إيفلين وو-كاتب إنجليزي
ترجمة: عبد المقصود عبد الكريم- مترجم مصري
إيفلين آرثر سانت جون وو (1903-1966) روائي إنجليزي وكاتب قصة قصيرة. وهو كاتب يعتبره الكثير من النقاد من أبرز الروائيين الساخرين في عصـره. تلقى تعليمه في كلية لانسينج، ساسكس، وكلية هيرت فورد، أكسفورد. بعد فترات قصيرة من دراسة الفنون والعمل مدير مدرسة، كرس حياته للسفر الانفرادي وكتابة الروايات، وسرعان ما اكتسب شهرة واسعة لذكائه الساخر وتألقه التقني. خلال الحرب العالمية الثانية خدم في مشاة البحرية الملكية وحرس الفرسان الملكي. وفي عام 1944 انضم إلى البعثة العسكرية البريطانية لأنصار يوغوسلافيا. وبعد الحرب تقاعد وعاش في غرب إنجلترا.
ومن أعماله التي ترجمت إلى العربية رواية «سبق صحفي» من ترجمتي، وقد صدرت عن دار يسطرون، السعودية، في 2023، ورواية حفنة من تراب من ترجمة أسامة منزلجي، وصدرت عن دار المدى.
وهذه القصة، من مجموعة الأعمال القصصية الكاملة.
1
ربما كان زواج توم وتش من أنجيلا ترنش تروبردج حدثًا غير مهم في ذاكرة الأحياء. يتضمن التاريخ السابق للشابين، في خطوبتهما أو حفل زفافهما، كل السمات التي يمكن أن تجعلهما نموذجين عاديين تمامًا في الظروف الاجتماعية الحديثة. كتبت إحدى صحف المساء:
«كان الأسبوع مزدحمًا في كنيسة سانت مارجريت. حيث أقيم حفل الزفاف العصـري الثالث لهذا الأسبوع عصر اليوم، زفاف السيد توم وتش والآنسة أنجيلا ترنش تروبردج. السيد وتش، الذي يعمل في المدينة مثل الكثير من شباب هذه الأيام، هو الابن الثاني للراحل المبجل ولفريد وتش من هوليبورن هاوس، في مدينة شافتسبري؛ ووالد العروس، العقيد ترنش تروبردج، معروف بأنه رياضي، وقد ترشح عدة مرات للبرلمان عن حزب المحافظين. وكان شقيق السيد وتش، الكابتن بيتر وتش من حرس كولدستريم، وصيف العريس. ارتدت العروس وشاحًا من دانتيل بروكسل القديم الذي أعارته لها جدتها. وطبقًا للموضة الجديدة، موضة قضاء العطلات في بريطانيا، فإن العروس والعريس يقضيان شهر عسل وطني في غرب إنجلترا».
إنه وصف كامل، لا يحتاج إلى إضافة.
كانت أنجيلا في الخامسة والعشرين، جميلة ولطيفة ونشيطة وذكية ومحبوبة؛ وهي في الواقع، من الفتيات اللائي يجدن، لسبب غامض متأصل في علم النفس الأنجلوسكسوني، صعوبة بالغة في زواج مُرْضٍ. في السنوات السبع الماضية، فعلت كل ما تفعله عادةً الفتيات من نوعها. كانت ترقص، في لندن، في المتوسط أربع أمسيات في الأسبوع، في السنوات الثلاث الأولى في منازل خاصة، وفي السنوات الأربع الأخيرة في مطاعم وملاهٍ ليلية؛ وفي الريف، كانت تساند الجيران إلى حدٍّ ما، وتشارك في حفلة صيد تمنَّتْ أن تصدمهم؛ وعملتْ في أحد الأحياء الفقيرة وفي محل للقبعات، ونشـرت رواية، وكانت وصيفة العروس إحدى عشـرة مرة وأمًّا بالعماد مرة؛ وقعت مرتين في حب غير مناسب؛ وباعت صورتها مقابل خمسين جنيهًا لقسم الإعلانات في شركة متخصصة في منتجات التجميل؛ واجهت مشكلة حين ورد اسمها في أعمدة النميمة؛ عملت في خمس حفلات أو ست حفلات خيرية ومسابقتين، ودافعت عن مرشح المحافظين مرتين في الانتخابات العامة، ومثل كل فتاة في الجزر البريطانية، لم تكن سعيدة في البيت.
