سمير اليوسف
باحث فلسطيني
لماذا غامر أورفيوس بالذهاب إلى العالم الآخر؟
الجواب القصير والواضح: لكي يسترجع حبيبته، زوجته، المتوفاة يوريدس. ولكن أورفيوس لم يكن فقط زوجًا عاشقًا، عاجزًا عن الاستمرار في الحياة دون وجود المرأة التي أحبّ، وإنما كان أيضًا فنانًا، شاعرًا وموسيقيًا، وإلى ذلك كان رحّالة مغامرًا مطبوعًا على عدم الاستقرار.
في أسطورة أورفيوس هناك مجاز ثري لسعي الفنان، الشاعر والحكيم، في الإسراف والتمادي لما دون غاية يسيرة التعريف. وكان أورفيوس ينتمي الى العصر الهيليني السابق على سقراط وأفلاطون أي العصر السابق على الفصل الحاد ما بين العالم والساحر، الفنان والحكيم.
الكلام هنا، إذًا، عن علاقة الشعر بالفلسفة. وهو أمرٌ يُذكرنا بقصيدة “الطبيعة” لبارمنيدس، أو أي نص آخر متوافر من نصوص الفلاسفة ما قبل سقراط وأفلاطون، طاليس وانكسمايندر وهيرقليطس. بل ويذكّرنا بأفلاطون نفسه لا سيما بموقفه الجدالي الداعي إلى استبعاد الشعراء من المدينة المثال. يذكّرنا أيضًا بما يجمع الحاضر الحديث إلى الأصل الإغريقي، شأن نظرة الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر إلى الشاعر هولدرلين باعتباره الشاعر المفكر أو المفكر شاعرًا، خلافًا لما قال به أفلاطون وأوصى.
ولكن العلاقة التي نتوخى الكلام عنها تتمثل في مساحة أو منطقة ما بين الشعر والفلسفة من دون الانحياز إلى أيٍ من الفيلسوفين الكبيرين. في الحقيقة هذه مقالة ضد أطروحة أفلاطون بأن الشاعر يُمثّل منافسًا خطيرًا للفيلسوف بما يُثير الالتباس والفوضى في الجمهورية المثالية. وهي في الوقت نفسه ضد أطروحة هيدغر المضادة بأن الشاعر هو المفكر في الزمن الحديث. عوضًا عن الكلام الذي يُدين الشاعر ويقضي باستبعاده عن المدينة التي يحكمها الفيلسوف، أو الذي يعتبر الشاعر مصدر الحكمة الأرقى، سنتكلم عن منطقة مشتركة ينزع نحوها الشاعر والفيلسوف، كلّ واحدٍ من موقعه. هذا النزوع لا يهدف إلى أن يدّعي الشاعر معرفة الحكمة وبالتالي حقّ الحكم والقيادة ولا إلى امتلاك الفيلسوف للرؤية النبوئية للشاعر.
لماذا ينزع الشاعر والفيلسوف إلى التمادي الذي من العسير تعريفه أو حتى تعريف غرضه؟ لماذا السعي إلى هذه المنطقة المجهولة الهوية والحدود؟ لا بد من الكلام عن نيتشه وهو أفضل مثال للفيلسوف الذي مال إلى كتابة الشعر، ليس فقط في أسلوبه النثري وإنما من خلال كتابة القصائد أيضًا.
نيتشه الشاعر
هناك في “هكذا تكلّم” أهمّ كتب نيتشه، ما يبدو أشبه بصدى للغة أورفيوس الذي استخدم الشعر والموسيقى لحماية الملاحين من الاستجابة لنداء جنيّات البحر القاتل. نيتشه هو أورفيوس الذي يشاء حماية العقول من نداء سقراط.
سقراط هو الفيلسوف الملك في الجمهورية المثالية التي ينبغي إقصاء كلّ من يمثل تحديًا لسلطان معرفته. ومن هنا كان من الضروري، كما جادل أفلاطون، إقصاء الشعراء. نيتشه من جانبه احتقر سقراط واعتبر استخدام سقراط لمنهج الجدل المنطقي، وسيلةً لبلوغ الحقيقة الخالصة، دلالة على أنه دوني المنزلة منذورًا للخسارة والهزيمة وأبعد ما يكون عن طبقة الملوك الأشراف. بلغ تحدي نيتشه لأطروحة أفلاطون حول الفيلسوف أنه قرر أن يكون شاعرًا هو نفسه، فيلسوفًا شاعرًا بل وصاحب ديوان شعري أيضًا.
هناك عبارة بالغة الدلالة في دراسة للفيلسوف الفرنسي آلان باديو من المفيد الاسترشاد بها لدى قراءة ديوان نيتشه. يلاحظ باديو، في هذه العبارة، أن الفلاسفة “المعادين للفلسفة”، بحسب تسميته لمجموعة من الفلاسفة، بدءًا من هرقليطس، مرورًا بجان جاك روسو وباسكال وكيركجارد ونيتشه، وانتهاءً في الحاضر عند الأمريكي ريتشارد رورتي- نيتشه هو الأبرز والأخطر- يكتبون بأسلوب الكاتب الحريص على إظهار تمكنه من اللغة الأدبية. والعبارة المذكورة ترد في دراسة عن الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتين والذي يرى فيه باديو أحد أبرز الفلاسفة المعادين للفلسفة. نيتشه هو الفيلسوف الذي لا ينفك باديو يشير إليه من خلال مقارنة فتغنشتين به.
