عبدالله الحراصي استاذ مساعد في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس بمسقط ، حصل عام 2001م على شهادة الدكتوراة في حقل «دراسات الترجمة» من جامعة آستون ببرمنجهام بالمملكة المتحدة. نشر له العديد من االدراسات والترجمات في مجالي الترجمة والفكر الاستعاري ومنها «دراسات في الاستعارة المفهومية». ويعمل حاليا مع فريق عمل على انجاز مشروع الموسوعة العمانية الذي يهدف إلى إعداد الكتاب المرجعي الرئيسي عن عمان، انساناً وطبيعة.
مكان الطفولة
أود بدءاً أن أشير إلى أنني لا أتحدث عن طفولة كاتبٍ أو مفكرٍ أو منجزٍ لتميزٍ ما، فأنا أرى نفسي بعيداً غاية البعد من جهة الإنجاز بشتى صوره عن تخوم معاني هذه التسميات، ولكنني سأتحدث عن طفولة إنسان جاء من قرية عمانية صغيرة ووجد نفسه في كونٍ وطني عماني، فسيح بالنسبة لهذا الطفل القروي، ثم في كونٍ عالمي أفسح، في الفكر من خلال القراءة والاهتمام الأكاديمي، وفي الجغرافيا من خلال الدراسة في الغرب ثم العودة إلى عمان، ومن خلال السفر والتواصل مع بشر ينتمون إلى بقاع مختلفة في هذا العالم. لا أقول هذا تواضعاً بل هذه هي الحقيقة كما أشعر بها.
القرية التي عشت فيها تلك الطفولة هي قرية تسمى جمّاء، وتتبع إدارياً ولاية الرستاق التي كانت إحدى عواصم عُمان قديماً ومن أهم حواضرها، وهي ليست بالقرية الكبيرة إذ لا يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة الآن، غير أنها قياساً إلى القرى المجاورة تعد كبيرة. وتشكل هذه القرية حدود ثقافة الداخل العماني جهة ساحل الباطنة حيث توجد ثقافة مختلفة من ناحية اللهجة وطرق المعيشة والزيّ وغيرها. ثقافة الداخل، كما هي دائماً في مختلف أنحاء العالم، تميل إلى المحافظة وإلى صلابة البنيان الاجتماعي والصرامة السلوكية، أما ثقافة الساحل في الباطنة فهي ثقافة أسلس وأكثر قبولاً للمختلف وللتغير. ثقافة الداخل تميل إلى التنميط والقولبة وثقافة الساحل تميل إلى قبول الاختلاف بين الأفراد.
وجماء قرية زراعية تعتمد على نظام الأفلاج، وهي قنوات نقل الماء تحت الأرض من خزاناته الأرضية البعيدة إلى أن يصل إلى القرية فينتفع منه في البداية الناس للشرب وغيره من الاستخدامات المنزلية ثم يتجه الماء للمناطق الزراعية. والزراعة هي أساساً زراعة أشجار النخيل وهي مركز الحياة الإجتماعية، حيث يقاس الوضع الاجتماعي بما يملكه الانسان من أراضٍ نخيلية، ويوجد على أطراف المساحة المزروعة منطقة (تسمى «المَزْرَع») تزرع فيها النباتات المستخدمة لتغذية الحيوانات التي يربيها الناس، مثل البرسيم وغيرها من الأشجار.
وزراعة النخيل ليست مجرد ظاهرة طبيعية بل انها في عمق عملية المعيشة والحياة الاجتماعية، فالناس يلتقون حول أنشطة زراعة النخيل وحصاده، فهناك موسم «التبسيل» وهو جني ثمر نوع من النخيل اسمه «المبسلي» ثم طبخه وتجفيفه، وهو نشاط يشارك فيه كل سكان القرية صغاراً وكباراً. كما أن هناك أيضاً يوم «الطنا» الذي يقصد به المزاد الذي تباع فيه ثمار موسم من مواسم حصاد شجرة النخيل، وكان المزاد ذا طابعٍ رائع يبدو أنه سيختفي إلى غير رجعة مع ما يشهده المجتمع العماني من تغيير بسبب تغير أنماط الاقتصاد الذي فرضه التحديث المعاصر، فالمنادي الذي يقود المزاد يعرض سعراً أولياً لثمرة نخلة ما ثم يقوم من يريد شراء ثمر الموسم من تلك النخلة بزيادة السعر إلى أن يصل أحدهم إلى سعر لا ينافس فيه أحد وهنا تنتهي العملية بإرساء البيع على هذا المزايد الأخير. ويتحدد السعر بحسب نوع النخلة وكمية ثمارها. ومن ميزات هذا المزاد الحركة حيث يتحرك السوق بأكمله من نخلة إلى نخلة من بداية المنطقة المزروعة إلى نهايتها، بمسافة ربما وصلت إلى ما يزيد على خمسة كيلومترات أحياناً.
وكثيرة هي ذكريات القرية التي يمكنني أن أذكرها هنا. منها ذكرى ذلك الشخص الذي يركب حماره ويحمل البرسيم على رأسه. كنت ألاحظ ذلك وعندما سألته ذات يومٍ قال لي «ألا يكفي أن الحمار يحملني أنا؟ أليس في قلوبكم رحمة؟ إنني أحمل البرسيم على رأسي لأخفف عن هذا الحمار المغلوب على أمره». كان جاداً في حديثه ويبدو أنه كان يعيش مع نفسه لحظة صدق رؤوفة بالحمار، أما أنا فقد قبلت ذلك التفسير آنئذٍ باعتباره تفسيراً منطقياً ورحيماً فعلاً، وطرافته الحالية تخلق حنيناً لأيام لن تعود.
وقد ألفت الموت منذ صغري ولم يشكل لي، إلى الآن، أي خوف، فبيتنا ملاصق لمقبرة، وتعودت على مشهد الجنائز التي كانت تحمل إلى المقبرة القريبة من بيتنا. وما أكثر أساطير الموت التي كانت تنتشر أيام الطفولة التي كانت في السبعينات من القرن الماضي وهي بداية التحديث العماني المعاصر، وحين كان التفكير الأسطوري لا يزال راسخاً وخصوصاً لدى كبار السن. من تلك الأساطير الأمل في عودة الموتى الذين كان يعتقد بأن السحرة قد أكلوهم. كذلك كان الناس في بيوت الموتى يضعون بعض الأكل ليلاً في صحن ليجدون أن الصحن أصبح خالياً من ذلك الأكل صباحاً فيعتقدون أن الميت قد جاء وأكل ذلك الطعام، والأرجح أن قطاً جائعاً هو الذي أتى على ذلك الطعام.
