أين يمكن أن يكون.. من يعرف أين هو الآن.. من يستطيع أن يجده لي.. كان طول الوقت معي.. في كل ساعة من ساعات الليل وساعات النهار.. ترى.. أين هو الآن.. أما من أحد يعرف له سبيلا.. أما من أحد يستطيع أن يدلني عليه.. هل أسأل العراف أم قارئة الفنجان أم ضاربة الودع. أين يمكن أن يكون قد اختفى.. ماذا سأفعل إن لم أجده.. أين يمكن أن يكون قد استقر به المقام.. أتراه ما يزال سليما أم أن سوءا قد حل به..
بحثت عنه في كل الزوايا والدروب.. كل الممرات والمنعطفات ولم أجد له أثرا.. أختي قالت إنها رأته صباح أمس.. لكنه كان معي صباح اليوم لا صباح أمس فقط.. هل أنشر اعلانا في الجريدة أو عند وكالات الاعلان.. أم أكلف مناديا يطوف في الشوارع والأزقة والطرقات ينادي في الناس يا أولاد الحلال من رأى منكم الذي ضاع منا فليدلنا عليه وله منا ألف ألف دينار…
ويتوقف الفكر لحظات… يتجمد السؤال "أين يمكن أن يكون" عند نهايات الأعصاب.. وتحاول أن تستعيد كل دقائق يومها منذ أول الصباح حتى لحظتها تلك.. منى استيقظت.. ماذا فعلت.. أين سارت.. وأين جلست.. مع من تحدثت.. لمن ابتسمت.. أين قرأت جريدة الصباح.. وأين تناولت قهوة الصباح..
عند الغبش أفاقت من النوم كما نفعل كل يوم.. عند الفجر أنصتت للعصافير والبلابل وهي تغني ترنيمة الصباح.. قبل أن تغادر السرير قرأت صفحتين من كتاب يرافقها في الليل قبل أن ينال منها النعاس عند طلوع الشمس جمعت ما تساقط من زهر الياسمين الأبيض.. رائحته تنعش الفؤاد.. وضعته في زهرية على مائدة الفطور.. تناولت قهوة الصباح.. أطعمت طير الكناري.. وقرأت جريدة الصباح.
وعاد السؤال يلح في الذاكرة.. أين يمكن أن يكون.. لكن لا.. لا يمكن أن أقف عند السؤال فحسب.. سأبحث عنه،. سأبحث عنه في كل مكان.. في كل درب من الدروب التي سار فيها إنسان، وتلك التي لم يكلأها انس ولا جن.. حسنا.. سأعود ثانية الى ما مضى من يومي هذا…
عند الضحى رأيته.. بل هو كان معي بالتأكيد حين ذهبت لشراء بعض الحاجيات فإنا لا أستطيع الخروج من الدار دون أن يكون معي.. وحين عدت الى الدار كان لابد أن يكون معي أيضا اذ
أنني لا أستطيع العودة من دونه.. ماذا فعلت أيضا: أفرغت العربة مما اشتريته.. أعددت طعام الفداء.. وبعد الفداء تناولت قدحا من الشاي..هاتفت صديقة لي لأطمئن على صحتها.. ولساعة وبعض ساعة عدت لقراءة رواية كنت شرعت في قراءتها قبل يومين.. وطيلة هذا الوقت كنت واثقة أنه كان معي.. فهو رفيقي ورفيق دربي.. هو حارسي الأمين.. وهو الذي ييسر لي كل شؤون حياتي في الرواح وفي المجيء.. حتى أن هذا الصباح حين خرجت كان الجو مغبرا بصورة غير اعتيادية.. كان غبار أحمر كثيف يغطي بغداد كلها.. وحديقتي استمال ما فيها من شجر ونبات وأغصان استطالات ترابية تبدو أشبه بأذرع مردة متصارعة.. كل شي ء كان يثير الحزن في القلب والأسى.. ريح جنوبية صرصر لافحة كانت تعصف بكل ما في الكون.. وشجرة التين المقدس التي أقسم الله بها.. غدت أشبه بكائن خرافي متعدد الأذرع والسيقان والفروع.. كلها كانت تهتز.. تطو أغصانها وتهبط.. تتأرجح فروعها يمنة ويسرة وكأني بها هي التي تضرب الريح وليست الريح هي التي تعصف بها. حاولت أختي أن تثنيني عن الذهاب الى السوق.. قالت: إن مدى الرؤية محدود.. والرؤية صعبة في مثل هذا الجو.. والعودة غير مأمونة.. انتظري حتى تهدأ الريح وينقشع الغبار.. لكني أبيت.. صممت على الخروج.. فأنا مطمئنة أنه سيكون معي وأنه يستطيع أن يحميني ويعيدني الى البيت سالمة وبكامل الصحة والعافية..