نيتشه لم يكن حريصًا على كتابة نثر أدبي يجري على تخوم الشعر فحسب بل وكان يتباهى بأنه، إلى جانب هينريش هاينه، لهو أفضل من كتب بالألمانية بهذا المعنى. الحرص على الأسلوب يعني منح الأسلوب اهتمامًا أكبر من المعنى. وفي الفلسفة المعادية للفلسفة يتمّ أيضًا اختزال أو تقليص المعنى أو حتى تجريده من حق أن يكون معنى أصلًا، كما فعل فتغنشتين. نيتشه بدوره استخدم مناهج مختلفة في التعاطي مع الأفكار الفلسفية، مرة من خلال استخدام المطرقة الشهيرة ومرة أخرى من خلال ردّ الفكرة، المعنى منها طبعًا، إلى أصولها غير المُشرّفة إن لم نقل الخبيثة أيضًا.
طبعًا هناك أسباب مختلفة لعداء الفلاسفة المذكورين للفلسفة ولكن ما يهمنا، في سياق العلاقة المذكورة ما بين الحرص على الأسلوب الأدبي والعداء للفلسفة، هو ما يسميه باديو بالنزوع نحو التفلسف من منطلق الوعي بالسيرة الذاتية. الفكرة الفلسفية لا تعود موضوعية الطبيعة مهما كانت موضوعيةَ الادعاء. الشذرة الفلسفية التي يكتبها فيتغنشتين، خاصة في كتابه الأول، “أطروحة في المنطق الفلسفي”، تبدو وكأنها تقرر حقيقة موضوعية لا علاقة لها بحياة المؤلف. ولكن هناك إشارات عديدة في الكتاب تدل على أن الشذرة المذكورة لهي نتاج تأمل ذاتي لمؤلفها. والأمر عند نيتشه أشدّ وضوحًا.
خلافًا لفلاسفة، مثل هيوم وكانط وهيغل، فإن نيتشه لم يخجل من الإشارة إلى سيرته الذاتية وإلى حياته اليومية. بالتأكيد فهو حينما يتحدث عن إحدى أهم أفكاره وأشدّها جدالية، “العود الأبدي”، فإنه يحدد لنا بالضبط المكان الذي كان فيه حينما راودته. أما كتابه الأخير “هذا هو الإنسان” فهو بصريح العبارة سيرة ذاتية تعرض ظروف تأليف كتبه.
إذن، هناك العناية بالأسلوب الأدبي، أولًا. اختزال الفكرة، أو ردّها إلى أصولها، ثانيًا. ثم هناك، أخيرًا، ربط العبارة بحياة كاتبها. ومن هو الذي يفعل ذلك بالضبط؟
الشاعر طبعًا!
الشعر هو التعبير الأقصى للغة. وحتى حينما يلجأ الشاعر إلى ما نسميه بـ”لغة الحياة اليومية” فإنه في الحقيقة يستلهم الشعر من هذه اللغة وليس النثر. هناك فارق كبير بين ما كتبه ويكتبه شعراء بـ”لغة الحياة اليومية” وما بين هواة الشعر الذين يكتبون القصيدة معتمدين على شروط النثر اليومي. المقصود أن القصيدة عند شعراء “لغة الحياة اليومية” تتخلى عن المحسنات البلاغية للإنشاء الفخم ولكنها لا تستغني عن المجاز ولا شعرَ هناك من دون مجاز.
المعنى في الشعر مهم طبعًا ولكن الأولوية للأسلوب، لكيفية صياغة المجاز. ومهما حرص الشعر على وصول المعنى فإن هذا الحرص لا يبلغ حدّ إيصال المعنى مجردًا تمامًا من المجاز وإلا فإن المعنى سيظهر عاريًا ومباشرًا بل وبذيئًا أيضًا. لا فيلسوف كان أشدّ ميلًا إلى استخدام المجاز مثل نيتشه. وهو لم يستخدمه فحسب، وإنما تفاخر بذلك أيضًا. هذا الميل بلغ منتهاه مع محاولة الفيلسوف كتابة الشعر. أراد نيتشه أن يكون شاعرًا. بل وكان على قناعة بأن الفلسفة تنتمي إلى الشعر وليس النثر.
نيتشه، كما نعلم، كان طوال حياته عاشقًا للفلسفة الإغريقية ما قبل سقراط وأفلاطون. وفي ذلك العهد لم يكن ثمة فارق ما بين الشاعر والفيلسوف، الشاعر كان فيلسوفًا والفيلسوف شاعرًا. أظن أن نيتشه أراد أن يكون الفيلسوف الشاعر. المشكلة أن نيتشه كان شاعرًا فاشلًا. أية مقارنة ما بين قصائده وكتاباته النثرية ستبيّن ذلك بسهولة. ولا أظن أن نيتشه كان من الغباء بحيث يغفل عن ملاحظة الفارق النوعي ما بين نثره وشعره.
