يمكن مقارنة الشاعر المغربي عبدالله راجع ، الذي توفي مؤخرا، بالشاعر المصري أمل أنقل من وجوه مختلفة . فكل منهما توفي في ريعان شبابه ، وكل منهما مات بالسرطان بعد سنوات من النضال الشاق ضده ، وكل منهما كان شاعرا وطنيا. وكل مذهما كان مجددا وأصيلا في الوقت نفسا اذ كانت بوصلة التجديد عندهما الانطلاق . من التراث ، والشعرية العربية ، وفي شعرهما نجد نكهة شعرية متميزة عل مستوى اللغة ، وبنية الايقاع ، والبناء المعماري، وتوظيف التراث ، واستخدام الرمز.
وكلاهما كان شاعرا مثقفا ،وان كان عبدالله راجع أكثر ثقافة من أمل أنقل . ذلك أن أمل أنقل ترك المدرسة باكرا وانصرف الى ميادين العمل ، في حين أن عبدالله راجع كان مثقفا ثقافة أكاديمية متينة ، وقد عمل عدة سنوات بعد نيله الدكتوراة في الأدب ، أستاذا للأدب العربي والنقد في إحدى كليات الآداب بالدار البيضاء وله دراسة نقدية في جزءين أو كتابين عن الشعر العربي المعاصر.
ومع أن كل شعر أمل أنقل مطبوع ومعروف ، فان أكثر من نصف شعر عبدالله رابع لم يطبع بعد بسبب مشاكل الطباعة في المغرب ، ومشاكل عبدالله راجع الصحية والمادية ، ولأن الموت الذي أقام علاقة طويلة معا داهمه مؤخرا بعد أن هيأ ثلاث مجموعات شعرية جديدة للطبع . وتنوي وزارة الثقافة المغربية الآن اصدار أعماله غير المطبوعة .
لعبدالله راجع ثلاث مجوعات شعرية تفصح عن تجربة شعرية متكاملة .
صدرت مجوعته الأولى "المدن السفن " "سنة 1976 وفيها حاول … أن يقنع نفسا كما يقول ، انه أصبح شاعرا ولذلك قدم للقاريء مجموعة من أشعاره ومع أنه كان يعتبرها "ديوانا غير مقنع "، على حد تعبيرا، فإن الكثير من نقاد المغرب يرون انا كان رائدا في وقته ، كان الميسم التراثي واضحا في هذا الديوان وكان الشاعر يجرب طاقاته اللغوية .
في مجموعته الثانية "سلاما وليشربوا البحر"، حاول الشاعر أن يزاوج بين الشعر والكاليفرافية فيما يمكن تسميته بالقصيدة البصرية . والقصيدة الكالينرافية ظهرت في المغرب في بداية الثمانينات واتهمت بأنها .موريا لية جديدة ، وأن الواقع في عالم الاقطاع النامية لا يتطلب مثل هذا التزويق و الزخرف . وأشار بعض النقاد المغاربة الى أنها تكرار لبعض منمنمات القصور الوسطى غير أن طموح الشاعر آنذاك كان إعادة البراءة الى العين . ان نقرأ القصيدة وفي الوقت نفسا أن نواها. وأن نشتغل على ألمستويين معا. كان رأيه أن العين لكثرة ما دجنت ، أشفي دورها داخل القصيدة ولذلك فان على الشاعر أن يعيد الى النص الشعري هذا الحاسة .
في مجموعته الثالثة "أياد كانت تسرق القمر"، وقد فازت بجائزة المغرب الكبرى سنة 1988، أي قبل رحيل الشاعر عن هذه الفانية بحوالي سنة ونصف عولج خلالها في الخارج على نفقة العاهل المغربي، في هذه المجموعة حاول الشاعر أن يعبر بصدق عن تجربة رجل يدعى صالح . هذا الرجل بعض قسماته قسمات عبدالله راجع ، والبعض الآخر ان لم يكن من قسماته فهو من قسمات نفس الذي يعايشه . كل قصائد المجموعة تشكل في مجموعها سيرة ذاتية لرجل . هذا الرجل فيه شيء من عبدالله راجع : في مهاناته بواقعه ، في مواجهة نفسه ، في وقوفه أمام المرآة عاريا ليكتشف نفسا وسط هذا العالم مفرغا من كل قوت أعزل يواجه العادم في كثير من اللحظات بنبضه فقط . ودر لحظات أخرى يحس نفسه قادرا على احداث تغيير داخل هذا العالم .
