لم يبلغ أحد من حملة النعش، ولا أحد من المشيعين، حد الغبطة الروحية التي كان يشعر بها الرجل الممدد داخل النعش، وهم يتجاوزون به الأمداء الشاسعة ما بين موته ودفنه.
وأذهلته مسرته وبهجته، بالعودة الى مسقط رأسه، عند تضاريس الأرض التي كان نعشه المحمول يمر بها، فما أحس بصعود المرتقيات، ولا بهبوط الوهاد، ولا بانتقال بين يابسة وماء في كل ما مر به الموكب الجنائزي المهيب.
كان مغمورا بسعادة رخية، لتنفيذ وصيته بدقة، وهي العودة به ليدفن في مسقط رأسه الذي اغترب عنه طوال عمره، دون مبارحة مكانه.
وما أحس حملة النعش بثقل الحمل، ولا أحس المشيعون بتعب المشي، ولا شعر الكل بوهن العمر، فقد كانت همتهم وافرة لتنفيذ وصية فقيدهم الغالي.
وعندما كان النعش يعبر بين حر وقر، في تقلبات الفصول عليه، لم يكن الرجل الممدد فيه يشعر باختلاف، رغم أنه في حياته، كان يراقب ويترقب تقلبات الفصول به، فأحب الشتاء في الصيف، وأحب الصيف في الشتاء، وغفل عن الربيع وأحب الخريف في كل آن.
الى أن باغته الخريف ذات عام، بأن طالبه بسداد كل ماله في ذمته من أوراق عمر ذاوية متساقطة، عندها تناول ورقة صغيرة من دفتر عتيق ظل فارغا من أي كلام، فأذبلت أوراقه الأيام، وكتب عليها وصية مختصرة أن يدفن في مسقط رأسه تماما.
فهي فرصته الوحيدة للعودة اليه.
عندها، قام اليه أبواه فاحتضناه مودعين، وقام هو الى أبنائه فقبلهم مودعا، ثم ارتقى الى نعشه وتمدد فيه، وما وجد حاجة الى إعلان موته، إذ أن واقع الحال ينبيء عنه.
رغم غبطته الغامرة الفياضة أحس الرجل الممدد في نعشه، بعد مسيرة زمن، بملل متخف راح يتسرب الى نفسه.
واذ وجد أن محادثة أحد من حملة نعشه أو مشيعيه، وهو على هذا الحال، يفتقد الى اللياقة، وأن إقامة حوار بين ميت محمول، وبين حملة نعشه الأحياء تعتبر خروجا على الناموس، فقد كان عليه أن يرد الملل، ويسلي نفسا بالتذكار خاصة حين أدرك، دون أن يدهش، أن المسافة بين موته ودفنه، مسافة شاسعة، لا يعرف أين بدؤها وأين نهايتها. وأن الزمان بين موته ودفنه استطال ليستغرق الزمن كله، دون أن يحدد له الأزل نقطة بدء، وما حدد الأبد له نقطة انتهاء.
وأن نقطة الانطلاق من مسقط الرأس في رحلة الذهاب، تنطبق تماما على نقطة بلوغ سقوط الرأس في رحلة الاياب.
واذ أدرك الرجل الممدد في نعشه كل هذه الحقائق، أسقط في يده، فراح يسلي نفسه المتوحدة، باستعراض شريط حياته، متمتما لتعزية ذاته بأن هذا لشريط رغم ما فيه من كآبة، فإن فيه ومضات ولحظات مبهجة، فراح يبحث عنها في عتمة الشريط وعتمة النعش، الى أن اكتشف أن ذاكرته مضاءة رغم العتمتين. فأخذت إيماضات ذكرياته تلتمع في رأسه المسجي في النعش، الى ان ارتعشت فيه عبارة كانت بداية نطقه ومفتتح حواره مع الحياة حين هتف: "وأني كثير بي.. قليل بغيري".
وبعدها ران عليه صمت مطبق، تصرمت خلاله أزمنة ودهور، راح يدرك خلالها أن على دائرة العمر، أن تتسع لتشمل الحياة، وأن تلتف على نفسها للالتقاء عند نقطة واحدة فيها موضع مسقط الرأس في البدء، وفيه موضع سقوط الرأس في الختام..