لعل إيقان نيتشه بأن لا أمل له بأن يكون شاعرًا هو أحد الأسباب التي جعلته معاديًا للفلسفة، للميتافيزيقيا، للنظام الفلسفي الشامل أو الأفكار الفخمة، على هذه الضراوة، ومن ثم عمد انتقامًا منها، إلى تدميرها. لقد كان المعنى عنده من السطوع بحيث استحال معه اخفاؤه بالمجاز. لعله ظن أنه بتدمير أنظمة المعنى وأفكاره الكبرى لا يُبقى للمعنى من ملجأ سوى المجاز ومعها لا يعود ثمة داع لكتابة الفلسفة نثرًا. وبذلك اتبع نيتشه أيضًا غواية أورفيوس ومضى نحو تلك المنطقة الغامضة ما بين الفلسفة والشعر.
أورفيوس، تبعًا للأساطير الإغريقية، هو الشاعر الأول، ومغامرة الذهاب إلى عالم الأموات هي مجازفة فنية باتجاه الآتي والمستقبل. ولكن المستقبل هنا هو “اللاوجود”، العدم. وبهذا المعنى فهو رحلة نحو الماضي، نحو الزمن السابق على الوجود. والخلاصة المحتملة بأنها كانت رحلة نحو الأصل وبداية اللغة، أو ما كان يسبق اللغة قبل انشقاق المعنى عن الطبيعة من خلال استخدام الأسماء والحروف، منطوقة أو مكتوبة. هذه أيضًا رحلة نيتشه نحو الفلسفة السابقة على سقراط وأفلاطون.
نيتشه، وخلافًا للشائع، لم يكن فقط فيلسوفًا متمردًا، ناقدًا مُدمرًا للصروح الميتافيزيقية السابقة فقط، وإنما، كما أشرنا سابقًا، كان أيضًا فنانًا، شاعرًا خلّاقَ الإبداع، على ما تشهد دراسته عن موسيقى فاغنر من خلال الكلام على ثنائية ديونيزس وأبولو، ومن خلال فكرة “الإنسان الأعلى” و”العود الأبدي” هذا بالإضافة الى قصائده، وإن كانت هذه أقل قيمة من كتاباته النثرية. وإنه بفضل هذا الجموح الشعريّ الإبداعي كان له سبق العودة إلى أصل الفلسفة وتمهيد الطريق لمن أتى بعده لكيّ يبيّن لنا بأن الحكمة إنما ولدت في كنف الشعر والخيال الشعري.
وغالبًا ما يُشار في الكتب المدرسية إلى الفلسفة السابقة على أفلاطون بطريقة هامشية، ومن قبيل الحاجة فقط إلى الكلام على بداية تاريخ الفلسفة، باعتبارها مجرد بواكير لحكماء هواة. نيتشه أعاد النظر في هذا الأمر. ومن خلال خياله الشعريّ الخلاق استبطن أفكار ورؤى طاليس وانكسيماندر وهيرقليطس وبارمنيدس وانكساغوراس، باعتبارها الأصل الأهم للفلسفة الغربية الذي لم يُفصل فيه ما بين العقل والكون، واللغة والطبيعة، ومن ثم ما بين الإنسان باعتباره الذات الباحثة عن الحقيقة والكون باعتباره الموضوع حقل البحث عن الحقيقة الكامنة فيه.
خلاصة القول إن نيتشه في عودته إلى الفلسفة السابقة لأفلاطون عاد إلى سؤال الكون الذي لا يفصل ما بين الوعي وموضوع الوعي على أساس معادلة الذات والموضوع. هذا السؤال الذي سيكون الشغل الشاغل لوريثه وأكبر فيلسوف ألماني جاء بعده، مارتن هيدغر. اعتبر هيدغر هذا هو السؤال المنسي أو المُهمل، في الفلسفة الغربية والذي لا بد من العودة إليه قبل استئناف المسيرة الفلسفية والخلوص إلى أية حكمة. والحكمة التي خلص إليها هيدغر أن الشعر هو لغة الفلسفة الأولى وعلى الشاعر-المفكر يتوقف مصير التفكير والحكمة.
هيدغر- الشعر والفكر
أحد الإنجازات الفكرية الهامة للفيلسوف الألماني مارتن هيدغر هو أنه انتزع الشعر من حقل الأدب وحرره بالتالي من ثقافة هذا الحقل، أي التاريخ المعني به ونظريات علم الجمال ومختلف المناهج والقراءات النقدية الأدبية ونزاعاتها التي لا نهاية لها.
فتبعًا للثقافة المختصّة في الأدب، تاريخًا وعلمَ جمالٍ ونقدًا أدبيا، فإن النص هو مادة للبحث العلمي الحديث شأنه شأن أي مادة أخرى للبحث، طبيعية كانت أو ثقافية. والمشكلة بالنسبة لهيدغر تقع في مفهوم “البحث العلمي الحديث”. هيدغر كان عدوًا لدودًا للحداثة وعلومها المزعومة. هذه العلوم، وخلافًا للخرافات الشائعة والإشاعات الرائجة، محكومة بمقدمات ومسلمات ميتافيزيقيا الإنتاج والتقنية التي تجعل الإنتاج (أي إنتاج) أيسر سبيلًا وأوفر.
