هل رأيتَ مدينة على وشك الرحيل؟ إنها فــاس.
وصلتُها عَصْراً. الضوء في قوّته. الشجر الأحضر يعطي القاع لوناً ممتعاً وذكياً.
من الطائرة أتطلّع إلى الأفق القاتم الخُضْرة، المليء بالهضاب والسفوح، ولا أتعجّل الوصول. قُبَّة السماء المهيمنة على الوجود التي كنا نقترب منها طائرين تملأ النفس بشعور عميق من الاكتمال المفاجئ. تجعل الرائي يتوهَّم خُلوداً، ولو عابراً. إنها لحظة السعادة القصوى التي يرى الكائن فيها جريان الحياة وهو ساكن.
خط اللون الأخضر يتحرّك في الفضاء ، يلاحقنا، وكأنه هو الآخر يطير. سِمات الأفق تتراصَفُ برشاقة فوق سطح الأرض. لكأنها تدعونا للمجيء. للوصول إليها، لتكشف لنا عن أسرار هذه الأرض المليئة بالأفانين. قطعنا جبال الأطلس. اجتزنا الهضاب الغارقة في ضوء الجنوب. وصرنا فوق الأرض المنبسطة مثل كَفٍّ كريمة ترحب بالواصلين. ولكن مَنْ هم الواصلون، اليوم، إلى «فاس»؟ ومَنْ هم الذين وصلوا إليها منذ قرون؟ وما قيمة الجواب وها نحن ندرج فوق أرضها الخضراء مثل فراش وثير؟ أُنْظُرْ!
في فاس توقظني الشمس، ويُنيمُني القمر.
أخرج إلى المشي باكراً. أهبط «الحسن الثاني»، شارع المدينة الجديدة الرئيسي. شارع شديد الجمال، محمّل بالبشر والأزاهير. الناس يمشونه فرحين وكأنهم ذاهبون إلى احتساء كأس من النبيذ المعتّق في«نابولي». أمشي. أقف. أتلَفَّت ذات اليمين، وذات الشمال، ولا أرى سوى الوجوه البشوشة. وجوه كائنات امتلأت بمشاعر شتّى وأقاويل. وهي سعيدة باحتمالها، وكأنها إحدى سرائر الكون.
في الشارع الواسع والطويل، تلفحني الريح القارية الباردة، ويدفئني سَنا الشمس مثل لَهَب بعيد. أمشي مستثاراً. أتَصيَّد الأشكال والأحاسيس. أريد أن أجد «موضعاً» أحب الوقوف فوقه. وأعمل جاهداً للوصول إليه: أريد أن أحدد موقعي في التاريخ. لكن هذا الإحساس المغامر سيبدو لي، سريعاً، مضحكاً وساذجاً، مثل شعور طفل يريد أن يعارض «الكاماسوترا» لمجرد أنه أحس، ذات يوم، بنشوة عابرة.
في «فاس» يمشي الناس بهدوء، ولامبالاة، وبلا توقّف، وكأنهم بدأوا سفراً طويلاً نحو الأبدية. لا ألحَظُ عند أي منهم تشبّثاً بالمكان. ولا يبدو عليهم التعَلُّق به. المكان الفاسي سَطْح عليه يدبّون باحثين عن أمكنة أخرى أضاعوها في زمان بعيد. أي فردوس هو هذا المكان؟
مايثير الدهشة هو غياب أي تعبير عن النفور عندهم من مكانهم هذا الذي يجتازونه بحيادية مذهلة، على العكس من أهل القاهرة، ودمشق، مثلاً. إنهم يسيرون فقط. لكأن المسافة هو الحبل السري الذي يجرُّهم إلى ما لا يصلون إليه. ولكن بِمَ يفكِّر هؤلاء «الغاطسون» في الرحيل؟ وإلى «أين» يريدون أن يصلوا، وهم لم يتوقفوا عن المشي منذ الصباح؟ إلى بيوتهم؟ ولكن أين هي في هذا الفضاء المترع باللوعة والجَمال؟
الشمس هي نعمة «فاس» فلاتْبَعْها.
البهجة الواضحة على أوجه النساء، في «فاس» ـــ وكدت أُقارنهن بأُخريات كئيبات ومتوترات، ولكن أية فائدة من «ضرر غير مُجْد»، وبخاصة عندما لا تتوضح بفعله الأمور بشكل أكثر ِدقَّة ـــ البهجة النَسَوية، هذه، هي التي جعلَتْني أَلْـحَقُ الشمس.
من البطاح الجنوبية، حيث «فاس» الجديدة، أمشي نحو الشمال. أمشي بهدوء وكأني على موعد مع «التنين». من «السهل القادم من حوران» أمشي نحو «قاسيون» الذي تتسَلّق «دمشق» سَفْحه قاصدة قبر «محي الدين بن عربي» الذي أقام هنا سنوات. أنا، الآن، في جنوب «غرناطة»، أيضاً. لكنني أمشي نحو الجبل الذي تركع تحت أقدامه «فاس»: فاس القديمة أُم ّ الأفانين. أمشي. الشمس لؤلُؤة. والفضاء نقيّ وطازج مثل ماء «الفيجة» الدمشقية، صيفاً. ما أسْعَدَني.
