عبدالرحمن السالمي
باحث عُماني
لا خفاء أنه لو أدرك كُتَّاب السِّيَر والتراجم في الأدبيات العربية الإسلامية الكلاسيكية البرازيلي ماركو لوتشيسي لصنّفوه ضمن فئة “الجوّالة” و”الرحَّالة” و”السُّيَّاح” ومن مشاهير أدب الرحلات الصوفية. وكتابه هذا -الموسوم باسم “عيون الصحراء”- يشهد لصالح هذا التصنيف؛ إذ هو “مذكرات رجل سفَّارة” دُوِّنت على فترات متراخية من الزمن، وشملت أقطارًا من العالم العربي وبلدانًا إسلامية متعددة متنائية. كتاب هو أشبه شيء يكون بتقليد في التأليف العربي سمي باسم “التذكرة”؛ إذ هو “تذكرة سفر” بالمعنى القديم للفظ “التذكرة”؛ أي بمعنى ما يُدَوِّنه الرحالة من “يوميات” شاهدة على الأماكن التي زاروها.
ففي تقديم الكتاب، أشار المقدم إلى سمات تأليف ماركو لوتشيسي الجوهرية. وأولها؛ طابع “الفرادة”؛ إذ الرجل نسيج وحده في التأليف. وهو مؤلِّف فريد في الأدب البرازيلي المعاصر. ويكمن وجه فرادته على الأقل في جانبين: الندرة في النوع والجرأة في الطرح. وطرحه يتناول “متاوه الحياة” ودروبها “المنعرجة”. وثمة عنده يلتصق الأدب بالحياة التصاقا، وذلك حتى يُخيَّل إلى قارئه أنه يلغي الحدود المصطنعة والغائمة بين الأدب والحياة؛ إلى حد أنه يسوغ القول فيه ومعه: “إنما الحياة الأدب”، والقضية تنعكس أيضا :”إنما الأدب الحياة”. ومقتضى ذلك رفض المعرفة التي من شأنها أن تُختزل في المعرفة بالكتب وحدها. وكأننا ههنا ننصت إلى مفيستوفيليس، في مسرحية جوته (فاوست)، يخاطب فاوست: «رمادية يابسة هي يا عزيزي كل نظرية، وخضراء يانعة هي شجرة الحياة الذهبية». على أن الفارق بين الحالين يكمن في أن تلك العبارة كانت من إملاء شيطان على إنسان، وهذه من إيحاء إلهي إلى كاتب: “وفي السفر حياة”، و”إنما الحياة السفر”.
وثاني السمات، أنه على قدر قشافة حياة الصحاري البدوية يأتي أسلوب الرجل المتجرد، الصاحي غير النشوان، مازجا في ذلك بين الشعرية -أو بالأحرى الشاعرية- والنثرية، مؤلفا بين شعر الكتابة ونثر الحياة على حد تعبير الفيلسوف الألماني هيجل. والحال أن هذا الأسلوب في الكتابة هو ما يجلب إلى كاتبه أنسة من القارئ وألفة، ويزيل عنه غرابة وغربة. يجد في الصحراء إثارة: كإثارة في صحبة أنثى.
وثالث سمات كتابة الرجل أن المؤلف -وكما كان القدماء يقولون- “صاحب ليل”، عوالمه ليلية لا نهارية، يلتحف عباءة النجوم في السديم اللانهائي. وهو أيضا صاحب “ذكرى حنين”؛ إذ الشأن في ما يحرره أنه يحيي به الماضي في ما يكتبه، ولا يجعل من هذا الماضي المدوَّن أبدا “حرفا ميتا”. ولسان حاله يقول: كلا؛ ما دفنا الماضي، إنما الماضي موصول الحياة بنا دوما وأبدا. وعلى نقيض من يعبد اللحظة الحاضرة العبادة، ويسعى إلى وأد الماضي الوأد، فإن ماركو لوتشيسي لا ينسى الماضي بداعي “الحينونة”؛ أي العيش في الحين. وإنما ذاكرته أوفى ما يكون إلى ما شهده وعاشه. وبهذا يمسي كأنه لسان حال الدهور، ومربي أجيال المستقبل: إن لفي الماضي لعبرة لنا.
ورابع سمة لفكر الرجل، أنه يبقى وفيا لفكرة تورتليانوس المؤسسة للنزعة الإنسانية: “إنني لإنسان، وما شيء في الإنسان بغريب عني أو بمستوحَش لي”. وكذلك هو لوتشيسي في تأمله لاختلاف البشر باختلاف الأماكن التي تردد عليها: كلا؛ ما كانت اختلافاتنا في العقائد هي ما يهم، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، إنما نحن بشر قبل أن نكون أي شيء. وحق الانتماء إلى البشرية متقدم فينا على حق أي انتماء آخر. ولذلك يمثل في كتاباته وجه المسيح ووجه محمد ووجه بوذا ووجه فيثاغورس. أي وجه البشري فينا والإنساني المتقاسم بيننا والآدمي المتشاطر في ما بيننا البين. على أنه قبل أن نلقى الغير، علينا بدءا أن نلقى أنفسنا. فَلَئِنْ أنا عَلِمت من أنا، فإني لن أتوجس آنها من “أنت” وممن تكون “أنت”؛ بحسب جدلية “الأنا” و”الأنت” في كتاب الفيلسوف مارتن بوبر -كتاب: الحوار: أنا وأنت- الذي لطالما استشهد به لوتشيسي… وأدل دليل على هذا التمازج ما يحدث في كتاب لوتشيسي من مزجة بين الألسن، بل ومن “تآخٍ” بينها: البرتغالية والإيطالية واللاتينية والألمانية والفرنسية والعربية والتركية والفارسية… هي الألسن التي الشأن فيها ألا تتلاغى التلاغي، وإنما أن تتمازج التمازج. تتقلب مزاجاته اللغوية بالروح الصوفية المتعالية كمريد، مستمعًا لأناشيد الدين العطار في منطق الطير حيث تلتقي كل الطيور بأجناسها ولغاتها نحو شجرة الخلد. وهذه الروح الألسنية المتعددة تمزاجٌ بدعابات فلسفية كترنيمات محيي الدين ابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طـائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني.
