«كنت هناك… في المسافة التي لاتحد
في الفراغ الرهيف….بين شفتي العازف وفوهة الناي»
عماد فؤاد
في ديوانه الأخير «بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم» الصَّادر عن دار شرقيات عام 2005 ومن قصيدة بعنوان «أنا السكين التي تئنُّ تحت يدي وهْي تذبح الذكرى»، نقرأ للشاعر المصري «عماد فؤاد»: «أنا ارتباكة اليد في تلويحة الوداع/ ارتعاشة الشفتين حين تهم العين بالبكاء/ أنا الظل حين تزيحه من مكانه الشمس»
ما أرق هذه الصور… ما أرق الروح وهي تمتلك كل هذه الرهافة، لتتوقف عند ارتعاشة الشفتين حين تهم العين بالبكاء، وعند ارتباكة اليد في تلويحة الوداع.
إنه العالم الشعري لـ«عماد فؤاد».. عالم تقود رهافته البالغة إلى التقاط أدق تفاصيل النفس البشرية، أحيانا بشكل يجعل من قصيدة «عماد» قصيدة سيكولوجية بامتياز، نقرأ من قصيدة «صمت»: «عندما تمر برؤؤسنا لحظات ضعفنا/ وانكسارنا المذل تحت وطأة العيون/ سنجول في الطرقات بلا هدف/ ونبحث في الوجوه التي تمر بنا/ عن لحظة ضعف/ تقوينا/ أو نظرة حقد/ بلا سبب»، إننا هنا بشكل واضح وشبه مباشر أمام ما يسمى في التحليل النفسي بالإسقاط حيث اللاوعي يبحث في العالم الخارجي عن ما يشبهه ليقذف في وجهه بتشظياته، هي صور مدهشة وعالية الكثافة تختزل نظريات متكاملة في التحليل النفسي عند «فرويد» و«يونج» و«أدلر» وآخرين، فجروا ما يحدث هناك في المنطقة الأبعد والأكثر قتامة في الروح. أعماق الإنسان في شعر «عماد فؤاد» لا تمثل وحدة متكاملة، بقدر ما تعكس بصفاء ما تعرفه النفس البشرية من توزعات وانقسامات وأنات متعددة يخفي الإنسان منها صوراً ويظهر أجزاء، بحيث تكون الصورة الخارجية أحياناً مناقضة لعوالمه الداخلية، نقرأ من قصيدة «وحدة» «يهرب من الزحام/ وحين يغلق عليه باب حجرته/ يسمعه الجيران لساعات طويلة/ وهو يستعطف آخرين/ ويرجوهم المغادرة/ كانوا متأكدين أنه وحده».
الدلالات النفسية في الديوان تأخذ أبعادا كثيفة ومتلونة هكذا نقرأ من قصيدة «مصباح» « وضعوني على الباب/ كي أنير لهم /يد مسحت زجاجي المصقول/ويد أشعلت ناري/ ومضوا/ ركلوا العشب بأقدامهم/ وداسوا على ضوئي الرهيف فوق حجارة الطريق/ الغرباء/ لم يعد واحد منهم إلي/ تركوني معلقا هكذا/ تاريخي كله/ صدأ» « نجدنا هنا في هذه القصيدة وقصيدة أخرى في الديوان بعنوان «قارب» أمام ما يمكن أن نسميه بأنسنة الجماد ، أي إعطاء صوت إنساني للجماد بما يجعل منه رمزا مكثفا لوضع إنساني، وتتطابق هذه الصورة الإبداعية في احتفائها بالجماد وأنسنة دلالاته مع ما تؤكده الأصوات الجديدة في علم النفس من وجود ذبذبات خفية تربط ليس فقط بين الإنسان والإنسان ولكن وأكثر من ذلك بين الإنسان والجماد. وبمثل هذه الصور يعبر شعر «عماد فؤاد» شأنه شأن كل شعر خلاق عن قدرته على التواصل مع باقي أنواع المعارف الإنسانية الأخرى، وعن سيره بنفس وتيرتها، ومساهمته بطرقه الخاصة في إغناء اكتشافاتها، ونموذجنا هنا علم النفس.