تقول «فاس» احْـتَوِني لأرحل معكَ، وأنا أريد أن أقيم فيها. أمشي، وأُبربِرُ: أين يكمن سر جمالك يا «فاس»؟ ولِمَ تراكِ تسيرين عكس ما أسير، وكأنك لا تريدين أن أبْلُغ مبتغاي؟
أقف طويلاً في ضوء الشمس البارد. أتمَلَّى المحيط بهدوء وبلا قناعة مسبقة. أريد أن أن أُحيط بما لا يٌحاط: فضاء أخضر، وهضاب. ودْيان وأحافير. شمس مختالة، واثقة من نفسها، مثل فتاة وحيدة بين صف من الجنود. تقول، بلا استحياء، أنا سيدة هذا الفضاء: فضاء «فاس» الاسطوري، الفضاء المتأهب للرحيل.
في «فاس» أضحك وحدي.
يستقبلونك بلا تردد أو حذر. أنتَ واحد منهم، وهم لا يعبسون بوجه أحد. «عَبَسَ وتوَلّى» خَلَّفْتُه في عالم آخر. لا بد أن الامتزاج البشري العميق والطوعي الذي استمر في الحدوث منذ قرون هو الذي هيّأهم لمثل هذا اللقاء. لمثل هذا البِشْر والسعادة التي تكاد أن تكون لا مفهومة. ولكن هل علينا أن نفهم السعادة؟ يكفي أن نراها على هذه الوجوه العابرة التي لا تنتظر منا حتى التطلُّع إليها.
يطعمونني التمر والزبيب بمجرد أن أتوقف عندهم. تجذبني الروائح القديمة، وأشكال المُجففات والمعاريض. أتذكر حياتي البائسة الأولى التي وَلَّتْ. ريح شهوة قديمة تصير تَعُجُّ في نفسي، ولا استطيع أن أمنعها من الانبهار. آه! كم كنا سعداء وتعساء، صغاراً!
في الطفولة الأولى، طفولة الانسانية المحرومة من «اللون والطَعْم»، كنا لا نتوقف عن الركض خلف الحَمّارين المحملة حميرهم بشتى الألوان والطُعوم. ولم نكن نحصل، في النهاية، في نهاية اليوم القائظ، إلا على النظر من بعيد إلى الأشياء. إلى الأشياء التي ستغدو، فيما بعد، عند مَنْ لم يطعمْها، أسطورية. «أشياء وألوان» لا زالت تحركني مثل نَبْض قديم. تؤكِّد لي أنني لا زلتُ حيّاً، وقابلاً للدهشة.
في طريقي إلى «بوجلود»، باب المدينة القديمة الأكثر شهرة. أمر على مقهى «الصاعد والهابط». أتذكر الروائي الرائع «خوان رولْفو» في روايتة القصيرة الجليلة: «بيدرو بارامو»، وهو يحكي عن السهوب والانحدارات التي يسلكها الرواي، حيث لا تعيين للجهات فيها، وإنما هي هبوط وصعود حسب جهة المسير. الفضاء يبقى مفتوحاً لمَنْ يؤمُّه، وهو مغلق، فقط، على الذين لا يسيرون فيه. إلى أين كان ذاهباً ذلك الراحل الذي لا يعرف مَن ْيبحث عنه، ويحسب فقط، يحسب، أنه «أبوه»؟ أبوه الذي لم يره قط، ولا يعرف عنه سوى «الاسم العام». أيكون، هو الآخر، مثلي، ذاهباً نحو «فاس»، أو آيباً منها؟
في ساحة «مولاي الحسن»، عند أقدام «فاس» القديمة، أقف طويلاً في ضوء الشمس الباهر. أتطلّع إلى الجهات. أرى «غرناطة»، «ودمشق». أرى الفضاء المشرقي المغسول بالضوء. أرى المدينة القديمة وجبلها الأخضر الرابض فوق وجه القاع بطمأنينة لا حدود لها. أرى شذرات من التاريخ الاندلسي ممزوجاً بروح الشام. منعجناً بأريج هذه الأرض التي تسحر قلبي.
أرى «فاس».
في «فاس» أنتَ في قلب تراث الانسانية. أنتَ في ذاتك التي لم تكن تراها. أنت في التاريخ الذي كنتَ، ربما، تجهله، ويجهلك، وصرتَ تراه ماثلاً ، للتَوّ، أمامك. لا بد أن توفيق الحكيم عندما كتب «عودة الوعي» كان يقصد، كما صرت أحس الآن، عودة الذات إلى تراثها. إمشِ «فاس»، على قدميكَ، إذن، وتمَعَّنْ، جيداً، فيها، فهي ستحصِّنُكَ ضد الانهيار.
