1-1 الكتابة والتجربة:
الكتابة تجربة للبحث عن الذات (فردية أو جماعية) وهي تتحرك في الواقع، وهي الى جانب ذلك رغبة في الامساك بأهم ما يحدد بعض حالاتها وأحوالها الطارئة أو الدائمة، وصولا الى محاولة الوعي بها، وكلما نجح الكاتب في ملامسة مختلف محددات التحولات التي يعيشها، وتمكن من تجسيدها على النحو الأمثل كنا امام الذات (وأقصد الانسان) في أبهى صورها، وأدق تفاعلاتها مع المحيط، أي الواقع. وأي نجاح على هذا المستوى لا يمكن أن يتأتى إلا بالنجاح الفني في التعبير عن حالات الذات، ومحاولة الغور في مكنوناتها وزواياها الخفية.
نحاول في هذه الدراسة تتبع تحولات الذات في رواية "فراق في طنجة" (1)، وسعى الكاتب الى تجسيد الوعي بها من خلال عملية الكتابة، وذلك بالوقوف على أهم المسارات التي يتحدد لنا عبرها عالم الرواية، من جهة، وننتقل بعد ذلك الى معاينة التجسيد الفني لتلك المسارات من خلال فعل الكتابة ذاته من جهة أخرى.
1-2 طنجة فضاء للحكي:
يظهر من خلال عنوان رواية عبدالحي مودن الأولى "فراق في طنجة" أن فضاء عالمه الروائي هو طنجة. ويثيرنا الى درجة التساؤل، كون العديد من الروائيين المغاربة يتخذون من طنجة فضاء لعوالمهم الروائية، يمكن في هذا النطاق أن نشير على سبيل المثال لا الحصر الى روايات: "بحر الظلمات" ( 1990) لمحمد الدغمومي، و "مغارات" (1994) لمحمد عز الدين التازي، و "الضوء الهارب" (1995) لمحمد برادة،، ليتأكد لنا ذلك. ولا يتأتى لنا في هذا المضمار أن ننسى محمد شكري الذي كلما ذكر تم استحضار طنجة. فما هو السحر الخاص الذي تختص به طنجة، ويمنحها هذا الطابع المميز الذي نتبين بعض سماته من خلال ما تقدمه لنا هذه وسواها من النصوص الروائية والقصصية، سواء لدى كتاب مغاربة أو أجانب ؟ ذلك ما سنحاول الوقوف عنده عبر تناول رواية "فراق في طنجة"، وتحليلها من خلال البحث في خصوصيتها الحكائية والسردية، وموقعها ضمن خارطة الابداع الروائي المغربي التي تنتني باطراد بالعديد من النصوص والتجارب.
2- ثلاثة مسارات:
تختط رواية "فراق في طنجة" ثلاثة مسارات تتضافر مجتمعة لتشكيل مختلف العوالم الحكائية التي تتكون منها، وتزخر بها وكل مسار منها له سماته الخاصة التي لا يمكننا الاحاطة بها بدون ربطها بغيرها، والوقوف عند أهم ملامحها التي تتميز بها، وتعطيها بعدها الخاص الذي يسهم في تكوين اقتصاد النص وانسجامه.
2-1 المسار الأول: البحث عن الكتابة أو الهروب من المرأة:
يعيش الراوي – الشخص وضعا متدهورا. وسبب هذا الوضع الذي الى اليه يعود الى مغادرة "ماري" إياه، وهي التي عاش معها زهاء عشر سنوات، إنها عشرة طويلة جدا بالنسبة اليه، وتبين له من خلالها أنه لا يمكن أن يعيش بدونها، لقد عادت ماري الى موطنها (الغرب)، وهو غير قادر على الهجرة معها.
هذا الفراق، وهو الأساس، ليس هو الفراق المعلن عنه في عنوان الرواية لأن الراوي يعيش في العاصمة وهناك سيحدث «الفراق » بينه وبين ماري. أما الفراق الحاصل في طنجة حيث ستجري أغلب أحداث الرواية فيمكننا الانتهاء اليه بعد استكمال عناصر التحليل.
