يصر بطل قصة مبكرة لغسان كنفاني على التسلل الى الاراضي المحتلة وزرع عبوات ناسفة في مراكز واماكن تحرك العدو، في حين تحتل مخيلته صورة زوجته عارية ومتدلية من شجرة وفمها محشو بالتراب، وهو ما اقدم على فعله رجال المنظمات الصهيونية عشية حرب عام 1948واذ يلاحظ قائد مجموعته ارهاقه المتعاظم من جراء اصراره على فعله هذا يحاول ثنيه عن عزمه رأفة به سائلا إياه الى متى سيمكنه مواصلة الامر، فيجيب دون تردد: "الى ان نعود".
تقوم هذه الحكاية عل مقولتين ثابتتين، الأولى تتمثل في صورة الزوجة المشنوقة والثانية في الاعلان عن الاصرار على الفعل، بما يجعل الماضي والحاضر متلازمين على نحو لا فكاك منه طالما ان الاول يحكم الثاني ويحتما، بل وفي ضوء النية المفصح عنها من خلال العبارة الحاسمة "الى ان نعود"
فان من الواضح بأن الماضي سيتحكم بالمستقبل ايضا. ولا يحكم الماضي الحاضر (والمستقبل) انطلاقا من كون الصورة دافعا قويا للفعل الراهن، وانما لان الصورة وحدها، بما هي تعبير عن الماضي، هي وحدها دون غيرها ما يشغل ذهن بطل القصة. فلا يقوم عنصر ثالث ما بين وعي البطل والصورة الثابتة بحيث يتاح له امكانية مساءلة فعله بمعايير العقل والمنطق، أي مساءلة مدى فعالية وجدوى ما هو مصر عل القيام به على نحو لا هوادة فيه. فالحاضر بما هو واقع عياني قائم، غير مرئي بالنسبة لبطل القصة، اذ تحجبا الصورة الثابتة، ومن ثم يبدو وكأنما لا وجود له. فالامر منحصر ما بين صورة وفعل لا يشاء البطل الفكاك من قيدهما حتى تعود الامور الى ما كانت عليه.
ولكن الامرار على العودة في سياق هذه المعادلة المحدودة يبدو اقرب الى طلب الثأر منه الى استعادة حق سياسي (استعادة الارض). فالعودة بحد ذاتها لن تعيد الزوجة المسلوبة العرض والحياة الى الوجود ولن تعيد بالتالي الامور الى سابق عهدها. ولو حدث ان تمت العودة فانها لن تكون احياء او استئنافا لما انقطع وانما ستكون بداية جديدة، وليس هذا مسعى الراوي وقصاري هدفه على ما تبين القصة، فهو محكوم بصورة الزوجة المقتولة، لا بصورة الارض. ومن ثم فان الميت هو الذي يحكم الحي ويوجه فعله ويعضده وليس الامل بمستقبل يكون امتدادا للماضي الذي انقطع على نحو مأسوي. وبهذا المعنى فان عبارة «الى ان نعود" تكف عن ان تكون تعبيرا عن طلب حق بقدر ما تغصه عن طلب ثأر. فاذا ما تنبهنا الى دور الرغبة في الثأر في تحفيز نضال شخصيات وحركات فلسطينية ادركنا هنا بأن الامر يتعلق بالاعوار على الفعل اكثر مما يتعلق بالفعل نفسه. فالا موار عن الفعل يعني بأن صاحب الثأر مجد في طلب ثأره الى درجة انه يتجاهل كل دعوة الى التريث والتأني والتفكير في سبيل انجع لبلوغ غايته. فالتريث والتأني في هذه الحالة يمسي بمثابة توان وعدول عما لا ينبغي ان يتوانى عن طلبه ليل نهار.
أسرى الذاكرة
ان حالة الثبات عند الماضي التي يعيشها بطل قصة "الى ان نعود" هي السمة التي تسم جل شخوص روايات غسان كنفاني. فما يجول في ذهن صفية، في رواية "عائد الى حيفا"، ليسر الاخير تمثيل لثبات الوعي عند الماضي مختصرا في صورة واحدة او لحظة بعينها، هي في هذه الحال، صورة خلدون الرضيع الذي ارغمت على تركه في حيفا بعدما جرفها سيل الهاربين باتجاه البحر لائذ ين بـ"سفن الانقاذ". فهي بعد قرابة عشرين عاما لا تزال تتخيله الرضيع الذي عرفته، فانقضاء هذه المدة الطويلة نسبيا لم يغير صورته لذ ذاكرتها. وكذلك تثبت صورة حقل الزيتون في ذاكرة ابي قيس في رواية " رجال في الشمس". واذ يثبت الزمن عند لحظة محددة، فان موضوع هذا الوعي يبقى ثابتا ايضا سواء كان حيا ام جمادا، ومن ثم يصير لزاما تجاهل الزمن وحوادثه والاعراض التي لابد وان تنجم عنها. وحيث ان تجاهل الزمن واملاءاته ليس بالامر اليسير، فان ما يحدث في الحاضر يتم عزوه الى الماضي حتى وان كان امرا عارضا، اي الى ذلك السبب الاول الذي توقف الزمن الفعلي عنده، بما يجعل الحوادث التي تليه مجرد حصيلة منطقية وطبيعية له. وهكذا فان مصائر شخصيات "رجال في الشمس " ليست الا نتيجة للسبب الاول، اي الخسارة الاولى. فأملا بانقاذ عائلته من حياة الفاقة ورغبة في امتلاك حقل زيتون بديل عن ذاك الذي فقده، ييمم ابو قيس شطر الكويت، واليه يسعى اسعد فارا، بينما مرغما على اعالة عائلة هجرها ربها، اي الاب، ووليها من بعده، اي الابن الاكبر، يلتحق مروان بهذين الاثنين في الرحلة التي تؤدي الى حتفهم جميعا.