وتبعًا لذلك، فهذه الميتافيزيقيا تعتبر اللغة مجرد أداة للتعبير والتواصل. كل ما يُنطق ويُكتب، بما فيه الشعر، محكوم بتعريف اللغة كأداة تعبير وتواصل. اللغة هي أداة “تعبير عن”. الإنسان يستخدم اللغة لكي يُعبّر عن حاجة أو رغبة أو غاية أو إحساس أو فكرة.. إلخ. وبهذا المعنى الشعر، على ما يُقال، تعبير عن شعور، مثلًا!
هيدغر رفض كل ذلك. اللغة ليست أداة، ليست أداة للتعبير وحتمًا ليست “أداة للتعبير عن”. اللغة تعبير، نطقًا أو كتابةً، وفقط. من هنا إحدى عباراته الشهيرة المثيرة للحيرة والجدل: “اللغة تتكلم” أو “اللغة تنطق” أو “اللغة تكتب”. وإذا كنت تظن بأن هذا كلام مجنون فإليك ما هو أشدّ إثارة للجنون: “اللغة تتكلم المتكلم” الفاعل هو المفعول به، وفقًا لفيلسوفنا الألماني. وهذا الكلام لا علاقة له بنظرية “اللاوعي” أو بالسوريالية، أو خلاف ذلك، مما يُعنى بالتعبير المتحرر من إملاءات الإرادة وشروط الوعي.
وعلى خطى نيتشه، عاد هيدغر في الفلسفة الغربية إلى ينابيعها الأولى قبل أفلاطون، وسقراط الأفلاطوني. عاد إلى ما قبل ولادة الميتافيزيقيا التي تتناسى أو تتجاهل سؤال الكينونة (أن هناك كون سابق على ما هو كائن) وعوضًا عن ذلك انشغلت بالسؤال عن الغاية من وجود الكائن. السؤال الميتافيزيقي الأول “لماذا هناك وجود وليس عدما؟”- وهذا التناسي لسؤال الكينونة هو الذي أدى إلى الفصل ما بين العقل (الإنسان) والكون، باعتبار أن الإنسان هو الذات الباحثة عن الحقيقة وأن الكون هو حقل البحث حيث تتوافر الحقيقة، وبالتالي ما بين اللغة والكون وما بين الشعر والنثر.
الشعر هو الأصل اللغوي للحكمة وحيث لم يكن ثمة انفصال ما بين العقل والكون. والأداء الشعري كان فنًّا يكشف وينير المستتر والخفي في الذات والعالم باعتبارهما كينونة واحدة بواسطة التفكير الذي لا يخضع للغة المنطق العقلي الذي يستند إلى مقدمات واضحة لكي يصل إلى خلاصات لا تقل وضوحًا. إنها الحقيقة التي تصل في القصيدة، ولغة القصيدة، لمن يشاء أن يعرف الحقيقة. إنها غاية الإقامة إقامة شعريّة والتفكير وكلاهما واحد.
ولكن ما معنى التفكير؟ ما معنى أن نفكّر؟ يسأل هيدغر ويجيب في سلسلة من الدروس الفلسفية تحت عنوان “ما الذي يسمى بالتفكير”.
للوهلة الأولى يبدو الفيلسوف الألماني وكأنه ذاهب إلى بيت الله الحرام والناس عائدة. ولكن لا. هيدغر يطرح السؤال لكي يعود بنا إلى البداية. إلى بداية التفكير السابقة على الانفصال ما بين التفكير وموضوع التفكير، ما بين فاعل التفكير والمفعول به تفكيرًا. فغداة الانفصال المزعوم صار التفكير علميّ الطبيعة وعمليّ-تقنيّ الغرض. الذات المفكرة باحثة في الطبيعة عن معلومات تعود عليها بالفائدة. المعرفة الناجمة عن التفكير أو البحث صارت بمثابة مجموعة معلومات مفيدة في الأغراض العمليّة. مع حلول عصر الأنوار والحداثة صارت هذه المعرفة العلمية المعلوماتية هي المعرفة الوحيدة المعترف بها. أية معرفة أخرى هي معرفة غيرعلميّة وبالتالي غير صادقة ولا يمكن أن تكون مفيدة.
على خطى نيتشه، إذًا، ومتأثرًا بمفكر وروائي مثير للحيرة والجدل يُدعى أرنست يوغنر، هيدغر كان أحد أشدّ الفلاسفة عداءً للحداثة خاصة من خلال ذروة تجليّها في التقنية الحديثة. يقال إن انضواءه في الحزب النازي، الفضيحة التي لاحقته حتى نهاية حياته، إنما يعود إلى رهانه على أن النازية ستضع حدًا للتسلط الشامل للتقنية الحديثة على حياة البشر. رهانه كان فاشلًا، غنيّ عن القول، ولكن ذلك موضوع آخر.