في سنوات الأزمة كانت الأمور لا تطاق. لبعض الوقت أبدى والدها تردُّدًا متزايدًا في فتح منزل لندن؛ الآن بدأ يتحدث بطريقة شريرة عن «التدبير»، ويعني التقاعد الدائم في الريف، وتقليل عدد الخدم في المنزل، وإيقاف مدافئ غرف النوم، وخفض مخصصات أنجيلا، وشراء ميل ونصف من مصايد الأسماك في الحي، كان يضع عينه عليها منذ عدة سنوات.
في مواجهة الاحتمال الكئيب للإقامة لأجل غير مسمى في بيت أسلافها، قررت أنجيلا، مثل الكثيرات من الفتيات الإنجليزيات العاقلات قبلها، أنه من غير المرجح، بعد علاقتين تعيستين، أن تقع في الحب مرة أخرى. وبالنسبة لها لا يوجد انفصال رومانسي بين الحب والثروة. كان الأبناء الكبار أكثر ندرة من أي وقت في ذلك العام وكانت هناك منافسة ساخنة من أمريكا ودول الدومينيون1. ولم يكن أمامها سوى الاختيار بين عدم الراحة مع والديها في بيت فخم أو عدم الراحة مع زوج في إسطبلات لندن.
اهتم توم وتش المسكين بأنجيلا بشكل معتدل منذ موسمها الأول. كان نظيرها الذكر في كل الخصائص تقريبًا. حصل على تعليم عادي، وبعد حصوله على بكالوريوس بتقدير مقبول في التاريخ من الجامعة، التحق بمكتب شركة كبرى للمحاسبين القانونيين، ويعمل معهم من حينها. وطول فترات العصـر غير المشمسة في المدينة، يتطلع بحزن إلى أيام دراسته الجامعية، حين كان يتبع بسعادة الروتين الطبيعي للنجاح الجامعي بالركوب مع شخص آخر على حصان مستعار في «طحن» كنيسة المسيح، وتحطيم الأثاث مع أعضاء نادي البولينجدون2، والعودة عند الفجر، عبر النافذة بعد الرقص في لندن، وتقاسم المساكن القذرة باهظة الثمن في الهاي مع شباب أكثر ثراء منه.
اعتادت أنجيلا، باعتبارها واحدة من الفتيات المشهورات في عامها، أن تكون زائرة متكررة لأكسفورد والمنازل التي يقيم فيها توم أثناء الإجازة، وبما أن التتابع الممل لسنوات في مكتب محاسبة أيقظه وأصابه بالاكتئاب، بدأ توم ينظر إليها باعتبارها من البقايا المشرقة القليلة من ماضيه الساحر. كان لا يزال يخرج قليلًا، لأن الشاب غير المرتبط لا يكون عديم القيمة تمامًا في لندن، لكن حفلات العشاء المتأخرة التي يذهب إليها عابسًا، متعبًا من عمله اليومي وبعيدًا عن المواضيع التي حاول المبتدئون إثارة اهتمامه بها، لم تظهر له إلا الهوة التي تتسع بينه وأصدقائه السابقين.
أنجيلا، لأنها (بشكل لا يمكن توضيحه تمامًا) فتاة لطيفة جدًّا، رآها ساحرة باستمرار، وقد ردَّ اهتمامها بامتنان. لكنها جزء من ماضيه، وليس من مستقبله. كان اهتمامه عاطفيًّا، لكنه لا يتسم بالطموح. إنها جزء من شبابه الذي لا يُعوَّض؛ لا شيء يمكن أن يكون أبعد من التفكير في أن تكون رفيقة محتملة له في الشيخوخة. وبناء على ذلك، جاء عرضها للزواج بمثابة مفاجأة لم تكن موضع ترحيب على الإطلاق.