أما قصيدة « أحد سواي » وهي قصيدة مليئة بالعذوبة تأخذنا إلى عوالم الطفولة وتصورتها البريئة عن الذات، تبدو لنا الصورة الإبداعية فيها خارجية ولكنها مليئة بالدلالات النفسية الداخلية في كل سطر من سطورها بما يجعل للشخصية الإنسانية مرة أخرى أكثر من ذات تسكنها… وأكثر من حمامة تحلق بها في سماء الشعر نقرأ« كنت صغيرا/ أعدو خلف حمام قريتنا بحجر…/ جميلا كنت/ أفتح ذراعي لأحضن الضوء/ فيفر/ وانفخ في لهب الشمس كي يبرد الجو…/ كنت أظنني نبيا/ وأنني أحد سواي/ وحين كبرت/ تأكدت من أحد الظنين»
ومع ذلك لا نستطيع أن نقول بلغة البنيويين الشكلانيين وبلغة «جاكبسون» تحديدا بأن «القيمة المهيمنة» أو«الثابت البنيوي» بلغة فلسفية في شعر «عماد فؤاد» هو التركيز المتكرر على العوالم النفسية لحياة الإنسان، بقدر ما نقول بأن «القيمة المهيمنة» في شعره هي انتماؤه الشامخ لقصيدة النثر ورحابة أسئلتها، في هذا الإطار يمكن أن نقول أيضا بان «القيمة المهيمنة» في ديوان «بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم» هي تربع الصورة على عرش الشعر، وهي هنا صورة داخلية وخارجية، صورة تجعلنا نتصور أحياناً أننا بحضرة قاص ضل طريقه إلى الشعر، غير أنه لم يضل طريقه، على العكس، إنه شاعر يعرف جيداً الحقول والمدن والمنارات البعيدة لشعره، لذلك فهو يكتب بلغة خاصة، هي لغته تحديداً، فجملته الشعرية أحيانا تكون جملة فعلية.. وفي الفعل حركة ونبض وحياة وصور، نقرأ من قصيدة « في الظل الغامق لامرأة تشبهنا» « قالت له أمه :/ لتكن لك اتكاءتك في البعيد/صوتك الذي ترفعه خفية في الظلام/ يدك التي تبطش بها الآخرين/ ودمعتك التي تبكيها/ عليهم ». وأحياناً تكون الجملة اسمية، بحكم هيمنة الصورة والحركة فتأتي على غير عادتها متوقدة.. مليئة.. مشحونة بالحركة تخبر بالحدث أو تمهد له، نقرأ من قصيدة «شجن»: «ليس من ألم/ ولا من حجر في الكلام/ لكنها عيناك/ حين ترف فيهما دمعة/ وتتعلق على جفنيك/ دون أن تسقط».
هناك إذن نوع خاص من الانسجام والتكامل في وظيفة الجمل الاسمية والفعلية في خدمتها للصورة الشعرية، وأبعد من ذلك؛ هناك تكامل فاتن بين القصائد وعناوينها، العناوين بدورها هي عبارة عن صور شعرية بدءا من عنوان الديوان «بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم» وهو عنوان مقتبس من أخر جملة في الديوان وردت في قصيدة «مغناج اسمه الشعر» إلى عناوين أخرى نذكر مثلا ، «تهشُّ على أغنامها من دون عصا».. «لاعب الشَّطرنج.. ذو الابتسامة».. «كنبع وحيد في الرمال ».. «على أطراف أناملنا»..«في الظل الغامق لامرأة تشبهنا».. «أنا السكين التي تئن تحت يدي وهي تذبح الذكرى»..«مغناج اسمه الشعر»، بالمقابل هناك عناوين فيها اختزال شديد وتتكون من كلمة واحدة نذكر مثلاً: «شجن»..«مصباح»..«جنازة».. «طعنة».. «صمت».. وهكذا. هذه العناوين المختزلة.. المنتقاة بعناية فائقة، تقدم لنا خاصية أخرى من خصائص الصورة الشعرية في هذا الديوان، وهي الاختزال والتكثيف، نقرأ من قصيدة «محاولة للطيران»: «لم أكن أقلد الطير/ فليس لي أجنحة/ لكنني كنت أجرِّب صدق أمي/ قالت لي يوما/ الأطفال ملائكة الله/ على الأرض».
إننا هنا أمام عذوبة الطفولة وعذوبة الشعر.. وعذوبة الصورة الشِّعرية في قدرتها على التحليق وبمستويات عالية من التكثيف والاختزال. تكثيف واختزال لا يلغيان في قصائد أخرى قدرة عالية على الاسترسال، وهو استرسال غير مباشر يشوبه الكثير من التقطع الجميل الذي يعطي للقارئ فترة صغيرة من الاستراحة الذهنية، للتوقف واستيعاب الأحداث والمعاني السابقة، هذا التقطع الجميل وغير المباشر يعبر عن نفسه إما بجمل اسمية أو فعلية أو كلمات تعطي الانطباع ببداية جديدة ومفاجئة، نقرأ من قصيدة «تهشُّ على أغنامها من دون عصا» (وهي قصيدة طويلة):… طويلة/ حين تمشي/ تشعر بالعيون وهي تتمسح باليتيها المرفوعتين (…)/ سيدة البيت/ كلما فتحت شفتيها تعلم البنات/ (….) الغجرية تاجرة السعادة»، هذه نماذج من جمل جاءت كل واحدة منها بعد استرسال لتحدث التقطيع غير المباشر الذي ذكرناه والذي نجد مثيلاً له أيضاً في قصائد أخرى، مثل قصيدة «مغناج اسمه الشعر»، وقصيدة «أنا السكين التي تئن تحت يدي وهي تذبح الذكرى».