في «فاس» ستحس بالوئام مع نفسك، وكأنك تلتقيها بعد هَجْر طويل. لم تعد العِدائية القديمة تُحرِّك مشاعرك. ولا أحاسيس التعاسة العمقية التي كانت تتفجّر، من آن لآخر، في أعماقك تزعج اطمئنانك. غَسَلْتَ روحك تحت ضوء الشمس الفاسية كما تغسل النعامة رأسها بالتراب. وتنَشَّفْتَ بالريح الجبلية الباردة دون أن تُعذِّب نفسك بالبحث عن الحلول. كنتَ تعرف أن الحلول، هي دائماً، حٌلول فيزيقية. وأن الميتافيزيقية منها ليست إلا لعبة فكرية ابتدعها الكائن الخائب ليحاول العبور إلى ما وراء المكان. إلى حيث العدم الذي هو، في النهاية، مصيره الأخير.
هل فهمت ماذا تعني فاس؟
أدخل، أخيراً، «فاس» القديمة. أدخل في روحي. أقف في باب «بوجلود». أختلط بالمارة والسائرين. أتنزّه واقفاً في الفضاء. الحياة هي هذه الجموع التي لا اسم لها، ولها الاسماء كلها. إنها هذه الألوان الفاقعة والشاحبة. المَشْهولة والمنخفضة. الرابضة والطائرة في الريح. إنها كل هذا الخليط المنسجم. كل هذه الهيولىالتي هي الآن في طريق التشكل والانتثار. أي فاس! كيف كنتُ أجهلكِ من قبل؟ وأي كون آخر يمكن له أن يُنسينيكِ؟
يخرجون من الظلام. من أزقة معتمة ويابسة مثل أخاديد الحصى. ضيِّقة مثل فروج عذراء. يخرجون بهدوء من العتمة إلى النور دون أن يأبهوا بما، او بمَنْ، يحيط بهم: أهل فاس.
ينْصَبّون في ضوء الزقاق الأكبر قليلاً من الزقاق الذي أجبرهم على الانحناء والدَلْبَحَة ليجتازوه. يمشون بلا مبالاة حتى وهم يجتازون الظلمة إلى النور. لكأنهما حالتان متماثلتان وإنْ كانتا تتبادلان الفضاء بلا انقطاع. هم أهل المكان، وهم يعرفون معنى الدخول والخروج. معنى هذه العملية التي لم تتوقف منذ أن كانوا في أحضان أمهاتهم، لابِسات القفاطين التي تُبِْرز ارتجاج أردافهن الطرية مثل ذيول عرائس البحر الشهية.
خروج وولوج أزليّ في أزقة لا تبرح المكان. مارسوهما، ولا بد، منذ أجيال صارت الآن في عِداد العدم. أقرأ هذا، هذا التَلَف، على جِباه الرجال المتَّئدين ، وعلى أوراك النسوة العَجِلات، وكأنهن في سباق مع الزمن، وهن يقصدن أحداً لاطئاً، هناك، ينتظرهن في عتمة الزاوية القادمة.
رأت الشهوة في عيني وأنا أتطلّع إلى صحون الطعام المرصوفة بحب، وقد أعدَّها بحفاوة صاحب المُطَيْعِم الشعبي في«الطلعة الكبيرة» سي عبد الرحمن الحفصي. رأت التلَهُّف والمغالاة في وجهي وعيني، المرأة التي كانت تقف لصقي منتظرة دورها. وكأنها أحسَّتْ بي أريد أن أسقط في الصحون، ابتعدت قليلاً لتفسح لي فضاء أنظر منه بشكل أكثر قرباً إلى روائع الحفصي المتوهِّجة باللون والرائحة. كنتُ أفكر: لو استطيع أن أذوق كل هذه الموائد العجيبة. لو أدُسَّ أصابعي فيها. لو ألحسها. لو أتنشّق روائحها. وعندما استعدت نفسي من إغماضها رأيتهم يتطلّعون بدهشة إليَّ. ولم أكترث. المرأة هي الوحيدة التي دعَتْني، مثلما كانت أمي تدعو جائعاً يُقْعي في وجه البيت: تفضل استاذ! قالت، وهي تزيح جسدها الجميل عن المنحنى الذي تصطف فوقه الصحون.
كلمته كثيراً، وكلمني، سي الحفصي. جعلني أتذَوَّق من صحونه المدهشة كما أشاء. ظلت المرأة واقفة لا تبيع ولا تشتري، وإنما تتفرّج بعمق على لَهْفَة الطعام المرسومة على شفاهي. لكأنها تأكل شَهْوتي. كنتُ أتلَمَّظُ، تحت أنظارها وأنظارالحفصي الأريبة، جالساً على طاولة وسخة وبالية في مكان ضيّق ومحصور، لكنه يتِّسع لتاريخ من المودة والإلْفَة والأُنس.
