روبرتو خواروث – شاعر أرجنتيني
ترجمة: محمد خطاب – مترجم جزائري
شاعر متفرد، انبثق عمله بشكل مفاجئ، وقد أعلن عنه في كتاب صغير يحمل عنوانا غريبا، الشعر العمودي، صدر سنة 1958، والدواوين التي صدرت بعد ذلك حملت العنوان نفسه، مصحوبة برقم منتظم ومتسلسل، الأول، الثاني، وهكذا. وفي كل كتاب تبعًا للديوان الأول، ليس هناك عنوان للقصيدة، فقط رقم دالّ للتمييز بين النصوص. كما لو كان الأمر منذ ثلاثين سنة يدل على اكتشاف أو ارتياد واحد صبور ومتأنٍ ومتواصل طيلة الوقت، من دون حياد، ربما من دون تنويع أيضا، في صورة مجهولة الاسم، صبورة كأنها تعويذة.
فضلا عن هذه المجموعات التي تحمل الاسم ذاته، نشر خواروث الشعر والإبداع، والشعر والواقع، ومقاطع عمودية وهو عبارة عن شذرات تعبر عن الهاجس الشعري نفسه للشاعر الذي صار عالمًا مكتملًا داخل رمزية تحتفي بالشعر من حيث هو.
1
كلُّ شيء إشارة،
نبضٌ مرئيٌّ،
شِقٌّ في الفراغ.
لكن بين إشارات الأشياء
ترتسمُ إشاراتٌ أخرى،
في الفجوة
بين شيء وآخر،
المكونة منها ومن دونها،
كما لو أن ما هو موجود هنا
قد أكد بلا إرادة
ما ليس موجودا.
أن نبحث عن هذه الإشارات الوسيطة،
والشكل الذي يتكون بين الأشكال،
هو أن نكمل الرمز.
أو ربما نكتشفه.
أن نبحث عن الوردة
التي تنمو بين الورود.
حتى لو لم يكن هناك وردٌ.
2
أن نندثر،
ونزهد،
تحت أيّ طقس.
أن نرى الليالي ترياقًا
ونظل على الهامش،
من دون أن نقوله.
أن نُعَدِّلَ الأبديّةَ بعذوبة
ونمكثَ هناك بلا تَرقُبٍ،
مثلَ حشرة في صِدْعٍ.
هكذا فقط،
نغادرُ مرات الحياة مؤقتا،
لنستمر في العيش.
3
اليقظة هي دائما
انبثاقٌ صعبٌ:
هي أن نرمم النقاء
كما لو أننا نصنع العالم مجددا.
لذلك نحن نظلّ
في الحالات الوسيطة.
الإنسان ليس كائنًا يقظًا
لأنه يجهل الصريح.
لهب يخمد في المنتصف،
جفون تتخلى عن العين،
جنائن مشلولة في الليل،
تمزقات المَقَامِ المُطَارَدِ.
تتراكم الطرقات عبثا:
والصحو يمحو الطرقات.
4
أن تتقيأ العالمَ،
وأن تقذفَ بجوهره غير الحقيقي واللزج،
مثل عليل يتحرر من غثيان.
وأن نظل من دون عالم،
مع عدمٍ في اليد،
أو ربما وردة،
التي هي سلفا ليست في العالم،
ولكنها في هالة الحال الساكنة التي تحيطه.
ولا نبحث إذن عن عالم آخر.
أن نتخلى عن التكتل الخائن
ببعض الأشكال كيفما تكون
وأن نرتدي الشكل المضاد لإبرة
الخيط الرشيق والسري
لقفا كل العوالم.
أن ندوم إذن
بهذه الدقة المثالية،
كما يدوم النشيد بتحليق
الغياب وحُبِّهِ.
وأن تبدأ حكايةٌ عكسيةٌ تقيةٌ
التي تبدع العوالمَ المضادَةَ.
5
لا نعرفُ كيف
يختزلُ كلُّ غَسَقٍ،
الأيامَ التي تَنقصُنا.