كذلك كان هناك تجربة «مسجد بو (أبو) طوالع»، وهو مسجد قديم لا يُصَلَّى فيه ويقع على طرف منطقة أثرية لم يتم استكشافها علمياً حتى الآن ولا يعرف لها تاريخ واضح. كانت الوظيفة الوحيدة للمسجد هي مناسبات النذر، أي الولائم التي تتم بالقرب من هذا المسجد والتي تشمل أيضاً رمي بعض الحلوى، بل والنقود الورقية، في أنحائه للتبرك وجلب النعمة والعافية والصحة، كل بحسب ما يرغب، وكان من لا تجد هذه المعتقدات في نفسه هوى وتصديقاً من أطفال قريتنا يذهب إلى ذلك المسجد بعد رحيل الزوّار ويأخذ النقود، غير أن الأهل كانوا دائماً يعيدونها إلى المسجد، لأن المسجد «يقص» أي أنه يعاقِب وسيتسبب في ضرر لمن يحمل تلك النقود.
كذلك كانت هناك حفلات الزار التي كانت تتم في وسط مجرى الوادي أو تحت شجرة سدرٍ ضخمة، وكانت الدعوة إليها معروفة حيث كان هناك رجل (توفي منذ أكثر من عشرين عاماً) ينفخ في بوق عاليَ الصوت، لعله قوقعة بحرية ضخمة، ويسمعه كل أهالي القرية. كان يؤتى بالمريض النفسي أو الجسدي ويقوم المشاركون بالغناء أو الرقص مستشفعين شخصيات من التاريخ العربي مثل الإمام علي بن أبي طالب أو ابنيه الحسن والحسين «(وا شيب راسي/ وا شيب راسي، راجي حسن وحسين/والوقت ماسي»)، أو شخصيات صوفية أو دينية مثل محمد بن علي أو الجيلاني، أو شخصيات من التاريخ العربي كعنترة مثلاً «(يو عنتر بن زبيبة/يو عنتر بن زبيبة، شال سمرة فوق راسه/متلحَّف بالحضيبة»). كان الرقص يزداد صخباً بالتدريج ويقوم من «يتلبسه الجن» من المشاركين بتناول بعض الجمر ويضعه على فمه فلا يحترق. شاهدت هذا بنفسي ولا أجد له الآن تفسيراً. أما المريض فكان يقوم أحدهم بضربه وسط الحلقة الراقصة، ثم يسأله «من أنت» فيجيب باسم شخص من الجان أو غيره من طوائف الخليقة، ثم يسأله عن مطالبه فيجيب بسلسلة طلبات كان أغلبها يدور حول ذبح عنز أو شاة أو بقرة ذات صفات معينة يجلبها أهل المريض بعد حفلة الزار تلك. ولا أدري إن كانت تلك الحفلات قد أدت فعلاً إلى شفاء المرضى ولكنني لا أستطيع، من منطق العلم، أن أجزم بأن الشفاء من المرض لم يكن يحدث، حيث أن الجانب الروحي والنفسي له مجاهله التي لا يعترض عليها العلم الحديث.
غير أن هناك نوعاً آخر من الفنون الشعبية كان هو المفضل في القرية وهو ما يسميه العمانيون «العازي»، وهي صرخة الحرب القَبَلية وأنشودتها التي تفتخر فيها القبيلة بأمجادها، ويتمركز هذا الفن على منشدٍ يحمل سيفاً حول حلقة من رجال القبيلة، ويقوم بالدوران حول هذه الحلقة. ما زلت أذكر أحد هؤلاء المنشدين وهو يصرخ في القبيلة «يا أولاد وائل، والدم سائل، يا عصبة راسي، يا صف الحراصي»، وهو يشير طبعاً إلى قبيلة بني حراص التي تشكل أغلب سكان القرية، ومن المعروف في الأنساب العمانية أن هذه القبيلة يعود تسلسل نسبها إلى «وائل بن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان»، وهو ما يشير إليه المنشد القبلي في العازي، والمقصود بكلمة «صف» الحلف القبلي الذي ربط القبيلة بقبائل أخرى تنتمي إلى نفس النسب القبلي. ليس النسب بيت القصيد في الحديث هنا ولكن التأثير النفسي للعازي، فالمستمع، طفلاً أو شاباً أو كهلاً، يشعر بالفعل أنه داخل ميدان حرب حقيقي وأن القبيلة في حاجة جمعية لفعله الحربي وبسالته. حينما تسمع العازي (العازي الحقيقي وليس ذلك الذي نسمعه الآن في الحفلات التي حولت ذلك الفن إلى مجرد «فلكلور») تكاد تسمع خلف صوت ذلك المنشد الآلاف المؤلفة من رجال القبيلة الذين هم على أهبة الاستعداد للقتال. كان ذلك فيما يبدو لي الآن هو أسلوب المجتمع في الإبقاء على تماسك القبيلة وعلى تماسك المجتمع القبلي بأكمله.
نشأت في هذه البيئة التي بدأت ثقافتها تتغير بمجيئ المدرسين من مختلف الدول العربية وتحديداً من مصر والأردن والسودان. كان هؤلاء المدرسون يمثلون لنا نحن الأطفال كنز معلومات عن العالم الذي لم تكن حدوده تتعدى قريتنا الصغيرة وما كان يذكره أهلنا عن القرى والبلدان الأخرى، خصوصاً قطر والبحرين حيث كان يعمل الكثير من العمانيين قبل عام ٠٧٩١. هكذا في صغرنا كنا نعرف الكثير عن إربد وعمّان والخرطوم وأم درمان وكسلا والقاهرة وكفر الشيخ والاسكندرية وسيناء قبل أن نعرف أسماء كثيرا من القرى والبلدات العمانية.
