبدلا من أن يقف موقف الخلاق ترده يقف موقف المستكشف المفسر لأشياء وأشخاص وجدوا في الحقيقة. ولعل أبسط الأدلة على ذلك ما ذكره عن تقييمه لبعض الأشخاص أثناء تعامله معهم في البحرين والكويت (21) فهو يذكر موقف أصدقائه الذين ساعدوه وقت محنه ، مفسرا مواقفهم رابطا إياها بمواقف أخرى في حياته.
والملاحظ أن سيرة الطائي الذاتية وبخاصة في المرحلتين الأوليين كانت استجابة للهموم الثقال التي كان يحس بها في حياته نتيجة لصخبها، على أن هذه الاستجابة لم تكن مظهرا من مظاهر النكوص أو إظهارا لعالمه الخارجي، واشراكا للآخرين في تجاربه ومحاولة منه لتجنب أبناء مجتمعه ، وانما كانت نتاج قناعات داخلية أفرزتها معالم التجربة بصدق وقد تبين ذلك من خلال دوافع كتابته لهذه السيرة ، فهو يقول في المرحلة الأولى من تلك السيرة.
"دهي وسيلة مناسبة للسلوى ومغالبة الأشجان ؟! إذن فلأكتب مذكراتي. أجل فلقد حاولت أن أخفف من سعران النار في قلبي ومن هواجس الكمد في نفسي. وسعيت الى أن أطلق جبهتي من العقد ، وأجمع بصري بعد أن تمزق. نظرت الى هنا وهناك أستعين بالشاي والشعر، والنظر الى الحسن والزهر. ولكن واأسفاه فشلت !! فما العمل إذن ؟ وأين الطريق الى السلوان ؟ إنها المذكرات "(22).
أما فى المرحلة الثانية ، فيبرر دوافعه لكتابة مذكراته بقوله: "لتبقى تذكارا لي في هذه الحياة ولأولادى من بعدي، ولمن يستجلون بها حقائق
حياتي"(23).
ولعل تلك الدوافع من الأهمية بمكان ، إذا سلمنا ان مذكراته تلك كانت مثالا للصدق وتجسيدا للمعاناة بكافة صورها. إلا إننا نلمح أن ذلك الصدق كان نسبيا، وبخاصة في المرحلة الأخيرة التي تختلف تماما عن توجهات الكاتب وتطلعا ته السابقة. فهو وان قصد في المرحلتين الأوليين تجلية أطر الصدق والحقيقة ، فإنه في الثالثة فشل ؟ لأن روح المعاناة خفت وتطلعات الموقف الفكري تلاشت ، فما بقيت له إلا الأحلام التي طالما سعى اليها خاصة أنه وجد في المرحلة الأخيرة توافقا مع مساعيه وأمله: فهو يقول "هل يدور في حسبان امري، واجه الظلمات ، وكابد المصاعب وعانى المشاكل ، أنه سيسمع بالفرج فجأة.. هل يدور في حسبان هذا الانسان أن سنوات البعد عن الوطن والغربة عن الأهل يمكن أن يبزغ أمام عينيه فجر يبدد ظلماءها ويرفع أثقالها ؟ لا أعتقد ان الانسان يتوقع الفرج صدفة دون أن تكون له مقدمات مشهودة أو مسموعة يدفعه الى هذا التوقع كثرة ما عانى من مصائب. ذلك ما حدث صباح يوم السبت 25/7/ 1970"(24).
واذا كان عنصر الصدق قد تجسد بوضوح في سيرة الطائي فإن دوافعه كانت بسبب "الألم " الذي كان يعاني منه على صعيد حياته المعنوية لا المادية: إذ إن الألم هو الذي يضطر الذات الى أن تخلع على حياتها معنى، وما كتابة سيرة من السير الذاتية إلا بهدف أن يخلع الكاتب على حياته معنى. فالألم كدافع لكتابة السير، أداة فعالة تزيد من خصب الحياة الروحية وتعمل على صقل الشخصية ولكن بشرط أن تجعل منه أداة عمق للحياة الباطنية (25) كما يقول الدكتور زكريا ابراهيم.