**
فمنذ بدئه الكتابة، أبدى لوتشيسي عن أنه رجل محب للحكمة، أينما كانت فهي ضالته؛ بحيث لا حدود عنده بين الثقافات ولا حواجز بين الحضارات. وما كانت الحكمة التي نشدها حكمة الكتب في الكتب للكتب، وإنما هي حكمة الحياة في الحياة للحياة. هي الحكمة الحية التي تشبه اللحم الطري، وليست الحكمة الميتة التي تشبه القديد، على حد عبارة الصوفية التي يستحضر شعراءها في كتاباته. وما كانت هي حكمة للتملك والاستئثار، وإنما هي حكمة للمشاطرة والاستثمار. وما انطبق على ما تم به توصيف مذهب أبي العباس السبتي من أنه “وكان مذهبه المشاطرة” إنما ينطبق أيضا على لوتشيسي. فما يهم عنده هو أن نتحرر من وطأة التاريخ -العقدي- وأن نخرج من الإطارات الضيقة العطن إلى فسحة الحرية الواسعة الأفق. أَوَلم يقل الفيلسوف الألماني نيتشه: “عادة ما تكون القناعات سجونا”؟
ولأهالي الفيافي حكمة علينا أن نستأنس بها، وأن نأنس لها. إذ توحي معاشرتهم إلينا بأنهم بقدر ما يفتقدون إلى النظرة الموضوعية المتجردة -على خلاف أهل الحواضر- فإنهم يزدادون روحانية وعمقا: بدو، بربر، شيوخ، ديرانيون، رهبان، فلاسفة، صوفية، سكان أقطار مختلفة وأزمان متباينة، كيفما كانوا، لكن الفيافي وحَّدتهم: الأب ورجيه جنبا إلى جنب مع المعري والشيخ كرم وفريدالدين العطار والحكواتي أبو شاكر، والشاعر طالب هلباوي… ههنا يختلط الديوان الشرقي بالديوان الغربي: الرومي ونوفاليس. وفي هذه المزجة العجيبة، نجد ما لا تعلِّمه المدارس الغربية المهتجسة بالتراث الغربي، المعتادة على طغيان فكره القديم، بينما الأوبة مبدأ الإسلام: “قشفة هي العربية قشافة الألمانية، لكنها لبقة لباقة الفرنسية، مرنة مرونة الإيطالية، هي لغة حنين إلى الشيء العياني. لغة يتلاقى فيها العالَم والأبجدية، في تناسج للحروف؛ تتناسخ الجماليات في أبعاده حيث يشكل فن الخط العربي إلى ماهيات مشكلة على شكل نمر أو شكل طائر …” لما هو سأل الغزالي -في منامة للمؤلف- أي الأسماء أحسن، قال: عبدالجميل. وكذلك العربية هي لغة الجميل. كلا؛ ما كانت الصحراء فيض عيون ونواظر تسهر على أرباب غير مرئية، لكنها كلمات جميلة تعمّر صفحة بيضاء …
بالجملة، هذا العمل تلخيص لسالف ما كتبه المؤلف، واستشراف لمستقبل ما سوف يكتب: وهو مزيج عجيب من الخاطرة الشعرية، والاعترافة الخاطرية، والمروية الظريفة، والمقالة الوجيزة، والتهجين بين اللغات المختلفة. والشخص الرئيس في هذا الكتاب هو الصحراء، هو البراري، هو القفار. وحيثما يُظن أن لا أحد يرانا في القفار، فإن الكاتب يرى أن ثمة عيونا منبثة في كل مكان ونواظر ناظرة مستطلعة -ومن ثمة اشتق عنوان الكتاب: عيون الفيافي أو نواظر الصحراء- على أننا لا نبصرها الإبصار، وإنما نستشعر وجودها فحسب ونحس بحضورها المستتر. وفي كذا بيئة، لا توجد أجوبة وإنما تنقدح الأسئلة وتنطرح. وذلك بما يجعل من هذا الكتاب كتاب أسئلة بالأَوْلى. وقد حق فيه ما قاله المفكر الشاعر إدموند جابيس: “إسمي سؤال”، وكذلك يمكن للوتشيسي أن يقول: “كتابي سؤال”. وقد كتب المؤلف يقول: “إنما الصحراء بدء الحياة”، ولا يحتاج القارئ ههنا إلى كتب هدايات في الجغرافيا أو مراشد في التاريخ، وإنما يحتاج إلى حس شاعري وحسب، من شأنه أن يشرع له الباب على عالم بدئي وساحر، وبقدر ما هو ساحر فهو ممتنع عن التحديدات ومُتَأبٍّ عن اليقينيات؛ بحيث ينتقل بنا المؤلف من صحراء البربر والطوارق غربًا إلى صحاري الخليج شرقًا، سائرا غاديا رائحا جائيا بين الغرب والشرق: من موريتانيا والمغرب إلى عَمّان والخليل والقدس ودمشق وبيروت، ومن لشبونة إلى قصر الحمراء، فإلى جزر إيجه، وإلى مياه الإسكندرية. وبهذا يتم إلغاء الحدود بين الشعوب والثقافات، بين الحلم والواقع، بين الحياة والموت. وفي هذا كله تنبدي “هشاشة الإنسان”، أَوَما قال محيي الدين بن عربي -وقد استشهد به لوتشيسي- ما كنا سوى حرف عابر سرعان ما سوف يؤوب في يوم من الأيام إلى المداد الأصلي الذي تولد عنه؟
