فيليب جاكوتيه*
ترجمة: بهاء إيعالي- شاعر ومترجم لبناني
(1)
سأعاودُ نزول مسارِ النهار خوفًا من أن أتركَ شيئًا ورائي. هل ستفهمني؟ ليس لديَّ أيَّ وسيلةٍ لعدمِ خسارةِ أيِّ شيء، لأنَّني أرغبُ في ألَّا أشيخ، بل ببساطةٍ أن أنضُجَ مع كلِّ سنواتي.
(يردُّ قائلًا إنَّ هذه طريقةٌ شحيحةٌ للعيش، وأنَّه لا يؤمن بحبٍّ ما لم يبدِّد…)
هكذا إذًا سأسيرُ وحدي وسط هذا الضباب
وسأمضي على الرصيف الضيِّق الذي يتأرجحُ بين النوارسِ والزبد.
(2)
بالثلج الذي ذاب عند الاستيقاظ
أستطيعُ مقارنة حبِّي هذا الصباح.
ومع ذلك،
وحينما أغوصُ عميقًا في النوم،
أجدك مجدَّدًا بداخلي،
كأوَّل دمعة.
(3)
كنتِ ضمانتي، ذخيرتي،
وتحت العشب كان جمالُكِ الجاري ينبوعي
ذاك الذي يخفي ضياءه عن الأنظار.
كنتِ سريرَ الصمتِ الأكثر كمالًا.
(4)
بعد أن تجوَّلتُ لوقتٍ طويلٍ في الريفِ المُبتلى بالعمال
نمتُ تحت الأشجار
وكنتِ لي ظلَّها اللامبالي.
من ثمَّ طاردتني الطيورُ المحاكية أو كلابٌ نحو الغبار.
وفي نهاية المطاف
ثمَّة جرسٌ ليليٌّ أثارني
كالعشبِ حيث تغرقُ القبور.
(5)
في الصيف، كانت المدينة تعلِّقُ أقواسها الزرقاءُ حيث أهيم، بعيدًا عن الأشغال المُرهقة وأصوات الأعمال المنزليَّة عند الأبواب المُغلقة بشكلٍ غير مُحكَم.
في طابقٍ فوق حدائقِ الغبار
كنتُ أصعدُ نحو الشمال
حيث كانت عيناك الباردتان
تنفتحان.
(6)
أنتِ يا ليلي الطويل
يا قمرًا باردًا للجدار
كيف يمكنني النوم إلى جانب ضوئك العاري؟
ربَّما تنقذني العصافير، أو أسمعُ الركَّاب النهاريين قادمين.
(7)
ما كنتُ قد حلمتُ به للأيَّام القادمة، من الصعب بناء مسكنٍ منه:
أو حتَّى هذا الهيكل الصغير من الهواء…
سيطيل المرء خطاه حتَّى الحواف،
حتَّى الخفقان الخافتُ لأجنحة المياه،
حتَّى النجم الذي يقتربُ ويُعمى…
هل تمَّت حفلتنا السريَّة حقًّا؟
لم تكن سوى خجلٍ ودموعٍ في الصباح الباكر،
حيث ينسحبُ الضيف المعذَّب
وهو بالكاد مرئي.
(8)
ضع يديكَ على كتفيك وانتظر:
انتظار ماذا؟ ألف يومٍ وألف ليلة،
الحساب ينتقلُ من البرق إلى العار
ومن الأمل إلى هذه النار المتعفِّنة.
(9)
كنتُ أصرخ، أتنقَّل من ملجأ إلى آخر، لا شيء سوى الهواء كان يجرحني حتَّى الإدماء، وعيناه المتجمِّدتان كانتا تضطرمان كالنار، لكنَّني بقيتُ بلا أيِّ عيب، بالكاد بتُّ أكثر هزالًا.
(10)
بعد الشتوة السريعة، يمرُّ نسيمٌ من الانتعاش. إنَّنا نتَّجهُ بسرعةٍ نحو الخريف. التلال بهذا النقاء حيث أجدُ كلَّ مساءٍ الأطفال في عطلتهم، والأجراس على الطرقات. هذه الليلة ليست أقلَّ وطنًا لي من الليالي الباردة في الجبال مع أهلي. حتى أنتَ تعود! أيُّها الوقتُ الضائع… أنتَ تتظاهر بالعودة. أبكي وأحييك.
(11)
متجوِّلًا مرَّةً أخرى نحو ثروات الجبال في برودة البرسيم الليلي، أستريح: وطننا مبنيٌّ من الحجر والتوت، وخراب المستقبل يرسمُ حدوده.
(فرحتي هي أن أرتعش من أجل هذه القلاع الورقية حتى النفس المشتَّت الذي سيوقعني عليها).
الهوامش
* فيليب جاكوتيه (1925 – 2021): من أبرز الشعراء السويسريين في القرن العشرين، وُلِدَ في بيئة ريفية في مودون، مما أثر على كتاباته التي تتميز بالوصف الدقيق للطبيعة. درس الأدب في جامعة لوزان، حيث بدأ يكتب الشعر خلال فترة دراسته الجامعية. انتقل إلى باريس في الخمسينيات من القرن الماضي، حيث التقى بمجموعة من الأدباء والفنانين الذين شكلوا جزءًا من التيار الأدبي والثقافي في فرنسا. عرف جاكوتيه بأسلوبه البسيط والمكثف، حيث يركز على التفاصيل الدقيقة والطبيعة واللحظات اليومية. عمل كمترجم وقدم ترجمات لأعمال أدبية من الألمانية والإيطالية والإسبانية إلى الفرنسية، مما زاد من شهرته وأثرى الأدب الفرنسي.
من أبرز مجموعاته الشعرية: أرواح الأماكن (Les Esprits des Lieux)، دفتر الاخضرار (Cahier de Verdure). وقد حصل على العديد من الجوائز الأدبية، بما في ذلك جائزة غونكور للشعر عام 2003، وتم انتخابه عضوًا في أكاديمية مالارميه (Académie Mallarmé) تكريمًا لإسهاماته الأدبية.
يُعتبر جاكوتيه من الشعراء الذين تركوا بصمة عميقة في الأدب الفرنسي بفضل أسلوبه الفريد وتعبيره الصادق عن المشاعر الإنسانية. كما ويُعتبرُ من الأدباء الذين ساهموا في إثراء الثقافة الأدبية في سويسرا وفرنسا، وترك إرثًا شعريًا يظل مصدر إلهام للأجيال المقبلة.