بدأ المشهد بسقوط – كنت أرقبه من زاوية تطل مباشرة فوق رأسه – إمرأة كسيحة نصف عمياء، تتلمس أي شيء أمامها لتستدل به على طريقها, حين صوب طرف حذائه بين ساقيها، لتسقط ملتوية تحت جسم السيارة, تهذي بلعنات لا تعرف الى من توجهها، والفاعل يعتصر من الضحك, قابضا بطنه, ينز من طرفي أشداقه عرق وبصاق, وعندما تعتلي ء رئتاه بالضحك, ويختنق حلقه, وتتعسر أنقاسه يطلق فحيحا متتابعا يستعيد بها هدوءه, ثم يتصنع ساعدتها وينحني فوق فتحة أذنها.
– هاتي يدك لأساعدك.
– أشكرك يا بني. لعنة الله على هؤلاء الأطفال.
وعندما تختفي العجوز,وهي تسحب أنينها وعرج واضح ل ركبتها، تسقط ضحية أخرى.
لا يميز بين عابر وآخر، أطفال, مسنون, موظفون, الكل يجب أن يذوق مرارة التعثر تحت وطأة ساقه المنزلقة كلوح شائك من جانب الممر.
كان يقتنص ضحاياه بمهارة يخرج طرفا صفيرا من حذائه أسفل السيارة التي يتكيء على مؤخرتها, مرفوع الرأس, مغمض العينين يتمتم بأغنية هادئة في وضع يثير الحيرة للساقطين, وضع لا يمكن أن يتوقعوا فيه أن سبب سقوطهم هو قدم بشرية وليس شيئا آخر.
الضحية الثانية موظف, هزيل الجسم, يرتدي لباسا أنيقا مرفوع الرأس, يخطو بسرعة, يسقط عل ركبتيه, لكنه يتمالك نفسا ويقف, يلتفت ليتأكد أن أحدا لم يره, ونظراته لا تخلو من الاستغراب عن سبب سقطته تلك, يواصل مشيته الشامخة وهو ينفض جوانب بنطاله في عجل, كأن شيئا لم يكن.
وعندما تختفي الضحية يصهل الفاعل مهلة يلتفت اليها الشارع بأسره.
الضحية الثالثة حمار،, يجرجر وراءه عربة مليئة بالخضار، يجهز الفاعل بوز هذائه الفولاذية, بخفة بين حديد إطارها الخلفي، فيقس توازن العربة, وتميل أمام أحد القادمين من الجهة المقابلة, الذي يثني يده مرتبكا عل حانتها, لتهوي وقد تناثرت أحشاؤها الخضراء فوق التراب, أمام استغراب حاد لسائقها وتساؤل كاد يؤدي به الى الجنون.
الوقت غروب والرؤية مائعة, وغبار يحدثه تحرك نتف بنايات منهارة منذ زمن على جوانب الطريق.
سيدة تخور أمام قدمي طفلتها، تصطدم جبهتها بصفحة باب السيارة الموصد وتدوي مؤخرتها مر تكلمة فوق حصى الشارع, ولكي تواري سهام النظرات المشدوهة, تنقض على خد طفلتها وتلطمه لطمتين قبل أن تبتعد.
ضحية أخرى، شاب ثمل, يبعج باب السيارة بركلات قوية من حذائه وهو يزحف موزعا بصاقه ز الأرجاء.
وفجأة ولسبب ني رأسه زحلق الفاعل ظهره من مؤخرة السيارة
وانحرف مبتعدا وهو يرفرف يديه في قرف.
وعندما انتفى الفاعل, اجتاح الشارع شحوب غريب, شحوب امتد الى رامي المتدلي من فتحة نافذة تطل عموديا على ذلك الزقاق الخافت.
كان رامي لا يتحرك حينما كان الفاعل موجودا، كان لا يتحرك كقطعة من الطوب, كقطعة طرية من الطوب, تخاف أن تتحرك لكي لا تتناثر أجزاؤها, وعندما اختفى الفاعل فجأة, حينذاك فقط تحرك رأسي تحرك شادا معه رقبتي وجزءا من ظهري الى خارج النافذة مقلبا عيني في الفضاء. تحرك ليبحث عن مشهد آخر، عن أي مشهد يمكنه أن يثير مست ذلك الشارع, تحرك لأن فراغا شاسعا، لأن فراغا شاسعا وشرسا كان يمور خفية في الأرجاء, ما لبث وأن استعاد دورته الفوارة فور اختفاء الفاعل.
وعندما يئس رأسي من إيجاد شي ء في الممر وعندما تعبت يداي المسمرتان بصلابة على حافة خشب النافذة, دخل رأسي الى قلب الغرفة, متبوعا بيدي اللتين تشنان تعبا أمر رأسي يدي أن تفلقا فتحتي النافذة, ترددتا في تنفيذ ما قال, وعندما ألح رامي عليها بنبرته القوية انصاعتا لأمره, فاغلقتا النافذة بقوة كاد يتناثر معهما الزجاج بعيدا، ثم أمر رامي يدي أن تفعلا شيئا، أي شيء ترددت يداي مرة أخرى، ولكنهما لم تلبثا وان حركتا أطرافهما نبشا في أشياء الغرفة في أثاثها وبين جيوب الملابس, وفوق الطاولة أخذت يداي تحركان الأوراق في عبث تقلبات دون هدف ورأس ينظر اليهما في شرود، ثم أهرهما ان تتوقفا وأن تبحثا عن قلم, فشرعت يداي تقلبان عن قلم, ورأسي ينظر اليهما في ضيق, مقطبا خطوط جبينه, ثم أمرهما أن تبحثا أكثر، كانت يداي تقلبان في نفور، وتبعثران كلما تقع عليه أصابعهما، وكانت قدماي الصامتتان هما من يحمل ذلك العبء الشقي، وعندما وجدت يداي القلم اختفت خطوط جبين رأسي وهدأت نظراته, ثم أمرهما مرة أخرى أن تحضرا الدفتر المسلتي فوق السرير, فتحركت يداي لاحضار ذلك الدفتر ثم أمرهما رأسي أن تحركا صفحات ذلك الكراس في هدوء،ثم في سرعة, ثم أن تقفا عند الصفحة البيضاء, ثم أن تقبضا عل القلم, وان تثنياه على رأس الصفحة البيضاء, ثم أن تكتبا دون تردد أو كسل ما سوف يمليه رأسي عليهما كان رأسي يسرح بعيدا قبل أن يكشف الكلمة الأول (فعل ) ويسرح بعيدا قبل أن يكملها (الفولاذ) ثم يغمض عينيه طويلا, وكانت يداي تنتظران في سأم ما سوف يمليه رأسي عليهما، وكانت قدماي الصامتتان هما من يحمل ذلك العبء الشقي.
بعد ذلك انثالت العبارات دون توقف كأنما وحي مشاكس, انقشع غطاؤه السميك فجأة, وانفلت ساقطا فوق رأسي, أو كأنما صندوق مائي يحمله رأسي مغلقا من رهن, انفجر بغتة, وتهاطلت مياهه الزرقاء حتى آخر قطرة, عند ذلك كانت يداي تتحركان دون توقف تتحركان والتعب يعمر مفاصلهما، وكان رأسي المستبد لا يعرف لهما شفقة, وكانت قدماي
المخرساوان والملكوزتان أسفل جسد تتصارع أعضاؤه دون هوادة هما من يحمل ذلك العبء المشقي.
محمود الرحبي( قاص من سلطنة عمان)