لا يتوقف «عماد فؤاد» عند هذا الحد في إغناء صورته الشعرية، بل يضيف إليها تقنية أخرى متوثبة.. مثيرة، هي «تقنية البورتريه»، بما يجعل منه أحياناً شاعراً للبورتريه بامتياز، ويبدو «عماد فؤاد» واعياً بالإمكانيات الهائلة التي يتيحها البور تريه لإثراء صورته الشعرية والرحيل بها إلى فضاءات تمكنها من تفجير كل إمكانياتها وبسط كل أجنحتها، وله قصيدة تستعمل كلمة البورتريه هي قصيدة «بوتريه لشيليا»، هذه الرهافة والدقة في التقاط الحدث تجعل من الصورة الشعرية لدى «عماد فؤاد» صورة حركية من نوع خاص، نقرأ مثلاً من قصيدة «شتاء»: «وحدها الأشجار تظل واقفة/ ترقب أوراقها التي تتهاوى في العتمة/ لتطفو فوق المياه»، هنا صورة وقوف الأشجار قد تبدو للوهلة الأولى صورة سكونية، لكن ما يجعلها نابضة بالحياة هو طريقة رصد مسارها ودقة ذلك الرصد، هي صورة ممتزجة بالمعنى، ومسار القصيدة هو مسار مفتوح من أجل الوصول إلى هذا المعنى المتلون.
لا يمكننا أن نقرأ هذا الديوان دون أن نتحدث عن الموسيقى في الجملة الشعرية، خصوصاً أن إحدى الرهانات القوية والتحديات الأعنف في تاريخ قصيدة النثر، هو تصورها المختلف والمتقاطع مع التصور الكلاسيكي للقصيدة… فـ«عماد فؤاد» يبحث – شأنه شأن شعراء قصيدة النثر – عن الموسيقى الشعرية من داخل الجملة الشعرية في نوعية اختيار الكلمات، تجاور كل كلمة مع الأخرى، بشكل يجعل الكلمات في تجاورها مع بعضها تحقق ذلك بالكثير من الانسجام والألفة، بالإضافة إلى الألفة في العلاقة بين الكلمة والمعنى، فالكلمة عنده تتسع بما يكفي لكي تحمل المعنى وتوصله بأمان وأمانة إلى قدره الخاص، لكنه لا يكتفي بذلك بل يبحث أيضا عن الموسيقى لجملته الشعرية بشكل خارجي وإن بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال التكرار في بداية الشطر الشعري، إنه نوع من الإيقاع الخارجي المعكوس إن صح التعبير، فعوض أن يبحث البيت الشعري عن تكرار لحرف معين على شكل قافية يعطي للبيت والشطر في الجملة الشعرية موسيقى مباشرة تراهن عليها كثيراً القصيدة ذات التصور الكلاسيكي للإبداع الشعري أو القصيدة المغناة، أو بعض نماذج من قصيدة النثر مازالت تبحث عن نفسها، فان التكرار هنا هو التكرار الذي يضمن للجملة الشعرية موسيقاها في بداية الجملة نقرأ مثلاً من قصيدة «ثلاثة»: «كنَّا ثلاثة/ أنا… وهي/ وجثة خضراء مدفونة بحرص تحت أقدامنا/ قالت لماذا تنبث الزهور ندية هنا/ قلت: مات عاشقا/ كنا ثلاثة/ أنا… وهو/ وجثة خضراء مدفونة بحرص تحت أقدامنا/قال: كيف يموت وحيدا؟/ قلت: لأنه حي- لم يزل- فيها »«، هنا نحن أمام تكرار بيت شعري متكامل يتكرر ثلاث مرات في القصيدة، مع تغيير طفيف في المرة الثالثة، بحيث تصبح الجملة الأخيرة: كنا ثلاثة/ هي… وهو/ وجثتي خضراء تحت أقدامهما/ حين داسا على العشب/ وقفت على قلبي البنت» هذا التعديل الطفيف في الجملة لم يكن مجانياً بقدر ما كان يكشف قدرا من البراعة في رؤية نفس الصورة الشعرية من أكثر من زاوية بما يجعل الموسيقى في المعنى متكاملة مع الموسيقى في اللغة.