نجمت عن هذا الفراق وضعية "حرمان" و "تدهور" ويبرز ذلك بجلاء في التحولات التي طرأت على سلوك الراوي – الشخص. لقد عاد بشراهة الى التدخين والشراب، وصار يعيش متأزما وقلقا بصورة لا حد لها. وكلما ذكرت أمامه ماري (كما فعلت أمه حين سألته عن الزواج وعن ماري) أحس بالانفعال الزائد، والنفس المتوترة، ينصحه زميله باسم بالرحلة، ومعاشرة نساء أخريات عساه يجد السلوان:
"لم لا تسافر لبضعة أيام. اقترح باسم بعد أن حدثته وأنتما تنهيان الكأس الأخيرة تلك الليلة عن رغبتك في أن تفطس في قعر بحر الى الأبد". (ص 10).
يسافر الراوي – الشخص فعلا الى طنجة، وهناك يستشعر ومنذ يومه الأول بأنه أحسن حالا، وأن وضعه هنا أريح له، وأجلب للطمأنينة. نلمس ذلك بوضوح من خلال إعلانه وهو يراقب الغروب من نافذة غرفة الفندق: "وسرت في الجسم السكينة التي جئت تبحث عنها. ليتني أبقى في هذا الوضع الى الأبد". (ص 15). كما أنه يثني على نصيحة زميله باسم حين يكتشف أن طنجة تلائمه أكثر بمقارنتها بالعاصمة:
"لم تصل إلا منذ أمس، وهو المشي في شوارع طنجة يبعث فيك متعة اكتشاف الوجوه والبنايات التي لم تتعود عليها بعد" (ص 10) ويعلق الراوي -الشخص على حضوره: "كانت فكرة صديقك باسم جيدة إذن". (ص 10).
نلمس من خلال فعل الرحلة البحث عن السلوان والنسيان، وبدأ يتحقق بعض ذلك كما ألمحنا منذ الوصول الى الفضاء الجديد. لكن ما يثير الانتباه في هذا المسار هو أننا نتبين أن الراوي – الشخص يصطحب معه آلة كاتبة في رحلته هذه الى طنجة. واذا كان هاجس الرحلة الأساسي يتوارى وراء الهروب من المرأة، فإن الراوي لا يظهر أمام شخصيات العالم الذي انتهى اليه سوى رغبته في الكتابة ذلك لأن أول لقاء له مع أحدى الشخصيات (عبدالله وفاطمة) يكون بسبب
الازعاج الذي كان يحدثه صوت آلته لدى جيرانه، فيتصلان به لاخباره عن ذلك، وعندما يتبين عبدالله (من المشرق العربي) أن جاره كاتب يعتذر لديه، ويخبره بأنه سيغير غرفته، وتتوطد بينهما عرى الصداقة.
يخبر عبدالله مدير الفندق عن صاحبه بأنه كاتب. وعندما تتوطد العلاقة بين الراوي ومدير الفندق (خالد) يسأله هذا الأخير "عم تكتب ؟" فيجيبه الراوي:
"إني في الحقيقة أحاول استئناف الكتابة التي توقفت عنها منذ مدة" (ص 14).
ونفس الموقف عرفه الراوي مع الرسام سليم الذي سأله بدوره عم يكتب، فكان جوابه:
"في الواقع لم أنشر الا بعض المقالات في مجالات متخصصة ولكني الآن في مرحلة إعادة النظر في أمور كثيرة متشابكة لم أحدد بعد الشكل النهائي للتعبير عنها" (ص 22).
بين محاولة استئناف الكتابة، والرغبة في تحديد شكل للتعبير هناك معاناة وتجربة حياتية قاسية يمر منها الراوي. الشخص. فهل الكتابة، والحالة هذه تجسد مظهرا من مظاهر تجاوز وضعية "التدهور" المشار اليه ؟ أم أن الرغبة في الهروب من المرأة (ماري) هي التي دفعت بالراوي الى معانقة الكتابة بصفتها بحثا عن الذات ؟ هناك فرق بين التصورين، وان كان محددهما واحدا ولا يمكننا تقديم الجواب عن السؤالين إلا بعد معاينة كيفية ترابط المسارات وتكاملها لتجسيد علاقة التجربة بالحاجة في الرواية.