التاريخ مقبرة، وفاس باب الخروج منها، ولكن إلى أين
في نهاية «الطلعة الكبيرة» أقع في «سماط العُدول». السماط المجاور لــ «جامع القرويين». أدخل الجامع متهيِّباً: تاريخي وثقافتي، أراهما على الحُُُُُُُصر والسجاجيد وبين أقدام الذين يؤمونه برهبة مثلي. أرى العالم وقد توضَّأ واغتسل وصار جاهزاً للقاء ربه الذي يتصوَّره رحيماً وعَطوفاً.
جامع باذخ وشديد الوقع على الذات مثل صَرْح من القرون الأولى. بنَتْه «لَلّا فاطمة بنت سيدي محمد بن عبد الله الفهْري» في القرن الثالث الهجري. وبَنَتْ، كذلك، جامعة القرويين التابعة له. وهي أول جامعة اسلامية ، كما يقول لي الشيخ العارف، الفقير إلى رحمته تعالى: «الأحمر» الذي لَقَفَني من الباب، وجعلني أخلع على الفور حذائي، وأطوف الجامع، حافياً، تحت نظره الصارِم والعَطوف.
أدخل من باب، وأخرج من باب. أدخل من «العُدول» وأخرج من «الشَمّاعين». أمشي في الطرق الضيقة والجميلة. الطرق المليئة بالمدْهِشات. أبحث عن «مولاي ادريس»: مؤسس المدينة، كما يُقال. مقامه هائل الروعة ومَلْموم مثل قبر كبير. يضم المقام «دار القيطون»، أو ضريح مولاي ادريس، وجامع الأشراف ( نسبة إلى الشرفاء من سلالة علي وفاطمة). تعتبر قُبَّتُه من أكبر القِباب في «فاس». وهو من أشهر المزارات في المغرب. إليه يحج الناس من مختلف الجهات.
«مولاي ادريس» خُذْني بلطفك.
أعود. أمشي المدينة القديمة بالاتجاه المعاكس. أعبرها صاعداً حتى «باب بو جلود». أرى في الصعود ما لم أره في النزول.
سيكون مبتذلاً أن أقول إن «فاس» تدهشني. إنها تعيدني إلى ذاتي التاريخية. تجعلني أرى العالم القديم الذي اعتقدتُ أنه لم يكن إلا تاريخاً، (أراه) واقعاً حيّاً يثير البهجة والشهية للحياة.
أعرف أن الكائن في العالم العربي، اليوم، مضطرب، لكنني أُدرك، الآن، كَمْ هو مُسْتَلَب ومغشوش. كم هو منصرف إلى ما لا ينفعه، ولا يقيه من الهاوية. فهو إنْ لَمْ يَعِ ماذا تعني «فاس»، فإنه لن يعي شقاءه التاريخي الذي سيطول. وربما سيزداد طغياناً ( أقصد الشقاء) إلى أن يؤدي إلى تدميره عَبْر تَفْريغ ذاته التاريخية من محتواها.
ولا تدعهم في غيّهم يعمهون.
أعبر الشارع إلى الجهة الأُخرى. أبحث عن بقعة دافئة عَصْراً. أجلس تحت سلطة الشمس النظيفة الخالية من ضباب التلوّث والانهيارات. نَسْمَة البرد القارية النافذة، جعلَتْني ألجأ إلى شعاعها. ولأن احتمائي بها تكرر، صارت الشمس الفاسية صديقتي. هي التي تقودني إلى الأعالي، وهي التي ترميني في الحضيض. أضع نفسي في غضونها وأرقى إلى الغيوم. أريد أن أتحلّق، هذا النهار، في فضاء فاس، مثل صـــــــــاعدِ حَبْلٍ يقوده إلى العَدم. وما العدم إنْ لَمْ يكن هو تحقيق الرغبة في أعلى مستوياتها؟ هذا ما أريد. وكل ما أُريد هو أن أكون منطقياً، وألاّ أُخبّيء على «القاريء» شيئاً.
أجلس مُلْتَمّاً على نفسي. من تحت جفنَيَّ المغلقين أراقب العالم. أرى بعض الوجوه، وأتجاهل بعضها الآخر. بعض الهيئات الفاسية تثير الرغبة في الكلام، وبعضها يجعلك تتراجع نحو التاريخ المليء بالغصاصات. مَنْ يدري ما هو جوهر هذه الكائنات الماشية بهدوء مثل قطعان «السيكلوب» المطمئنة إلى راعيها، وهويأكل، كل يوم، دابة منها بلا تأنيب ضمير؟ لا أحد، سوى ثقلاء الظل، من المنظرين القابعين في مكاتبهم، يجرؤ على التخمين. لكن ذلك ليس مستحيلاً، أيضاً.