**
مدار هذا الكتاب في بدايته في فصله الأول على “محو الوحدة”. والحال أن المؤلف يخبرنا أنه يتم التغلب على العزلة في الفيافي بالتوق إلى التعرف على الإسلام الذي يصفه بدين الجاذبية، وإلى اللسان العربي الذي يسمه بالقشافة والوداعة في آن، وإلى الخط العربي الذي ينعته بالشديد التعريجات، والذي هو أشبه شيء يكون بأزقة دمشق المتعرجة وهضاب شنقيط الرملية. ولا يخفي المؤلف تعلقه بالقاهرة وإسطنبول وفاس ونواكشوط. وقبلها، بالقدس في تناقضاتها؛ تلك المدينة المقدسة بأقداس ثلاثة؛ متعلقين بمخيلة الخلاص الأبدي من شرور الحياة حيث ينتظر اليهود رجعة المسيح، والمسيحيون رجعة عيسى، والمسلمون رجعة المهدي. وذلك بما يجعل شعلة الرجاء أبدا منقدحة في النفس انقداحا. والرجل واع بأنه إنما هو رجل شأنه أن “يفلح الحوار فلحًا ويغرسه ويزرعه”. وما كان الحوار عنده سوى نسج الأواصر التي تقرب بيننا البين. وذلك شأن جمعه بين كتاب البهاء للمفكر الصوفي الألماني سيلسيوس، والمثنوي للحكيم الصوفي المسلم جلال الدين الرومي. وفي الأخير، نكتشف أن “مؤنس الوحيد” في وحدته إنما هو تدوين ما عاشه في أسفاره.
وقد تعلق الفصل الثاني من الكتاب بما سماه المؤلف “دفاتر السفر”. وقد افتتحه باقتباسات متعددة المشارب: ميرتون، باشلار، إبرهارد، باسكال، المعري، جوته؛ ابدأ باقتباس للكاتب كارلو كاريتو الذي يدعو من يقتني له خريطة سماء (لا خريطة غيب، وإنما خريطة نجم)، حتى يتمكن من تمييز الكواكب، لأنه يتعين عليه أن يسافر ليلا، وفي السفر في الليل تكتسي الأنواء التي يهتدي بها رعاة العرب أهمية بالغة، لذا كان من الضروري الدراية بها. وثَنَّى باستشهاد آخر لكارول ديلاني؛ فهي لا تؤمن بما كتبه التوحيدي “الحج العقلي إذا ضاق الحج الشرعي”، وإنما تلاحظ أن الحج الغربي حج إلى المستقبل، كما لو كانت الحياة نفسها حجًا موصولًا، بينما الحج الإسلامي أوبة إلى الأصل. وثلَّث بما خطه شاتوبريان: “إنما قسم كبير من صفحاتي دونتها البحار والفيافي”. كما يتذكر المؤلف اتخاذ العرب للرب رفيقا في الصحاري. ويذكر توْق ماسينيون الشديد إلى فهم الإسلام والتمكن من تملك روحه بأي ثمن كان. وينقل عن محمد بن سيرين أن من رأى النجوم تسقط في الفيافي، فإنما هو فار من أعدائه، ومن رآها تحيط به فتلك أسفار قادمة. ثم يعقب على ذلك بمناجاة شاعرية كأنها منامة تدور على امرأة اسمها ليلى -وقد اشتُقَّت من الليل، باعتبار المؤلف صاحب ليل بلا مدافعة- مقرنًا سواد الليل بالسوداوية الناتجة عن الهجر والفقد، وكأني به يُحيي بذلك تقليد الشعر العربي في زيارة طيف الخيال.
وفي ثالث الفصول، المعنون: “بيروت في أنقاض”، يبث الكاتب شكواه بما أمضّه من حرب بيروت الأهلية. والفصل بمجمله بمثابة مرثية لهذا البلد المحترق، وحديث حنين وشجي عن “وحشة بيروت”: بيروت الأبواب المفتوحة، أزقة بيروت، قصر بيت الدين، جامعة القديس يوسف، دير الأراضي المقدسة. ويذكر المؤلف أنه طالع معظم تآليف المستشرق الفرنسي ماسينيون عاشق الشرق، وأنه تمرن على التركية والعربية والفارسية. وقد مارس حياته وكأنه رجل جُن جنونه. لكن في البداية، بدا له كل شيء غريبا موحشا: بيروت، قرب المطار، ميدان حزب الله بدباباته المهترئة، عمارات الوسط التي تعكس الفن الشرقي الحديث وتحمل ندوب الرصاص… لقد أصابت حرب ضروس بيروت في مقتل، لم تُجَنَّبْ فيها الكنائس ولا الجوامع، وباتت صوامعها الجريحة شاهدة على أنها كانت حربا بلا هوادة. تركت هي ندوبا أشبه شيء تكون بلوحات بيكاسو: “إنما جسد بيروت هو جسدي”. وقد راحت بيروت ضحية حسابات سياسية دولية كبرى. ومما زاد الطين بلة أن سعى البعض إلى تحويل مخيمات الفلسطينيين إلى أشبه ما يكون بحديقة حيوانات، وفيها اختلطت كل النحل والملل، وفيها قام النهب والسلب والتطهير العرقي على قدم وساق… ثم يستحضر المؤلف مقامه في دير الأرض المقدسة بالغرفة 4، وكان هذا الدير، بالقياس إلى محيطه، جنينة جميلة وسقاية رائعة وأشجارًا باسقةً وفضاءً شاسعًا للنزهة… ثم يتذكر هو وجوها لاقاها؛ شأن شيخه لويس الكاره للطائفية الهاجر بلده صيدا وما العائد إليه… ويذكر بسط الكراهية سلطانها ضدا على التسامح والاختلاف… كما لا ينسى أن يذكر بُدُوَّ الأمل الضعيف من فوق الأنقاض… وشأن العجوز الأب روجيه الذي يعرّف نفسه بكونه الرجل المعتكف، هو الذي لا يعلم أية لغة شرقية، ومع ذلك ينسخ بأناة التوراة العربية.