العودة إلى البداية كانت السبيل إلى مجابهة المعرفة الحديثة المعلوماتية-التقنية الحافز والغرض. لم تكن العودة إلى البداية أمرًا غريبًا عند هيدغر. هنا أيضًا على خطى نيتشه، عاد إلى أصول الفلسفة الغربية ما قبل سقراط، ما قبل الفصل الحاسم ما بين العقل والطبيعة، ما بين اللغة والواقع، ومن ثم ولادة التفكير الفلسفي المتعالي على الكون. عاد إلى سؤال الكينونة، معنى أن تكون ما قبل ولادة الميتافيزيقيا الأفلاطونية وحتى استلامه هو لمشعل الحرية من يد سلفه نيتشه. ثم إن الكارثة حدثت في ألمانيا، واضطر الفيلسوف الألماني إلى اللواذ بالصمت لبضعة أعوام عاد بعدها ليتكلم عن البداية ولكن من منطلق اللغة نفسها.
النثر منزل الفكر، فإذا ما آثر الفكر اتخاذ الشعر منزلًا بديلًا يقتل القصيدة ويفشل في الحصول على القوة التي يستحقها. هذا ما تعلمناه منذ البداية، وما رددناه من دون شكٍ أو تساؤل. ولكن لا، ليس بالنسبة لهيدغر! الشعر هو منزل الفكر لأن المفكر شاعر. هناك حدٌ من التفكير يبلغه المفكر فلا يعود بوسعه التعبير عما يفكّر إلا شعرًا. الفكرة لا حياة لها إلا في القصيدة أو كقصيدة. والقصيدة، أو الشعر، معرفة! وموضوع المعرفة عند هيدغر ليس المجهول وإنما المخفي أو المستور. وهناك فارق كبير ما بين المجهول والمستور: الأول هو ذاك الذي ما انفك يقع خارج حدود قدراتنا المعرفية، أما الآخر، فهو الذي وقع في مجال معرفتنا ثم أننا عمدنا إلى إلقاء الستار عليه وحجبه ونسيانه.
من منطلق الوعي الزمني للأمر فإن المجهول ينتمي إلى المستقبل في حين أن المستور يقع في الماضي. ولكن، وكما الإشارة في سياق سابق، الزمن عند هيدغر هو بمثابة الماضي المستمر. وأية معرفة للآتي لا بد وأن تكون في سياق معرفة الماضي المستمر، المعرفة التي هي رفع الستار عن المستور. ومثل هذه المعرفة لا يمكن الحصول عليها من خلال اتباع منهج البحث العلمي الحديث، أي الملاحظة والاختبار. بالعكس تمامًا، الفيلسوف الألماني يدعو إلى معرفة فلسفية ترفض الخضوع لميتافيزيقيا المعرفة العلمية التقنيّةَ الحسابات والغرض. المعرفة الفلسفية هي التفكير، وهي متوافرة فقط لمن هو مستعد للتفكير وليست لطلّاب وخبراء المعرفة العلميّة.
هيدغر في الحقيقة يمضي على خطى الفيلسوف الفرنسي ديكارت في الشك بكل ما يُعرَف، سواء عن طريق العقل أو الحواس، التلقين أو الاكتساب. وهناك صلة وصل مهمة ما بين منهجي ديكارت وهيدغر في بلوغ المعرفة واليقين، الشك الشامل عند ديكارت، والتفكير كمنهج للكشف عن المستور عند هيدغر. هذه الصلة تتمثل في ما يسميه الفيلسوف الألماني إدموند هوسيرل بتعليق الاعتقاد بصحة ما نعرف. هوسيرل هو الذي أخرج فلسفة ديكارت من عنق الزجاجة وكان في الوقت نفسه معلمَ هيدغر أيضًا. وسواء أكان الأمر الشك الشامل بما نعرف أم تعليق الإيمان بصحة ما نعرف، فإن المعرفة المقصودة هي التي تنتمي إلى الماضي، إلى ما لُقّناه واكتسبناه في الماضي. هذه المعرفة هي الستار الذي يقف ما بيننا وما بين المستور. والتفكير، المعرفة الفلسفية، هو السبيل لرفع الستار عن المستور.
وبما أن التفكير عند هيدغر متوافر لكل من يستخدم عقله لمعرفة ما يتجاوز التفاصيل أو الحقائق العلمية المتوافرة التقنية الاكتساب والوجهة، فإنه كلما أمعن في هذا الضرب من التفكير كلما صار صاحب أفكار ومفكّرًا بالتالي إلى حدٍ لا تعود اللغة المتداولة تكفي لتتحقق من خلالها الفكرة. والفكرة عند هيدغر ليست منفصلة عن لغة، ليست سابقة لها. لا فكر هناك من دون لغة. وفي الشعر تتحق تلك الولادة الطبيعية للفكرة-العبارة أو العبارة-الفكرة حيث من المحال الفصل أو حتى مجرد الكلام عن ثنائية الفكر واللغة. الشعر هو أرقى أشكال التفكير عند هيدغر. الشعر يكشف، يرفع الستار عما صير إلى ستره وحجبه ونسيانه.