فالسعي الى حياة افضل ليس هو السبب الذي يدفع هؤلاء الشخوص للقيام بتلك الرحلة، وانما السبب الذي يسبق هذا ويجعله نتيجة له، اي السبب الاصلي، تماما كما ادت الخطيئة الأولى الى طرد آدم وحواء من الجنة وتشردهما في العراء وجعلت كل ما يحدث بعد ذلك عاقبة لا مفر منها. فوفق وتيرة الاسطورة الدينية تجري رواية كنفاني، وتخلص لها اشد الاخلاص. وكما ان الاسطورة الدينية تنكر اية امكانية لبداية جديدة وحياة مستقرة في موطن او مكان اخر مغاير للمكان الاصلي، كذلك ينكر كنفاني على شخوصه امكانية شيء كهذا، لذلك فانهم حينما يسعون الى بداية جديدة متحررين من اسر الماضي او اسر الذاكرة، فانهم لا ينتهون الا الى الهلاك.
من حالة الثبات الى الفعل
رغم ان شخوص روايات كنفاني هم اسرى الذاكرة، الا انهم لا يحجمون عن الفعل، اي عن الانتقال من الوعي الثابت الى الوعي الفاعل وان بعد مضي زمن غير قصير، وما رواية "رجال في الشمس" الاحكاية الانتقال من الانتظار الى الفعل، فيغذ ابوقيس الخطي نحو الكويت لان الانتظار في المخيم خلال عشرة اعوام لم يعد عليه الا بالشقاء: "في السنوات العشر الماضية لم تفعل شيئا سوى ان تنتظر، لقد احتجت الى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق انك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريك كلها.. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وانت مقع ككلب عجوز في بيت حقير.. ماذا تردك كنت تنتظر؟".
لقد كان الثبات بالنسبة لابي قيس تجربة الانتظار غير المجدية التي احتاجها لكي يبادر الى الفعل حتى بعدما ارهقته السنون وادركته الكهولة. فالانتظار في حياة ليست هي افضل من الموت بكثير، عل حد تعبير صديقه الذر يحضا عن الذهاب الى الكويت اسوة بما فعل هو، لم يعد بالنسبة له سوى القبول بحياة الفاقة والعوز والتردد على ابواب وكالة "الانروا" وبالتالي القضاء على اي امل بحياة افضل ومستقبل لابنه يكون خيرا مما هو عليه حاضر والده. لقد كان ابوقيس ضحية مأساة تاريخية، ولكن الفرصة باتت مواتية لكي يكف عن الحياة التي ارغمته الظروف على عيشها طوال هذه الاعوام. وبهذا فان مسؤولية تدبير حياة افضل باتت تتوقف عليه بصورة فردية، وهو ما ادركه العديد من الفلسطينين وبادروا الى السعي وفقه.
فحري بالذكر ان الرواية لا تخفي حقيقة ان ابا قيس ورفاقه ليسوا اول من عزموا على الرحيل الى الكويت، اي ليسوا أول من كسر طوق الانتظار مندفعين نحو الفعل، وأنما هم ملتحقون بركب من سبقوهم في الذهاب الى هناك بعدما افلحوا في جني ثروات والتخلص بالتالي من حياة الفاقة والحاجة. من هنا فان ترددا في الذهاب يبدو بمثابة تخاذل عما اقدم عليه الآخرون كسبيل للخلاص من حياة الانتظار والسعي الى ارساء اسس لحياة افضل واكثر استقرارا.
والانتقال من الثبات الى الفعل يأخذ شكلا مغايرا بالنسبة لصفية وزوجها في رواية "عائد الى حيفا". اذ يتمثل في اغتنام فرصة فتح قوات الاحتلال لـ"بوابة مندلبوم " غداة حرب حزيران عام 1967، اي بعد عشرين عاما على النزوح عن حيفا، والعودة، زائرين، بغية التيقن بان الطفل الرضيع الذي خلفاه هناك قبل عشرين عاما لم يبق في انتظارهما، اي انهما فقداه بالفعل.
وحيث ان الرغبة في الذهاب الى حيفا انما تبدر عن صفية دون زوجها سعيد س. فان ذلك كفيل بأن يوحي بان صفية وحدها من كان يعيش حالة الثبات، فزوجها قد سلم بضياع الطفل الرضيع، وهو اذ يوافق على الذهاب فانما مجاراة لها خاصة وانه اخفق في اقناعها بعبث المحاولة: "اوهام ياصفية، اوهام ! لا تتركي لنفسك ان تخدعك على هذه الصورة المحزنة. انت تعرفين كم سألنا وكم حققنا، وتعرفين قصص الصليب الأحمر، ورجال الهدنة والأصدقاء والأجانب الذين بعثناهم الى هنان، لا، لا واريد الذهاب الى حيفا، ان ذلك ذل، وهو اذا كان ذلا واحدا لاهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان، لماذا نعذب انفسنا؟".
فيبدو سعيد س. للوهلة الاول وكأنه على النقيض من زوجته منعتق من اسر الماضي. ولكن الرواية لا تني ان تكشف حقيقة ان تسليمه بضياع خلدون انما هي محاولة تجاهل فاشلة لامر لا محيد عن مواجهته: "وحين مضى الى فراشه كان يعرف – في اعماقه- انه لا فرار، وان الفكرة التي كانت هناك طوال عشرين سنة قد ولدت من جديد ولا سبيل الى دفنها..". لقد اراد سعيد س. انكار حقيقة حالة التثبت عند الماضي التي كان يعيشها الا انه ما ان ظهرت فرصة للفعل حتى اقر بكمونها في داخله. اما في رواية "ما تبقى لكم " فان حامد لا يتنبه الى حالة الثبات التي يعيشها الا حينما تصبح هذه الحالة عرضة للز وال، اي حينما يضطر للرحيل فرارا من عار اخته التي عاش في كنفها طوال هذه السنين: "واخذ يغوص في الليل مثل كرة من خيوط الصوف مربوط اولها في بيته في غزة، طوال ستة عشر عاما لفوا فوقه خيطان الصوف حتى تحول الى كرة، وهو الآن يفكها تاركا نفسه يتدحرج في الليل ".