كل شخصيات الرواية ظلت تتعامل مع صاحب الآلة الكاتبة باعتباره كاتبا، وحين تتعرف اليه لأول مرة تسأله أبدا عم يكتب ؟ رأينا ذلك مع خالد والرسام سليم ومع المشرقي الذي لم يخف دهشته من أنه لأول مرة يلتقي فيها بكاتب رغم زياراته المتكررة الى المغرب، وحتى المرأة العجوز التي تبيع الخمور المستوردة في الحي الشعبي تسأله عما إذا كان يكتب قصصا. لكن امرأة واحدة لم يهمها أن تعرف ماذا يكتب هي مريم تسأله:
"- كم تنوي البقاء في طنجة ؟ سألتني مريم.
– بضعة أيام فقط.
– وهل جئت للراحة أو العمل ؟
– معا. وان كنت أتمنى أن أحسم في قضايا شائكة تركتها معلقة منذ مدة …" (ص 22-23)
يؤكد الراوي أنه جاء للعمل (الكتابة) والراحة (السلوان). لكن مريم بدهائها وعميق معرفتها بخبايا الرجال وهي تريد أن تدفعه الى الحديث تسأله عن كتابه المقبل، وتستدرك:
"- اذا كنت ترغب في الحديث عن ذلك طبعا." فيجيبها:
– في هذه المرحلة أتأمل الناس والطبيعة من حولي، وأنبش في الذاكرة، علني أعثر على شيء يستحق النشر" (ص 30) لكنها وكأنها لم تقتنع باجاباته تؤكد له:
"ما دمت تتجنب الكلام، فدعني أخمن: فقدت امرأة وأنت الآن لا تعرف خطوتك المقبلة" (ص 31) وعندما يتعجب من نباهتها ويستفسر عن كيفية توصلها الى ذلك، تجيبه:
"- ومن يدفع برجل في سنك للهروب الى طنجة وحيدا في رأس السنة، وعيناه لا تستطيعان إخفاء حزن دفين الا امرأة" (ص 31).
واضح أن الراوي – الشخص يعيش وضعا خاصا أهم سماته الالتباس والقلق. إنه يفكر في الكتابة، هل لنا أن نقول البحث عنها،. وفي هذا النطاق تأتي تأملاته، كما يقول، في كل شيء من حوله ويمتد هذا البحث ليشمل الذاكرة أيضا. وهو في الوقت نفسه يهرب من امرأة، يأمل في لقاء أخريات عسى أن ينسى من خلالهن فراق ماري الذي ترك لديه إحساسا عميقا بالحرمان والضياع.
إن رحيل الراوي – الشخص الى طنجة من العاصمة، كما يظهر لنا من خلال المسار الأول، يتم بناء على رغبة الراوي في البحث عن مادة للكتابة. فهل هو بذلك محاولة للتفكير في التجربة؟ أم أنه رغبة في خوض تجربة جديدة تنسيه التجربة السالفة ؟
2 –2 المسار الثاني: واقع التجربة، تجربة الكتابة:
الرحلة حافز أساسي للحكي، إذ بانتقال الراوي – الشخص الى فضاء جديد، يتحول من وضعية تدهور الى احساس نسبي بالتحسن والاطمئنان، هذا التحول يجعله يعيش "واقعا جديدا" من جهة، ولكنه يظل محملا بتجربة طويلة تعتمل في دواخله من جهة ثانية، وهو الى جانب ذلك يحاول خوض غمار مغامرة الكتابة عن تجربته تلك من جهة ثالثة، وقراءتها وتأملها في ضوء استحضار عوالم طفولته وشبابه من جهة رابعة.
اننا هنا أمام:
1- واقع جديد (فضاء طنجة).
2- تجربة عشق منتهية، ولكن آثارها ممتدة في الوجدان.
3- الرغبة فى تأمل التجربة ومحاولا تجاوزها.
4- الرغبة في الكتابة عن تجربته.