إنه مثلُ الذي يتقدَّمُ حسرةً،
أو تَأهُّبٍ للاشكل،
أو تهريبٍ للتَرَقُّبِ.
كلُّ غَسَقٍ يَسلُبنا
المزيدَ من اسمنا.
كلُّ غسق يمنحنا
المزيدَ من غيابنا.
حتى يبدو كلُّ واحد
مثلَ إحالة
يُبدعها الغسقُ.
6
أن نرجَّ الجسدَ مثلَ حيوان،
ولكننا نتخلص أكثر
من الحيوان:
من الغبار الذي يتركه الفكر،
من التيبسات التي تطوع الموت،
من بقع الحب ومن الأمطار القذرة،
التي تهطل من المنحدرات،
أو من سماء مشوشة ومسمومة.
أن نتخلص من خرق الوقت،
من تواطئ الأحياز الحزينة،
من كدمات البهجة،
من البقايا المريبة للمأدبة،
من اللفائف المريعة للألم.
وفي يوم الرجات المحسوبة
نتخلص من ظله ذاته
مما نسميه الذات نفسها،
ومن لمساته التي نسميها الآخرين.
ويومًا نتخلص أخيرا
من أبدية الحياة المشوهة
مثل طبقة أخرى من الغبار.
7
أن تبادر الشفوف.
هو أن ترى من خلال جسد، فكرة،
حب، جنون،
أن تدرك الجهة الأخرى بلا عائق،
أن تجتاز من جانب لآخر
السراب العنيد كونك شيئا مّا.
ليس فقط أن تنفذ بالعين في الصخر
ولكن أن تتجلى أيضا من قفاه.
وأكثر من ذلك:
أن تبادر الشفوف
هو أن تبطل جهة وأخرى
وتعثر أخيرًا على المركز.
وتقدر على إبطال التيه،
لأنه لم يعد ضروريا،
لأن شيئا ما توقف عن كونه تشوشا،
ولأن الأبعد والأدنى صارا واحدا.
أن تبادر الشفوف
هو أن تتكشف في مكانك.
8
الفكر يُلطِّف العالمَ
كبديل حصيف.
أو ربما كصاحب حق.
نلمس الأشياء بكرًا حين نفكر فيها.
أن نفكر في العالم هو بلوغه.
ولكن هناك ليالي أكثر امتدادًا
وأيامًا شاحبة حقا
وبعض الغبش معطل
حيث علينا أن نلمس الأشياء بالأصابع.
لمس الجسد مثلًا،
مثل تعويذة دافئة ضد الموت.
أو لمس وجهنا الخالص
لنضمن أننا لم نرحل بعدُ.
الفكر مادة أيضا
والمادة فكر،
ولكن أكثر من ذلك هو كرب الإنسان.
ربما لمس آخر
يرتب مهامه.
9
أن تلحّ أكثر على ذاتك
هي إهدار جوهر العالم،
والإسراف في الضوء وتوهجاته،
وفي التلهي الحر للنظرة،
وفي تشارك الألوان،
وأيضا في قلب الظلمات.
ربما وجب
اختزال الوجود وكسر حدته
ونحتفظ بالقدرة على كينونتنا.
وأن هذا يمنحنا موتًا أقل
أو على الأقل ألا نكون من دون عمق،
مثل قِرَبٍ شجية
التي لم تعرف كيف تسع نبيذها.
كثرة الإلحاح على ذاتك
هي إزعاج الهيئات المرئية
وطلي اللامرئيات
بقطر فظاظتنا البائس.
علينا الإلحاح بأماكن أخرى،
حيث تتراجع الخيوط
وتتدثر الأيدي بالقفازات
كي تتجنب اللمس بلا رجعة.
أو حيث،
نحس كيف
يبلى جلد الفكر العنيد،
إفرازات كل تجارب الحب
وصفائح نعالنا
الميتافيزيقية.
علينا أن نلح خارجا.
10
تجمع مهجور
بكنيسة دون أجراس
قرب ساحة مهملة
في مكان بلا ظل.
عبر هذا الحيز، نمضي جميعنا.
أو ننتهي. أو نبدأ.