هذا الكتاب جزء من رسالة دكتوراه دولة تقدم بها الباحث الى جامعة السوربون في باريس عام 1986. يقع الكتاب في 352 صفحة من القطع المتوسط، وصدر عن المركز الفرنسي للدراسات اليمنية. يتقدم الكتاب إهداء من المؤلف للدكتور حسن محمد مكي، المتفائل حتى في اللحظات الحزينة كإهداء زيد. والدكتور حسن مكي أشهر من أن يعرف. يشتمل الكتاب على مقدمة من الناشر، بقلم فرنك مرمييه، مدير المركز الفرنسي، هي بمثابة تعريف عام بالكتاب، من حيث هو جهد أكاديمي علمي لم يكن مقدما للجامعة فحسب، وانما هو دراسة جديدة مختلفة. وهو تكملة وامتداد لكتاب سابق للمؤلف بعنوان ( معتزلة اليمن – دولة الهادي وفكره )، يتناول علاقة الزيدية بالمعتزلة في ظل حكم الامام الهادي، مؤسس أول دولة زيدية في اليمن.
ويقارن كاتب المقدمة بين مصير فرقة المطرفية التي يدرسها زيد في الكتاب موضوع هذه القراءة وبين قلعة (مونسيجور) في جنوب فرنسا التي كانت هي الأخرى معقل فرقة (الكاتار). فقد تعرضت معاقل المطرفية وهجرها للحرب والخراب، وبالأخص معقلهم الأخير (وقش ) في منطقة بني مطر، الى الجنوب الغربي من صنعاء، وهو ما دفع المقدم للمقارنة بين وقش
وقلعة ( مونسيجور). ويرى أن الفرق الوحيد بين المسيرين أن سكان (مونسيجور) قد ذبحوا عن أخرهم بينما هرب سكان وقش قبل وصول الامام عبدالله بن حمزة عام 612 هجرية (1216م) اليها ليتولى تدميرها، منهيا بذلك آخر معقل من معاقل المطرفية.
والكتاب صر الجزء الثاني من الموسوعة الفكرية عن فكر الاعتزال في اليمن، ابتداء من لحظة دخول المدرسة المعتزلية عند الهادي ويحيى بن الحسين ( معتزلة اليمن – دولة الهادي وفكره )، منذ أواخر القرن الثالث الهجري، و(تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري) هو تواصل في الطريق المنهجي نفسه. وهو مكرس لبحث المطرفية كأخطر وأهم انشقاق فكري وعقيدي في مدرسة الاعتزال اليمنية. وهي حركة فكرية ذات جذور تنويرية دأبت على نشر الفكر الزيدي في أوساط القبائل والمزارعين، وعدت ذلك رسالتها في الحياة. فقد نشرت التعليم في أوساط شعبية لم تكن تاريخيا من الأسر والبيوت التي تهتم بالتحصيل العلمي. وكان رجالها، كما يشير المؤلف، في الغاية من الاجتهاد في الدرس، والمثابرة في طلب المعرفة، وفي العبادة والزهد ومجاهدة النفس. ولاشك أن تقديم مثل هذا الأنموذج في إشاعة المعرفة والعلم، وفي صرامة الالتزام مسلكا وعملا، لابد أن يتصادم مع منهج ومسلك الامامة التي تستند الى احتكار العرفان، والاتكاء على الوراثة، وشرف النسب، وحق التسيد ابتداء، في حين رأت المطرفية أن الشرف والفضيلة مرتبطان بالعلم والعمل، والتمسك بنشر ظلال العدالة فوق الغلبة الموروثة من قانون الغاب. وهذا ما يعتبره
المؤلف إضافة يمنية الى الفكر العربي الاسلامي. فقد بشرت بالمساواة بين الناس. فلا يشرف أحد أيا كان إلا بعمله وجده وتحصيله وحرمت اغتصاب أرزاق الناس. وشددت على تنزيه الباري عن فعل القبائح.