تترابط هذه العناصر الأربعة وتتداخل فيما بينها لتشكيل المسار الثاني للعالم الحكائي الذي تقدمه الرواية. واذا كانت العناصر الثلاثة الأخيرة قد برزت لنا بعض الدلائل الموحية اليها في المسار الأول من خلال الاشارات الى فراق ماري، وحمل الراوي – الشخص الآلة الكاتبة معه الى الفندق بهدف الكتابة، ورغبته في تأمل الأشياء والطبيعة وذاته، فإن العنصر الأول هو ما يشدنا اليه بقوة في هذا المسار الثاني، ذلك لأن الراوي – الشخص لم يمارس العزلة في غرفته بغية التأمل والبحث عن الكتابة كما يمكن توقع ذلك بناء على ما أتينا عليه. إنه ينخرط بكامل وعيه ووجوده في "الواقع الجديد" ويظهر لنا منذ وصوله الى طنجة اجتماعيا بشكل كبير جدا: يتعرف على شخصيات في الفندق، وتتوطد علاقته بهم، وتتطور الى حد مشاركته أفراحهم (الاحتفال برأس السنة)، وكلما رأي امرأة (فاطمة – مريم)، إلا واشتهاها، وفكر في مغازلتها، وحتى عندما يضاجع فاطمة، يفكر في تشويه سمعتها مع الشرقي الذي يريد الزواج منها، فقط لأنه صار أحد معارفه في الفندق، ويتبع الأصول الاجتماعية، يقدم على شراء خمر مستورد ليحمله الى الشلة التي سيقضي معها ليلة رأس السنة.
إنه بكلمة وجيزة تحول من موقع البراني عن الفضاء الذي وصل اليه الى موقع المشارك فيه، وصار بدوره شخصية من شخصيات الرواية في فضاء طنجة، مثله في ذلك مثل عبدالله أو خالد مدير الفندق، أو مريم أو الماضري.
هذا الانخراط في الواقع الجديد يجعلنا أمام ضرورة البحث في مكوناته من الزاوية الحكائية ليتأتى لنا من خلاله ربط هذا المسار بسالفه، ويتيح لنا مراكمة ما يفيدنا في الانتهاء الى المسار الثالث والأخير، وبذلك يتم استكمال مختلف ما يتشكل منه العالم الروائي على اعتبار أن المسار الثاني يمثل المحور الأساسي في بناء الرواية، سنحاول لتحقيق ذلك الوقوف عند المكونات التالية: الزمان، الفضاء، الشخصيات.
2-2-1 الزمان:
بين زمان الانتقال الى الفضاء الجديد، وزمان فراق ماري الذي نجم عنه كل ما حفز على تشكل العالم الروائي حوالي شهرين قضاهما الراوي، الشخص قلقا ومتوترا، يقول الراوي:
"عندما أخبرتك ماري بقرارها بالرحيل، ذلك المساء الممطر من أكتوبر، كنت تعتقد أنها النزوة العابرة التي تنتابها بعد كل خلاف بينكما…" (ص 8).
يبدأ زمان القصة ليلة وصوله الى طنجة يومين قبل رأس السنة (شهر ديسمبر)، ويمتد بعدها يومين، ليكون الزمان بذلك خمسة أيام قضاها الراوي في مدينة طنجة. هذه الأيام الخمسة تتوزع على خمسة فصول، وان كان اليوم الثالث، وهو أطول الأيام لأنه ينتهي بليلة رأس السنة، لذلك نجده يقدم الينا من خلال الفصلين الثالث والرابع، كما أن الفصل الأخير يتسع لليومين الأخيرين. ويظهر لنا الراوي من خلال هذه الأيام وهو يعيش واقعا جديدا بكل ما في الكلمة من معنى. تطرأ عليها تحولات تساهم كثيرا في تغيير مجرى حياته، وتضعه بذلك أمام تجربة "واقعية" جديدة.
هذا الزمان يتواصل فيه الليل والنهار، ولا ينسخ أحدهما الآخر يظل ساهرا الى وقت متأخر من الليل، ويصحو صباحا ليستأنف يوما جديدا، وعلى الوتيرة نفسها، ويبدو لنا أن آلته الكاتبة التي حملها لم يوظفها إلا حال وصوله حيث أزعج جيرانه. أما في باقي الأيام، فهو إما في هذا الفضاء أو ذلك، مع هذه الشخصية أو تلك. وفي هذه الفضاءات، ومع تلك الشخصيات يخوض تجربة جديدة، يتأمل أو يفكر بصوت مرتفع من خلال تجاذبه أطراف الأحاديث مع الشخصيات الأخرى.
عاش الراوي – الشخص في طنجة زمانا جديدا مليئا بالتنقلات والحركة، واكتشاف الفضاءات الجديدة التي تختلف عن الفندق، يختلف هذا الزمان رغم قصر المدة عن الزمان الذي قضاه في العاصمة بعد فراق ماري، والذي كان زمانا بطيئا وتطبعه الرتابة، وفي هذا الزمان الجديد ستطرأ على الراوي تجربة حياتية جديدة، لا يمكنها أن تتولد الا عن هذا الزمان الجديد وما يقترن به من فضاءات وشخصيات جديدة.
