أفاقت مريم من رقدتها تاركة أولادها الثمانية متكومين في فرشهم المتراصة بالغرفة, اتجهت كعادتها إلى المطبخ دون أن تستشعر نسائم الهواء العليل القادمة من البحر تلك النسائم التي ستفتقدها بعيد بزوغ الشمس من مرقدها تحت جبال »جبروه«, كان هواء البحر يتسلل إلى البيوت من بين جبال مطرح العالية نقيا مثل الزلال, لكن عادة مريم حين تصحو من نومها أن تتجه إلى الحمام الملاصق للغرفة التي تأويها وأولادها … تتوضأ وتنسل إلى المطبخ لتبدأ بتجميع أمتعتها وربطها بإحكام , وحين تسمع أذان الفجر تتناول سجادتها المعلقة على الوتد في وسط الدهليز الصغير , تصلي ركعتين وترفعها في وتدها ثم تعود إلى المطبخ من جديد تضع »العوال« الذي كانت قد قطعـته قبل نومها وصرته في أكياس بلاستيكية صغيرة في كيس كبير , تحمل الكيس ثم تضعه في البهو عند الباب الحديدي الصغير الخارجي , تعطس بفعل تغ ير الجو بين المطبخ المزدحم بروائح مبيعاتها والهواء النقي فتكبت على فمها بظهر كفها لئلا تزعج أولادها النائمين , تعود من جديد إلى المطبخ فتعطس أيضا … تدفع البيض الطازج الذي لم تبعه بالأمس بتأن واحدة واحدة في الحلة الكبيرة المملوءة بالماء فوق الطبـاخة الصغيرة المرتفعة قليلا عن الأرض , ثم تشرع في تعبئة عسل النخل في العلب الصغيرة التي نظفتها وصفتها بترتيب ليلة البارحة على طاولة صغيرة مثل شموع العيد , تضع جرائر الـعسل في كيسين كبيرين وتحمـلهما واحدا واحدا وتضعـهما إلى جانب كيس »العوال« بعد أن تعطس مرتين في البهو وفي المطبخ .
تذرع المطبخ الضيق – رأسها يدور لاهثا – باحثة عن شيء ما تشعر أنها تفتقده .. تعصر ذهنها وتلعن الشيطان … ثم تتذكر فجأة حزم القاشع , تنفلت مثل شرارة إلى الدر ج الخشبي الذي لا يكاد يقوى على حمل جسدها .. كل صباح .. كل مساء, تكون الشمس قد بدأت في طرد نسائم البحر ماطة ألسنة الرطوبة على سطوح المنازل , تلملم مريم القاشع من السطح في أكياس بلاستيكية صغيرة , تصرها وتدخلها في كيس كبير تد ليه من ثم بحبل صغير إلى أرض البهو, ترص الكيس إلى جانب الأكياس الأخرى عند الباب .
تدخل زريبة الغنم »الدرس« تجمع بيض دجاجاتها واحدة واحدة , تضعه بمهل في سلة القش, ثم تخرج – وهي تعطس- على كركرة الدجاج , تعطس بالخارج أيضا . تتنهد بارتياح وهي تنظر إلى ساعتها التي تشارف على السادسة , أمامها نصف ساعة قبل أن يأتي ؛خادم« جارها ليقلها إلى سوق السمك بمطرح على سيارته البيكب , عليها إذن أن تسرع في حلب البقرة وخض بعض اللبن لتحمله زبدا , لكنها قلقة من مداهمة الوقت فنصف الساعة لن يكفي على الأرجح لفعل ذلك كله , وخادم »مشتط« دوما كما تقول, إنه حريص على أن يكون أول من يبيع سمكه بالسوق, ولن ينتظر »الفقيرة مريم حتى تحلب بقرتها وتمخض لبنها وتتسبح وتغير ثيابها« كما قالت محدثة نفسها, فضلا عن الدقائق الخمس التي سيستغرقها صف أكياسها بإتقان على ظهر سيارته البيكب »أبو غمارة«!
فكرت في ايقاظ ابنتها الكبيرة »عواش« كما تناديها لتمخض عنها , لكنها تراجعت قائلة: »إن عـواش لا تفهم في الحـلب والمخض … « وتتأوه وتتأفف مثل كل يوم من ها الزمن !
فجأة خرجت برأسها فكرة مناداة »فايقة« جارتها لمساعدتها.. تركض كالريح , تطرق الباب فيخرج ابن فايقة الأكبر, يجيبها إن أمه نائمة في المستشفى منذ يومين, تعود إلى بيتها تتحسر لأن العمل لم يترك لها فرصة الذهاب لزيارة جارتها بل لأنه أنساها تماما أن فايقة مريضة منذ يومين .. استفاقت مريم من حسرتها على ضيق الوقت , دلفت بعجلة إلى الحمام, سكبت جردل الماء البارد على جسدها الذي انتفض, ثم أسرعت في لبس عبايتها .. كان خادم في وسط الدهليز ينادي عليها … تحسرت من جديد وهي تكور جسدها في »غمارة« البيكب لأن بقرتها ستظل دون حلب ذلك اليوم ولأن زبائنها الذين سيسألونها عن الزبدة واللبن سيعودون خائبين.. انطلقت البيكب كالريح مع نسمة الهواء الآخذ في الرطوبة إلى سوق السمك بمطرح
خالد العزري قاص من سلطنة عمان