وحيث ان الستة عشر عاما التي قضاها حامد بمعية اخته لم تكن الا اخفاء لحقيقة الحياة التي عاشها، فان الفرار هو الانعتاق من حالة الثبات التي كان اسيرها على غير ادراك منه. والفعل هنا حركة مادية، ايغال في الصحراء. وهو ان كان فعلا مشابها لما يقوم به شخوص رواية "رجال في الشمس "، الا ان ثمة فارقا اساسيا ما بين طبيعة الفعلين، فحركة هؤلاء انما جاءت حصيلة تدبير سبق بينما حركة حامد تأتي على نحو عفوي، كردة فعل مباشر غير محسوبة العواقب، ومن ثم فانه سرعان ما سيواجهها مكتشفا تهوره..
وحركة حامد، اي الايغال في الصحراء ليست هي الحركة الوحيدة في الرواية. فكل شي ء في الرواية يدخل في هذه الحركة او يتأثر بها بما فيها الصحراء والساعة. والفعل او الحركة هنا لا يقف خلفها خيار ما، اي بخلاف الروايات الاخري، انما هي نتيجة طبيعية لانهيار الثبات المزعوم الذي دام ستة عشر عاما. ورغم انضواء هذه الحركة في سياق سردي بالغ التعقيد، في واحدة من الاستخدامات التقنية الفوكنرية (نسبة الى وليم فوكنر) الاكثر نجاحا في الرواية العربية، حيث كل حركة تذهب في اتجاه مختلف، الا ان ثمة ما يفصح على ان ما حدث الآن انما هو امر لم يكن ثمة مناص من وقوعه، ومن ثم فان ارجاءه كل هذه السنين لم يزده إلا حدة فيأسا من عنوستها تستسلم مريم لاغواء زكريا ومن ثم تتزوجه رغم انه لا يريدها زوجة وانما عاهرة مجانية ينال جسدها كلما شاء. في حين يفر حامد من عار مريم، من خسارته لها الى رجل آخر لا يكن له الا الاحتقار. ويقرر ان يقطر الصحراء ذاهبا الى الاردن حيث تقيم والداته، التي اعتبرها دوما بمثابة ملاذ اضافي يلوذ به حينما تشتد الازمات وتنسد ابواب الملاجىء الاخري، مريم نفسها ما كان بوسعها الانتظار اكثر من ذلك فوهبت نفسها لرجل مثل زكريا، وهو ما خلخل الاستقرار الزائف الذي عاشه حامد: "من اين يستطيع حامد ان يفهم ؟ لقد كان دائما رجلا رائعا ولم يكن ابدا الا اخي. ومرور الزمن لم يكن يعني لديه شيئا، فيما كان بالنسبة لي موتا يعلن عن نفسه كل يوم مرتين على الاقل. بالنسبة له كنت اتحول كل يوم الى مجرد ام. وكان يتحول بالنسبة لي الى مجرد رجل محرم. ولم يدرك قط طوال عمره ان لحظة ارتطام واحدة مع رجل حقيقي ستودي بنا معا، وايضا بعالمنا الصغير التافه الذي اجبرنا على اختياره. عالم تافه غير مستعد لقبول عانس أخرى".
ان خسارة حامد لصورة الام في مريم تجعلا يوقن بأنها لا يمكن ان تقوم مقام الام الحقيقية وانه اذا ما اراد الاستمرار في العيش في كنف ام فلابد ان يتوجه الى تلك الام الحقيقية المقيمة في الاردن، لقد استعاض حامد طوال هذه الاعوام عن الام الحقيقية بالاخت، بل ان هذه الاستعاضة، والتي في كافة الاحوال لن ترقى الى مستوى ما هو حقيقي، عززت حضور الام ورغم انفصالها المادي عنه. فكل قصور كان يند عن مريم في تبوء دور الام كان حامد يعزوه الى حقيقة انها ليست الام الحقيقية، لذلك فانه كان يعلل النفس بأمل الالتحاق بتك (الحقيقية)، وهذا ما عقد العزم على تحقيقه حينما اقترفت مريم عيبها الاكبر، بالنسبة له، اي زواجها من زكريا، ومن ثم توقفها عن اداء دور الام. وبذلك يقدم حامد في محاولته عبور الصحراء الى الاردن على ما يقدم عليه شخوص روايتي "رجال في الشمس " و«عائد الى حيفا"، اي الكف عن الانتظار والسعي الى تحقيق ما املوا على الدوام القيام به حيث لابد من رحلة في مواجهة الحقيقة التي تهربوا من مواجهتها مددا متفاوتة في طولها.
الفعل الخطأ
بخلاف بطل قصة "الى ان نعود» الذي يكمن الدافع في امراره على الفعل في كونه اسير الذاكرة، فان استكانة شخوص الرواية الكنفانية الى الذاكرة هو مظهر من مظاهر العجز يتوجب عليهم التخلص منه او استثماره كطاقة تحثهم على الفعل. لذلك كان لابد لرجل مثل ابي قيس ان يكف عن ان يكون اسيرا للذاكرة فيدير ظهره للماضي لكي ينتشل عائلته دن الحضيض ويضمن مستقبلا كريما لابنه. اي كان لابد من التقلص من سلطة الذاكرة والاستجابة لصوت العقل والمنطق الذي يقضي بان الانتظار عبث لن يعود عليه بطائل.