2-2-2 الفضاء:
يختلف فضاء طنجة عن العاصمة، بعد فراق ماري أثاره على الراوي هو بعث الاطمئنان، والشعور بالمغايرة: "شيء ما يميز طنجة عن العاصمة. الناس هنا يبدون أكثر أناقة وتأدبا، والحياة لا ينظمها التوقيت الإداري، وجبال أوروبا واضحة قريبة على ممد اليد، (ص 11).
هذا الاختلاف بين العاصمة وطنجة نلمسه أيضا في حديث الرسام لسليم الذي يرى:
«نحن هنا متفتحون على كل بلدان العالم، إلا أننا نكاد لا نعرف شيئا عن العاصمة» (ص 21).
هذا المظهر الايجابي عن فضاء طنجة لا يلبث أن يتزعزع كما توغلنا فيه من خلال قراءة الرواية. يركز الراوي في البداية على البحر والطبيعة والهدوء. وهذا ما استشعره لدى وصوله. لكن الصورة الحسنة التي قدمها له سليم. وتبينها من خلال النادل والناس المؤدبين في الشارع ومن نافذة الفندق، سرعان ما تأخذ في التحول. ويتحقق ذلك منذ البداية مع شخصيات الفضاء أنفسهم. فسائق التاكسي الذي حمله الى الشارع ينصحه قائلا:
"رد بالك، المدينة عامرة بأولاد الحرام " (ص 10) وحتى خالد مدير الفندق يرد على زعم الراوي – الشخص بأن طنجة مدينة لطيفة، بقوله:
"في النهار فقط، وفي الليل تصبح غابة لكل وحوش العالم" (ص 14). أما الفندق الذي جاءه الراوي للحسم في قضاياه الشائكة فتراه مريم على النقيض تماما:
"كنت أعتقد أن فندق خالد لا يصلح إلا لتعليق القضايا الشائكة لا لحلها" (ص 23).
هذا الوجه الآخر للمدينة سيتجلى لنا بوضوح، حيث تبدو لنا مدينة طنجة مليئة بالتناقضات: فالفندق عالم متكامل من الفساد، ولا يحتوي غير السكارى، والمهربين، والباحثين عن اللذة من الشرقيين. وعندما يختزل عبدالله الشرقي المغرب في طنجة يقول معلقا على كلام الراوي -الشخص بأن المغرب ليس جنة:
«أعرف ذلك جيدا، ولكن لديكم الويسكي والنساء» (ص 17).
ولا يعتبر مدير الفندق نفسه «إلا قوادا للمهربين والشرقيين» يهيىء "لهم حلبة جنونهم كل ليلة" كما يقول (ص 17) ويبدو أن ماسح الأحذية (الطفل أحمد) مستعد لفعل أي شيء لزبونه الراوي -الشخص:
"اللي تبغي، العديلات، العيال الحشيش" (ص 12).
وفعلا عندما سيحتاج الراوي اليه لشراء الخمر المستورد، سيجده وسيصطحبه الى الحي الشعبي عند العجوز الماضري التي تبيع الخمر وكل شيء. كما أنه في الطريق الليلية الى فيلا سليم يفاجأ بعدم إشعال بعض أصحاب السيارات أو الشاحنات أضواءهم، فيخبره خالد بأنهم المهربون. في هذا الفضاء يتجاور الغنى بالفقر، المركز (الشارع) والمحيط (الحي الشعبي) ويتناقضان والبحر الذي رآه الراوي في بداية وصوله الى طنجة هادئا، ويشكل الغروب فيه منظرا طبيعيا رائعا، يتحول في اليوم الثالث الى جحيم بعد طفو جثة أحد مستعملي قوارب الموت. وعندما دقق الراوي في وجه الميت شعر بتقزز فظيع عندما رأى جحري العينين ثقبين غائرين ولا أثر للمقلتين فيهما. وحتى المنظر الطبيعي لمناخ طنجة سرعان ما ينقل جذريا مع ظهور رياح الشركي الذي يرغم الراوي على عدم الخروج من غرفته، ويحول المدينة الى فضاء مليء بالغبار وغير قابل للاحتمال.