وذهبت الى السوق.. ومن هناك عرجت الى مشتل للزهور لابتاع نبتة ظل وأصص زهور.. لكن المشتل بدا كساحة حرب تركها للتو قتلة من أحفاد هولاكو بعد أن غزوا أرضنا.. دمروا مزارعنا وبساتيننا.. أشعلوا الحريق في حقول قمحنا.. اقتلعوا الأشجار.. عاثوا في حدائقنا وألقوا بالزهور أرضا.. وبعد أن حطموا كل شيء.. كل شيء.. ولوا الأدبار عائدين الى ديارهم تاركين وراءهم أرضا يبابا.. بكيت وأنا أشهد هذا الدمار الفاجع وموت الأزهار وقد التوت أعناقها وتمرغت تيجانها بالتراب. سألت صاحب المشتل.. من فعل هذا ؟ قال: العاصفة جاءت من الجنوب.. حاملة معها رمل الصحراء والقيظ والخراب وأماتت كل ما استنبتته يداي وأيدي آبائي وأجدادي. عدت الى البيت مهمومة.. وهذه أيضا شهادة أخرى على أنه كان معي.. فأنا لا أستطيع العودة الى البيت دون أن يكون معي.. ليتني استمعت لنصيحة أختي.. كنت لو فعلت ذلك، لوفرت على قلبي هذا الهم العظيم.
سألت نفسي من جديد وكأني لم أكن لأصدق نفسي: أما كان معي فأين اختفى؟ أيكون مختبئا في مكان ما في حديقة الدار تحت شجرة الزيتون.. تحت عريشة النسرين؟ فتشت هناك لكني لم أجده..
وجلست أفكر من جديد فيما مضى من زماني.. أمس كان معي وأمس أمس.. وقبل ذلك كان معي.. بل منذ سنوات طوال وهو رفيق دربي.. أيهون عليك أن تتخل عني.. هكذا فجأة فلا أعرف لك مكانا يمكن أن تكون فيه..
عند شاطيء النهر جلسنا تحت شجرة سدر عظيمة ألقت بأفيائها على الأرض.. كان الحر شديدا وأوراق الشجر اليابسة تتساقط كما في الخريف.. قلت إنك ستسافر الى أرض بعيدة.. ستبحث عن نفسك هناك.. دعوتني لارافقك.. قلت لأن أنا ولدت هنا..وعشت هنا.. وهنا سأموت.. قلت اذن.. سأسافر وحيدا بلا أهل ولا أصدقاء.. ودعتني وغبت وسط الريح والغبار.. ومنذئذ لم أسمع عنك خبرا.. ولا أعلم حتى أني حططت الرحال.. سئمت الحر.. وتساقط الأوراق اليابسة.. قلت سأعود الى البيت وعدت.. وكنت أنت معي.. فأين بالله غبت.. سألت ضاربة الودع قالت: إن أرض الله واسعة.. قدره أن يرحل من أرض لأرض قبل أن تغيب شمس نهاره.. خذي هذه الأوراق الثلاث.. عند غروب الشمس أحرقي ورقة واحدة في اليوم الأول.. وأحرقي الثانية عند صفار الشمس في اليوم الثاني.. وكذا أفعلي في اليوم الثالث على أن توقدي شمعة بيضاء عند المغيب.. وهو لابد آت عن قريب إن شاء الله.. ففعلت.. لكن الغائب ظل غائبا..
لكني لن أيأس.. سأبحث عنه من جديد في كل زوايا البيت.. في كل الغرف والشرفات.. وفي السرداب العتيق كل أشيائي التي أحببتها في الزمن القديم والتي ما أزال أحبها في زمني هذا، كانت هناك.. كرتي المطاطية الصفراء التي كنت ألعب بها وأنا طفلة.. لعبي الصغيرة..كتب الحكايات والأسفار.. شرائط شعري.. الساعة الجدارية العتيقة التي ورثتها عن أبي ما تزال معلقة على الجدار حتى وان توقف عقرباها عن الدوران… كل هذه وأشياء أخرى صغيرة كانت هناك إلاك.. الابريق النحاسي بنقوشه السومرية.. الة القهوة الفضية القديمة بأرجلها الثلاث.. كلها
كانت هناك حتى صدى حكايات جدتي عن الانس والجن والفيلان والسحالي كان ما يزال هناك يحمل لي من الزمان البعيد حبا وشوقا وحنينا وبقايا رائحة بخور ندية.. يا الله.. ما أحلاها تلك الأيام.. ياالله.. كل شيء كان هناك إلا مفتاح عربتي الذي ضاع..
بديعة أمين (قاصة من العراق)