لكن هل تنتهي الرواية عند هذا الحد؟
كان من المتوقع ان تنتهي الرواية عند مواجهة ضرورة الكف عن الانتظار غير المجد، ومن ثم فان قيامه بتك الرحلة بما تنطوي عليه من مخاطر يدركها الرجل بيدا ويحسب لها الف حساب، يمسي امرا محتوما، غير ان ما تسعي الرواية الكنفانية بلوغه هو حد ابعد. فالرواية الكنفانية لا تهدف الى تصوير مشقة ان تكون لاجئا يقع على عاتقك امر تدبر خلاصك بما يبرر حقك في سلوك اي سبيل للخلاص حتى وان كان فرديا. وهي مهما تشابكت مسالكها وتعددت اصواتها السردية فان قولها واحد هو القول السليم الذي ما عداه ضلالة لا تغتفر. ومن ثم فهو قول ينكر اي حق للمرء ان يسعى الى خلاصه عن طريق فردي.
فرغم الدوافع التي حدت بأبي قيس الى السعي للخلاص عن طريق الذهاب الى بلد نفطي حديث الثراء اسوة بكثيرين غيره سبقوه الى هناك، فهو في اقدامه على فعل كهذا انما يخرج عن اجماع تمحور حول واقع لشعب لا خلاص له الا باستعادة الارض التي فسرها. والخروج على هذا الاجماع حق تنكره الرواية الكنفانية على الفلسطيني وتدينه باعتباره لا يقل عبثا عن الانتطار نفسه. والخلاصة التي تخلص اليها هي انه ثمة لا امل لابي قيس في الاستعاضة عن الحقل الذي خسره حقل آخر. وهي حقيقة اذا ما تجاهلها، وهذا ما يفعله، فان مصيره الهلاك لا محالة.
يهلك ابوقيس ورفيقا رحلته اللذان لا تختلف دوافعهما في الذهاب الى الكويت عن دوافعه، لان الرواية الكنفانية لا تشترط القيام بالفعل فحسب، اي الانتقال من حالة السكون الى حالة الفعل، وانما ايضا القيام بالفعا "الصحيح" الذي لا يضاهيه في صحته او احقيته فعل آخر. ان ليس هناك اكثر من فعل صحيح واحد ومن ثم فان الفعل الفردي ليس بالتأكيد هو الحل الصحيح. فهو يختلف عن الانتظار من حيث انه انتقال من التسليم بالعجز الى التسليم بالخسارة وانعدام امكانية استعادة ما فقد واعادة الامور الى ما كانت عليه قبل حلول المأساة، من هنا فان تسليمهم بالخسارة قد ادى الى موتهم مختنقين من القيظ والعطش في صهريج ماء فارغ من دون ان تواتيهم الجرأة على طرق الخزان والاعلان عن وجودهم بمعزل عما سيترتب عن ذلك من عواقب، لن تكون في كافة الاحوال اسوأ مما انجلت عليه في النهاية، اي الموت. لذلك فيبدو الامر اقرب الى عقاب هندسته الرواية الكنفانية عن قصد حيال ما اوتيت ايديهم، بدءا من سعيهم الى الخلاص الفردي، الزائف بالضرورة، الى تسليمهم مصائرهم الى مهرب عاجز جنسيا، كدلالة بارزة على عجزه في القيادة، ومن ثم اخيرا الاذعان الى الموت في ذلك الخزان من دون ان يصدروا صوتا.
اكتشاف الوهم في منتصف الطريق
وعلى الرغم من ان الفعل الذي يقدم عليه كل من حامد ومريم لا ينتهي علي نحو مأساوي، اي يذهب بحياتهما، الا انه ايضا كثف من توسل كل منهما حلا وهميا. فيقرر حامد ان يقطع الصحراء ذاهبا الى امه هربا من عار شقيقته، وخسارته لها كصورة بديلة للام الغائبة، فيما تهب مريم نفسها لرجل لا يستحقها. ولكنهما سرعان ما يدركان عبث ما اقدم كل منهما عليه.
فيتداعى سؤال مفاجىء في ذهن حامد كاحتمال لم يأخذا بالحسبان قبل ان يلقي بنفسه الى قلب الصحراء: «هل انت واثق انها (اي والدته) لم تتزوج هي الاخرى؟" ماذا لو ان امه لم تكن الملاذ الاحتياطي الذي وطن النفس على اللوذ به عند الضرورة ؟ ماذا لو تبين بأنها ليست اصلح شأنا من اخته مريم ؟ "ما الذي ستفعله ؟ ستعود مرة أخرى الى غزة ؟" هل سيقضي حياته قاطعا الصحراء ذهابا وايابا ما بين غزة والاردن ؟
تلح اسئلة كهذه على ذهن حامد فتشله وتجعله عاجزا عن الحركة، عن التقدم او التراجع، فيسقط على الارض. في حين تجد مريم نفسها في مواجهة حقيقة، ارادت انكارها، بأن زكريا لا يريدها زوجة ولا اما لطفله، وانما جسدا يلبي رغبات لم تعد زوجته الأولى قادرة على تلبيتها. غير انه لم يعد بوسعها انكارها او تجاهلها بعدما يؤكد زكريا الامر ببذاءة تجسد حقيقة الموقف: "لك جسد هائل لا تدركين جماله، وغدا حينما تبيضين بيضتك الكبيرة (اي حينما تنجب الطفل الذي يحاول اقناعها بالتخلص منه) ستنقلبين الى جبل صغير من اللحم وتفقدين كل شيء ما عدا قطعة الصراخ التي ستقلب حياتك الى جحيم ".