أطلب الشاي بالنعناع. بكثير من النعنع الأخضر، حسب لهجة أهل الشام. ويجيبني الرجل النحيل الصامت المبلل اليدين، وهو يبتعد بطبقه التَنَكيّ: «واخا سيدي، واخا». أُتابعه ذاهباً، وآيباً، دون أن ألمح تعبيراً على وجهه. لكن هذه الرأس المحشوّة بالماء الساخن ، والنعنع، والأثير، لا بد أنها تحوي نُثارات حياةٍ ستظل مجهولة مني وهو ما يملؤني امتعاضاً، فاغرق في الصمت والعِيان. أريد أن أعرف هذه «الفاس». أن أتمثّلها. لكن ذلك، حتى الآن، يبدو حلماً.
منشرحاً، خفيف الظل، وسريع العطب، مثل نسيم الربيع الفاسي، أحسني هذا النهار. هم لا يثقلون عليكَ لا نظراً، ولا سلوكاً، وأنت تتمرّغُ في وجوهم مثل كلب عَضوض. ماذا أفعل وحب التعرّف عندي أقوى من التقنيات السلوكية السخيفة؟ أُنْظُرْ! هم هنا، وهم، في الوقت نفسه، في مكان آخر. ربما كانوا يلاحقون قطعان تاريخهم القديم السارحة في رؤوسهم. التاريخ الذي مزجهم كالعجين صانعاً منهم ما ترى الآن: بَشراً سوياً. لا تبحث عن تفسير لهذا العالم الذي لا يأبه بالتفاسير. تمتَّعْ بشمس «فاس» هذا العَصْر، واذكُرْ أنك تخلَّصْتَ، هنا، من روحك الثقيلة التي كانت تكدِّرك هناك. فلا تثريب.
تغيب الشمس خلف أعذاق النخيل في فاس. ويغدو البرد أكثر حدَّة وعدائية. أحس بخفَّة في جسدي. وروحي تشتعل بشغف لم أعرفه، من قبل. أحب أن أتدفَّأ لأبقى في مكاني أطول مدة ممكنة. ولكن لا سبيل إلى ذلك، في تلك اللحظات التي لن تتكرر. وأجدني مضطراً لِلَمْلَمَة أشتات ذاتي، ضاحكاً وحدي في غروب فاس اللاسع من شدة البرد.
فجأة، أقوم تاركاً مكاني للعدم.
في الصباح التالي أعود إلى «باب بو جلود» الجميل. أجتاز «حي الملاّح» و«البطحاء» ماشياً بسعادة، ذائباً في فضاء الصباح الفاسي مثل قطرة ندى. أجلس، من جديد، في «مقهى الساحة». أطلب، كما العادة، الشاي الأحمر بالنعنع الغامق اللون. وأبدأ التمتُّع بنور الشمس المُلَطِّف للبرودة.
صباحاً، للنور خفَّة وبهجة. له مَسّ لذيذ ينعش الوجوه، ويحرِّك الأنوف التي تخلَّصتْ من دفء الفراش. ومنذ أن استقر أبدأ التطلُّع: «لم يتغيّر شيء منذ البارحة صباحاً». وهو ما كنتُ أتوقعه. لكنني لم أكن أتوقّع أنني سأُصاب «بداء الإلْفة» بمثل هذه السرعة. أحسني ملتبساً بهذا الفضاء الزاهي مثل ثوب جديد. رابطة بيضاء، موردة بالحُمْرة، تجمعني به. ولا أريد لها انفكاكاً.
في «فاس»، أريد أن أنظر «صامتاً».
«الصمت غاية الايجاز»، كما يقول «المعري». ولكن لا سبيل إلى ذلك في هذا العالم الذي لم يقم إلا على الكلام. ولأن: «فتنة الكلام أقوى من فتنة الصمت»،عندي أجدني أكلِّم العالم بعيوني التي لا تتوقف عن الإبْصار. أتكلّم بها، وبها أسمع ما يجري. ولذا لم أكن أريد أن «اسكن» في مكان. لأن «السكونَ» خَرَسٌ. ماذا أفعل، إذن، غير أن أقْرُنَ أقدامي بعينيَّ وأطوف فيمن، وفيما، حولي؟ أطوف مردداً: لكل مَرْئيّ معنى. له نفي وإيجاب. مَنْ قال هذا؟
«إصدقاء فاس» يتمتَّعون بروح شديدة الصفاء والود. لكأنهم وصلوا قبل قليل إلى هذا الفضاء المليء بالنور. وهم سعداء بإقامتهم المؤقتة فيه، بانتظار الرحيل عنه. كيف أصف رحلة الذات المريبة هذه؟ وأي جدوى من وصفها، أصلاً، في ضوء الشمس الكاسح الذي يخترق الجسد بلا حدود؟
استعيد نفسي من الضوء، وأُعيد التطلَّع ، من جديد. أتعلّق بالشرفات. وأمرُّ على الأفق القريب من العين، وكأنه ينبثق منها. أرى الأشياء الزاحفة في الزقاق الهابط نحو العمق تتهادى بلا توتر أو نزعة لتأكيد الذات. أراها تسير بهدوء نحو مصيرها الذي تكاد أن تقرأه في عينيَّ، دون أن تُبالي بما تقرأ. أراها، ولا أرى من نفسي إلا البحث المحموم عن «الجدوى». البحث عن لا شيء، في الحقيقة، سوى الكلام.