وقد جوبهت بحملة تكفير شعراء، وحملات ابادة لا سابق لها في التاريخ اليمني، ويرى المؤلف أن أهم أفكار المطرفية قد أكدها العلم الحديث وأصبحت من المسلمات البديهية، مثل القول أن الأمطار ليست سوى أبخرة البحار والأنهار تحملها الرياح، والقول إن البرد قطرات ماء تجمدت في الهواء، ونظرية الأبخرة نجدها بصورة عامة في الفكر المعتزلي، ولها جذور في الفكر العربي، يقول ذؤيب :
شربن برى ابحر ثم ترفعت
متى لجج خضر لهن مثيب
والأهم، كما يشير المؤلف أن المطرفية قد احتفت بالأسباب والسببية، ووصلت الى بعض الاستنتاجات المبتكرة غير المسبوقة من خلال انسجام منهجي مع أفكار أكثر تيارات المعتزلة عقلانية، ووصلت بها أحيانا الى نهايات عقلانية غير مسبوقة. ولا ينبغي النظر اليوم في عصر العلوم باستهانة الى ما تمثله مثل تلك الأراء المطرفية في القرنين الخامس والسادس الهجريين، خصوصا في بيئة مغلقة كاليمن، بعيدة عن مراكز الصراع الفكري والتطورات الحضارية في العراق والشام ومصر. ومهما يكن، فقد دفعت المطرفية ثمنا لمغامراتها الفكرية، وشجا عتها العقائدية، وايمانها بأهمية العمل واحترام المبدأ، ويرسم المؤلف لوحة زاهية لنشأة المطرفية وبذور أفكارها الأولى، مرورا بازدهارها وانتشارها في الحزام الأخضر من اليمن، إن صحت التسمية، في غرب صنعاء
(وقش _ بني مطر، ومن حول صنعاء : بيت بوس وسنع وبيت حنبص ثم جنب في آنس ). ويتناول المؤلف بذكاء ومسؤولية عملية ومنهجية تطورا لحركة الانقسامية في الفكر الزيدي، وصولا الى محنقها الكبرى على يد الامام عبدات بن حمزة. وهو الامام الذي اشتهر بتعصبه ونهجه التكفيري. وقبل ذلك صراعاتها الفكرية مع الامام أحمد بن سليمان شقيق العلامة نشوان الحميري من الأم. والامام أحمد بن سليمان معروف أيضا بتعصبه ورغبته في التنكيل بالخصوم، وهدم الديار، وردم الآبار، واجتثاث الحياة بقلع الأ شجار والأحجار. ويشير المؤلف الى أن أحمد بن سليمان كان مهووسا بتخريب بيوت من يهاجمهم بينما تعمد القبائل كدأبها الى النهب، فقال له الجنبيون (الناس يريدون يحلبون وأنت تريد تذبح ) فكان رجال القبائل المحاربون مع يصالحون من يدفع ويمتنعون عن القتال، فعاد من دون طائل (ص59).
ويقف المؤلف بذهنية العارف أمام محنة المطرفية التي هي محنة الفكر والتفكير في كل زمان ومكان، ليدرس عمق المأساة بين من يعتمد العلم والمعرفة كقيمة أساسية للشرف والفضل ومن يستل سيوف العصبية والقبائلية وخناجرها، ويستنجد بعصور الغابة ووحشيتها ليأتي عل الحرث والنسل، ويسكت الحياة، ويقضي على لغة العقل والحوار والتفتح والتسامح. ولعمري، تلكم رؤية مجتمعنا منذ ما قبل المطرفية وحتى يوم الناس هذا. وقد شهدنا فصولا من محنة لسان اليمن الحسن الهمداني الذي عزر به ليودع في السجن. أما محنة المطرفية فهي الابادة الجماعية لفرقة بكاملها لم تشهر السلاح، وإنما قالت كلمة حق أمام حاكم جائر وهمجي، ومرورا بحركة الأحرار اليمنيين وقبلها دعوات الاصلاح وما تعرض له المصلحون المجددون أمثال ابن الوزير، وابن الأمير، والشوكاني، والمقبلي، ولا تزال الصرخات الناعقة قادرة على اباحة الدم، وهدم المنازل، واثارة الحروب والفتن، وتأجيج الصراعات، وبعث حروب داحس والغبراء، وما تزال محنة المطرفية حية تسعي. وهو ما دعا المفكر اليمني والكاتب الجاد لأن يدعو لاعادة الاعتبار للمطرفية، لرجالها الذين ذبحوا، ولنسائها وأطفالها الذين استعبدوا، ولهجرها والتي فرض عليها السكوت عن تلاوة القرآن، ولأقلامها التي كموت، ولمحابرها التي سفح مدادها وجفت، ولفكرها الذي يعد أعمق حركة فكرية شهدتها اليمن حتى العصر الحديث وقد تعرض للمحو والابادة (ص11).