الى جانب معرفتها بانه متزوج ولديه اولاد، وانه السبب في انفصالها عن اخيها وانتهاء هذا الاخير هائما على وجها في الصحراء، لقد كانت مريم تدرك في دخيلة نفسها بان زكريا جبان وخائن، وهو ما برهنت عليه حكاية محاولته ان يقي بالمقاتل سالم. بالاضافة الى ذلك فهي الأن تدرك على نحو لا مواربة فيه بأنه لا يريدها زوجة واما لطفله وانما مومسا مجانية. ولكن هل تنتهي "ما تبقى لكم " عند هذا الحد؟ هل تسمح الرواية الكنفانية بنهاية تنطوي على التسليم بالخسارة وتضع بطليها امام حقيقة وجودهما؟ اي ان حامد طفل يجب ان ينضج ويكف عن البحث عن ام يلوذ بها وان مريم عانس لا يحق اقترانها برجل كزكريا حلمها بان تكون زوجة واما؟
الرواية الكنفانية هي رواية تقديم الحل الذي لا خلاص دون اتباعه، من هنا فانها لا تكتفي، او تتوقف حيث يكتشف شخوصها الحقيقة ويصبح الغط الذي من المتوجب عليهم اتخاذه، متوقفا على اختيارهم او على ظروفهم. لذلك فهي تدفعهم الى ذلك الفعل دفعا. وهكذا يشتبك حامد مع الجندي الاسرائيلي الذي يجد نفسه في مواجهته. في حين تطعن زكريا بسكين مطبخ، في سياق فعل مزدوج يحدث في آن واحد في الخارج (الصحراء) والداخل (غزة) في دلالة بالغة الاسراف.
واسراف دلالة هذا الفعل المزدوج لا يصدر عن وضوح ما يعنيا الكاتب هنا ويرمي اليه، وانما يصدر عن حقيقة الاقحام الذي يتولد عنه، اي المصادفة التي تؤدي الى مواجهة حامد والجندي الاسرائيلي، من جهة والفعل المسرف الذي تقدم مريم عليه، اي القتل، في حين كان يكفي ان تطرد زكريا من حياتها مقررة انجاب الطفل بدلا من ان تتحول الى قاتلة.
ولكن اذا كانت الرحلة من الداخل الى الخارج هي رحلة في الاتجاه الخطأ، على ما يتبين اثر الرحلة التي يقوم بها شخوص رواية "رجال في الشمس "، او التي يقوم بها حامد، فان الرحلة من الخارج الى الداخل لا تقل خطأ اذا ما تمت وفقا لمشيئة الآخر وبقرار منه كما هو الامر في رواية «عائد الى حيفا". لا تغيب هذه الحقيقة عن ادراك سعيد س. حينما يعبر "بوابة مند ليوم " التي فتحتها السلطات الاسرائيلية غداة حرب الخامس من حزيران 1967للفلسطينيين الراغبين في تفقد ذويهم الذين انفصلوا عنهم قبل عشرين عاما. مع ذلك فهو لا يتوانى عن القيام بهذه الرحلة، اذ رغم تسليمه بضياع خلدون الا انه لا يقل عن زوجته صفية وهما من حيث تشبثه بأمل واه يقوم عكس ما تمليا الحقائق ويفيده المنطق، كأن يكون خلدون حيا يرزق وبانتظار عودتهم على احر من الجمر. على ان ما تنجلي عنه هذه الرحلة ليس بلوغ اليقين بأن خلدون قد ضاع، فهذه الحقيقة، المحسوبة سلفا، اعجز من ان تكون صادمة بما يكفي لتبرير النهاية المقررة مسبقا على ما سنرى. لذلك لا تكتفي الرواية بتقرير ضياع خلدون الجسماني، اي كانسان مفقود، وانما بضياعه الروحي والسياسي. فخلدون قد أمسى اليهودي دوف والمجند في الجيش الاسرائيلي ايضا. وكأن الرواية في دفعها الامور الى هذا الحد ارادت ان تحول دون الركون الى التسليم بحقيقة ضياع خلدون، او فقدانه، وهي حقيقة تحسبها والداه اصلا وباتا على استعداد لقبولها، اي ارادت ان تمنع استسلامهما للامر الواقع من خلال اظهار ما آل اليه خلدون كنتيجة لاخفاقهما طوال هذه المدة في استعادته. اي ان الامر لم يكن مجرد حالة خسارة عابرة وانما هي حالة خسارة قائمة. بل ولا تتوانى الرواية عن استخدام دوف (خلدون) نفسه في التصريح المباشر عن هذه الحقيقة: "كان عليكم الا تخرجوا من حيفا. واذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن الا تتركوا طفلا رضيعا في السرير. واذا كان هذا ايضا مستحيلا فقد كان عليكم الا تكفوا عن المحاولة.. اتقول ان ذلك كان مستحيلا؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة ! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك ؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من اجل هذه".
يتبين من ذلك ايضا ان الرواية في حرصها على قول ما ارادت قوله منذ البداية فانها لم تحفل بالثمن الباهظ الذي ستدفعه لقاء ذلك، اي بالخلل الفني الذي سينجم عنه. فدرجة الافصاح المستخدمة هنا تؤكد بأن من يتكلم ليس المجند الاسرائيلي دوف وانما هو الطفل الرضيع خلدون الذي ظهر لحظة المواجهة ليحاكم هذين اللذين هجراه في المهد ومن ثم تقاعسا عن استعادته او محاولة استعادته على الاقل. فاذا كان خلدون لا يزال قادرا على القول بل والمحاكمة، فهذا يعني بأنه لم يضع وبأنا لا يزال هناك بانتظار من يأتي لاستعادته خلافا لما تزعمه الرواية. وفي اقل الاحوال فنحن ازاء حالة انفصام في الشخصية مردها ازدواجية الهوية التي يحملها هذا الشاب الذي كان يدعى "خلدونا" وبات الآن يدعى "دوفا". الا ان تصور الرواية يتجل في احجامها عن الاستجابة لتحد من هذا القبيل. اذ كان بوسعها استثمار هذا الجانب من القصة، بما يزيدها تعقيدا ويغنيها، لكنها لم تفعل مخافة التلكؤ في بلوغ النهاية المسبقة التصور، والتي ترى بأن خلدون قد ضاع او تم الاستيلاء عليه من قبل الآخرين، ومن ثم فلا مناص من حمل السلاح في سبيل استعادته بريئا من كل ما آل اليه طوال هذه الاعوام المديدة.