وفي هذه الغرفة أغرق المؤلف روحه بالانكباب على اللغة العربية، وفي شارع الحمراء ضيع نفسه بين المكتبات، ووقع في عشق أحياء المسلمين. والحال أن مدرسته التي تعلّم منها أعظم شيء كانت هي الشارع؛ حيث التعارض بين ألوان من المعمار، وحيث المقاهي وشاربو الدخان، وحيث تقرأ نصوص الأدب العالمي، ومنها نصوص دانتي والتروبادور اللذين خبرا من العرب أسرار الحب العذري، وحيث كانت تُلعب الموسيقى العربية والغربية على حد سواء. ويأسف لضياع هذا التراث الحي؛ حيث انطفت جذوة النواحي واختفى القراء على عجلة. ومع ذلك، لا يكف عن إبداء رجائه في آفاق أفضل. وفي قرية بِشَرِّي أذري رماد خليل جبران. وهو الذي يذكر الإنسان بأحاديثه الرائعة عن السلام؛ حيث يحضر المسيح ومحمد وبوذا وفيثاغورس من على المشارف التي بنيت بها كنيسة. إنما شأن التسامح أن يتولد من الوضوح الأكمل، وإنما الانقسامات مقدمة إلى انحلال البشر.
وفي الفصل المعنون “موريتانيا” يتذكر المؤلف نسيم الأطلسي ونَفَسَ الفيافي والجلبة الكامنة في نواظرها العميقة الغميقة، والقمر وقد تجلبب بجلباب عتيق وهو يطل من أعلى منارات، وكما وجد كلود ليفي ستراوس في سفره “المدرات حزينة”، وجدها هو “منارات حزينة”. ثم يتذكر عواصف الرمال وهبّتها وسكونها وكيف تنقد هي بلاد شنقيط من رتابة التشابه وسآمة التماثل، وكيف أن وجوه أهل شنقيط تتصادى مع الجسد الأجنبي. ثمة بحار ورمال، رمال لا زمنية، تبزغ منها واحات هشة لا تبالي بأمر أوبتها من حيث أتت؛ أي من المهواة العميقة التي تخلّقت عنها، ضحية في ذلك للتاريخ الأب الذي لا يغفر لأولئك الذين يهجرون دواخله الرملية ويقاومون بعناد زوابع الهواء التي تكنس أبدا هذه الهضاب العظيمة… الله ههنا أقرب من حبل الوريد. وهنا الرياح أبدا في ثوران لا تتوقف، وكذلك هو الزمان والهضاب الرملية يتحركان أبدا… رمال تتولد عنها النقائض: السكينة واليأس. والبربر إنما هم أشبه شيء يكونوا بقيثارات تداعبها الرياح. وطائر السيمرغ الأسطوري ساكت…
والحال أن القفر مسكون بأشياء متناقضة: العفاريت والسفاحين، السراب مصدر الوهم، المتاهات، الوعود: يسكن فيها ظل سوداوي. البيداء مضللة مُشبِّهة متوِّهة. ومع ذلك يقر المؤلف أنه ليس يمكنه أن يحيا اللهم إلا فيها، إذ ثمة جاذبية لا تقاوم لهذه الأجواء الانعزالية: ثمة فرح في الهضاب الرمالية، وجه متموج، دم على الرمال، موت ينظر إليك الناظر إلى الناظر والعين إلى العين، نداء يلوح في الأفق، طائر مشؤوم يتبدى لكن تغريدته تمنح الأمل للإنسان بقدر ما تدهشه، إرث ذرته ريح…
ويعود المؤلف عودته المتكررة إلى موضوعه المفضل وهِجِّيريه: الوحدة والعزلة. يقول بهذا الصدد: “أنا أتفهم عزلة الطوارق ووحدتهم وانقطاعهم عن الخلق”؛ هؤلاء القوم الذين يحيون عن الزمان بمبعد، وأولئك الذين يعرفون الوجه الآخر للعيش، الشعراء القَشِفون جوّالة الأفق الذين يتيهون عند غروب الشمس، والشعراء الصوفية الذين لا رفيق لهم سوى الرب، والظلال القاتمة في المنظر الأحمر. على أن هذه القفار ما ملكها رهبان مصر ولا سورية، وإنما يعبرها البربر، وهم لا يعرفون شيئا عن شفقة الرهبان الدَّيْرانيين -نسبة إلى الدَّيْر- ولا عن حزنهم، ثمة قوانين أخرى تحكم رمال الغرب، كل شيء فيها حر، كل شيء خالص، كل شيء أشد قسوة.
وفي فصل «شقيقي القفر» يؤوب الكاتب من جديد إلى الحديث عن القفر والنجم والليل. إذ القفر عنده إنما هو “ملجأ ووعد”. يسرد ذكرياته عن النبك وعن استضافته فيها وعن رفقة الأخ الدَّيْراني دومينكو وجولته بل وتيهه وعزلته: “أنا أنتمي إلى هذه الصخور كما أنها تنتمي إلي”، “أنا في ملك هذه الصخور، كما أنها في ملكيتي”. بلا ماض، بلا عشق، إنما الصحراء بداية حياة. كل ذلك بدأ من هذه الصخور، وأسلافه انحدروا منها، لكن ما يهم هو التحرر من عبء التاريخ: من الانتماءات الجامدة والعقائديات القاتلة والهويات الساكنة التي تنشأ عنها الكراهيات والأحقاد والإحن على الغير المخالف.