فترة الجامعة
دخلت جامعة السلطان قابوس عام ٨٨٩١، حيث قبلت في كلية الآداب التي تخصصت فيها بعد عام في الأدب الانجليزي. كانت هذه فرصة للتعرف على الآخر الغربي، حيث كان أغلب المدرسين من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. كانت الجامعة في بدايتها حيث افتتحت عام ٦٨٩١، وكانت دفعتي هي الدفعة الثالثة من الطلبة على مستوى الجامعة والدفعة الثانية في كلية الآداب التي افتتحت بعد عام على افتتاح الجامعة. كانت الجامعة منفذاً ضخماً لاستكشافات غير منتهية، فهناك المكتبة ذات الطوابق المتعددة والتي تحوي آلاف الكتب في شتى الفروع، وكان هناك الطلبة القادمون من كل بقعة في عمان ودول الخليج، إضافة إلى المدرسين العرب والأجانب القادمين من دول العالم المختلفة. وبرغم قلة عدد الطلاب آنئذٍ (لم يكن يتجاوز ثلاثة آلاف طالب) كانت الجامعة آنئذٍ تعيش فترة نشطة في أنشطتها الثقافية والفكرية، وكانت الحوارات الساخنة بين الأفكار المختلفة تجمع الطلبة أحياناً وتفرقهم في أحيان أخرى، وهذه الحوارات تتمحور حول نفس المواضيع المألوفة كالأصالة والتحديث، والشعر التقليدي والشعر الحديث وغيرها من المواضيع الجدلية.
الاستعارة المفهومية
كتبت عدداً من الدراسات حول الاستعارة، ولكن ليس من منظور المفهوم التقليدي الذي يرى فيها مظهراً لغوياً جمالياً بل باعتبارها ظاهرة ذهنية لا واعية، وقد نشرت هذه الدراسات متفرقة في أعداد مختلفة من مجلة نزوى ثم مجتمعة في كتابي «دراسات في الاستعارة المفهومية»، وهو كتاب يحتوي على عدد من الدراسات التحليلية لاستخدام الاستعارة المفهومية في الخطابات الدينية والسياسية والفلسفية، أما أقرب الدراسات التي كتبتها إلى قلبي فهي تلك التي درست فيها الاستعارات التي استخدمها موسى بن ميمون في كتابه «دلالة الحائرين»، حيث أن ابن ميمون فيلسوف ديني صعب ودراسته من منطق الاستعارة المفهومية كان ضرباً من التحدي الضخم، لأنه يهاجم البسطاء من الناس الذي لا يستطيعون تجاوز المادة في فهمهم للأمور المجردة ومنها المفاهيم الدينية، وما قمت به هو أنني أظهرت من خلال تحليل استعارات موسى بن ميمون أنه هو نفسه يستخدم استعارات مفهومية لفهم الأمور المجردة، فيتحدث مثلاً مستخدماً استعارات الضوء والظلمة والاحتواء والدخول والخروج في فهمه لإدراك المجردات وللعقل وغيره من الظواهر أو المفاهيم المجردة.
عمان: بين القطيعة مع العرب والتميز
الثقافة المعاصرة في عمان هي امتداد للثقافة العربية العامة، غير أن البعد العماني الخاص حاضر كذلك بقوة. وإن كان القول بأن التاريخ هو ابن الجغرافيا فإن الثقافة هي بنت احتضان الجغرافيا للتاريخ، ولا أدل على ذلك من المثال الثقافي العماني. فمن ناحية يتميز التاريخ الثقافي العماني المكتوب، وأغلبه فقهي، بتمركزه على المذهب الإباضي، ذلك المذهب الذي نشأ في العراق ولكنه طار هرباً من بطش السلطات إلى عمان شرقاً وبلاد المغرب غرباً. وفي عمان أخذت الجغرافيا بيد التاريخ في بقاء هذا المذهب وفكره لقرون عديدة، فعمان بلاد تتناثر قراها وبلداتها ومدنها بين جبال عصية عتيدة أمدت الإنسان بعون طبيعي لمقاومة ثقافة المؤسسة الدينية الرسمية لمراكز الحضارة العربية الاسلامية. وما يؤسف له أن كثيراً من المثقفين والمفكرين العرب الذين يسمون العمانيين بالانعزال الفكري لا يدركون هذا البعد التاريخي للثقافة العمانية المعاصرة.
إضافة إلى ذلك فإن العمانيين، الفخورين أيما فخر بعروبتهم، قد حملوا هذه العروبة ومعها الإسلام إلى بلاد غير التي تفاعل معها المركز العربي في العراق والشام ومصر، فالجغرافيا، الممثلة في الرياح الموسمية، قد دفعت العمانيين شرقاً وجنوباً، فيما كانت تردهم صياهد الربع الخالي عن التوغل غرباً إلى إخوانهم في المركز العربي، فكانت تجارة العمانيين البحرية مع آسيا (الهند وسيلان وجنوب شرق آسيا) وأفريقيا. وللعمانيين في شرق أفريقيا قصة لا يعرفها معظم العرب ولا تتناولها كتب التاريخ العربي إلا نادراً وباستغراب غير مبرر، فقد تاجر العمانيون مع شرق أفريقيا بل وأقاموا دولاً هناك، في العمق الأفريقي كالكونغو وفي الساحل كالبر التنزاني والكيني وفي جزر الشرق الأفريقي كزنجبار، بل أن سعيد بن سلطان، حاكم عمان في النصف الأول من القرن التاسع عشر، قد نقل عاصمة مملكته من مسقط إلى زنجبار.
الجغرافيا والتاريخ في عمان أثمرا ثقافة خاصة لقرون عديدة، غير أن هذا لا يعني أن العمانيين لم يتفاعلوا مع الثقافة العربية الأم، فالمذهب الاباضي، الذي ميز التاريخ المعرفي العماني، ظهر كما ذكرت في العراق، كما أن كثيراً من العمانيين هاجروا من عمان وساهموا في بناء المركز الثقافي العربي كالخليل بن أحمد وابن دريد وأبو محمد الأزدي تلميذ ابن سينا وصاحب معجم «الماء» الطبي.