بعد أن غادرا رقصة مزدحمة ومملة تمامًا، جلسا يأكلان رنجة في ملهى ليلي. وكانا في حالة مزاجية حميمة ورقيقة بعض الشيء، وكانت تتطور بينهما باستمرار حين قالت أنجيلا بصوت لطيف:
«أنت دائمًا ألطف معي من أي شخص آخر، يا توم؛ أتساءل لماذا» وقبل أن يتمكن من صرف انتباهها -كان لديه عمل يومي شاق بشكل غير عادي وكانت الرقصة مذهلة- كانت قد طرحت السؤال.
تلعثم قائلًا: «حسنًا، بالطبع، أقصد أن أقول إنه لا يوجد شيء أرغب فيه أكثر من ذلك أيتها الفتاة الكبيرة. أعني، كما تعلمين، بالطبع كنت دائمًا مجنونًا بك… لكن الصعوبة تكمن في أنني ببساطة لا أستطيع تحمل تكاليف الزواج. ولن أستطيع على الإطلاق لسنوات، كما تعلمين».
«لكنني لا أعتقد أنني أبالي بأن أكون فقيرة معك يا توم؛ كل منا يعرف الآخر معرفة جيدة. وكل شيء سيكون سهلًا».
وقبل أن يعرف توم ما إذا كان مسرورًا أم لا، أُعلِنت الخطوبة.
كان يكسب ثمانمائة جنيه في السنة؛ وأنجيلا تكسب مائتين. كان «المزيد قادما» لهما كليهما في النهاية. لن تكون الأمور سيئة للغاية إذا اتفقا على عدم الإنجاب. عليه التخلي عن أيام الصيد من وقت لآخر؛ وعليها التخلي عن خادمتها. وعلى هذا الأساس للتضحية المتبادلة رتّبا لمستقبلهما.
هطل المطر بغزارة يوم الزفاف، ولم يخرج سوى آخر المتحصنين من بين حشد سانت مارجريت لمشاهدة التعاقب الحزين للضيوف وهم ينزلون من سياراتهم التي تتساقط عليها الأمطار ويندفعون في الطريق المغطى إلى داخل الكنيسة. ثم أقيم حفل في بيت أنجيلا في شارع حدائق إجيرتون. وفي الرابعة والنصف، استقل الزوجان الشابان القطار من بادينجتون إلى غرب إنجلترا. طُويت السجادة الزرقاء والمظلة المخططة ووضعتا بين بقايا الشموع والأوساخ في مخزن الكنيسة. أطفئت الأنوار في الممرات وأُغلِقت الأبواب. وكُدِّست الزهور والشجيرات في انتظار التوزيع في عنابر مستشفى للحالات المستعصية، تهتم به مسز وتش. بدأت سكرتيرة مسز ترنش تروبردج في إرسال عبوات من الورق المقوى باللونين الفضي والأبيض من كعكة الزفاف إلى الخدم والمستأجرين في الريف. سارع أحد المرشدين إلى كوفنت جاردن لإعادة معطفه الصباحي إلى شركة لتجارة ملابس السادة، وكان قد استأجره منهم. واستُدِعي طبيب للكشف على ابن شقيق العريس الصغير، الذي، بعد أن اجتذب اهتمامًا كبيرًا كوصيف في الحفل بتعليقاته الصـريحة، أصيب بارتفاع في درجة الحرارة وعدد من أعراض التسمم الغذائي المقلقة. أعادت خادمة سارة ترمبري في سرية ساعة السفر التي أخذتها السيدة العجوز عن غير قصد من بين هدايا الزفاف. (كانت نقطة ضعفها معروفة جيدًا، ولدى المحققين أوامر دائمة لتجنب حدوث مشهد من هذا النوع في حفل الاستقبال. ولم تكن تدعى كثيرًا هذه الأيام إلى حضور حفلات الزفاف. وحين تُدعَى، كانت الهدايا المسـروقة تُعاد دائمًا في ذلك المساء أو في اليوم التالي). اجتمعت الوصيفات على العشاء ووقعن في تخمين متلهف حول علاقات شهر العسل الحميمية، وكانت الاحتمالات في هذه الحالة هي ثلاثة إلى اثنين أن الحفل لم يكن متوقعًا. انطلق قطار ويسترن الفاخر السـريع عبر الريف الإنجليزي الرطب. جلس توم وأنجيلا متجهمين في عربة تدخين من الدرجة الأولى، يناقشان ما حدث في ذلك اليوم.