كان عبدالله راجع يرى أن الشعر يساهم في احداث التغيير ولكن على المدى البعيد. هو يؤهل للتغيير ولكنه لا يغير على النحو الذي يزعمه بعض الشعراء. فعنده ان أداة الشعر هي اللغة ، ولكن اللغة تحتاج الى وعي، والوعي يحتاج الى حساسية . وهكذا فهناك شروط موضوعية في الاساس، والأمر يحتاج الى حساسية شعرية ، والى شروط موضوعية تعمق هذه الحساسية وتنميها في اتجاه معين لكي يلبي الواقع متطلبات ظل الشعر ينادي بها منذ هوميروس حتى اليوم ولا يتحقق منها شيء على الاطلاق .
ولم يكن يعتقد أن الرواية قد أخذت مركز الصدارة عند العرب رغم الانجازات التي سجلتها خلال الثلاثين أو الاربعين سنة الماضية ، فلعى مستوى الكم مازال عدد الشعراء أكبر مز عدد الروائيين ، وعلى مستوى الكيف ، كذلك . وكان يوافق على أن الرواية تزدهر في لحظات المنعطفات التاريخية الكبرى لأنها أقدر على التقاط مجريات الواقع داخل هذه المنعطفات التاريخية ، لكنه كان يعتبر أن للشعر أيضا كلمته فعندما تزدهر الرواية والقصة يزدهر الشعر كذلك . ثم ان الشعر قادر دائما على أن يطور نفسه وإذا لم يكن لدينا شعراء ينحون هذا المنحر ، فالعيب في الشعراء ´لا في الشعر.
عندما التقيت بعبدالله راجع في مدينة مراكش في شتاء 1988 أثناء توزيع جوائز المغرب الأدبية روى لي تجربته الأدبية . قال لي أنه شاعر مغربي ر يهمه أن يكتب قصيدة مغربية ، ولما بدا علي انني لم استوعب كثيرا مصطلح "القصيدة المغربية "، قال إنه لا ينكر أبدا وجود شعرية عربية عامة ، ولكن داخل هذه الشعرية توجد خصوصيات ، وان هناك بالتالي خصوصية مغربية يفترض أن تظهر في قصيدة الشاعر المغربي، كما تظهر خصوصية المصري والشامي في قصيدته . وقال أن هناك على سبيل المثال ، خصوصيات في ايقاع الشعر. حاول عبدالله راجع في دراسة أكاديمية له أن يبرهن أن الايقاع المسمى حببا هو أصلح الايقاعات لشاعر ينتمي الى المغرب لسبب جوهري هو أن اللهجة العامية المغربية خببية بطبيعتها. المقاربة يرد السكون كثيرا في لهجتهم ، ولذلك كتب ايوانا كاملا على الحبب لأنه تصور أن قصيدة على هذا الايقاع تعبر عنه أكثر من قصيدة على ايقاع آخر.
كان عبدالله راجع شاعر ا حديثا رغم إعجابه الشديد بتراث الشعر العربي الكلاسيكي. قال لي إنه يجد راحة عندما يكتب بالطريقة التفعيلية لأنه تمرس عليها سنوات طويلة ، والى حد أن التفعيلة باتت بالنسبة اليه جزءا من مكونات عالمه الشعري. كما أنه لم يكتب قصيدة النثر لاقتناعه بأن القصيدة التفعيلية لم تستهلك كل طاقاتها.