أمشي، «دون أن أهتمَّ بما أمشي»! لا، كنتُ أُريد أن أقول: لِمَ أمش. أهبط «فاس» سالكاً زقاق «الطلعة الكبيرة، من جديد. أمر على «زنقة الشرابليين»، وأتابع المشي. أصل «سقاية الحصّادين»،وأُتابع. في المحيط الذي أمشيه بشر وأفانين. فيه علامات حياة تخفي المتعة بحرص، مثل أم تخبّئ لابنها التعيس كَمْشَـة من الزبيب. أحس المتعة المهجورة تبحث عن «هاِجر» إليها، ولكن. أصل «سقاية مسجد الشرابليين»، وأمر في ضوئها المكسوّ بالظلال، وأتابع. متجهاً إلى «باب الرميلة» أجتاز الفضاء ببطء يشبه بطء الظامئ الذي يتجرّع الماء بتأنّ حتى لا يموت من الروى. أجتاز «سقاية قنطرة بولس»، وبعدها «سقاية الحدادين». أخيراً، أصل «العطّارين»، وعلى باب جامع «القرويين»، أقف مأخوذاً، من جديد.
أقف بلا حساب للزمن الذي سيصير بُرْهة بعد أن كان دَواماً. أعدّ الأعمدة والزوايا. أتفحّص الوجوه الناشفة والأقدام المبلولة. أتَلَمّس التاريخ بين السبابة والإبهام، وكأنني أتَلًَمّس «فاس». أقف. أقف حتى يسير الوقت، فأتبعه. وأجدني أرتبط بما لا أدرك منه شيئاً غير تواريه خلف حجاب المدينة المُخادع. أعرف أنني لا أعرف مما يمر أمامي أي شيء سوى الرمز الذي صار، هو نفسه، المشكلة التي تعذُّبني. وأحسني أنتزع قدميَّ من القاع واعداً إياهما بالعودة غداً. بالعودة إلى فضاء يجهلني. يجهل كل شيء عني، ولا أجهل أنا عنه كل شيء. ولأول مرة، أكاد أدرك عمق المأساة، مأساة الكائن «اللاأحد» وهو يغرق في بحر تاريخه.
فضاء «فاس» الطائر يعيدني إليها هذا الصباح، أيضاً. يعيدني إلى المدينة القديمة التي صارت أُمي. أمرُّ تحت الجدران العُظمى التي تسوّرها. أصل «البَطْحاء»، وفيها ، هذا اليوم، آخذ وقتي. أصير أتملّى كل شيء وكأني لن أراه، أبداً، من بعد. استعرض الخلق والمناقيش. أتَرَوّى كثيراً قبل أن أسحب عينيَّ من المناظر التي تغرق فيها. ثمة شيء لا يُشْبِع في الرؤية الصباحية إلى العالم. شيء يُشبه عاطفة مكسورة، لا رواء لها، ومع ذلك لا بد من النظر إلى الأشياء.
ماشياً، يدور بي الطريق، وتتبدّل المظاهر والأخلاف. تتوالى علىَّ الوجوه والهيئات. وتظل الشمس كما هي البارحة بلا سوء. شمس علامة. علامة «فاس» التي ترحل عنها، وإليها تعود. أريد أن ألج المدينة القديمة، هذا اليوم، أيضاً. أُريد أن أَلِجها من الباب المراوغ، نفسه: «باب بوجلود» المزهر مثل كـَمْشَـة من ورد دمشقيّ. وقبل أن ألج الفضاء المديني الغارق في ألوانه، أجلس، من جديد، في «مقهى الساحة». وكالعادة، أطلب الشاي الأحمر بكثير من النعناع. ويرد عليّ الرجل الأسمر الضئيل، يرد عليَّ بلطف يخفي الكثير من المشاعر الحبيسة والارتكاسات: «واخا سيدي». وأعُـدُّ «الواخا»، وأنا أتمتم في قلبي: أكَلَ اليوم عليَّ واحدة.
يكاد يسمعني وهو يبتعد بتُؤدة، وبلا اكتراث. لقد مَلَّ وجهي، ولا بد، مثل وجوه أخرى كثيرة هو مجبر على النظر إليها طيلة النهار. لكن مأساته الكبرى تكمن، كما أتصوّر، في التَنَصُّت المستمر إلى أصواتنا المتعجرفة ونحن نُنَقِّط عليه طلباتنا البائسة، وكأننا نرُشُّ عليه من الذهب شذرات.
غداً سأترك «فاس»، وقد ألِفْتُها وكأني ولدتُ فيها. سأحزن كثيراً لأني سأتركها. وإنْ لَمْ اتركها فسأكون أكثر حزناً.