«من المدهش جدًّا أنه لم يتأخر أي منا».
«انزعجت الأم كثيرًا…»
«لم أر جون، هل رأيته؟»
«كان هناك. وودَّعنا في القاعة».
«أوه، نعم… أتمنى أن يكونوا قد حزموا كل شيء».
«ما الكتب التي أحضرتها؟»
حفل زفاف عادي وهادئ تمامًا.
قال توم في الحال: «أعتقد أن الأمر لم يتسم بالمغامرة إلى حد ما من جانبنا، بالذهاب إلى منزل العمة مارتا في ديفون. هل تتذكرين كيف ذهبت عائلة لوكود إلى المغرب واستولى عليهم قطاع الطرق؟»
«وتساقطت الثلوج على عائلة راندال لمدة عشرة أيام في النرويج».
«أظن أننا لن نتعرض لمغامرات كثيرة في ديفون».
«حسنًا يا توم، نحن لم نتزوج من أجل المغامرة حقًّا، أليس كذلك؟».
ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا اتخذ شهر العسل منعطفًا غريبًا.
2
«هل تعرف إذا تغيرنا؟»
«أعتقد أننا سنتغير. نسيت أن أسأل. حصل بيتر على التذاكر. سأنزل في إكستر وأعرف».
دخل القطار إلى المحطة.
قال توم وهو يغلق الباب خلفه ليتقي البرد: «أقل من دقيقة». سار على رصيف المحطة، واشترى صحيفة مسائية من ويست كنتري، وعلم أنه لا داعي للتغيير، وهو عائد إلى عربته أمسك شخص بذراعه وقال:
«مرحبا، انتبه أيها الصديق! هل تتذكرني؟» وببعض الصعوبة تعرف على الوجه المبتسم لأحد معارفه القدامى في المدرسة. «أرى أنك تزوجت للتو، تهانينا. كنت أنوي الكتابة إليك، يا له من حظ سعيد، تعال وتناول مشروبًا».
«أتمنَّى لو أستطيع، يجب أن أعود إلى القطار».
«أمامه وقت طويل، أيها الصديق، ينتظر اثنتي عشرة دقيقة هنا، يجب أن تتناول مشروبًا».
لا يزال توم يبحث في ذاكرته عن اسم صديقه القديم، وذهب معه إلى بوفيه المحطة. «أعيش على بعد خمسة عشـر ميلًا، كما تعلم. جئت لاستقبال القطار، نتوقع وصول بعض علف البقر من لندن، لا يوجد أي علامة على ذلك… حسنًا، كل التوفيق».
شربا كأسين من الويسكي، وشعر بارتياح هائل بعد رحلة القطار الباردة. ثم قال توم: «حسنًا، سعدْتُ برؤيتك، يجب أن أعود إلى القطار الآن، تعال معي وقابل زوجتي».
وحين وصلا إلى الرصيف، كان القطار قد اختفى.