الرواية – النهاية
تحث الرواية اكنفانية الخطر متعجلة الوصول الى النهاية شأنها في ذلك شأن الامثولة التي لا تروى الا لكي تبلغ حكمة ما. ومن ثم فمن الطبيعي ان تبدو الرواية وكأنها لم تكتب الا في سبيل الوصول الى النهاية ( الحكمة) المرسرمة منذ البداية بما يعني ان التوقف قبل بلوغ هذه النهاية امر مستبعد لانه سيجعلها قصة ناقصة. وعليه فانها لن تتوانى عن تجاهل كل ما قد يحول دون بلوغ النهاية.
فمهما بلغت قسوة الظروف الاجتماعية التي تدفع بأبي قيس ورفيقيه الى التسلل الى الكويت فانها تخفق في ان تكون مبررا مقنعا يحول دون ادانتهم ودفعهم الى تلك النهاية المأساوية. فالنهاية والحالة هذه هي الحكم القضائي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل او الظروف التي ادت الى حدوث الفعل، وانما يركز على حقيقة حدوثه ومسؤولية الفاعل او الفاعلين فيه. وحيث ان الفعل، اي توسل طريق فردي للخلاص، هو عبث وضلالة فقد كان لابد من ان يعاقب الفاعلين على ذلك النحو. بل ان الرواية لا تتوانى عن التذكير بما كان ينبغي أن يفعله الفاعلون (ان يطرقوا جدران الخزان) كوسيلة لتجنب تلك النهاية. وبذلك فان النهاية تقضي لا على شخوص الرواية فحسب وانما على الرواية نفسها، اذ تقضي على ما تتمتع به من تعقيد يخولها ان تكون رواية وتحيلها عوضا عن ذلك. الى امثولة تقدم عبرة لمن اعتبر.
ولا ينجو التعقيد البنيوي لرواية "ما تبقى لكم "، وبالتالي الرواية نفسها، من لعنة النهاية الواحدة المحددة. فلا يتوقف الامر عند حدود ايقان حامد ومريم بعبث مسعى كل منهما، وانما يساقان سوقا الى النهاية "الصحيحة " التي تقضي بضرورة المواجهة، وهو ما يفقد التقنية السردية الراديكالية وظيفتها في تنظيم مستويات من الاصوات السردية المتباينة على نحو متواز حينا ومتشابك احيانا. اذ يلتهم الخطاب الواحد المسبق التصور هذا التعددية وينفيها. فالنهاية المحددة التي تنتصر لهذا الخطاب تحول دون استيفاء هذه التقنية شروطها، فتنتصر الامثولة على الرواية وتتحول التقنية المستخدمة الى مجرد تمويه للشكل التقليدي للامثولة.
وليس مصير الاضافة النوعية التي تنطوي عليها رواية "عائد الى حيفا" افضل حطا من مصير التقنية الراديكالية التي استخدمت في رواية "ما تبقى لكم ". اذ بخلاف الصورة التقليدية التي صاغها الادب العربي والفلسطيني للعدو حتى ذلك الحين، اي العدو المسلح او العدو ممسوح القسمات في كافة الاحوال، يظهر الآخر في رواية "عائد الى حيفا" بمثابة الفرد المدني الذي يحمل قصة معاناته التي تجعلا هو نفسه ضحية لظروف أقوى منه ادت به الى ما هو عليه الآن. وكان افرات كرشن وزوجته مريام قد قدما الى فلسطين من بولندا اثر ما جرى لليهود على يد النازية، وتمكنا من الحصول على بيت سعيد س. في حيفا لقاء قبولهما تبني الطفل خلدون. وبهذا المعنى فان الرواية لا تغفل التماثل ما بين وتيرتي حياة افرات ومريام كرشن من جهة وحياة سعيد س. وزوجته من جهة اخري، من حيث ان كلا الطرفين قد وقع ضحية تحامل وعسف عسكري بربري، بيد انها تحجم عن استثمار هذا البعد بما يظهر التعقيد الذي يكتنف القضية الفلسطينية، من جهة، ويغني الرواية من جهة اخري. وهذا امر مرده الحرص على عدم التلكؤ في بلوغ النهاية المحتومة القائلة بضرورة المواجهة.
فالرواية التي ترمي الى القول بان خالد، الابن الثاني لسعيد س. الذي لم يبدد وقته في الانتظار، او "العودة " وفقا لمشيئة العدو نفسه، كما فعل والداه، وانما التحق بالفدائيين، اي حمل السلاح في سبيل استعادة ما ضاع، كان اسبق في الوصول الى الحقيقة من والديه اللذين لم يدركا ذلك الا بعد اكتشافهما ما آل اليه خلدون. هكذا يعرب سعيد س. عن امله بأن يكون خالد قد ذهب في غيابه للالتحاق بالفدائيين بعدما كان قد هدده بالتبرؤ منه اذا اقدم. وليس من الغرابة ان الاصرار على بلوغ نهاية كهذه سينطوي على مفارقة ان المجند الاسرائيلي دوف هو الذي سيبرر ما يقدم عليه الفدائي خالد.
إقصاء الاجتماعي
بما ان بطل قصة "الى ان نعود"هو المثال الايديولوجي الذي تتبناه الرواية الكنفانية، فانه من الطبيعي ان تنحو هذه الرواية الى اقصاء كافة مظاهر الحياة الاجتماعية باعتبارها مظاهر زائفة تسهم في الخديعة التي تقع الشخصية الروائية ضحيتها وتؤدي بها الى الضياع. ولذلك فان اي واقع يتخلف من المثال هو واقع زائف. اي ان المثال الايديولوحبي هو الواقع الحقيقي وما عداه فهو اضغاث اوهام. وعليه فان السعي الى تحقيق احلام وطموحات فردية كسبيل للخلاص والعيش بيسر ما هو الا سعي زائف لا يفضي الا الى سراب.