وأحيانا تتم هذه الموسيقى الخارجية بتكرار حرف معين، نستحضر مثلاً قصيدة «على أطراف أناملنا»: «لا اليد التي قبلناها خلسة/ ولا السلالم الغريبة التي صعدناها كي نسرق محبتنا/ لا شبابيك الأهل التي أغلقت في وجوهنا/ ولا انكسار نظراتنا في البكاء/ لا شيء يمحى من عقولنا/ وليس للنسيان في قلوبنا جلال»، حرف «لا» المتكرر هنا يحقق للجملة الشعرية نوعاً جميلاً ولافتاً من الموسيقى، وأحياناً يكتفي «عماد» بتكرار حرف واحد فقط وهو «واو» العطف، وأحياناً ببداية كل شطر بفعل بزمن محدد كالماضي الحاضر أو المضارع، وأحياناً يجمع بين التقنيتين معاً، نقرأ من قصيدة «لاعب الشطرنج.. ذو الابتسامة»: «لم أشرب معه كأس نبيذ/ ولم نجتمع على حب امرأة/ لم نتواعد لنخرج في نزهة عبر
الحقول/ ولم نشتبك في مناقشة سياسية».
تعبر الأم في هذا الديوان دون أن نتمكن من تحديد عبورها هل هو عبور أوديبي؟ أم عبور من طبيعة مختلفة ؟… هي تعبر بكلامها منذ أول قصيدة «محاولة للطيران» بطريقة خفيفة في الديوان… تلعب دورا في تنشيط الصورة الشعرية… وإضفاء مزيد من الحياة على النص، وهو قول
يرتبط بمجرد الحكي أحيانا… وبالنصيحة أحيانا أخرى… لكنها ليست نصيحة مثقلة بالحكمة… بقدر ما هي نصيحة مرحة… ومليئة بالطرافة نقرأ من قصيدة «في الظل الغامق لامرأة تشبهنا» على لسان الأم «وامرأتك أنت ربها وراعيها/ فاجعلها فرشتك وسترك عن العيون/اضرب غرورها برحمة إن عصتك/ وانهض لها إن دخلت عليك/ وان رأتك تبص إلى حسن سواها/ قل لها:/ لي فلب تحف الصبايا إن مررن به/ وعين مختومة على الجمال فكيف أنهاها ؟»
داخل هذا الفضاء تدخل أحيانا «ياء النداء» رشيقة مليئة بالدلال… لتضفي على النص حيوية إضافية نقرأ من نفس القصيدة «يابنت/ ردي فمي إلى طفولته/ وامنحيني بئري الأول» «وياء النداء» هنا لكي تزيد في غنجها وامتدادها تأتي مصحوبة بالأمر… ولكنه ليس أمر المستبد إنه أمر المشتاق… المرتجف حنينا. والقصيدة المذكورة تبدو غنية بخصوصياتها فعلى شكل قارئة الفنجان لنزار قباني نقرا «قالت له :/ أرني يديك/ هنا طبعك الذي ربيت عليه/ وعمرك الذي كبر تحت عيني كنبتة ظل/… هنا أسماء إخوتك/ أبوك وأمك/ وطينتك التي عجنتها الآلهة.
نضيف لكل ماذكر أن الجمل الشعرية عند «عماد فؤاد» في ديوانه المذكور، في كل اختياراتها الجمالية، هي جمل واضحة ومليئة بالمعنى، بما يجعل منها نصوصاً تغري بالترجمة، نصوصاً يسهل ترجمتها دون أن تفقد جماليتها الخاصة ، وبمواصفاتها هذه تساهم الجملة الشعرية بدورها في الدفع بحركية الصورة إلى مستويات عالية من التصعيد والإثارة والصفاء الشعري البديع.
«عماد فؤاد» شمعة مضيئة في شعر الشباب وشعر قصيدة النثر، يحق لشعراء قصيدة النثر الافتخار بها، قوة ديوانه «بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم» تتمثل في الصورة الشعرية، وهي صورة شمولية تعبر بنا من ضفة الشعر إلى ضفة فنون أخرى، يمتزج فيها الشعر بالقصة والمسرح والسينما والرسم والموسيقى والتأمل النفسي والفلسفي أحياناً. من هنا قوة ما يكتبه وقوة مشروعه، إذا ظل على هذا المنوال وطور إمكانياته في هذا السياق، مع الاحترام لحقه العالي في اختيارات شعرية مختلف
فريـــدة العاطفـــي كاتبة من المغرب مقيمة بفرنسا