إن الفضاءات التي تحرك فيها الراوي تشكل عوالم من التناقض والتباين: فمن الفندق الى الشارع فالطريق، الى فيلا سليم، فالحفرة والقرية، نلمس الاختلاف في أنماط الحياة، ومظاهر التماثل مع الغرب كما قال فعلا سليم، ويبدو ذلك بجلاء من خلال الاحتفال برأس السنة سواء في الفندق (لباس الأقنعة) أو في فيلا سليم (طلاء الأصباخ).. لكن عالم القرية الذي سيجد الراوي نفسه فيه بعد انتهاء السهرة، يخالف ذلك العالم: فهنا نجد التقوى والورع والقرآن وفعل الخير.
فضاء طنجة جعل الراوي ينغمس في عالم تجاوز به رتابة الفضاء في العاصمة، ولكن دفعه الى أنه يعيش تجربة جديدة لا يمكنها إلا أن تؤثر في المسار الحكائي لتجربة الراوي كما يمكن أن نعاين ذلك من خلال البحث في الشخصيات.
إن تحويل الزمان والفضاء لا يمكن أن ينجم عنه غير لقاء شخصيات جديدة تختلف عن شخصيات الفضاء الذي انتقل منه الراوي. ويمكننا تمييز شخصيات هذا الفضاء بوضعها في دائرتين تتقابلان وتتكاملان على النحو التالي:
1- عبدالله – فاطمة: شخصيتان طارئتان على طنجة. فعبدالله جاء من المشرق ليبحث عن لذة. وفاطمة التي كانت طالبة عند الراوي منذ سبع سنوات جاءت لتبحث عن المال. يتعرفان على الراوي لأن غرفتهما كانت ملاصقة لغرفة الراوي في الفندق، وكان يزعجهما صوت آلته الكاتبة، تتوطد عرى العلاقة بينهما وبين الراوي، ورغم كون علاقة عبدالله بفاطمة جديدة (ثلاثة أيام) فهما على أبواب الزواج. هذا الزواج الذي لم يتحقق بين الراوي وماري رغم أن العلاقة امتدت عشر سنوات. في الليلة الثانية على التعارف تنجح فاطمة في التسلل من غرفتها، وتقضي باقي الليلة مع الراوي الذي يفكر في مصارحة عبدالله للحيلولة دون زواجه منها. وتحت تهديد فاطمة له، يخبره عبدالله عن قرب الزفاف، ويطلب منه أن يشرفه بالحضور. هذه الدائرة تبين لنا وضع شخصيتين يبحث كل منهما عن الآخر، ويلتقيان، وبدون تعقيدات يتحقق التواصل.
2- خالد – مريم – سليم: تمثل هذه الدائرة نقيض الأولى. فالانقطاع هو السمة المهيمنة بين مكوناتها. خالد مدير الفندق غير راض عن نفسه ووضعه، وكذلك الأمر بالنسبة لمريم التي أحس الراوي بميل شديد نحوها. أما سليم فيجتر همومه في الرسم. يحب خالد أيضا مريم ولكنه غير متحقق من حبها له. تجتمع هذه الشخصيات في فيلإ سليم للخمر والثرثرة. وعندما يتعرف خالد على الراوي. يصطحبه الى الفيلا للسهر معهم، يرغب الراوي في مريم، وحتى عندما تزوره في غرفته لا يظفر منها بطائل عكس فاطمة. إنها ذات تطلعات بعيدة ولا تؤمن بالحب، فهي ذات رؤية ولا تريد الكشف عنها.
بين هاتين الدائرتين يتحرك الراوي، واذا كانت علاقته بالأولى تنتهي بزواج فاطمة من عبدالله، وعدم قدرته على الفصل بينهما، تمتد علاقته بالدائرة الثانية، وسيفشل في تحقيق الوصل بين مكوناتها، بل إن هذه الدائرة التي توطدت علاقته بها أكثر، ستدفعه الى تجربة لا يجني من ورائها إلا "التدهور" الذي لمسناه في البداية قبل وصوله الى الفندق: الفراق الجديد.