ثم يحكي عن زيارته إلى الدير: الدير محل الأمان ووجه الأم والبحر معا… هو مكان في لا مكان… لكن بابه أبدا مفتوح مضياف… بين قفرين: قفر الأحجار المسيحي، تلك الأحجار التي جمعها الرهبان الديرانيون المتعطشون إلى ما لا سبيل إليه، من جهة، وقفر البدو والإسلام حيث أبدًا تثور الزوابع الرملية… يحل المؤلف على الدَّير ضيفا، لا على القيّم على الدير حقيقة، وهو الأب باولو، وإنما على مشروعه في الجمع بين ماسينيون وغاندي وشارل دو فوكو. وهو يخاطب الديرانيين بلسان عربي: «شكرا إلى أبونا بولس، شكرا على استقبالك». ويحصل على غرفة شارعة على الهاوية، ويمضي سحابة يومه بين حلب الماعز وإعداد الجبنة وإطعام الدجاج والعناية بكلاب الحظيرة. ثم الانهماك بالمكتبة على أعمال التصوف المسيحي والإسلامي، وفي الخارج ما ثمة سوى زوابع الرمال.
ويخبره الديراني أنه إنما كان مسعاه إلى البحث عن وجه المسيح في الإسلام؛ حيث الأهالي يحيون حياة عفة وقد استعدوا إلى استضافة الغير مهما كان اعتقاده، وحيث يعتبر الضيوف سفراء الرحمن… إذ ما كان الدير في القفر سوى نور يلوح من بعيد، ومرحلة في طريق طويل، ومشعر من مشاعر حج يحل فيه الزائر ضيفا على الرحمن. وفيه يتضامن أهل الملل والنحل في الصلاة من أجل رحمة الفقراء، ويجمعون الزكوات من المسلمين، وهم ينتظرون عودة ابن مريم إلى القدس، شاكرين كرماء الإسلام على التنويرات التي يجدونها في القرآن، ومواسين أنفسهم على الرفض الإسلامي للحقيقة التوراتية، مستعملين في ذلك كله اللسان العربي رسالة وهوية روحية، ومصلين بحسب طقوس الصلوات الشرقية بترانيمها وركعاتها المعروفة.
ويتناول الفصل السادس -الموسوم بوسم: “كتاب العالَم”- مسألة اللسان والكتابة والخط. ويفتتحه صاحبه باعتراف: “إنما اللسان العربي أحد أجمل الألسن، وإحدى البوابات الشارعة على المقدس”. واللسان العربي، بحسب شهادة ماسينيون، لا يعاني من فقر الدم الذي أصاب الألسن الحديثة في مقتل. هو لسان يجمع بين قوة الحديد وبهاء البلور. ويفضي إلينا المؤلف بإفضاءة: إن شغفه إنما بدأ بالخط العربي؛ حيث بدت له اللغة العربية جِلدا يغطي عري الكلمة برداء صفيق صفاقة ربط حذاء، شفاف شفوف حرير، خشن خشونة جلد بعير، حاد حدة سيف، منعرج انعراج أودية. وكلمات العربية خادمة للوحي. وهي تتآلف تآلف الكواكب في السماء. والرب خطاط الكون، والنون هي ما غرف منه الرب الحبر السماوي. وقد نشأ العالم نشأة عن الحروف، وخط الرب حياتنا خطًا. ذاك كان من المؤلف تأملا روحانيا في الحروف على طريقة الصوفية والشعراء؛ حيث يعد الرب أول شاعر كتب كتاب العالم. لكن، عند المؤلف، أن الحروف لا توجد وجودا راسخا، وإنما ما يرسخ هو الحبر الذي كتب به الرب كتابه الذي لا تنقضي عجائبه وتآليفه. إنما شأن الحروف أنها هشة، وأنها متلاشية لا محالة. وعند ابن عربي، ما كنا سوى حروف جليلة، ما تم تهجِّيها بعد، في سماوات غياهب الغيوب. وإذا ما نحن كنا متفردين بذواتنا، فقد كنا من قبل نسكن في الحبر البدئي. أما اليوم، وقد تشكلنا حروفا، فإننا لا محالة أوابون إلى أصلنا.
وقد واصل المؤلف في الفصل التالي -الموسوم باسم «أسرار الاسم»- التأمل في اللغة العربية وفي الاسم. وافتتح فصله بالحديث عن حبه التجوال في أزقة دمشق وطرابلس والإسكندرية، وهي مدن باتت تنسى نفسها وقد أُخذت هي بأوروبا أخذا. ويمضي في وصف كشوفاته بالمدينة العتيقة في دمشق: سوقها، قبابها، فسيفسائها، ثم مسجد حلب ومناراته… ويستعيد ذكرى ليلى التي ما عاد اسمها يشي بالليل، وإنما عاد نورا، وما بات شمسا وإنما سماء. ثم يذكر الحج الإسلامي، وكيف يكون بالنسبة إلى المسلم حياة، وأن معناه الأوبة إلى الأصل، وكيف أننا كلنا حجاج نسعى إلى الرب. وفي هذا المقام يرى منامة للغزالي: يرى في ما يراه النائم كأنه يقترب من شيخ متعمم عمامة حمراء، جالس جلسة زهرة لوتس؛ فإذا به الغزالي. ويدهش المؤلف ويتولى فيناديه الحكيم الصوفي الفيلسوف: “مه”، وقد أقر المؤلف أنه كان قبيل أيام قد أنهى قراءة كتاب الغزالي: “المنقذ من الضلال”. وقد استغرق الحكيم الصوفي في البحث عن اسم يصف به حال المؤلف، لكنه لاذ بالصمت بداية ولم ينبس ببنت شفة، بل أشاح بوجهه قليلا ولاذ بصمت غريب. لكن الفرج أتى بعد الشدة: إذ التفت الحكيم الصوفي إليه أخيرا كما لو أنه أراد أن يسر إليه بسر. وأخيرا نبست شفتا الغزالي باسم السر: عبدالجميل. ها قد صار المؤلف يدعى “عبدالجميل” هو “الحاج” لأن المؤلف يعتبر نفسه حاجا: حاج في كتاب العالم. ويفضي إلينا الكاتب بأنه يعشق كل شيء مغاير له، كل أمر بعيد عنه غير نسيب له، كل ما لم يتحقق بعد؛ هو ذا الجميل، وهو جمال مرتبط بالحج أبدا. ها قد بات اسمه الكامل لا ماركو لوتشيسي، وإنما الحاج عبدالجميل. وكان الغزالي على حق: الجمال ينقذه، وهو مهتجس أيما اهتجاس بالجمال. كما أنه أميل إلى قول رابعة العدوية: إلهي، ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، وإذا ما كنت عبدتك من أجل الجنة، فاللهم احرمني منها، وإنما عبدتك لذاتك، فلا تحرمني من جمالك.