أجمل عناصر الكون: الشمس، و«فاس» ممتلئة بها. تحت ضوئها الفاهي اللطيف أحس بالسعادة تتفتّح في جسدي مثلما يتفتّحُ كُؤيْس وردة غافية بقدوم الربيع. أشكر رجل الشاي وأبدأ المشي. في «فاس» يغدو المشي عنصراً أساسياً من عناصر المواجهة، أقصد الاتصال، بين الكائن والكون. ولربما كان كذلك، دائماً. إنه الحركة في «درجة الصفر». لكن ذلك يكفي لاكتشاف الكثير من اللامكتَشَف. ضفاف المدينة، وهيئات البشر، وقسمات الوجوه، ودرجات التوتر والاسترسال، و..
أدخل من الباب الباذخ. بعد خطوات أجد نفسي في «درب الرحبة»حيث التطاريز البربرية تعلن عن نفسها بأبهة خارقة. أُتابع الهبوط نحو «الجزارين». أرى العجول مسلوخة. والخراف معلَّقة في الريح.أرى اللحوم الحُمْر المَجْزورَة تترجرج تحت أنظار المارة المليئة بالشهوة. لكأنها تذكِّرهم بأن «الحياة هي الأكل».
بعد عشرات من الأمتار أمرٌّ على دَرْب محصورة، بادية الضيق، مثل فُرْجة بين طرفين. تدعوني الدرب إلى سلوكها، لكنني أتهيّب كثيراً. أقف طويلاً قبْلَة الضوء القادم من أعماقها الغاطسة في ظلام الحارة. أقف متسائلاً مَنْ يسكن هنا؟ ومنذ متى لم يَرَ نور الشمس؟ وهل تستحق الحياة كل هذا العناء؟ لكن الرجل الذي انحنى ماشياً ليمرفي الضيق، آتياً في الدرب، جعلني أتوكّأ على نفسي وابتعد عن طريقه. أُتابع.
أصل المدرسة «العنانية» ذات الهندسة الغارقة في التاريخ، المرصوفة جدرانها بالصدف والأخشاب الثمينة. في قلب ساحتها المربعة تقوم نافورة الماء الأندلسية، مرسلة رشاشها البطيء الذي يشبه ندى «الجزيرة» في الفجر. ترسله ليرطب النسيم الفاسي المشبع بحَمأ الشمس. ِلصْق المدرسة، تماماً، «عشّاب البوعنانية»، حيث الروائح المتخالطة، روائح العرق والتراب، روائح الحياة الأولية، تجعل فضاء السمك والليمون أكثر إثارة. نوع من الذَوَبان الوجودي سيملأ نفسي. وأصير أُتَمْتِم: أحب الدروب التي لا تؤوب. أحب الضيِّـقات من الزنقات. أحب اللاشيء عندما يَشي بأشياء لم تكن تخطر على البال. أُتابع.
درب «سيدي حَماموش» ضيّق وطويل ومعتم. وهو لا يختلف إلا قليلاً عن درب «سيدي يَعْلى». دروب وأساطير. موسيقى روحانية تتجوّل بين التخوم: تخوم الروح الفاسية المليئة بالغفران. يميناً، أمرُّ على درب «رحى الشمس الفوقية». ولكن، مَنْ يشرح لي هذه الشمس الفوقية؟ ومِنْ أي فَوْق تتسلّط على الفضاء؟ درب الرحى، هذا، مثل أخيه: ضيّق ورطب وخجول. وهو يحتاج فعلاً إلى شمس تفضُّ عتمته الخاتلة في الروح.
في منتصف «الطلعة الكبيرة»، أصل إلى «سقاية الحصّارين» القليلة الاتساع، لكن المعروضة جيداً لضوء الشمس المنعكس عليها من الأفاريز. حنفية مائها منزوعة. وهممتُ أن أشرب فلم أكُدْ. موزاييك هذه السقاية باهر وجميل، وما زالت ألوانه تحتفظ بألقها الأندلسيّ. في فسحتها الصغيرة المكشوفة للضوء أقف طويلاً. أتخيّلني أشرب من ماء «الفيجة» الرباني، في «دمشق». أشرب ولا أزداد إلاّ ظمأ.
بعد الظهر، نصل «حي الرصيف». نمر من تحت هضبة «ظهر المهراز»، ونتابع. في الربيع الفاسي تبدو المسافات لا متناهية. ويغدو الضوء دليل العين التي لا تريد أن تصيب هدفها، فتستريح. تصبح الرؤية هي كل شيء. هي المكتوب والمقروء. ولا شيء يخيِّب الظن مثل الكلام، فلاُطِْلق العنان للبصر، وأصمت.
نتابع المشي بين الخلق والأواني، إلى أن نصل إلى «زنقة الصبّاغين»، في طريقنا، مرة أخرى ، إلى «جامع القرويين».