«أقول، أيها الصديق، إنه أمر مضحك للغاية، كما تعلم، ماذا تفعل؟ ليس هناك قطار آخر الليلة، أخبرك بأمر، من الأفضل أن تأتي وتقضي الليلة معي وتمضي في الصباح، يمكن أن نرسل برقية لزوجتك بمكانك».
«هل أفترض أن أنجيلا ستكون بخير؟»
«نعم! لا شيء يمكن أن يحدث في إنجلترا، بالإضافة إلى أنك لا يمكن أن تفعل أي شيء. أعطني عنوانها وسأرسل برقية الآن لأخبرها بمكانك. اقفز إلى السيارة وانتظر».
في صباح اليوم التالي، استيقظ توم وهو يشعر ببعض القلق. تقلب في السـرير، وهو يتفحص بعينيه الناعستين أثاث الغرفة غير المعتاد. وتذكَّر: تزوج بالطبع. وقد ابتعدت أنجيلا في القطار، وسافر هو لأميال في الظلام إلى منزل صديق قديم لا يتذكر اسمه. وقد وصلا وقت العشاء. شربا البرجندي والبورت والبراندي. شربا كثيرًا حقًّا. تذكرا العديد من الفضائح المنزلية، وكل أنواع الإهانات المضحكة لأساتذة الكيمياء، والمغامرات بعد حلول الظلام حين ذهبا إلى لندن إلى خط «43». ما اسم الزميل؟ من الواضح أن الوقت لم يعد مناسبًا لسؤاله. وعلى أية حال عليه أن يصل إلى أنجيلا. وافترض أنها وصلت إلى منزل العمة مارتا بأمان واستلمت برقية منه. بداية محرجة لشهر العسل -لكنه هو وأنجيلا يعرف كل منهما الآخر جيدًا… لم يبدُ الأمر كما لو كانت قصة حب مفاجئة.
يُستدعَى: «تجتمع كلاب الصيد بالقرب من هنا هذا الصباح يا سيدي، يتساءل القبطان إن كنْتَ مهتمًّا بالذهاب للصيد».
«لا، لا! يجب أن أغادر مباشرة بعد الإفطار».
«قال القبطان إنه يمكنه أن يعيرك حصانًا، وملابس يا سير».
«لا يا سيدي لا! مستحيل تمامًا».
وحين نزل توم لتناول الإفطار ووجد مضيفه يملأ قارورة ببراندي الكرز، بدأت الخيوط السـرية تحرك مشاعره.
«بالطبع نحن مجموعة كوميدية. يخرج الجميع، القسيس، المزارعون، جميع أنواع الحيوانات، لكننا عمومًا نسير بشكل جيد على طول حافة المستنقع، من المؤسف أنك لا تستطيع الخروج. أود أن تجرِّب فرسي الجديدة، فهي رحلة رائعة… ربما تكون مناسبة لهذا النوع من الريف…»
حسنًا، لماذا لا؟… ففي نهاية المطاف، هو وأنجيلا يعرف كل منهما الآخر جيدًا… لم يبدُ الأمر كما لو…
وبعد ساعتين، وجد توم نفسه وسط رياح عاتية وهو يعدو بفرسه بجنون عبر أسوأ ريف للصيد في الجزر البريطانية -تتابع نبات الخلنج والمستنقعات، تكسـره أخاديد وصخور وجداول جبلية ومناجم الحصى المهجورة- وكلاب الصيد تنطلق أعلى الوادي المقابل، والفرس تسير بشكل مثالي، وأولاد المزارعين على مهور صغيرة بشعر أشعث، وزوجات المحامين على جياد قوية، وقباطنة البحر القدامى المتقاعدون يقفزون بارتفاع اثنتين وسبعين بوصة تقريبًا، والأطباء البيطريون والنواب يغوصون بجانبه، ولا يشعر باهتمام حقيقي.