ولا يوجد في عمان أي تناقض بين العمانية والعروبة. ما يختلف معه كثير من العمانيين هو الايديولوجية العروبوية التي، مثل أي أيديولوجيا دعوية، لا ترى التفاصيل ولا تهتم بها. نحن عرب وعمانيون: لنا تاريخنا العربي الذي يربطنا مع بقية العرب، غير أن لنا تاريخنا العماني الخاص بنا الذي هو في الآن ذاته تاريخ عربي لأننا عرب. وقد أسهم العمانيون في بناء الحضارة العربية، بتوسعتها أفقيا في فترة تمدد الدولة العربية بعد ظهور الاسلام، وبتوسعتها عمودياً بمساهماتنا المركزية في الثقافة العربية، غير أن الجغرافيا ألقت علينا بأقدار وإمكانات تاريخية اختلفت عن تلك التي سادت عند بقية العرب.
١١ سبتمبر وما بعدها:
ما حدث في ١١ سبتمبر ليس حدثاً سياسياً عابراً لنعلق عليه. القصة هي كالتالي: قام الغرب بمظالم تاريخية أججت بتراكمها شعوراً بالمرارة وبالمهانة، والقيام بالمهانات تجاه الشعوب الأخرى، كما هو عند الأفراد، ليس فعل العقل والمنطق والحضارة والحكمة وإنما هو فعل الغرائز، وكان الرد كذلك في ١١ سبتمبر، فقد ردت الغريزة على الغريزة. تعادل قاتل، لكنه، عند من قام به، ضروري ولازم.
القصة تتكرر مرة أخرى. الغرب كان يتهم من يهاجم سفنه أثناء الفترة الاستعمارية بالقرصنة. ربما التعريف القاموسي لكلمة «قرصنة» ينطبق بشكل وآخر على ما كان يمارسه بعض العرب من هجوم على سفن الغربيين والتعرض لها بالتدمير أو السرقة غير أن هذا مرة أخرى فعل غريزي يرد على الفعل الغريزي الغربي. لماذا لم يسأل الغربيون أنفسهم عن الذي أتى بهم من أراضيهم البعيدة إلى البلاد العربية، وغيرها، يحتلون ويدمرون ويقتلون ويقطعون آذان الناس ويجدعون أنوفهم؟ لماذا يغضب الغرب حينما يحتج المعتدى عليه ويرد على الصاع بصاع آخر أو بأكثر؟ كلمة «الإرهاب» هي التي حلت الآن محل كلمة «القرصنة» وما شابهها. أليس من الإرهاب أن تُهَجِّر شعباً كاملاً من أرضه وتأتي بآخرين من أصقاع الدنيا كلها ليقطنوا أرض هذا الشعب المهجر؟ أليس من الإرهاب أن يصرخ الغربيون بأن الدول الدينية لا محل لها في العالم المعاصر الذي يقوم على التنوع وفي الآن ذاته يحمون دولة عنصرية تقوم على الدين؟
الأمر الذي يدعو لمرارة أكبر ليس السياسيين الغربيين بل بعض مفكريهم وكتابهم الذين يشكلون الدعامة الرئيسة لهذا الوضع الذي يفتقد التوازن. تقلب صفحات الإنترنت فترى الخطابات التي تنضح عنصرية ضد العرب وكأنهم ليسوا من البشر بل من جنس آخر لا يوجد سبب لوجوده إلا خلق المتاعب والارهاب للحضارة الغربية الصافية من كل سوء. غير أن هذا لا يعني أننا نحن العرب نملك الصفاء من كل سوء بل علينا أن ندرس أسباب ما نعيشه من تخلف وحياة آسنة تفتقد الانتاج والانجاز وقيم العمل، ليس رداً على الغرب بل من منطق حراك ذاتي يهدف للتطور والتقدم.
الاستقرار
ما معنى الاستقرار؟ علينا ألا ننسى أننا نستخدم استعارة مخاتلة. كل شيء في حركة وحراك دائمين. الاستقرار الوحيد للحياة هو الموت. لا يوجد كائن حيّ مستقر إلا بعد أن يموت. ولا يوجد استقرار حتى في المادة. الكون يتحرك ضمن قوانين ولكنه يتحرك دائماً، والاستقرار هنا يعني الخراب والدمار. أتذكر تلك القصة عن الخليفة التي أتت إلى مجلسه امرأة ودعت «له» قائلة «أقر الله عينك وفرّحك بما آتاك»؟ فرح مجالسوه الذين ما رأوها إلا قالت خيراً، إلا هو فقد أدرك أنها تدعو عليه بالموت، فاستقرار العين هو الموت، واستقرار أي شي هو الموت. من هذا فإن علينا أن ندعو بعدم قرار الأحوال ففي قرارها الموت. أما الاستقرار الذي يتحدث عنه السياسيون فهو تثبيت الأوضاع لمصالحهم. لننظر الى الذين يكثرون الحديث عن الاستقرار وضرورة إرسائه. انهم السياسيون أصحاب المصالح، الآنية السريعة الجلية أو تلك الممتدة والمتقنعة بالعرف والتقاليد. والاستقرار السياسي ليس في أحايين كثيرة إلا صمتا ثقيلا يكبح تحته تفجرات اجتماعية وأخلاقية.
الثقافة والتنمية
الأمر المؤسف لدى المثقفين العرب هو اختزالهم الثقافة في الفكر والأدب وجوارهما من المجالات، والأسوأ هو استبعاد الاقتصاد والأرقام من حقيبة الثقافة لديهم. بهذا فهم يفعلون أمرين خطيرين، فهم من ناحية يحرمون أنفسهم من فهم مجتمعاتهم فهماً دقيقاً يقوم على دقةِ الرقمِ ومن مساعدة هذه المجتمعات على تجاوز محنها غير المنتهية، ومن ناحية أخرى فهم يتركون المجال لأولئك الذين يستغلون فهم الأرقام استغلالاً إستئثارياً. بكلمات أخرى أعني أن البِنى المهيمنة في العالم العربي تمدد من حياتها بوضع الثقافة العربية الذي يمتحور حول شعر المتنبي وحول الصراع على من ابتدأ قصيدة النثر، أو حول الصراع بين الأصالة والمعاصرة، أو حتى الموضات الفكرية التي تتبناها الثقافة العربية تباعاً مثل الإصلاح والتقدم والحداثة وغيرها.