ويأتي الباحث على رسم خارطة مؤلفه القيم. فبعد عهد الامام الهادي والقرن الذي شهد حركتها وازدهارها وابادتها، يخصص فصلا لتناول الامام المتوكل أحمد بن سليمان،. أول امام اختلف معها، وفصل آخر لتناول المؤرخ واللغوي والقاضي والمتكلم نشوان بن سعيد الحميري، أهم اعلام ذلك القرن، ويتناول من اشتغل بمقارعة المطرفية فكريا وأسس مذهبا فكريا سماه "المخترعة " لمواجهة فكرها، وهو القاضي جعفر بن عبدالسلام، والعلاقة بينها وبين الامام عبدالله بن حمزة الذي لم يكتف بالمواجهة الفكرية لها، بل عمد الى الابادة الفكرية والجسدية، ليؤسس منهجا استبداديا في مواجهة الجديد والمختلف لم تمح آثاره بعد، فيما خصص الجزء الثاني لعلم الكلام – لمعتقدات المطرفية من واقع مؤلفات رجالها، لا من واقع ما نقل عنهم خصوصهم على سبيل "الالزام " وتقويلهم ما لم يقولوا. كما خصص فصلا لتناول عينة من أفكارهم بعد أن مرت على مصفاة خصومهم لتعرض كما يحلو لهؤلاء المخصوم أن يفسروها.ويعتبر المؤلف جعفر بن عبدالسلام رأس خصومهم، ومن مهد لمحتنهم بمؤلفاته وحملاته وتحريضا ته المتنوعة. والغريب أن هذا الخصم اللدود كان داعية اسماعيلية ثم تحول الى الاعتزال ليكون خنجرا في خاصرة هذه الفرقة (غير الناجية ) من حملاته، ومن تكفير عبدالله بن حمزة واستباحته لهم وتشريدهم وابادتهم، خريب هجرهم. ويشير المؤلف الى "أن أهم ملمح يمكن الاشارة اليه من حيث علاقته بالجدل الفكري في الماضي كما في الحا ضمر، هو خلو جدل المطرفية معها ما عرف في التراث الاسلامي بحمل المخالف على السلامة، مما جعل أولئك الخصوم يفلقون باب الجدل من خلال الجدل نفسه، بتحويله الى حكم إدانة وليس محاولة إقناع وبحث عن الحقيقة. وهذا طريق لا يؤدي ضرورة إلا الى فتح باب العنف والقسوة، واستباحة الدم والمال والعرض. أي ابطال أية وظيفة للشريعة بحجج شرعية. وحينها تصبح الامامة والدولة زائدة عن الحاجة مادامت وظيفتها الشرعية قد انتفت ". ويرى أن المسؤولية التاريخية والاخلاقية تقع على عاتق أولئك الذين أبادوا المطرفية أو يوشكون أن يعيدوا انتاج ذلك التراث الدامي كما وصل المأزق التاريخي الى ذروة احتدامه. فالجميع مسؤول بنسب قد تنقص أو تزيد. كما يرى – ومعه كل الحق – أن إنصاف المطرفية لا يكون إلا بالاقلاع عن إعادة انتاج ذلك التراث الاستبدادي من خلال ذبح كل مطرفية مماثلة أو محتملة، في الحاضر والمستقبل، والاقلاع عن اغلاق باب الحوار والتعايش الضروري بين فئات المجتمع، والاقلاع عن اصدار الأحكام على الأخر استنادا الى تقدير لمواقفه ومعتقداته لا يراعي حقيقة ما يؤمن به، وعن المبالغة في توظيف العنف والغلبة وما يؤدي اليه من استباحة للحقوق والحريات وحرمان الخصم من أي حق، وعن النظر الى الخلاف معه باعتباره علاقة تضاد مستحيل لا تحل الا بسحقه التام جسديا ومعنويا بايجاز، "الامتناع عن رفع قوة الغلبة فوق الحق " (ص13).