فهو يختلف عن المثال الايديولوجي من حيث انه يأخذ وجهة معاكسة لما يقطبا الاجماع الذي تمليه حقيقة وحدة المأساة ومن ثم وحدة المصير. الى ذلك فهو يناقض هذا المثال من حيث كون الفلسطيني ليس الا تمثيلا لهوية جوهرية ثابتة، فتهون معها حقيقة كونه كائنا اجتماعيا له متطلبات وحاجات وتعتمل في نفسه الرغبة الى الاستقرار، بل النجاح والثراء. فليس الفلسطيني الا شخصية تؤدي دورا في مسرحية كبيرة تتجاوز طموحاته الفردية «الصغيرة ". ومن ثم فان خلاصه او هلاكه يتوقف على مدى تمثيله لحقيقته الجوهرية.
والمفارقة التي تسترعي الانتباه هنا، انه في وقت كانت المقولات السياسية العربية، اليسارية منها على نحو خاص، تصر على ابطال الدعوة الصهيونية بان اليهودية هي هوية جوهرية تجيز محاولة بناء وطن قومي لليهود، فأن كنفاني، القومي والماركسي، كان يريد ان يجعل من الهوية الفلسطينية جوهرا ثابتا لا يمكن تجاوزها مهما تقلبت صروف الدهر وانقضت السنون. فينبغي ان تحول هذه الهوية دون استجابة الفرد لرغباته وطموحاته. وحيث ان هذا الهوية مستمدة من الماضي، اي من الانتماء الى ارض فقدت، فان الجميع مقيد اليها على نحو لا سبيل الى الفكاك منه. فان اصر المرء على تجاهله وفتح صفحة جديدة. متخذا بلدا آخر موطنا له، فان لعنة هذا الماضي لابد وان تتعقبه وتفتك به. فلا ترى الرواية الكنفانية الفلسطيني الا كجزء من الجماعة وهمومها وطموحاتها ومصالحها واهدافها، او ممثلا لها. بل ان نجاة الفرد مرتبطة في كونه جزءا من جماعة او متمثلا بها ويهدفها وغايتها. فرمزية الرواية اكنفانية، التي لا مفر منها والحالة هذه،. لا تقوم على موازاة او مطابقة الرمز للواقع، وانما هي تمثيل لعلاقة الفرد بالجماعة بصرف النظر عن ظروفه الاجتماعية وسنه وحالته الاجتماعية وطموحاته ومشاريعه الشخصية. انه رمز للتصور والفرضية في العلاقة التي تنشأ بين الفرد والجماعة. ومن ثم فان الخلاص الفردي سواء جاء عن طريق سعي للرزق في بلد حديث الثراء، او الهرب بغية النسيان انما هو انفصال عن الجماعة لا يفتخر، اي انه خروج عن اجماع. ومن ثم خيانة الفرد لذاته وهويته التي لا هوية له من دون الانتماء بل.والالتزام بالجماعة، وهو ما يجعله عرضة للضياع لذلك فان الافراد الذين يسيرون في السبيل القويم هم ليسوا افرادا يعون انفسهم كذلك، انما يعونها من خلال الجماعة نفسها. بل ان سلامة سلوكهم انما مرده اقصاء فرديتهم او ما تتشكل منها من طموحات واحلام ومساع شنصية. فحتى شخصية "حقيقية " كأم سعد لا تسلم من عملية التحول مما هو شخصي وذاتي الى ما هو عام وموضوعي. اذ على الرغم من اهمية السمات التي تسمها بما هي دلالة على طبيعة المجتمع الفلسطيني في الشتات، الا انها لا تحتم ان تتحول الى شخصية تجسد روح الجماعة واحلامها واهدافها. اي تكف عن ان تكون الشخصية الفعلية التي تخدم في البيوت في سبيل اعالة عائلتها وتتحول الى ما هو اشبه بشخصية اسطورية.
ان انتقال الفرد من حالة الثبات الى حالة الفعل ليس مجرد اختيار فردي يسلكا المرء بمحض ارادته. فالفرد في الرواية الكنفانية ليس كائنا حرا، ومن ثم فهو لا يستثمر "حريته " في عملية الانتقال الى الوعي الفعلي او التطبيقي. فالفرد لا يعقد العزم على امر يختاره، وانما هو اما يكتشف حتمية ما ينبغي ان يفعله او يجد نفسه منضويا فيه بشكل عفوي كما الامر بالنسبة لخالد وام سعد. وما يحتم الفعل بالتالي هو انتماؤه الى الجماعة الواحدة التي يجمعها مصير واحد.
فلا تقضي الرواية الكنفانية مظاهر الحياة الاجتماعية والطموحات والاحلام الفردية الا لانها لا تعترف اصلا بالحرية الفردية، ومن ثم بحرية ان يختار الفرد السبيل الذي يشاء الى خلاصه. وهي لا تعترف بالحرية الفردية لانها لا يمكن ان ترى احدا حرا اذا لم يكن الجميع احرارا. فحرية الفرد من حرية الجماعة، وبالتالي فاذا ما اراد الفرد ان يسترد حريته فعليه ان يكدح في سبيل استرداد حرية الجميع والا فان الحرية التي يزعمها لنفسه حرية زائفة ولا تفضي الا الى الهلاك. فالفرد والحالة هذه عبد انتمائه وهويته، ولا يمكن ان يقيض له الانعتاق من أسرهما إلا اذا عادت الأمور الى سابق عهدها ما قبل النكبة وما قبل تحول الفلسطينيين الى كتلة من البشر محكوم عليها بالتجانس رغم ان التمايز العجيب وغير المألوف هو ميزته الرئيسية. فيظهر الفلسطيني في الرواية الكنفانية عبدا لقضيته الى درجة ان اية محاولة للتنصل من عبء هذه العبودية تعتبر خيانة لا يمكن ان تبررها الدوافع التي افضت اليها مهما عظم شأنها. فلا تعترف الرواية الكنفانية بحقيقة ان الاجتماع الفلسطيني الذي اسفر عنه النزوح لم يكن من ذلك النوع الذي يختار المرء الانتماء اليه. وانما ارغم افراده على التكدس فيه على نحو يفتقر الى أدنى تجانس وانسجام، بل وبما يذكرهم على نحو متواصل بضياع اطر اجتماعهم السابقة التي كانوا جزءا منها، وهو ما جعلهم يصبرون على امل العودة الى تلك الاطر. غير انهم حينما ادركوا بانه لا جدوى من الانتظار فقد كان من الطبيعي ان يسعى كل منهم في سبيله الى حيث يمكنه الالتحاق باجتماع يمكنه الاسهام فيه وعيش حياة افضل.