فتغنشتين ولغة الصمت
هناك عبارة يونانية تقول: “يتكلم مثل الطير”! والمعنى المقصود بأنه يتكلم كلامًا غير مفهوم من قبل الآخرين. وحينما آب أورفيوس من العالم الآخر جعل يتكلم إلى الطيور. أي يتكلم لغة الطير أو مثل الطير، يتكلم كلامًا غير واضح لبقية الأحياء من البشر. ففي ذهابه إلى العالم الآخر تجاوز أورفيوس حدود عالمنا وبالتالي حدود اللغة المستخدمة في عالمنا. إنها لغة الأرواح، أو لغة الصمت، التي يتكلم عنها الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتين.
“حدود اللغة هي حدود العالم” يقول فتغنشتين في أحد كتابيه الأشهرين “أطروحة منطقية فلسفية”. ينتهي العالم حينما نستنفد القدرة على استخدام اللغة ومعها لا يبقى أمامنا سوى الصمت. ولكن ماذا يقصد فتغنشتين بالصمت؟ انعدام الكلام فحسب؟ أم الصمت بدافع التأمل الروحي والعبادة؟ أم أنه صمت من نوع آخر؟
لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن نتذكر ما الذي يعنيه فتغنشتين حينما يقول أيضًا بأن اللغة هي مجمل الافتراضات “ذات معنى”. والافتراض “ذو معنى” هو الذي يصوّر واقعًا ما في العالم. وبذلك فإن مجمل الافتراضات هي مجموعة صور العالم. بكلام آخر، اللغة المقصودة هي اللغة الفلسفية، أو حتى الفلسفة، بحسب نفسها. الصمت بهذا المعنى هو بلوغ حدٍّ تنعدم معه إمكانية تقديم افتراض “ذي معنى”.
الصمت صمت فلسفي إذًا. أو صمت الفيلسوف. يمكن لغير الفيلسوف أن يواصل الكلام. ولكن أي كلام؟ أية افتراضات يُقدم؟
افتراضات “بلا معنى”.
حينما يميّز فتغنشتين بين الافتراض “ذي المعنى” والافتراض “بلا معنى”، فإنه لا يعني أن الأول افتراض قابل لأن يُفيد بمعنى ما، في حين أن الآخر لا يفيد بأي شيء. لا، وإنما أن الأول يمكن أن يخضع للقياس المنطقي أو العلمي: “الأرض تدور حول الشمس”، مثلًا، افتراض قابل لاخضاعه للقياس العلمي. في حين أن قول: “وجهك جميل جمال القمر” لا يمكن إخضاعه للقياس المنطقي أو العلمي. إن هذا الأخير “بلا معنى” يعني أننا لا يمكن قبوله كافتراض فلسفي. كل الافتراضات التي تنتمي إلى علم الجمال (هذه قصيدة جميلة) أو الأخلاق (هذه امرأة محترمة) أو الدين (الله سيعاقب الكافر)، لا مكان لها في الفلسفة بحسب فتغنشتين. لغويًا أيضًا! كل ما هو مجازي لا مكان له في الفلسفة. الشعر لا مكان له في الفلسفة أيضًا نظرًا إلى اعتماده على المجاز.
نعم، فتغنشتين أقصى الشعراء من محيط الفلسفة. وهذا ما يذكرنا بإقصاء أفلاطون الشعراء عن الجمهورية. الشعراء ينطقون عن الهوى والنطق عن الهوى سيختلق مشكلة لما ينبغي أن يُقال أو لا يُقال في الجمهورية. ولكن هناك فارق جوهري ما بين إقصاء فتغنشتين للشعراء وما بين إقصاء أفلاطون لهم. فالأول إذ يقصيهم، من المدار الفلسفي، لا يمنعهم من الكلام، يمكنهم أن يقولوا ما يشاؤون. أفلاطون على العكس من ذلك يُقصي الشعراء لكي لا يبقى منافسٌ للفيلسوف (الحاكم) على الكلام.
يضع فتغتشتين حدًا للفلسفة حينما يحصرها باللغة الحرفية القابلة لأن تخضع للقياس. ومن ثم يُطالب الفيلسوف بالصمت نتيجة عجزه عن استخدام لغة تخضع للقياس. وحينما يصمت الفيلسوف يصير مجال الكلام مفتوحًا أمام من لا تقتصر العبارة عنده على المعنى الحرفي. تصير منصة الكلام في عهدة من يستخدم المجاز، أي الشاعر. أُصمت أيها الفيلسوف، فقد بلغت حدود ما لا يسعك الكلام عنه! تكلّم أيها الشاعر لقد صار الآن وقت المجاز!
شوبنهاور، بيسوا ولغة الخيال
بعد أن أزال فتغنشتين عن الفلسفة كل ما تراكم فوقها من مجازات وأوصاف، وبعد أن أعادها إلى الأصل المجرد في ما يمكن معرفته وما ينبغي الوقوف أمامه أو المرور عليه بصمت، قرر أن يعيش في كوخ في إيسلندا محاطًا بالثلج والجليد. أعاد فتغنشتين الفلسفة إلى لغة الصمت وشاء أن يحيا محاطًا بالبياض، اليقين الثابت في الفلسفة والحياة.
الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا عاش حياة فكرية واجتماعية مماثلة لما سعى إليه فتغنشتين. وهو آمن بوجود عوالم خفية وغيبيّة، وقد انضوى في مرحلة من حياته في مزاولة ضرب من التنجيم. لهذا نجد أن عالم الخيال عنده لا يعني عالمًا لا وجود له. وهناك قصيدة مبكرة له يصف فيها عالمًا لا قياس له، ولا تفاصيل محددة، ومع ذلك أشدَّ حياةً من الحياة وأكثر طبيعية من الطبيعة. لا أرض هناك ولا تربة وإنما فقط يأس صقيعٍ وافدٍ للروح التي ترى تلك البلد هناك من دون حجاب، تقع في مجال جامد لا حدود له، صامتة، غابة من الأذرعة المقطوعة المرفوعة بلا فائدة إلى السماء.
إنه العالم الأدق حقيقة وطبيعية من العالم الذي نقيم فيه إقامة مادية موثقة توثيقًا رسميًا. وعالمنا المادي الحاضر ليس فقط غير حقيقي، هو إلى ذلك عالم فاسد وباطل. لهذا سعى بيسوا أن يقصر إقامته فيه على الحدّ الأدنى والضروري إلى درجة أنه صار أقرب إلى ظلٍ أو شبح. لا أولاد ولا زوجة ولا حبيبة ولا ملكية خاصة. أما العمل فوظيفة متواضعة تكفي لكي تدفع عنه غائلة التشرّد والجوع وربما تتيح له تناول كأسين أو ثلاث في حانة رخيصة. ولا أصدقاء أيضًا، بالمعنى المتعارف عليه للصداقة، بدليل أنه كان يشرب لوحده. أما الصداقات التي ربطته مع بعض الأدباء والفنانين فكانت عابرة وتنتمي إلى عالم الشعر الذي لا ينتمي إلى العالم المحسوس أصلًا.
مضى بيسوا على خطى فتغنشتين. ولكنه أيضًا آمن بما قال به الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور وطبّقه في حياته اليومية بحذافيره. الوجود، بحسب شوبنهاور، هو مجرد فكرة صادرة عن الإرادة، بل حتى إنه مجرد وهم مدفوع بإرادة الحياة وحدها. ونحن كلما أمعنا في الاستجابة إلى هذا الوهم كلما استغرقنا فيه مؤمنين بأنه حقيقي، بل إنه العالم الحقيقي الوحيد. ولن يكون من المبالغة القصوى الزعم بأن يوميات بيسوا، المنشورة الآن تحت عنوان “كتاب اللاطمأنينة”، هي نوع من الترجمة العمليّة لكتاب شوبنهاور العمدة “العالم كإرادة وفكرة”. بل إن “كتاب اللاطمأنينة” يبدو أشدّ مصداقية من كتاب شوبنهاور وأعمق. ربما لأن بيسوا كان في حياته الفعليّة أصدق من شوبنهاور في الزهد بالحصول على الشهرة والجوائز. أو ربما، وعلى الأرجح، لأنه كان شاعرًا وليس فيلسوفًا أكاديميًا، كما هو الأمر بالنسبة لشوبنهاور، وبالتالي كان أقدر وأوسع حرية لأن يتحرر من عبودية إرادة الحياة، ليس فقط على مستوى الوظيفة المهنية، وإنما أيضًا، والأهم، على مستوى اللغة.
وخلافًا للغة الفيلسوف الأكاديمي التي توسلها شوبنهاور في مؤلفاته، وبعضها كُتب خصيصًا لأجل الفوز بجوائز أكاديمية، فإن لغة بيسوا هي لغة الشعر، ولغة الشعر هي لغة الخيال، والخيال الخالص في حالة بيسوا. وعالم الخيال، كما سبق القول، عالم حقيقي عند بيسوا، وأشدَّ حقيقية من عالمنا الفعلي هذا. ومن ثم كان من اليسير عليه أن يُعطل إرادة الحياة منسحبًا إلى عالم بديل أصدق يُغنيه عما يمكن أن يقدمه العالم الحاضر من مباهج وجوائز.
أعاد بيسوا، خاصة في عمله الأهم، “كتاب اللاطمأنينة”، كتابة أطروحة أن الحياة لعنة وألم متواصل وأن إرادة الحياة هي محاولة هروب من هذه الحقيقة أو مراوغة. بيد أنه لم يستخدم المنطق، لم يسق مقدمات ولم يخلص إلى خلاصات، بل ولم يستخدم حتى مفردات مثل لعنة وعذاب وألم وإرادة الحياة. الكتاب برمته هو بمثابة بوح، تسجيل يوميات وانطباعات فلسفية غير عادية، لرجل يعاني من الشظف والوحشة وانعدام الأمل. رجل يكتفي بالحدّ الأدنى من الحياة. الكتاب هو في الحقيقة تطبيق لوصية شوبنهاور بضرورة تعطيل أو إجهاض إرادة الحياة.