وفي فصل “يوميات” يفضي المؤلف إلينا بأن الفيلسوف السويسري هرمان هسه هو الذي حبب إليه الشرق. وما صدمه اكتشاف الشرق، على خلاف دوستويفسكي. ولا هو زعزعه، على شاكلة كلاريس. ولا أضر به كما أضر بنيتشه. وإنما وافقه اكتشاف الشرق واستجاب إلى قلق داخلي في ذاته، وصادف هوى في نفسه فتمكن منها. وذلك إلى حد أن الكثير من الفصول التي كتبها هسه عن الشرق كأنه هو الذي خطها. وها هو الآن يقيم في عمّان، وها هو يقوم بزيارة إلى القلعة وذكرى جيبون واضمحلال الإمبراطورية الرومانية يراود خلده. وها هو يطالع تآليف الغزالي وابن عربي ويعلق منها تعاليق. وما هو بشيء أكثر من مدمن كتابة هوامش على مشاهده ومتونه. وما هو أكثر من سحابة كتب وأفكار تتجالب. وها هو يتدارس الفارسية. وها هو يحن إلى البرازيل، ويذكر أن الشرق مُتَطَلِّب بأشد ما يكون التطلب. وها هو يهجر النوم جفونه فيطيل الشكوى من هذا السهر. وها هو يزور أرض فلسطين ويبدي المرارة الممزوجة بالدهشة. وها هو يتأمل في صلاة المسلمين فينشئ قائلا: يصلون واقفين وقوف شجرة، جاثين جثو إنسان، راكعين ركوع حجر؛ فيعبرون بذلك عن الممالك الثلاث التي خلقها الرب -مملكة الجماد ومملكة النبات ومملكة الحيوان- في بعد واحد.
ثم يورد الكاتب شذرات حول غاندي وطاغور والقفار وماريكوني والقبالة وفرويد وبنيامين وشوليم وزملر، والمعري والرومي، مستشهدا ببعض أشعارهما، ويتأمل في العدم وجماليات الوحدة والعزلة والدوار، وحول مشاهدة أثر الرب في الكون. ثم يدوّن خاطرة عن الشيخ النفزاوي صاحب الروض العاطر في محاسن المرأة، وعن كتاب ساشيرو موراتا ووليام شتويك -كتاب: رؤية الإسلام- وتصورهما لغفران الرب لآدم أول الأنبياء وخليفة الله في أرضه؛ بحيث لا توجد خطيئة أصلية في القرآن. ويقارب المؤلف بين الشعرين الألماني والعربي في تغنيهما بالليل، وهو رمز لما لا ينقال ولما لا ينعبر، ويرى أن كليهما متأثر بالأفلاطونية المحدثة. وهو ما يعكسه كلام نوفاليس وريلكه عن السر، وحديث المعري عن ليل العذاب.
وفي فصل “الموت في العيون” يورد المؤلف خواطره في الحياة والموت والعالم من وحي مذبحة صبرا وشاتيلا. ويتأمل في ما يمكن أن يفعله الإنسان -إنسان الكراهية والطائفية- بالإنسان، واضطهاد المنبوذ وتحميله مسؤولية كل ما يقع له. ثم يذكر مستشفيات المنطقة وتسمياتها الحانَّة إلى أرض فلسطين في دلالة على بقايا حلم العودة. ولا يتردد في مقارنة ما حدث ببريكناو وأوشفيتس والبوسنة. ويعرض إلى ما عاناه الجرحى والمرضى والمصابون، وإلى الخراب الذي حل بالمنطقة، وإلى عالم أطفال المخيم. ويتحدث عن كرامة الإنسان المهدورة.
وفي الفصل اللاحق الدائر على “الانتظار” -وهو أشبه بانتظار الموتى منه بانتظار الأحياء، أو بالأحرى انتظار الأحياء الموت وانتظار هؤلاء الحشر-، يبدأ الكاتب بالحديث عن استيقاظه ذات صبيحة في دمشق وزيارته مقبرة باب الصغير، ويروي قصة أهل الكهف كما وردت في القرآن، وكأن حاله من حالهم. ثم يعود إلى الحديث عن المقبرة وشواهد القبور وطقوس الدفن الإسلامية وتصور المسلمين ليوم القيامة… ومقام القبور عندهم ودعاء زيارة المقابر.