بين هاتين الدائرتين المتقابلتين الأساسيتين، نعثر على دائرتين أخريين، لكنهما في هامش الفضاء المركز، وستتاح للراوي فرصة الاتصال بهما:
3- أحمد – الماضري: انهما يمثلان الفضاء الهامشي، والشخصيات الهامشية. فأحمد يمسح الأحذية، ولكنه يقوم بأعمال أخرى. وعندما يحتاج الراوي الى شراء الخمر المستورد سيحمله الى الماضري: القوادة، وبائعة الخمر والحشيش،، بدخول أحمد هذه الدائرة نكتشف في الماضري شخصية فذة، فهي ذات تاريخ في المدينة، وحينما تعرف أن الراوي كاتب، تسأله إن كان يكتب القصص، وتخبره بأنها حكت لكبار كتاب أمريكا وأوروبا، وأنهم يسمونها شهرزاد، وأن أحدهم طلب منها الذهاب الى هوليوود. لكنها لم تفعل. ولذلك ظلت فقيرة، وتعاني الآن من الروماتيزم، تمثل هذه الدائرة الفقر الدائم، ولكنها تفعل المستحيل من أجل تطوير وتغيير وضعيتها (والأعمال الكثيرة والمتنوعة التي يقوم بها أحمد خير دليل).
4- الفقيه. ابن الفقيه: بعد الواقعة التي انتهت بها ليلة الاحتفال في فيلا سليم، والتي سنتحدث عنها في المسار الثالث والأخير، استفاق الراوي ليجد نفسه في بيت الفقيه الذي يقرأ بجواره القرآن. هذه الدائرة تمثل نقيض دائرة الماضمري. صحيح نجد الفقر هنا أيضا، لكن الايمان والتقوى أهم ما تتميز به هذه الدائرة يوجد الراوي – الشخص في وضع لا يحسد عليه، فيأويه الفقيه ويطعمه ويكسوه، ويقدم له نقودا ويصاحبه ابن الفقيه الى حيث ينتظر الحافلة التي تقله الى المدينة. يقوم الفقيه ويطعمه بكل ذلك، وهو يدرك أن صاحبنا كان مخمورا، وينصحه في النهاية وهو يودعه نصيحة تأخذ طابع "الوصية" "خذ بالك من شيطانك" (ص 92).
هناك تباينات بين الدائرتين فإذا كانت الماضري تحكي القصص، فإن الفقيه حامل لكتاب الله، واذا كانت الأولى تعمل على تطوير وضعيتها، فالفقيه يحمد الله على ما عنده، واذا كانت الماضري تأخذ من الراوي، فالفقيه يعطيه، ويسير معه ابنه الى المحطة، أما ماسح الأحذية فإنه ما أن أعطى الراوي البضاعة حتى تركه ليعود وحيدا. تتكامل الدوائر مجتمعة وكل واحدة منها تساهم في تشكيل الفضاء العام للرواية، وفي جعل المسارات الروائية في خدمة تجربة الرواية باعتبارها واقعا وكتابة.
إن كل هذه العناصر تتضافر لتحويل "التدهور" الذي افتتحت به الرواية، وجعلته يتحول الى تحسن"، سرعان ما انتقل بدوره الى «تدهور». وجعلت الراوي، كما عانى من الفراق، يفلح جزئيا في تجاوزه في طنجة، وقد أصبح بعد ذلك أمام فراق جديد.
2-3 المسار الثالث: الأمر بالكتابة:
يتحقق الانخراط التام للراوي – الشخص في عالم طنجة وفضائها: يسهر مع رواد الفندق، يضاجع فاطمة. يذهب الى فيلا سليم للمرة الأولى للتعارف مع سليم ومريم، ومرة ثانية مع مريم في سيارة خالد، يغامر وينزل الى الحي الشعبي لشراء خمر مستورد، ويصبح قادرا على السياقة ليلا في طريق المهربين شديدة الوعورة ليلة رأس السنة. هذه الليلة التي يحدث فيها ما لم يكن متوقعا:
إن عضوي الدائرة الثانية من الشخصيات (خالد. مريم) يخططان لجريمة، ويقحمنا فيها الراوي. عشية الحادث تحول الطقس، اذ بعد حصول الراوي على الخمر المستورد وحمله الى الفندق ابتدأ المطر. تتصل به مريم لتذكره بموعد السهرة، وهو يقود السيارة ليلا، المطر ينهمر، يصادفان حادثة مفجعة في الطريق، وأحد الضحايا يصرخ طالبا النجدة، تستعجله مريم وتأمره بعدم الوقوف لأن في السيارة جثة. يصاب الراوي بالهلع، وحين يستفسر تجيبه، ويتوهم أنها تسخر بانها جثة صاحب الفندق. وبعد وصولهما فيلا سليم تامره بأن يذهب بالسيارة قرب الشاطيء، ويبقى الأضواء مضاءة.