وبعد ساعتين كان لا يزال في ظروف غير مريحة، حيث يجلس وحيدًا في الخلنج، ويحيط به من كل ناحية أفق متواصل من أرض بور فارغة. نزل على الفرس ليضيِّق حزامًا، وركض عبر أحد التلال للوصول إلى الحقل، ووضعت فرسه قدمها في جحر أرنب، فسقطت، وتدحرجت بالقرب منه بشكل خطير، ثم وقفت على قدميها، وانطلقت بسـرعة نحو إسطبلها، تاركة إياه على ظهره، يلهث لالتقاط أنفاسه. والآن صار وحيدًا تمامًا في بلد غريب تمامًا، ولا يعرف اسم مضيفه ولا اسم بيت مضيفه. تصور نفسه يتجول من قرية إلى قرية ويقول: «هل يمكن أن تخبرني بعنوان شاب كان يصطاد هذا الصباح؟ في منزل الجزار في إيتون!» وبالإضافة إلى ذلك، تذكر توم فجأة أنه متزوج. وبالطبع كان هو وأنجيلا يعرف كل منهما الآخر جيدًا… ولكن هناك حدود.
في الثامنة من ذلك المساء، دخل شخص مرهق إلى الردهة المضاءة بالغاز في فندق رويال جورج، في مدينة تشاجفورد، ينتعل حذاء مبتلًّا من أحذية ركوب الخيل وعليه ملابس ممزقة وموحلة. هام خمس ساعات في المستنقعات وكان جائعًا. قدَّموا له جبنًا كنديًّا، وسمنًا، وعلبة سلمون، وقنينة من الجعة، وأرسلوه للنوم في سرير نحاسي كبير يصدر صريرًا أثناء تحركه، لكنه نام حتى العاشرة والنصف من صباح اليوم التالي.
بدأ اليوم الثالث من شهر العسل بشكل أكثر ملاءمة، والشمس الكئيبة تشرق إلى حد ما. كان توم، متيبِّسًا ويشعر بألم في كل عضلة، يرتدي ملابس ركوب الخيل التي لا تزال رطبة، الملابس التي أعارها له مضيفه المجهول، واستفسر عن الوصول إلى القرية النائية حيث يوجد منزل عمته مارتا، حيث تنتظره أنجيلا، تنتظره حتمًا بفارغ الصبر. أرسل لها برقية: «أصل هذا المساء.. سوف أشرح الأمر. كل الحب» ثم سأل عن مواعيد القطارات. هناك قطار واحد غادر بعد الظهر بقليل، وبعد ثلاثة تغييرات، نقله إلى محطة مجاورة في وقت متأخر من ذلك المساء. هنا عانى من توقف آخر. لا توجد سيارات للإيجار في القرية، ومنزل عمته على بعد ثمانية أميال، والتليفون لا يعمل بعد السابعة. ارتجف وعطس نتيجة السفر بملابس مبللة. من الواضح أنه يعاني من نزلة برد شديدة، واحتمال السير لمسافة ثمانية أميال في الظلام لا يمكن تصوره. أمضى الليل في النزل.
بزغ فجر اليوم الرابع ليجد توم نفسه عاجزًا عن الكلام وشبه أصم. في هذه الحالة، جاءت السيارة لتنقله إلى المنزل الذي استعاره لقضاء أسبوع في شهر العسل، هنا استقبل بخبر مغادرة أنجيلا مبكرًا في الصباح.
«تلقت مسز وتش برقية يا سيدي تفيد أنك تعرضت لحادث صيد، وانزعجتْ جدًّا لأنها عزمت عدة أصدقاء على الغداء».
«وأين ذهبت؟»
«كان العنوان على البرقية، يا سيدي، نفس عنوان برقيتك الأولى… لا يا سيدي، لم تُحفظ البرقية».
وهكذا ذهبت أنجيلا إلى مضيفه بالقرب من إكستر؛ حسنًا، يمكنها أن تعتني بنفسها بكل سرور، وتوم يعاني من مرض شديد أنساه القلق، وقد ذهب مباشرة إلى السرير.