بفهم الأرقام والاقتصاد يستطيع المثقف أن يتحاور مع دولته ومع فعالياتها المهيمنة. بدراسة تقدم الدول الأخرى وبفشلها يستطيع هذا المثقف أن يضع يده على مواضع الداء المختلفة وأن يقترح ما يراه مناسباً لتجاوز آثارها. منذ متى يصرخ المثقف العربي بغياب الديمقراطية؟ الدول العربية أذكى بمراحل كبيرة عن المثقف العربي. انها مهيأة للرد عليه. يقول المثقف «نريد ديمقراطية» فترد الدول «هذا هو البرلمان» فيرد المثقف «انه ليس برلماناً ديمقراطيا» فترد الدولة «ولكن الشعب هو الذي اختاره. هل سنجلب شعباً من السماء؟». يقول مثقف آخر «نريد إصلاحا» فترد الدول «الإصلاح مفهوم إشكالي ومختلف عليه، لنتحدث عن التنمية». مثقف ثالث يقول «أين حرية الصحافة؟» فترد الدولة «المجتمع ما زال غير مستعد لذلك. ألا ترى أن مجتمعنا منقسم إلى قبائل ومذاهب وطوائف و و و، وأن الدولة أكثر تقدمية من كل هؤلاء؟»، وهكذا يمضي الحوار بين دول ذات مؤسسات تراكمت خبرتها بخطاب المثقف التقليدي وبين مثقف فقد دوره باستثناء إصدار أصوات لا معنى حقيقي واقعي فعلي لها. الشيطان يقطن في التفاصيل وفي الأرقام، وإن وضع المثقف يده على الأرقام في مختلف جوانب حياته فانه يستطيع أن يمسك بالشيطان وأن يقول للمجتمع «هذا هو الشيطان بشحمه ولحمه».
أشعر باعجاب كبير وأنا أقرأ مذكرات قادة الدول الذين أنجزوا نجاحات باهرة وقادوا دولهم من الصفر الاقتصادي والحضاري إلى مصاف الدول المتقدمة. أستطيع أن أذكر هنا الزعيم لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة الأسبق الذي تولى دفة قيادة هذه الدولة عند انفصالها عن ماليزيا والذي كتب مذكرات سنوات الحكم في مجلد يحمل عنوان «من العالم الثالث إلى الأول: قصة سنغافورة ٥٦٩١ – ٠٠٠٢». أعجب أيما إعجاب بهذه التجربة لكني لا أرى شيئاً جديداً في نجاحها. القصة هي نفسها في كل دولة من دول العالم إن أرادت النجاح والتقدم، أي الأخذ بقيمه. سأقتبس الفقرة التالية التي توضح كيف تم التخطيط للنجاح في المجال الاقتصادي باسناد الأمر لعلماء تقودهم القيادة الواعية «توجب علينا أن نضع ثقتنا بمسؤولينا وموظفينا الشباب الذين تمتعوا بالاستقامة والأمانة، والذكاء والطاقة، والدافع والقدرة على التنفيذ، وإن افتقدوا الفطنة التجارية. وتم اختيار أبرز علمائنا من بين أفضل طلابنا ثم أرسلوا لمتابعة تحصيلهم العلمي في أشهر الجامعات في بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان، وبعدها في أمريكا حين أصبحنا قادرين على ذلك. جعلنا منهم أصحاب مشاريعنا التجارية للبدء بأنشطة شركاتنا الناجحة …»، كما يقول عن إعداد القيادات العسكرية «من أجل تزويد القوات المسلحة بالعقول المفكرة والأجساد السليمة، بدأنا- أنا وكينغ سوي – في عام ١٧٩١ بتجنيد ألمع وأقدر طلابنا. اخترنا بعضاً من أفضل الطلاب الضباط لإرسالهم في بعثات عسكرية لصالح القوات المسلحة السنغافورية للدراسة في اوكسفورد أو كامبريدج أو غيرهما من الجامعات في بريطانيا حيث يخضعون لدورات أكاديمية كاملة في الآداب الإنسانية، والعلوم، والهندسة، والمهن الحرفية. وخلال سنوات دراستهم يتلقون راتب الملازم العامل في الجيش، علاوة على المنحة التي تغطي كافة الرسوم والنفقات من طعام ومبيت وغير ذلك مما يحتاجونه في البلاد الأجنبية وعليهم أن يوقعوا عقداً يلزمهم بخدمة الدولة لمدة ثمانية أعوام بعد التخرج. لكن في خلال تلك المدة، سوف يرسلون إلى أمريكا أو بريطانيا لحضور دورتين تدريبيتين أو ثلاث على الأغلب، حيث يتلقون أولا تدريباً تخصصياً على المدفعية مثلاً، أو المدرعات، أو الاشارة ثم يحضرون – في منتصف حياتهم المهنية – دورات أركان حرب وقيادة في أمريكا أو بريطانيا؛ وأخيراً هناك دورة تؤهلهم في مجال الإدارة العامة او إدارة الأعمال في إحدى الجامعات الأمريكية المرموقة، مثل هارفارد أو ستانفورد». لا يملك المرء إلا أن يحترم هذه القيادة الوطنية المخلصة والواضحة الرؤية والتي نجحت في تحويل سنغافورة إلى دولة محورية في الاقتصاد العالمي. الاستفادة من دراسة هذه التجارب الحضارية والاقتصادية الناجحة وتقديمها للمثقفين العرب والإنسان العربي العادي ستؤدي في نهاية المطاف إلى وضع حضاري ينحو نحو الإنتاج والإنجاز وهو ما تفتقده الثقافة العربية المعاصرة الغارقة في قضايا فكرية مجردة، آسنة في الأغلب.