الجامع المهيب، الهائل الروعة، مبنيّ على 366 عموداً، وله 17 باباً، منها: «باب الصفّارين»، وباب «الشمّاعين»، وباب «الورد»، وباب «العُدول»، وباب «الحفا»، وباب «المصباحية»، وباب «السطّاونيين»، وباب «درب بن حَيّون»، وباب «السبْع لَوْيات»، وباب «الخلْوة»، وباب «الصالحيين»، وباب «الشهواء»، وباب «الصفر»، وباب «جامع الخبائز».
أما أبواب «فاس القديمة» فهي سبعة، منها: باب«الجنود» ، وباب «الفتوح»، وباب «الغيسا»، وباب «محروق»، وباب «السقْمَة»، وباب «الماكينة»، وباب «بوجلود». أبواب، ومداخل، وشرفات، لمدينة مملوءة بالرهافة والوجد، تخبّيء أعكارها لزمن آخر.
في «فاس» تكاد أن تعرف مَنْ أنت، وتفرّ منكَ كل معرفة. لا وقت للاختلاء مع الذات التي صارت، هي الأخرى، غيماً عابراً وبلا مكان. لكن هذا العبور الشاحج لا بد أن يستقر في زمن ما. لا بد. لا بد أن يعود، ذات يوم، إلى مكانه.
في المساء الأخير، أجلس في «مقهى باريس» في شارع «الحسن الثاني». الشارع الواسع والجميل، المليء بالبشر والشجر والأُنْس. فيه، كأنك في «الشانزليزيه»، مع قليل من «فارق التشبيه». لكن هذا القليل هو الذي يعطي الكثير من الأهمية لهذا الشارع الفاسي الذي لا تخمد جذواته.
أجلس مضطرباً، هذا المساء. أكاد أُودِّع «فاس». أَأَراها مرة أخرى؟ ولكن ماهي هذه المدينة الآسرة ذات الإبتسامة التي لا تنطفيء؟ وكيف لي أن أُعاود البحث عنها، وفي أي مكان؟ أكاد أشعر بالحنين إليها قبل أن أُغادرها، وهو ما يجعلني أعيد النظر فيها، من جديد. والنظر مساء لا يشبهه نَظَر آخر.
فجأة، تشعُّ الأنوار كاملة، فيمتليء الفضاء بالضوء. وتظل الأقدام تتابع المشي ذاهبة آيبة، وكأنها مكلَّفة بقياس المسافة، المسافة الفاصلة بين العتمة والنور. لكأنها تريد أن تشرب آخر القطرات من ضوء النهار قبل أن يستقر الليل نهائياً في قلب «فاس». أنا الآخر، مشيتُ «فاس»، أحياءها الجديدة والقديمة، أبوابها وزواياها، سقاياتها ورضوضها. وأردت أن أُساكنها، لكن «فاس» لا تريد أن تستقر. تريد أن تسافر. سترحل هي، وأبقى أنا. ولكن، لِمَ أنا حزين هذا المساء؟
في «فينيسيا«، المطعم والمقهى الجميل، سأعيد الجلوس مساء أكثر من مرة. وهذا المساء الأخير، أيضاً، سأجلس فيه. أحب أن آكل وحيداً بلا رفيق. الطريق لا يحتمل كائنين، إلا نادراً. إنه الوقت المسائي الذي ينتفخ بالوحدة، ويحتفظ بها، مثل حُبْلى لا تريد أن تتخلّى عن جنينها. لماذا لا استسلِم، إذن، لمصيرٍ هو الوحيد القابل للاستمرار؟
غداً سأترك «فاس»، ولن ألتقي بذاتي. أعرف ذلك جيداً، وهو ما يُحْزِنني. في كل مرة، أذوب فيها في مدينة، أو مكان، أتخلّى عن شذرات من كياني لا استردُّها، أبداً. صرتُ أخاف من السفر المليء بالشغف والرضوض. لكن الثبات ، هو الآخر، مخيف. إنه موت محقق.
لو تصوَّرْنا العالم على شكل واحد، مثل «دمشق» مثلاً، هل تكون الحياة محتملة؟ لا، بالتأكيد. لكنها حتى وهو على هذا الشكل الذي هو عليه الآن ليست قابلة للاحتمال. ولا يُلَطِّف مصيرنا المؤلم إلا تعدد الأمكنة والكائنات. وإذا كنا لا نعرف ماذا نريد، فلأننا لم نعد نعرف ما ينقص حياتنا من مشاعر، وآمال. لم نعد قادرين على التمييز إلا في نطاق اليومي والعابر والسخيف.
ليكنْ! علينا أن نقبل بهذا التحدّي الذي لا نهاية لصراعنا معه. علينا أن نقبل «فاس» كما هي حتى وهي على أهبة الرحيل. حتى وهي ترحل مخلِّفة إيانا وُحَداء في فضائها الممتلئ بالضوء.
هكذا تستمر الحياة مثل جدول يجري نحو بحر بعيد سيلْحقُه عندما يجُفُّ مَجْراه.
مدينة أخرى عرفناها: «فــاس».
خــــليل النعيمي
كاتب وروائي يقيم في باريس