واذا كان الصدق والألم والمعاناة دعائم رئيسية للسيرة الذاتية فإن سيرة الطائي كانت مغلفة ببعض الشذرات السلبية التي فرضتها عليه عواطفه الدينية والخلقية والاجتماعية والتي تحتم عليه عدم الافصاح إلا عن بعض أشياء ومن ثم فقد صور لنا الجانب الايجابي من حياته والجانب الذي لا يمس سمعته الطيبة بشيء ، وترك الجانب الآخر منسيا. ولعل عاطفته الدينية التي بدت واضحة في سيرته حولت بعض ملامحها الى وعظ وتذكير بقدرة الله على رعاية البشر وحفظهم وأن أرزاقهم مكفولة لديه وخاصة في المرحلة الأولى حينما غادر وطنه مهاجرا الى باكستان ، ليطلب العمل وهو لا يدري هل يتحقق طلبه أم لا كذلك في بعض المواقف الحزينة التي يرزأ فيها بفقد عزيز لديه كحالات الوفاة التي طرأت على أمه وهو بعيد عنها. حيث ألم به الحزن ، واشتد عليه الرجع المعنوي فكانت المذكرات الوسيلة التي تخفف من وقع تلك الحالة الحزينة.
ومن جانب آخر كانت المشاعر الدينية والمباديء الاخلاقية ظاهرتين في سيرة الطائي وهي بذلك لونت العمل الأدبي وأثرت في حقائقه "ذلك أن أساس السيرة الذاتية هو الانسان فاذا وقع الكاتب تحت تأثير تلك العواطف قلت رغبته في التجارب الانسانية وتحرج من أن يذكر منها بعض الآثام والنقائص لئلا يرسم للناس القدوة السيئة والمثال المضلل"(26).
ولذلك كان الصدق في سيرة الطائي محاولة ، لا أمر متحققا، ويكفيه أنه حاول تسجيل مواقف ،وتوثيق أحداث لم تكن في الحسبان خاصة تلك التي شملت الأحداث الثقافية في منطقة الخليج بأسرها ولم يكن تسجيله ذلك في إطار تاريخي بحت ، بل كان ممتزجا بالطابع الأدبي؟ وهو بذلك يحتل مكان الريادة في هذا المجال وهي ريادة تضاف الى رياداته في كتابة فن القصة والمسرح والرواية في سلطنة عمان وأوطانه الخليجية التي عاش فيها فترات من عمره.
***
هذا هو مجمل إنتاج الطائي الأدبي مخطوطا ومنشورا غير أن إنتاجا آخر في مجال التاريخ يمكن الاشارة اليه ويتمثل في كتابه الذي جمعه ووسمه بـ "تاريخ عمان السياسي " وقدم فيه قراءة أولية للتاريخ العماني على امتداده الطويل ، مستجليا فيا رؤى وطنية وأخرى قومية.
وأمام هذا الانتاج المتنوع كما وكيفا، يمكن استخلاص معالم الريادة التي سجلها التاريخ الأدبي العماني لعبدالله الطائي.. هذا الكاتب الأديب الشاعر. الذي جاء نتاجه عصارة حياة مثيرة ، خصبة متنوعة المصادر والاستيحاءات ومن هنا كانت دلالة اتساع الحركة التي تميز بها دون غيره من أدباه عمان وشعرائها _ وذلك على نحو ما سيتضح في الدراسة التفصيلية التحليلية التالية لفنون أدبه.
الهوامش والمراجع التوثيقية:
1- نقصد بها تلك التي قدمها في التاريخ العماني الحديث ، وعنونها بـ "تاريخ عمان السياسي".
2- اعتمادا على أول نص شعري كتبه عام1942 ، وأخر نص كتبه عام 1973.
3- ونعني بها المكونات الأخرى غير الشعرية ، باعتباره أول من كتبها في عمان. أما الشعر نتوجع أهمية إنتاجه بالنسبة للادب العماني الى كونه جدد قوالبه الموضوعية والغنية متأثرا بمدرسة الاحياء والبعث والأدب العربي.
4- كما يشير في مذكراته الشخصية ليوم 14/6/1957م ، فهو يذكر على وجه الخصوص دور الشاعر ابراهيم العريض في تشجيعه.