ومع أنه كان يفتح صدره للجديد، و للحداثة ، إلا أنه كان محترزا لناحية كثيرا ما يحصل بصددها التباس . فألحداثة عنده لم تكن اختراقا أو تجاوزا للمقومات الشعرية ، أو للأدوات التي لا غنى عنها للشاعر، فإذا
حصل مثل هذا الاختراق أو التجاوز فقد كانت تسميته له لا لدس فيها وهي انها اعتداء.
ولم يقتنع بأن الحداثة تتنافى مع الأصل أو الأصول ، كما يتصور البعض ، فعنده ان الحداثة تطوير للأصل . انها غصن جديد ينمو في شجرة هي الأصل .
ورغم التجديدات الكثيرة التي يعتلي ء بها شعره ، فلم يزعم مرة أنه شاعر حديث . كان يقول أنه يكتب ، يمارس الكتابة وانه اذا كان لأحد الحق في انه يصنفه وفق اتجاه معين ، فهذه مهمة النقد والنقاد.
وكانت له أسرة شعرية موزعة بين التراث العربي والتراث الأجنبي، وبخاصة الفرنسي منه . على رأس أسرته العربية كان يقف أبوالطيب المتنبي وأبو تمام "المهووس بالتغيير، باحداث خراب داخل هذا العالم "، كما كان يقول عنه . وكان من شعراء أسرته الأجنبية مالا رميه وبودلير: الأول في شففه بنحت العالم نحتا جديدا، والثاني في مغامراته الكتابية .
كان يرى في المتنبي قمة القصيدة العربية . "الرجل الذي شكل في عصره ظاهرة لم تتحقق حتى الآن ، وهي أن تقول ما تريد أن تقوله شعرا كما لو أنك تقوله نثرا. رجل طوع اللغة الى الحد الذي أصبح بإمكانه أن يحدث الى غيره شعرا وكان يرى أن مسألة من هذا النوع ليست في متناول أي واحد مسألة لو تحققت لآن لوجدنا أنفسنا أمام شاعر استطاع أن يحقق لنا هذه القدرة ، اذن لكان وجه الشعر العربي الآن مغايرا لما هو عليه ".
كان عبدالله راجع انسانا عذبا، رقيقا فيه وداعة أصلية . وعندما أتذكره الآن في جلسته الحزينة مستسلما الى صرارات الداخل وانتظاره لذاك اليوم الذي لم يكن منه بد، يفور قلبي في داخلي . لم تكن لعبدالله راجع تلك الشخصية الشقية العنيفة التي كانت لأمل أنقل . كان أمل أنقل يهجم على المنبر لكي ينزل شاعرا رديئا، أو شاعرا بدا له انه رديء، كما كانت له شخصية منفرة بشهادة الجميع . أما عبدالله راجع فقد كان الصمت هو الأول عنده لا الكلام ، وكان اذا تكلم سرعان ما يعود الى الصمت ليتجلبب فيه .
قال لي مرة أن أجمل العوالم الممكنة هو العالم الذي يخلقا، العالم الذي ينبثق من بين أصابعه ، وانه لا يجد ملاذا عندما ينهزم على مستوى الحياة اليومية ، أجمل من القصيدة كانت القصيدة تعطيه فرصة العودة الى الحياة من جديد بأسلحة جديدة .
لمن كان يكتب عبدالله راجع ؟ لقاريء مفترض ، كان يجيب "وقد أكتب لقاريء موجود الآن ، وقد لا أكتب الا لنفسي ، وقد لا أكتب الا لأن العالم الذي أعيشه يحتاج الى أن أحدث فيه شرخا ليلبي مطلبي، وقد لا أكتب الا لكي أحس بأنني لست معزولا ، وأن الواقع لا يشكل هذه "النحن " الجماعية ، بل يحتاج الى هذه "الأنا" التي تكتب ، فعلي أن :قتحم هذا "النحن "، وأن استحوذ عليها بدلا من أن تستحوذ هي علي ".
يغيب الشاعر ولا يغيب ، يرحل ولكن ابداعه يظل شاهدا ومخترقا حدود الزمان لان عمر الابداع أكثر امتدادا من عمر صاحبه ، وكذلك عمر المصعدة.
جهاد فاضل(كاتب من لبنان)