وفي فصل “جالوت، الأرض الموعودة”، يواصل المؤلف سرد خواطره عن دير القديس جورج، ثم يفترض أنه إذا ما سد الدير بابه انفتح له باب التفكير في السفر إلى عُمان واليمن. وينشئ مناجاة مخاطبا الدير، شارعا بوابة السفر أمام “قفار جديدة وموانئ جديدة” سوف تفتح أبوابها إليه عاجلا أم آجلا. ثم يشير إلى غواية الخليل Jericho و Judée له بالزيارة، وكذلك القدس. وشأن القدس أنها البلدة التي تغفو ولا تغفو حقيقة وإنما تنتظر: ثمة الحاخام ينتظر المسيح، وثمة شيخ يتلو صلواته، وثمة ديراني فرانسيسكاني يسهر على قبر يسوع… وسرعان ما يغادر المؤلف مدينة القدس إلى الصحراء. وفي الصحراء يشرب القهوة في خيمة بدوي يهديه السبيل. ويدرك أن تلك الأرض مضمخة بالدم والتاريخ، وبصراخات الأنبياء وصمت الإله. فإلى أريحا، حيث يلمح دير القديس جورج بعد اثني عشر ساعة قضاها عابرا القفر. ويتذكر القدس بوصفها مدينة الانتظار: مدينة صعود المسيح ومعراج محمد، مدينة الهوة، المدينة التي تمزج بين السلم والقلق، والمدينة التي ما تفتأ تحيا على الانتظار، وهي المعلقة في انتظار المسيح ويسوع والمهدي. والحلم بالأرض الموعودة يقتضي اليقظة. كل شيء يمكن أن يطرأ في رمشة عين: أجراس، مزامير، مؤذنون، كلهم يدعون إلى المخلص: “يا هؤلاء، كونوا كرماء مع الاختلاف… اعترفوا بإخوانكم”.
وفي فصل عقده المؤلف تحت عنوان “شيخ جُبَيل (بيبليوس)” يورد ذكرى لقاء جمعه بالشيخ الأزهري قسوم بجبيل وحوارهما الذي دار عن الإسلام والأديان، ويصف ما عاينه لدى شيخين آخرين من شعائر الوضوء الإسلامية في المسجد، ومن طريقة أداء صلاة الجمعة. ثم يصف خطبة الشيخ على المنبر، ويذكر سجايا الخطيب وطريقة خطبته، ويرى في خطب الإسلام أثرا من آثار طريقة إيراد الحجة والبرهان على شاكلة ابن سينا والغزالي في الاستدلال على قضايا الإيمان وفي الحض على الحج. ويذكر فكرة جلال الدين الرومي القائلة بأن كل الطرق تؤدي إلى الكعبة: من بيزنطة وسورية وفارس والصين والهند واليمن، حتى ولو هي اختلفت الطرق. ويؤكد أن طريقه هو إنما إلى الكعبة وقد سلك إليه من مسلك رومية والقدس، ويعلن توقه إلى الكعبة، ويقر بعظمة الله، إله كل أولئك الذين ييممون صوب كعبة القلب الداخلية، إلى روما الجوانية، كل أولئك الذين يسعون إلى الخير، سائر أولئك العطشى إلى الجمال، أهل الكتاب الموحدون مهما تباينت الأبواب التي طرقوها: أكانت فرقانا أم توراة، جملة أولئك الحالمين بالكتاب الجامع للكتب، ومصحف المصاحف، الباحثين في المياه المضطربة العكرة عن بوصلات الجمال.
ثم سرعان ما يعود -على عادته في الكتاب برمته- إلى نجواه المفضلة: ليلى، مناجيا إياها عن الرموز والأحلام والرياح والكنوز والبحار المضطربة والناجين منها والأسفار والمهاوي والسماوات وما حوت والزوابع والعزلات… ويتحدث هو عن رؤى الجمال والكلمات والخطوط بحسب التقليدين الخطيين الإسلامي والقبالي اليهودي…
وفي فصل “نشازات” يشرع المؤلف في الحديث عن صلته بالمهاوي وبالمتاوه وبالمطاوح، ويستجمع شجاعته للإفضاء إلينا بما يلي: “كلا، ما أنا بالذي تحاشيت المتاهات يوما من الأيام، لأنه لربما بعبور المتاهات قد أُدرك اللانظام الذي يسكن بداخلي وأعي به تمام الوعي”. ويعقب قائلا: “أملك قوة حياة لا تخونني، وإنما يبدو أحيانا أنها تسلمني إلى المجهول”. ويعود إلى الحديث عن ليلى عشقه الأبدي: الهدايا التي يرتئي أن يهديها إليها، العشق الذي يكنه لها، الحنين الذي يشعر به تجاهها. إذ ما تفتأ ليلى تعود العودة في الكتاب برمته، هي هِجِّيراه؛ أي موضوعه المفضل. تعود ليلى عودة الليل نفسه. وقد ظهر أثر طريقة الغزل العربية واضحا في غزله بليلى. ثم يعرج إلى الحديث عن مشاعره المختلطة تجاه القفار: هي محبوبة مخوفة، مرغوبة هي مرهوبة، فظيعة رائعة، معذِّبة مُلذَّة، نائية قريبة، شعرية نثرية، موحشة مؤنسة، مملة مؤلِفة، ممضة عذبة، معتمة منورة، ميَئِّسة مُرَجِّية …
وفي فصل “مقهى نوفارا” يعود المؤلف ههنا إلى بسط “فلسفته في الوجود” القائمة على توليفة خاصة بين النقائض. أساس الوجود أمران: الرحمن والشيطان، الحب والموت. كل شيء منير في ظلمة ليل القفر. ما من شيء إلا وهو خطير وموحٍ في آن، مانع ومانح. ثم يعود المؤلف إلى الحديث عن دمشق وعن “مقهى نوفارا” القريب من المسجد؛ حيث أهل التصوف وأهل التشرد، وحيث القصاصون والوعاظ تتعالى أصواتهم وتتطامن، وحيث تُدار كؤوس الشاي على الزبناء وتُشرب النرجيلة من لدنهم، وحيث الكل يحيا على إيقاع الانتظار… وحيث كلامهم يدور على الحماس وعلى الصمت معا، وحيث السياح من كل بلد يُستقبلون بالعبارة: “أهلا وسهلا”، وحيث يرتادها السياح والشعراء، وحيث تُتجاذب أطراف الحديث عن بودلير ورامبو والمعري، وحيث يتم الشعر في الله. أَوَ ليس الشعر يوجد في الله؟ أليس الله شاعرا عربيا؟ يزايد الشاعر العربي طالب: “لا لغة أجمل من لغتنا. لا لغة أقوى منها”. ثم يتلو آيات بينات. وفي الأخير يورد المؤلف مقاطع من أشعار طالب وينقلها إلى اللسان البرتغالي.