ضرورة التمييز بين الصوت والقول
ينبغي أن نميز بين أمرين في الحالة الثقافية العربية وهما حالة الصوت وحالة القول، وقد ذكرت هذا في مقال نشر لي في جريدة عمان وشرحت فيه طبيعة كل من هاتين الحالتين، سأقتبس فيما يلي بعض فقراته: الفرد الصوتي يسعى ليقول ما تقوله الأغلبية وما تتوقعه الأغلبية، ويسعى للتميز أحياناً عن طريق واحد هو أنه يغالي في انغماسه في ما هو متوقع، وربما صارع أصواتاً أخرى لأنها خانت قليلاً الأصوات المتوقعة، وهو بهذا يسعى الى أن يجعل سامعيه يرددون نفس «الأصوات» لتستمر الحياة الصوتية المألوفة. «الصوت»، إنتاجاً واستقبالاً، يصبح بهذا المعنى تجميداً للأوضاع الآسنة المألوفة على كل المستويات. أما الفرد الذي يقول فهو متميز أصلاً بطبيعة تفكيره وبما يقول، كما أنه يسعى من خلال قوله إلى إحداث تغيير في توقعات القراء والمستمعين ونظرتهم لحياتهم. وبهذا فإن «القول»، إنتاجاً واستقبالاً، هو فعل تغييري يسعى الى أن يكون العالم قبل «القول» مختلفاً عن العالم بعده (وكلمة «العالم» هنا تشمل صغرى الأمور وكبراها).
لنضرب مثالاً على حالة «الصوت». لنتخيل الأصوات التالية: «إن الحالة المعيشية في الوطن العربي من الخليج إلى المحيط مزرية ترتبط باقتصاد متهالك ونظام تعليمي يدمر القدرات، كما ان الحياة العربية تخلو من الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، ويشعر الانسان الفرد فيها بالضياع وفقدان الوعي بحقوقه». لا ريب أن هذه ليست أول مرة تسمع أو تقرأ فيها مثل هذا الكلام، بل ربما قرأته أو سمعته مئات إن لم يكن آلاف المرات. لماذا إذاً يقوله من يقوله؟ ولماذا لا يحتج من يسمعه ويقول لقائله «كفى، قل شيئاً أو اكتب شيئاً مختلفاً أو فاصمت»؟ المسألة ذات جانبين: الجانب الأول هو أن إصدار «الأصوات» المكررة هو ظاهرة «طبيعية» في الثقافة العربية، والجانب الثاني يتمثل في أن تلقي هذه الأصوات هو نفسه ظاهرة «طبيعية» لا تستوقف أحداً.
توجد مدرستان تفسران الوضع الصوتي العربي (أي كون العرب يصدرون أصواتاً ولا يقولون شيئاً). ترى المدرسة الأولى بأن سبب انتشار الأصوات في الثقافة العربية المعاصرة يكمن في خلل أصيل في جوهر «العقل العربي» أو في قلب «الذهنية العربية»، وهو خلل لا يمكن إصلاحه لأن هذا العقل وهذه الذهنية يخلوان من عناصر التفكير الأصيل ولهذا فإن كل اللغة التي تنتج عن هذا الوضع هي لغة مكررة لحديث سابق. معنى هذا أن العرب مهما فعلوا فإنهم سيظلون إلى أبد الآبدين يصدرون أصواتاً ويكرروها ولا يقولون برغم هذا شيئاً. لا حاجة لبذل كثير جهد للقول بأن هذه المدرسة خطيرة لأنها عنصرية في منطلقها، حيث أنها تفترض درجات للتفكير بين الأقوام المختلفة وتبايناً لا يمكن تغييره في طبيعة استخدام اللغة يميز بين هذه الأقوام. كما أن هذه المدرسة خطيرة لأنها تشكل برؤيتها القائمة على سكونية العقل العربي وذهنيته مهاداً لتسكين الأوضاع العربية، بمعنى أنها تقول أن على العرب الاستسلام لهذا الوضع الصوتي التكراري لأنه لا يوجد أمامهم خيارٌ حضاري آخر.
بخلاف المدرسة العنصرية هناك مدرسة أخرى أكثر واقعية واكثر مصداقية فيما أرى تقوم على أن الوضع الصوتي العربي هو نتاج لعمليات واقعية ترتبط بمنظومة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية العربية (أي أن هذا الوضع «نتيجة» نشأت عن «أسباب» تدافعية تحدث في الواقع لظروف معينة في الثقافة العربية وتوجد، وإن كانت بدرجة أقل أو أكثر، في ثقافات أخرى)، وهو ما يبرئ العرب من الخلل الجوهري الذي يجعلهم يكررون أصواتاً ولا يقولون شيئاً.
وماذا عن التلقي؟ تفسر هذه المدرسة استمراء العرب تلقي الأصوات وعدم اعتراضهم عليه، بل واستمتاعهم به أحياناً دون أن يقول المتحدث أو الكاتب شيئاً ذا بال بنفس الأسباب التاريخية. فالعمليات الواقعية التي لا تسمح إلا بنشوء «الأصوات» وتمنع نشوء «الأقوال» توفر بالنتيجة بيئة لا يجد فيها العربي المتلقي أي شيء سوى هذه «الأصوات»، وهو ما يجعله يتوهم أن هذا هو الوضع الطبيعي، كما أن هذا المتلقي يرفض «القول» وينعته بالتعقيد أو بفقدان المعنى. كأن المتحدث الصوتي يقول للمتلقي «لا تخشى، سأقول لك ما تتوقع من أصوات» وكأن المستمع يقول للمتحدث «قل لي بحق الله الكلام الذي أتوقعه ولا تقل ما يهز توقعاتي، ولا تقل لي كلاماً لا أفهمه فإني قد أَلِفتُ هذا الوضع وأنا أستمتع به». بكلمات بسيطة أصبح هذا الوضع هو المتحكم بمنظومة استخدام اللغة في الثقافة العربية، فالجميع (إلا من رحم ربك بطبيعة الحال) يعيشون هذا الوضع الصوتي والجميع (مع بقاء الاستثناء السابق) يعملون على مده بالحياة والاستدامة.
هل سيكون العرب دائماً «ظاهرة صوتية» كما قال عبدالله القصيمي؟ هل سيستمرون في انتاج الأصوات وفي استهلاكها دون أن يقولوا أو يسمعوا شيئاً له معنى؟ الإجابة على هذه التساؤلات ليست سهلة، ولكن بكلمات بسيطة يمكن القول بأنه لا يوجد شيء خللي كامن في جوهر «العقل العربي» (هذا إن قبلنا أن هناك عقلاً عربياً خالصاً) يجعله يصدر أصواتاً ولا يقول شيئاً، كما أنه لا محل للصدفة هنا، وهو ما يقودنا الى أن نسأل عن المستفيد من هذا الوضع. من صاحب الفائدة من استمرار إنتاج «الأصوات» وتقبلها عن طيب خاطر من قبل الغالبية من العرب؟ ومن صاحب الفائدة في ألا يستخدم الإنسان العربي قدراته العقلية وألا «يقول» شيئاً يغير به حياته وحياة الآخرين؟ الاجابة «الحقة» على مثل هذه التساؤلات ستكون «قولا» ولن تكون «صوتا» بطبيعة الحال.