ويخلص الى أن عدم حسم مثل هذه القضايا يجعل المجتمع مشدودا الى الماضي الاستبدادي، وعاجزا عن مواجهة تحديات المستقبل، في منقلب قرن ومطلع قرن آخر يفرض على الجميع التعامل مع تحولات عاصفة في كل المجالات، من الفكر الى المجتمع، ومن السياسة الى العلوم والتكنولوجيا. ويرى أن الفرز يزداد عالميا بين من يملكون المعرفة ويجددون معارفهم بسر عات مذهلة ويطبقونها على مجتمعاتهم وعلى أنظمة الانتاج فيها، ومن لا يزالون متمترسين داخل عشائرهم و" حصونهم المحاصرة ". وهي حصون يقتحمونها أمام الجميع من كل جهات الكرة الأرضية ومن خارجها، ويفلقونها في وجه إخوتهم وأبناء عمومتهم، في عالم لم يعد فيه مكان للا براج المقفلة المعزولة التي تتصرف وكأن أوهامها عن الحاضر والمستقبل "حقيقة الحقائق ".
والمفارقة المرعبة أن اضطهاد فرقة بكاملها وتشريدها وابادتها قد مر "بسلام " ولم يجد صدى في التاريخ العربي الاسلامي، لا لشيء إلا لأن الواقعة "الكارثة " قد حدثت في "جزر واق الواق " بينما خلدت مأساة ابن حنبل وهي امتحان لفرد أو أفراد قلائل. وتحول الخلاج الى رمز للفادي والظليم، وخلد السهر وردي وغيلان الدمشقي وابن السكيت. لكن مجزرة المطرفية الشبيهة بما يجري اليوم في أماكن كثيرة، مرت ولم تجد الصدى الكافي في التاريخ العربي. لكأن اليمن جزيرة معزولة عن كل ما حولها. بل هي "واق الواق " الأسطورية كما سماها أبو الأحرار محمد محمود الزبيري. ما أقصده أن الادانة القاطعة لواد الفكر، ومحاربة التفكير، والاستناد الى قوانين الغاب، وايجاد المبررات لانتاج العنف وأدواته، هو مأزقنا جميعا. وما لم يجر التصدي لهذا الإرث الوبيل فستظل ماكينة العنف والارهاب دائرة، ولن ينجو منها أحد. ولتكن لنا عبرة بما يجري من حولنا. والمطرفية كفرقة، بمقدار ما هي دليل عافية وقوة في العقل والمجتمع اليمني القادر على الاضافة والابداع والتجديد، بمقدار ما هي شاهد المأساة والكارثة في مجتمع ضليع في الأمية، ومغلق أمام رياح التجديد والاجتهاد والتجاوز. وتكون الغلبة فيه للقوة العمياء الغاشمة. فقد لقي كل مجدديه ومفكريه القمع والاضطهاد والالغاء، ابتداء بالهمداني، مرورا بالمطرفية ونشوان الحميري، فالمجدد الكبير محمد بن ابراهيم الوزير، ولا يزال الحبل على الجرار.
عبدالباري طاهر (كاتب من اليمن)