بيسوا حارب الشهرة بأكثر مما حاربها فيلسوف التشاؤم الكبير، أو على الأقل ادعى محاربتها. بخلاف شوبنهاور الذي حارب بشراسة من أجل أن ينتزع اعترافا بأهميته سواء في الميدان الأكاديمي أم الشعبي، فإن بيسوا كان في الحقيقة زاهدًا برغبة الحصول على أية شهرة أو اعتراف لأن العالم الذي شاء العودة إليه، الأصل أو البداية، يشبه العالم الذي غامر أورفيوس في الذهاب إليه أو دفعه الشعر إلى المغامرة بالذهاب إليه.
بورخس- الشاعر الشامان
إذا كانت رحلة أورفيوس إلى العالم الآخر، عالم الموتى، هي رحلة إلى المستقبل الذي هو الماضي أيضًا، على ما سبق القول، فهي رحلة “شامانية”- رحلة الروح لالتقاء بأرواح أخرى. والشامان، بحسب الدراسة الشاملة التي زودنا بها عالم الأديان مريشا إلياد، هو شخصية مهمة في الحضارات القديمة. فهو ساحر وطبيب وقارئ مطّلع وقد يكون أيضًا صوفيًا وشاعرًا أو شاعرًا صوفيًا، أو كما في حالة الأديب الأرجنتيني خورخي بورخس، يلعب دور الشاعر الشامان وإن لم يدّع القدرة على اللقاء بالأرواح.
تأثر بورخس عميقًا بالمثالية الأفلاطونية والغنوصية الأرسطية و”القبالة”، أي التصوف اليهودي. وهذه المصادر تتفق جميعًا على وجود مثال أعلى سابق لكل ما هو موجود في الواقع والخيال معًا بما في ذلك اللغة نفسها. العالم نفسه، وفقًا للواقع القائم أو المتخيّل، هو ترجمة لتلك اللغة الأولى سواء جاء ذلك كتجسيد للمثال أو نتيجة الفيض الإلهي، تبعًا للنظرية الغنوصية، أو الأمر الإلهي “كُن فيكون!”. المثال قبل المادة والحرف قبل الكلمة أو الإسم الذي يشير الى شيء ما. العالم في الأصل من حروف.
بورخس كان فيلسوفًا هاويًا وأديبًا محترفًا، شاعرًا وكاتب قصة قصيرة ومقالة. ولقد جعل يكتب في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته نصوصًا على غرار نصوص بودلير المجموعة في كتاب “سأم باريس” والشذرة الأدبية والأمثولة التي كتبها فرانز كافكا. بورخس، سواء من حيث الحافز أو الغاية، كان أقرب إلى كافكا منه إلى بودلير، وكتابة نصوص سرديّة تجمع ما بين النثر والشعر لم تكن بمثابة انتقال من كتابة قصيدة موزونة إلى كتابة ما يُعرف بـ”قصيدة النثر”.
بورخس، شأن كافكا، لم يُقم وزنًا كبيرًا للحدود الفاصلة ما بين عالم وآخر مختلف الطبيعة أو ما بين شكل أدبي وآخر. منذ البداية تعاشق في نصوصه الواقع بالخيال، الديني والدنيوي، القصة والمقالة وطبعًا الفلسفة والشعر. لا تُسلّم نصوصه بوجود بدايات ونهايات صارمة أو واضحة. يبدأ النص وكأن المؤلف يبدأ من نصف القصة ويحتاج أن يعود إلى البداية وينتهي من دون خلاصة حاسمة بما يتوافق مع فكرة الاتصال ما بين اللغة والكون على الأقل في حدود انعدام اليقين حول الحد الذي تنتهي عنده اللغة ويبدأ منه الواقع أو العكس بالعكس. وانعدام اليقين هو ما يكشف عن تلك المنطقة الواقعة ما بين الشعر والفلسفة، المنطقة التي ينزع إليها الشاعر والفيلسوف. النصوص (قصائد النثر) التي كتبها بورخس هي تعبير عن هذا النزوع سواء من جهة الأديب الشاعر أم الفيلسوف.
بورخس لم يعتبر نفسه شاعرًا صوفيًا، أو شامانيًا، بقدر ما شاء أن يلعب هذا الدور بدافعٍ ولغرضٍ جماليّ. وعند بورخس فإن اللغة في الشعر هي “حادث” جمالي وهو من خلال هذا الحادث الجمالي شاء أن يمتحن العقل الفلسفي، المنطقي المنهج، وفي الوقت نفسه أن يستخدم المجاز والموسيقا خارج سياقها المألوف. ولكن غواية أورفيوس، غواية العبور إلى العالم الآخر، لم تكن بعيدة عن طموح بورخس المتأثر بالمثالية والغنوصية والتصوّف. ومجرد الاستجابة إلى غواية أورفيوس هو امتحان للعقل الفلسفي. أما محاولة استخدام الشعر والموسيقى لاستعادة الميت، لإحياء الميت، فهو امتحان للحادث الجمالي المزعوم في العالم الأول (السابق واللاحق). قل العدم، إن شئت أو قل حالة الخلق الأولى، الفردوس في ظل رعاية عين الله الساهرة.