الموسوعة العمانية
مشروع الموسوعة العمانية يهدف إلى إعداد الكتاب المرجعي الرئيس عن عمان، إنساناً وطبيعة، أي أن الموسوعة ستشتمل على كل ما له علاقة بتاريخ عمان ومجتمعها وأنماط معيشته وثقافته وعاداته وتقاليده وألعابه الشعبية وطعامه وفنونه إضافة إلى أعلامه في شتى المجالات، كما أن الموسوعة ستشمل كذلك مداخل عن علاقة عمان بالدول الأخرى فستكون هناك مثلاً مداخل عن الرحالة الذين زاروا عمان وتحدثوا عنها في مدوناتهم والدبلوماسيين الذين زاروا أو عاشوا في عمان. أما بالنسبة للطبيعة فتغطي الموسوعة كل ما علاقة بالأرض العمانية من جهة الجيولوجيا والجغرافيا وغيرها من الجوانب، إضافة إلى المملكة الحيوانية من حيوانات برية ومستأنسة وطيور وأسماك وحشرات، والمملكة النباتية التي تشمل الأشجار والنباتات المختلفة التي تعيش في البيئة العمانية.
غير أنني أود أن أشدد على أمر مهم هنا وهو أن الموسوعة العمانية لن تكون محض تجميع لمعلومات عن المواضيع آنفة الذكر، بل أنها تنطلق من منطلقات فلسفية تحكم إدارة هذا المشروع الضخم. أعني أن الموسوعة ستشدد على موضوعية المعلومة والحقيقة وعلى الإنجاز الإنساني الحقيقي ولن تكون ميداناً للمدح أو القدح وهو ما نجده في كثير من الموسوعات العربية.
وقد أعدت اللجنة المكلفة بالموسوعة أدلة إرشادية مفصلة تحكم الكتابة للموسوعة العمانية، فهناك على سبيل المثال «دليل المساهمين» الذي يقدم للكتاب الذين يقع اختيارهم، وفق منهج انتقاء دقيق، للمساهمة بكتابة مداخل تقع في مجالات تخصصاتهم أو اهتمامهم العلمي أو الثقافي. وهذا الدليل يحدد منهجاً صارماً للكتابة، فحول الآراء والانطباعات الخاصة يقول الدليل ما يلي «يرجى عدم تقديم أية آراء أو انطباعات أو استنتاجات شخصية حول موضوع المدخل الذي تقوم بكتابته. وفي حالة تعرُّض المدخل لقضايا مختلف حولها أو حول بعض جوانبها فإن عليك أن تطرح جميع الآراء بحيادية وموضوعية تامين مع عدم الانحياز مطلقاً لرأي أو طرف ضد رأي أو طرف آخر، وعدم تضمين ما يجعل القارئ ينحاز لرأي أو طرف ضد رأي أو طرف آخر.» وهناك قسم خاص باللغة المستخدمة في الكتابة ينصح الكاتب على سبيل المثال بعدم استخدام لغة تخمين الحقائق كأن يقول «أظن»، أو «أعتقد» أو «يبدو لي» أو ما شابه ذلك، وتجنب الكلمات التي توحي بالتأكيد على الحقائق ولكن بصورة مبالغة فيها مثل «طبعا» و«مما لا شك فيه» و«من المعروف لدى الجميع أن».
والموسوعة تتجنب كذلك التعبيرات التي قد توحي بأي شكل من أشكال التمييز القائم على العنصرية أو المفاضلة المبنية على أساس اللون أو العرق أو الدين أو المذهب أو اللغة أو الجنس أو الإعاقة الجسدية، والتعبيرات التي قد توحي بأفضلية حقبة زمانية على حقبة أخرى، أو موقع على موقع آخر، أو جماعة سكانية على جماعة أخرى، أو ما شابه ذلك، إضافة إلى تجنب تقديم الشكر و الثناء و ما شابه في متن النص الذي يكتبه الكاتب.
ويعالج هذا الدليل كذلك قضية عاطفية النص والرأي الخاص بالكاتب وضرورة تجنب هذا فنجد مثلا أن الدليل يخاطب الكاتب قائلاً «تجنب استخدام الكلمات والتعبيرات التي تكشف بشكل مباشر أو غير مباشر عن رأي تفضيلي أو ما يضاده تتبناه كأن تصف شخصية ما تكتب عنها أو يرد ذكرها في نص مدخلك بأوصاف مثل الشجاعة أو بالجبن، أو أن تصف مرحلة تاريخية بأنها «سوداء»، أما إن كان الموضوع الذي تكتب عنه مدخلك يشتمل على ذكر أحكام أطلقها آخرون وترى لزوم ذكرها باعتبارها من الحقائق الخاصة بذلك الموضوع فإن من الواجب ذكر هذه الأحكام والآراء التفضيلية ولكن عليك أن تنسبها إلى الشخصيات التي تتبناها.» وكذلك نجد «تجنب استخدام لغة توجه القارئ بطريقة مبطنة نحو انطباع ما أو حكم ما عن موضوع المدخل الذي تكتبه، كأن توجه القارئ بما يجعله يعظم شخصية ما أو أن يعجب بها أو أن يكرهها. كل ما ينبغي أن تذكره في المدخل هو الحقائق الموثوق بها فقط.»
وهنا قد يسأل سائل، ولكن أليست الموسوعة مجرد تقديم للحقائق الجامدة وهي بهذا نقيض طبيعة الإنسان؟، وهو سؤال عميق سعينا في مشروع الموسوعة العمانية إلى محاولة الإجابة عليه بما أسميناه «أنسنة الموسوعة» من خلال إثراء المعلومات «الجامدة» بانطباع الإنسان العماني حول مواضيع المداخل، فالمدخل الذي يقدم طائراً معيناً يعيش في عمان على سبيل المثال سيتم إسناده بنماذج من حضور هذا الطائر في حياة الإنسان العماني ووعيه من خلال ذكر بعض الأمثال الشعبية التي تذكر هذا الطائر إضافة إلى مقاطع من نصوص أدبية شعرية وغيرها تتناول هذا الطائر وحضوره التعبيري لدى الأدباء العمانيين.