وفي فصل “مرآة المياه” يسترسل المؤلف في خواطره في السلم والهوة متأملا في خليج جونية والبحر الذي بمقربة جبيل والمرفأ الفينيقي، ويذكر بيوتات مدينة بيروت التي تلقته بأحضان الأنقاض، والتي وقع في عشقها بسبب من أنقاضها تلك، كما يتأمل السفن في الشفق وكنيسة جونية وقد اتشحت بالحمرة في وقت الغروب. ويستطلع طلع البلد البعيد القريب لناظره: جزيرة قبرص. ثم يمضي في شرح حاله: شعور بالسكينة الداخلية ناجم عن الخلوة، إحساس بالطمأنينة وسط الوحدة، عشق للنساء حنيني وإحساس بالفقد… وفي مرآة المياه يلمح وجه أمه ووجه صويحباته وأسلافه وقد لمعت في المياه الليلية. ههنا لقاء الموتى والحي الذي يدع نفسه تحيا، ويترك ذاته تُنسى في بحر الوعود هذا، في يم المرآة ذاك…
وفي فصل اتخذ له من العناوين العنوان الموحي «المدينة والرغبة» يذكر أوبته إلى دمشق التي يرى فيها أنها مدينة مقدسة، ومبدأ الانطلاق إلى مكة، ووجهة زيارة قبر الحسين وفاطمة، مدينة مائة وأربعين ألف قط، تبدو وهي تغلي بمنارات لا يكاد يحصرها عد، في صفاء القفر الذي يحيط بجسدها، والذي جعل البدو، حديثا وقديما، يحلمون بمياه نهر بردى وجنيناتها. هي مدينة الورود والبخور والعطور. شأنها شأن امرأة مشتهاة. وهي تحتضن هذا العاشق للوحدة المفتتن بالعزلة. ومن علياء دير مار موسى، تجعله المدينة يحيا في الألوان الزاهية للزرابي والعمائم القوقازية واللون الأبيض الأميري: “ما من شيء إلا ويبهجني في دمشق ويفتنني فيها”. دمشق جسد مشتهى: نافورة توحي لك بالعطش، نباتاتها تزهي عين الناظر. هي عيون الإسلام الخضراء، وفهود البقاع الليمونية. ألا كم يعشق هو المدينة ذات الغسق، لما يلمحها في عرائها ووراءها جامع الوليد وقد فتح أبوابه في الليل منتظرا امرأة يوم الحساب وفي منارته البيضاء ومقاومة يسوع الضارية حين يتجلى، ألا كم هي جميلة دمشق: شفتاها آبار ماء زلال، وعيناها بلسم الافتداء!
وفي الفصل الأخير -و”الآخر” اسم من أسماء الله، وقد رمز الشاعر الصوفي إليه بطائر السيمورغ/السيمرغ- يعود المؤلف إلى “جوهرة التصوف الكونية” الذي هو كتاب “منطق الطير” لفريد الدين العطار، وهي الجوهرة التي تضوع عطرها لكي يصيب حدائق شعر صوفي أخرى عالمية. ويقارن المؤلف ههنا بين هذا الكتاب وكتاب “القصر الجواني” للقديسة فريسا، وحج الشاعر الصوفي سليسيوس. وقد لفت انتباهه حديث الشاعر الصوفي المسلم عن طائر السيمورغ الوهمي الأسطوري، هذا الذي تبحث عنه الطيور الأخرى. وما كان هذا الطائر سوى رمز للرب نفسه، وما كانت هذه الطيور سوى رمز إلى السالكين طريق الصوفية إلى الله… وقد هلك أكثرهم في الطريق.. إن البحث عن الله هو بحث الإنسان في نفسه عن نفسه، فإذا اعتقد إنسان بأن الله موجود في مكان ما خارجه، فإنه لن يجده… لا مكان ولا كيف. وقد استعرض المؤلف جمال وفرادة هذا الطائر بالقياس إلى الطيور الأخرى التي أتى على ذكرها صاحب “منطق الطير”، والتي بسط القول في مصيرها المأساوي وهي تبحث عن طائرنا هذا. ثم يقف المؤلف على ضخامة هذا الطائر وجلاله: إذ هو المحيط، وما جنة الأرض سوى قطرة ماء منه؛ على أنه طائر مغامر يجرؤ على أن يسافر لاستكشاف المجهول… وفي رحلة الطيور الشاقة إليه تنتهي هي إلى البيدودة والفناء… ثم يستخرج المؤلف الرموز التي يوحي بها هذا الطائر: الصمت والظلام والهوة والظل. وأخيرا، يعود الكاتب إلى مناجاة ليلاه، بل إلى التوسل إليها التوسل: “ألا هبي يا ليلى، أرجوك، ساعديني على تجاوز وحدتي وطي صفحة عزلتي”.