فعاش الرجل الممدد الآن سعيدا في نعشه، حياة طويلة لتحقيق هذا الالتقاء بين ولادة صخابة لا تكتمل إلا بموت ناجز وهاديء.
في مطلع حياته، وما إن أطل على الدنيا، حتى أحس باغترابه الأول عن توحده بعدم هانيء وريق، الى وجود متقلقل، أودى به الى اغترابه الثاني في أواسط حياته، حين ازدهى بالدنيا، فاغترب عن توحده بصفاء نفسه وعذوبتها الى غواية الفرص في عكر الآخر وسرابه الخادع، فارتد عنه عطشا الى اغترابه الثالث في أواخر حياته، فرده خذلانه بالدنيا الى إعادة التوحد بسعة ذاته، عن التبعثر في ضيق غيره.
عندما أحس الرجل بالدعة والسكينة، وارتقى خفيفا طلقا الى نعشه، الذي مشى به على أكتاف خلق عرفهم في توحده الأليف،وعرفوه في تشطره المضني.
ظل الرجل مستسلما لهناءة تذكراته… فما أحس كم تصرمت ازمان، وكم امتدت أمداء، وهو محمول في نعشه مرتحلا بين لحظة موته، وموضع دفنه، إلا حين أحس بالنعش يهبط. ويهبط من مكان سامق العلو، الى مكان سحيق الغور، فأدرك أنه ينتقل الآن من كنف الدنيا، الى قرارتها، فأحس براحة وغمرته السكينة.
وما أن بلغ النعش مستقره الأخير، حتى هتف الرجل لنفسه، ها قد وصلت.. وانجزت ما نذرت عمري له، وبلغت أخيرا أقفال دائرة الحياة، وتكبيل ولادتي بموتي.
فتنهد بارتياح، واسترخى في قبره الرحب الدافي ء، حسن الاضاءة. وأحس بأنه خالي البال، فزالت كل همومه التي حملها دون أن يحملها الى حاملي نعشه.
لكن ما إن راودته رغبة الإغفاء الأخير، في استرخائه الهانيء، حتى تفجرت من مكان ما في القبر ضحكة صاخبة حالت بينه وبين الاغفاء واضطربت لها جوارحه.
في البداية، حاول الرجل الممدد في قبره، أن يجد في رنين الضحكة أنسا.. لولا أنه أدرك بوعيه الذي رعاه طيلة حياته… أن الضحكة ضحكة طفل، وأنه طفل حديث الولادة.. وأنه ربما ولد للتو.
فأفزعه هذا الكشف.
وبدل أن يركن الى النوم، قام واستوى، وراح يركض في قبره الرحب، باحثا عن مصدر الضحكة التي راحت تهرب من أمامه، فلا يبلغها أبدا.
واذ شعر بالإعياء، وقف في منتصف القبر المترامي الأرجاء. فباغته وعيه الأخر الذي لم يحفل به طيلة حياته، بأن هذا الصوت، هو ذات الصوت الذي تفجر منه لحظة ولادته، ورأسه ساقط متدل الى الأسفل.. وظنه لبراءة تلك اللحظة المبهمة صوت بكاء.
ما إن تيقن الرجل الراكض في قبره، من هذه الحقيقة، حتى أقعده الذعر أرضا، وراح يبكي بكاء مرا. إذ أحس أن جهاده لأن تلتقي رحلة الذهاب من مسقط رأسه في بدء حياته، برحلة الإياب الى مسقط رأسه في ختام حياته.. كان كله عبثا.
فزايلته غبطة رحلته كلها.
وتمنى، لو أن كل الذين شيعوا نعشه، وحملوه، كانوا بقربه في هذه اللحظة، ليتعرى بهم، ويعتذر لهم، ويمزج عرق تعبهم الأبدي، بدموع راحته الأبدية.
لكنه ظل جالسا وحيدا، ينتحب في قبره.. دون أي عزاء.
جمال ابوحمدان (قاص من الاردن)