تستمر السهرة والسكر. يحضر خالد يفتش عن مريم وأحمد (الراوي)، وحين يلتقي به يسأله عن الحقيبة ومريم، فيخبره بأنه لا علم له، وحين يدله على السيارة يجدان أبوابها مفتوحة، ولا وجود فيها لأي شيء. يضرب خالد الراوي ويستنتج أن مريم ضحكت عليه، وفرت بالحقيبة. يقدم سليم على احراق لوحاته حتى تشتعل النيران في الفيلا. ويحاول الراوي الخروج وهو يتعثر، يصطدم بشجرة وهو دائخ، يقع على الأرض فاقدا الوعي. وبعد أن ودعه ابن الفقيه وحملته الحافلة الى الشارع، انكره ماسح الأحذية حين راه وابتعد عنه، وعندما تأمل الراوي الجريدة، تناهى الى علمه ما وقع: "جريمة في أحد فنادق الشاطيء. فاسترقت القراءة: "تعرض أحد فنادق الشاطيء ليلة رأس السنة الى سرقة اختفت فيها مبالغ كبيرة من النقود معظمها عملة صعبة. ويشاع أن العملية قام بها بعض مستخدمي الفندق وساهم فيها بعض النزلاء. ويحتمل أن يكون صاحب الفندق تعرض للقتل" (ص 93- 94)، يستدعيه الكوميسير الذي كان يسمع عنه أيام كان دارسا في الجامعة، ويود يخبره أنه لن يحتفظ به ويواصل قائلا:
"لكن يجب أن تعدني أن تكتب كل ما حدث، وتبعث لي به في أقرب وقت"، وتنتهي الرواية وهو يودعه بالقول: «تذكر كل ما تكتب يصبح وسيلة اثبات» (ص 95).
يأتي الأمر بالكتابة ليكمل المسارين السابقين أو لنقل ليعود بنا الى ما كان يمكن أن يكون عليه المسار الأصلي. ألم يحمل الراوي آلة الكتابة ليعب عن تجربة فراقه لماري، ويقوم بقراءة الذاكرة، والتأمل في التجربة ؟ لكن خوضه لتجربة جديدة في فضاء جديد لم يؤد ,إلا الى تكرار التجربة: أليست ماري هي مريم ؟ معا كانت وجهتهما نحو الغرب، ومعا كذلك كانت نهاية اللقاء بهما هي الفراق. واذا كان فراق ماري قد أدى الى معاناة الراوي مدة طويلة، فماذا يمكن أن يؤدي اليه فراق مريم ؟ ما هو الفرق في الفراق إذا كان في العاصمة (ماري) والفراق مع مريم في طنجة ؟ إنه لا يعني، بالنسبة الينا، سوى شيء واحد هو اللقاء مع الكتابة. لقد أجلت الكتابة في التجربة الأولى، ولكن الأمر بالما بة في التجربة الثانية هو ما تولد عنه فعل الكتابة، باعتبارها وسيلة إثبات، والمقصود تأمل التجربة بعمق وهدوء، وصياغتها بطريقة تجعلها قابلة للقراءة.
لقد عثر الراوي – الشخص أخيرا على شكل الكتابة الذي كان يبحث عنه. وجاء ذلك بعد تأمل الذات، والطفولة، والشباب والطبيعة، والواقع.. فكانت حصيلة هذه التجربة بجزئياتها وتفاصيلها هذه الكتابة التي تحمل عنوان "فراق في طنجة" وهذه الكتابة باعتبارها خطابا تستدعي منا قراءة خاصة، وذلك ما نأمل القيام به للاجابة عن مختلف الأسئلة التي تحدد علاقة الكتابة بالتجربة، والتي تقدمها لنا رواية "فراق في طنجة" بصورة أبسط وأعمق، وأوضح وأبلغ.
ـــــــــــــــــ
1- عبدالحي مودن: فراق في طنجة (رواية)، منشورات الرابطة الدار البيضاء 1996.
سعيد يقطين (ناقد واستاذ جامعي من المغرب)