5- يجد الباحث مظاهر ذلك متجلية في كتابه "تاريخ عمان السياسي " وبعض المقالات التاريخية ؛ إذ أن إرهاصاتها الأولى "فكرتها " كانت مدرسية أو أكاديمية ناتجة من دروسه التي كان يلقيها على طلابه في المدرسة السعيدية بمسقط ،أو مدرسة الهداية الخليفية بالبحرين أو في معهد البحوث والدراسات بالقاهرة.
6- كما فعل في المدرسة السعيدية عندما دفعت به ظروف زيارة السلطان سعيد بن تيمور للمدرسة الى كتابة ذلك النص المسرحي "جابر عثرات الكرام " وتمثيله مع الطلاب واخراجه أيضا كما تشير مذكراته ليوم 14/5/1948.
7- تقترب في شكها وحجمها من الرواية ، الا أن أبعادها الموضوعية الأخرى والفنية أيضا لا تسمح بإدراجها ضمن سياق الرواية ، وإنما يمكن اعتبارها قصة لحويلة ، تهدف الى تسجيل الوقائع ورصدها أكثر من عنايتها بالنمط القصصي الفني المركز. وهي تعتمد على بعدها الزمني الطويل وشخصياتها الكثيرة وأحداثها المكثفة.
8- يشير في مذكراته الى أنه قام وحده باخراجها فنيا.
9- لم نتمكن من العثور على نصوص أو محاولات مسرحية للطائي غير هاتين المسرحيتين مما يعطي دلالة الحكم بأن الطائي اكتفى بهما، تمشيا مع ضرورات العملية التعليمية في المدرسة السعيدية ، التي دفعته الى الكتابة.
10 – ظواهر التجربة المسرحية في البحرين: د. ابراهيم غلوم ط 1، شركة الر بيعان ، الكويت 1982، ص19.
11- تحمل مسرحية إبراهيم العريض "وامعتصماه" خصائص الى المسرحي المتكامل "من هنا حظيت باهتمام النقاد المسرحيين كما فعل الدكتور ابراهيم غلوم ، حينما تناولها بالنقد والتحليل في دراسة ضمنها كتابه السابق ص 15- 85.
12- العقد الفريد: لأبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ، تحقيق أحمد أمين وآخرين ج 1، ط "دار الكتاب اللبناني "، بيروت 1986 ،ص294
13-مسرحية "بشرى لعبد الملك ، مخطوطة ، ورقة رقم ( 1)، و(الحباء) في العبارة الأخيرة: تعني القرب من الملك.
14- المسرحية نفسها، ورقة رقم (2).
15- مسرحية "بشرى لعبدالمطلب "، مخطوطة ورقة رقم ( 1). وهذا النص جزء من خطبة معروفة تنسبها بعض كتب الأدب لعبدالمطلب.
16- لا سبيل هنا للكشف عن مظاهر تلك الأحداث والمواقف: لأنها تدخل ضمن خصوصياته.
17- السيرة الذاتية لعبدالله الطائي. مخطوطة ورقة رقم (2).
18- مكتوبة على ورق من القطع المتوسط وغير مرقمة ، وقد سعينا الى ترقيمها لأجل توثيق مادة هذا البحث.
19- مذكرات الطائي ليوم 18/ 1/ 1959 (مخطوطة ) ورقة رقم (52).
20- فن السيرة الذاتية د. احسان عباس ط 4، دار الشروق ، عمان ، الأولان ، 1988ص 58
21- يمكن النظر الى أمثلة ذلك في مذكرات الطائي مرحلة البحرين والكويت ، (مخطوطة ) ورقة رقم 29- 36.
22- مذكرات الطائي ليوم 23/ 5/ 1949 (مخطوطة ) ورقة رقم ( ا ).
23- مذكرات الطائي ليوم 10/ 5/ 1959 (مخطوطة ) ورقة رقم (56).
24- مذكرات الطائي ليوم 25/7/ 1970 (مخطوطة ) ورقة رقم ( 71).
25- مشكلة الانسان د. زكريا ابراهيم:ص ، 37. وأيضا أدب السيرة الذاتية الدكتوراة عبدالعزيز شرف: ص 18.
26- Nicolrsan: The development of Eng Biography, 3nd
impresion. London,1974,p11
***
محسن الكندي (كاتب واستاذ جامعي من سلطنة عمان)