إضافة إلى هذا فقد أعددنا منهجاً خاصاً بالصور والرسوم التوضيحية، وهو ما أسميناه في الموسوعة بالبيانات غير النصية كي تكون هذه التوضيحات جزءاً رئيساً من عمل الموسوعة وليس فعلاً ملحقاً بالنص، ولهذا فإن هناك لجنة خاصة تعمل على هذا المجال ويشمل عملها التصوير والرسم وغيره.
العلاقات العمانية الغربية في المستوى الثقافي
لدي بعض الاهتمام باهتمام الثقافة الغربية بالعلاقة مع عمان تاريخياً وخصوصاً في القرن التاسع عشر، فهذا القرن شهد علاقة نشطة سياسياً وتجارياً بين عمان والبلدان الغربية، وعلى الخصوص بريطانيا والولايات المتحدة. وكان مرد ذلك موقع عمان الجغرافي وتمددها السياسي ليشمل الكثير من الأراضي المطلة على الخليج والمحيط الهندي إضافة إلى الحضور العماني في شرق أفريقيا. وكانت فكرتي هي أنه لا بد لهذا النشاط في العلاقة من حضور في الوعي الثقافي الغربي، وبالفعل قادني التقصي في هذا الجانب واستغلال الخزانات الالكترونية للأدب الغربي إلى الكثير من النصوص الأدبية حول عمان. على سبيل المثال وجدت قصيدة في هجاء الشعب البريطاني كتبها السير فرانيس هيستنجز دويل بسبب غضبه من بيع حصان كان قد أهداه السيد سعيد بن سلطان إلى الملك وليام الرابع ملك بريطانيا وبيع في مزادٍ بعد وفاة هذا الملك. ومن القصائد التي قمت بترجمتها قصيدة لقس أمريكي زار مسقط عام ١٨٣٨ ومدح فيها السيد سعيد بن سلطان وفيها يقول:
سلطان مسقط! إن قصتك المجيدة
تحيا حيث يسقط على الأرض آخرُ أشعة النهار،
واسمك الذي سار ذكره في آفاق المجد المشرقية
تشيد بمكارمه الألسن في المجالس الغربية.
ها قد ركبنا البحار من أقاصي الأرض إلى مياه عُمان
لنزجي لكَ من أمتنا أجزل الثناء،
ولك يدوم دعاء الألوف من أبنائنا وبناتنا
إلى أبد الدهر، يا أمير بلاد العرب.
فلتصدح بمثلك نغمات الأبواق
في الألحان العسكرية،
ولتشدو بذكر محامدك في أبيات رفيعة المجد
قيثاراتُ المنشدين ونبوءات المتنبئين،
ولتتلألأ بنور أسمك ومروءتك
لفائفُ قصص التاريخ والصفحات التي لا تبهت
كي تؤرخ للأزمنة السرمدية
سيرة سخي المكارم أمير بلاد العرب.
واسمك المنير المتدفق بالمجد،
سينير صفحة قصة المستقبل،
وسيشد سطوع أسمك أنظار الشيب والشبان
عن وميض جميع نظرائك،
ولكن بريق بقية الأسماء لربما خفت،
مثلما تذوي أشعةُ الشهب،
أما مناقبك الجميلة فستنير للأبد
يا أيها الجليل، أمير بلاد العرب.
كذلك هناك اللوحات الفنية الرائعة التي تشير إلى العلاقة مع عمان، وعلى الأخص تلك اللوحات التي تتناول الخيول العربية التي كان حكام عمان يهدونها لملوك الغرب مثل لوحات الفنان البريطاني جون فردريك هيررنج (1795-1865) التي تصور عدداً من الخيول العمانية في بريطانيا. (صور بعض هذه اللوحات ملحقة بهذه المادة)
إضافة إلى ذلك قمت بترجمة مذكرات بعض أفراد الطاقم الأمريكي الذي زار مسقط عام 1833 و1835 على متن السفينة الحربية الأمريكية البيكوك (الطاووس) لتوقيع اتفاقية صداقة ومودة مع السيد سعيد بن سلطان، سلطان مسقط آنذاك، كما نشرت دراسة تناولت حضور عمان في الصحافة الأمريكية في القرن التاسع عشر.
الأصدقاء
ليتك لم تسألني عنهم: هم الروح وروح الروح، غير أن منهم عن أخذت روحي بعض جروحها الكبرى. أصدقائي القلة الذين أداوم على اللقاء بهم هم متنفسي. لا أطرح الأمر بمعانيه الشخصية ولكني أطرح أمر الأصدقاء بمعانيه النفسية والفلسفية، حيث يتحول الأصدقاء إلى مهجر للنفس، مهجر قسري لا بد منه. كيف يمكن للإنسان أن يعيش دون أصدقاء؟ نلتقي دائماً. أحياناً نلتقي ونصمت. المهم أن نلتقي. نتناقش في أمور كثيرة، صغيرة وكبيرة، تافهة ومهمة، قضايا تتراوح بين أعقد المسائل الفلسفية والفكرية والدينية وقضايا مغايرة لهذه كنوع القماش المفضل لخياطة دشداشة أحدنا أو تبادل بعض الطرائف. يطالب أحد أصدقائنا، مفاكهاً، بضرورة توظيف منسقة لتدوين حواراتنا، لكن سرعان ما يدب الصراع على تلك المنسقة المتوهمة: هل ستنسقنا جميعاً أم واحداً بعد الآخر؟ الصديق امتداد للروح، مثلما الأب والأبن امتداد للسلالة. الأب والإبن هم الامتداد العمودي أما الأصدقاء فهم الامتداد الأفقي. ولكن، مثل كل جغرافيا فإن جغرافيا الأرواح والأصدقاء ملأى بالسهول والجبال والمنعطفات الحادة والجروف الشاهقة، وهذا طبع الحياة.