مر اليوم الخامس في ذهول وبؤس، وتوم يرقد في السـرير بفتور يقلب صفحات الكتب التي جمعتها عمته خلال الخمسين عامًا من حياتها النشطة في الخارج. وفي اليوم السادس بدأ ضميره يزعجه. ربما عليه أن يفعل شيئًا بشأن أنجيلا. واقترح كبير الخدم أن الاسم الموجود في الجيب الداخلي لمعطف الصيد من المحتمل أن يكون اسم المضيف السابق لتوم، والمضيف الحالي لأنجيلا. وحسم الأمر ببعض العمل مع الدليل المحلي. أرسل برقية.
«هل أنت بخير؟ في انتظارك هنا. توم»، وتلقى الرد:
“حسنًا تمامًا. صديقك الرائع. لماذا لا تنضم إلينا هنا. أنجيلا”.
«أرقد في السرير وأعاني من برد شديد. توم».
«آسفة جدًّا يا عزيزي. أراك في لندن أو أنضم إليك. الأمر لا يستحق كل هذا العناء. أنجيلا».
«أراك في لندن. توم».
بالطبع أنجيلا وهو يعرف كل منهما الآخر جيدًا…
وبعد يومين التقيا في الشقة الصغيرة التي زينتها مسز وتش لهما.
«آمل أن تكون قد أحضرت جميع الأمتعة».
«نعم يا حبيبتي. يا لها من متعة أن تكون في المنزل!»
«المكتب غدًا».
«نعم، ولدي مئات الأشخاص الذين يجب أن أتصل بهم. لم أشكرهم على الدفعة الأخيرة من الهدايا بعد».
«أتمنى لك وقتًا طيبًا؟»
«ليس سيئًا. ما أخبار نزلة البرد؟»
«أحسن. ماذا نفعل الليلة؟»
«وعدْتُ بالذهاب لرؤية ماما، ثم قلت أنني سأتناول العشاء مع صديقك في ديفون. جاء معي ليرى بعض علف البقر. بدا من اللائق الخروج معه بعد الإقامة معه».
«تمام. لكنني أعتقد أنني لن آتي».
«لا، لا ينبغي، سيكون لدي الكثير من الأخبار التي قد تصيبك بالملل».
في ذلك المساء، قالت مسز ترنش تروبردج: «اعتقدت أن أنجيلا تبدو جميلة الليلة، شهر العسل أفادها. من المعقول جدًّا ألا يأخذها توم في رحلة مرهقة في القارة. يمكنك أن ترى أنها عادت مرتاحة تمامًا. وكثيرًا ما يكون شهر العسل وقتًا صعبًا، خاصة بعد كل هذا الاندفاع في حفل الزفاف».
سألت زوجها: «ما قصة اتخاذهما كوخًا في ديفون؟»
«لا يأخذان يا عزيزتي، بل يُمنَح لهما، بالقرب من منزل صديق أعزب لتوم على ما يبدو. قالت أنجيلا إنه مكان جيد يمكن أن تذهب إليه أحيانًا حين تريد التغيير. لا يمكنهما أبدًا الحصول على إجازة مناسبة بسبب عمل توم.
قال مستر ترنش تروبردج وهو يغط في نعاس خفيف، كالمعتاد في التاسعة مساءً: «معقول جدًّا، معقول جدًّا حقًّا».
الهوامش
الدولة المستقلة من الكومنولث البريطاني. وتشمل عدة دول على فترات مختلفة ومنها: كندا، أستراليا، نيوزيلاندا، دومينيون نيوفنلند، اتحاد جنوب أفريقيا، إيرلندا الحرة، باكستان، سريلانكا، كينيا، جامايكا، ونيجيريا، أوغندا، الصومال.
نادي البولينجدون: نادٍ خاص مخصص للطلاب الذكور في جامعة أكسفورد. معروف بأعضائه الأثرياء، والولائم الكبرى، والسلوك السيئ، بما في ذلك تخريب المطاعم وغرف الطلاب.