إقصاء السياسي
تذهب الرواية الكنفانية الى ان انصهار الجميع في بوتقة واحدة ضرورة لا غني عنها ولا يصح بأي حال من الاحوال الخروج عنها، وتصر عل ضرورة الاجماع على سبيل واحد للفعل ووسيلة واحدة: العنف السياسي.
فكما ان بطل قصة "الى ان نعود" لا يتريث بغية التفكير لحظة في نجاعة ما هو مصر على القيام به، تسقط الرواية الكنفانية اي امكانية للحوار او التفاوض مع العدو. فحامد والجندي الاسرائيلي الذي يواجها في الصحراء، في رواية "ما تبقى لكم "، هما من الاختلاف بحيث يستحيل قيام حوار قصير بينهما. فكل منهما يتكلم لغة لا يفهمها الآخر، بل وحتى في رواية مثل "عائد الى حيفا»، حيث العدو ليس ذلك الآخر ممسوح الملامح والقسمات او حتى الجندي المسلح، وانما المدني الذي هو نفسه يحمل ندوب ماض مأسوي، بما ييسر امكانية ايجاد عنصر مشترك، هذا فضلا عن وجود لغة مشتركة ومحايدة في الوقت نفسه، الا ان حوارا او محاولة للتفاهم تنعدم ما بين سعيد س. ومريام كرشن اذ يبادر الاول الثانية بأنه لم يعد ليطالب ببيته لان حسم مسألة كهذه يحتاج الى حرب، واضعا بذلك حدا لامكانية اي حوار. اما بعد مغادرته حيفا اثر اللقاء العاصف مع خلدون/ دوف، فانه يعرب عن امله بان يكون خالد، ابنه الثاني، قد عصى اوامره والتحق بالفدائيين.
ان الرواية الكنفانية في تبشيرها بالفعل متمثلا في «المقاومة" او «الحرب "، على حد تعبير سعيد س. لا تقدمه كفعل مؤازر للسياسة، اي كأداة تدعم السياسة وانما كسبيل بديل للسياسة. فنظرية "الحرب او الثورة » على ما تذهب حنة آرندت انما «تسعي الى تبرير العنف لان ذلك يكرس محدوديتها السياسية. وهي اذ تبلغ هذا المبلغ في تبرير بل وتمجيد العنف فانما لكي تكف عن ان تكون سياسية ومن ثم تتحول الى فعل مضاد للسياسة."
هكذا يفضل البطل "السيزيفي" في قصة "الى ان نعود» ان يقوم بفعل آلي على ان يتريث ويفكر في نجاعة ما هو مجد فيه بما يوحي بأن الرجل يدرن في دخيلة نفسه بأن ما هو ساع اليه من خلال هذا السبيل هو عسير المنال لذلك تراه يصر على الفعل استبعادا وانكارا لاي حل سياسي لا مسوغ له في ظل خضوع تام لما هو قدري يقرر مصائر الشخوص. ذلك ان القدر أقوى واسمي من ارادة الافراد، لذلك يسلم سعيد س. بأن حل المسألة يحتاج الى حرب. ولابد من المواجهة كما يكتشف حامد ومريم في وقت واحد، وبأنه لا مهرب من الهلاك اذا لم يطرق الخزان كما يتبين لابي خيزران في نهاية «رجال في الشمس ". فقد كتب على هؤلاء الشخوص بفعل "شروط موضوعية " تتجاوز ارادتهم، ان يواجهوا ويحاربوا، وفي كافة الاحوال ان يتوسلوا العنف.
تقوم الرواية الكنفانية اذن على نفي السياسة سواء كأداء انساني تتبلور من خلاله اشكال التعبير المتباينة التي تصدر عن المنضوين في اجتماع واحد او كوسيلة للخلاص من المحنة، التي هي في هذه الحال، الانتظار العقيم، ومن ثم الانتقال الى ملكوت وجود اجتماعي مثمر. بل ويمكن القول ان الرواية هي ادانة للسياسة من حيث انها خطر يتهدد الاجماع المعقود بالضرورة حول تصور واحد وحيد للسبيل الذي ينبغي ان يسلك. فهي اذ لا ترى الا في «العنف السياسي " و"الحرب " سبيلا فانها تقضي السياسة بما هي احتمال اتخاذ سبيل آخر كالتنازل عن بعض الحقوق أو الاقرار بحق الآخر في الوجود. وما اقصاء عن مجتمع لم يكن متجانسا تمام التجانس في يوم من الايام، وبخلاف ما تزعمه الرواية الكنفانية، الادعوة مفتوحة لصراعات وحروب اهلية دموية وتصفيات جسدية، اللهم الا اذا تمكنت سلطة استبدادية من السيطرة على زمام الامور وادارتها وفق مشيئتها.
سمير اليوسف(ناقد من فلسطين يقيم في لندن)