كان للرسم دائما قديسوه وخونته، أنبياؤه وأتباعه، حراسه ولصوصه، خدمه ومتمردوه، أصدقاؤه وأعداؤه، كهنته وعباده، نبلاؤه وشحاذوه، أحراره ورقيقه، ذكورته وأنوثته، ملائكته وشياطينه، رقته وقسوته، غموضه ووضوحه، رضاه وغضبه، غير أنه بقي في كل الأحوال أشبه بالمرجل الذي يثري حياتنا بأشكاله، سواء استعار تلك الأشكال من المحيط أو استخرجها من أعماقه الخفية. كانت تلك الأشكال مصدر متعة للكثيرين، ممن يجدون صعوبة في الاستمرار في العيش، أو فهم أسباب ذلك العيش إذا خلا العالم من الرسم.
(1)
كالموسيقى وهي تقف بموازاة الأصوات التي تطلقها الطبيعة وقف الرسم بموازاة الأشكال التي تخترعها الطبيعة. ومثلما تلتقط الموسيقى أصواتها بتأن وانتقاء حكيم فقد كان الرسم يفعل الشيء ذاته مع أشكاله. كان الانتقاء بمثابة اختبار شديد الدقة لحساسية الرسام، من ذلك الانتقاء و به تنشأ خبرة الرسام في التعرف على مادته البصرية. ولأن الرسم لا يكتسب أهميته من الموضوعات التي يعالجها فقد كان ميزان الحكم عليه يعتمد على قدرة الرسام على استيعاب الدرس التخيلي الذي تنطوي عليه الأشكال المستلهمة. إن نقل الأشياء من محيطها الطبيعي إلى اللوحة هو في حد ذاته عملية إعادة خلق، لكن في محيط تقني جديد. فالوجه الذي يرسم على سبيل المثال هو غير الوجه الذي يحتل حيزا على سطح اللوحة. كذلك الشجرة والجسر والآنية والفتاة العارية والكاهن. حين ينتقل الشيء إلى هيئته المرسومة يتعرض إلى تحول جوهري يمس وجوده، وبشكل محدد يمكنني القول: أن الرسم يكشف عن الجوهر اللانفعي للأشياء والبشر على حد سواء. كائنات موجودة لغايات أخرى، غير تلك الغايات التي تعيش من اجلها: نابليون الذي وضعته يد دافيد على اللوحة لا يحكم ولا يهدد أحدا ولا يدخل حروبا. إنه الشاب الفاتن الذي يود أن يقول شيئا ما. وكما تفاحة سيزان التي لا تؤكل فان أشجار موندريان لا تثمر، كذلك فتيات بيكاسو الخمس فإنهن لا يمارسن الدعارة في أفنيون. يمس الرسم الشيء فيغدو شيئا آخر تماما. سحر الرسم لا علاقة له بأسلوب الرسام ولا بالتقنيات أو المواد التي يستعملها بل بفهم وظيفة الرسم، في صفته عالما ينشا ويتشكل بموازاة العالم المباشر، الذي تعتبر تسميته ب(العالم الواقعي) نوعا من المجازفة التي تستحق النقد. الرسم إذا لا يعيد صياغة الوجود بل يعيد خلقه وفق أسس جديدة، لا تتعلق بالوجود لذاته، بل في صفته شريكا في تأسيس طريقة، هدفها الشعور بالمعنى. والمعنى هنا يتعلق بالرسم لا بالمادة المرسومة. لا شيء يرسم كما هو. حتى الهواة فان أخطاءهم في الرسم تكشف عن ضعف في الصناعة ليس إلا. أما المحترفون ممن يسعون إلى التطابق فليست لديهم القدرة على أن يحفظوا للشيء في اللوحة شروط إقامته في الواقع كلها. الشيء المرسوم سواء كان مصدره طبيعيا أو صناعيا هو صنيعة أخرى.
(2)
نسميه رسما، وهي تسمية مطلقة لا حدود لها. ما فعله بوسان كان رسما، وما فعله فان كوخ كان رسما أيضا, وكل خربشات بيكاسو وهندسيات موندريان وارتجالات كاندنسكي كانت رسما، كذلك ما تفعله الآن كيكي سمث و تريسي أمين وكيفر. كل ذلك وسواه هو رسم. لا شيء أصعب من تعريف الرسم. التعرف عليه لا يعني القبض عليه في جملة نظرية، وكل محاولة لتأطيره هي عودة به إلى الوراء. فحين نرى لوحة من بيكاسو علينا نسيان بوسان، وبيكاسو نفسه يكون نسيا منسيا حين ننظر إلى لوحة من جورج بازاليتس. سر الرسم انه يقيم في جهة نسعى إليها دائما من غير أن نصل إليها. نسميه رسما ولكننا لا نعرف ما الرسم حقا؟ مثله في ذلك مثل الجمال، الذي نشعر به من غير أن نستطيع أن نحمله معنا مثل بضاعة. أتأمل نساء مودلياني ولا أتذكر لحظتها نساء تولوز لوتريك اللواتي شغفت بهن قبل ربع قرن، يوم كان الوقوف أمام الطاحونة الحمراء ببيغال باريس حلما يهز وجداني. كن نساء حقيقيات، عرفهن لوتريك واحدة إثر أخرى، غير أن رسومه اخترقت الزمن بل اتسعت دائرة محيطها الخيالي فيما اختفى الرسام ونساؤه. كان الرسم أكثر حقيقية من سواه، غير أن ذلك يظل في كل الأحوال من غير معنى محدد، ذلك لانه لاشيء بعد الموسيقى يحارب ذاته بقدر ما يفعل الرسم. هذه الحرب كفيلة بإنقاذه من المعنى. كل رسم يحابي التاريخ يطمره الزمن بالنسيان. ملايين الرسامين تجولوا في المدن وبين القصور ورفعت من أجلهم الأنخاب ولكن لا أحد يذكرهم الآن. شيء ما كالكذبة أحاط بغشائه وجودهم. كانت هناك هالات غير أنها سرعان ما اختفت فلم يعد مرأى الأنبياء المزورين مقنعا. أتذكر تمثال بلزاك لرودان في أحد شوارع باريس. لقد التهمت الشجرة القريبة جزء منه وكانت ظلالها تقع عليه. غير أن الأجزاء المرئية منه ظلت قادرة على الإيحاء. هل اختفى الصانع حقا فيما الصنيع يبدأ دورة حياة جديدة مع وقفة كل مشاهد جديد؟ هنالك عدوى تصل على جناحي طائر غير مرئي. هي ما يصل بين الصانع والمتلقي من خلال الصنيع. روح الفنان الهائمة تظل ترفرف بجناحيها حول عمله الفني وتملأه وعودا. ليست المرآة بل الشعر هو ما يجعل رسوم ديغا تقهر الزمن. ذلك الشعر الذي لا يفارق مادة جماله المترفع والصامت إلى الكلمات. راقصات الباليه استعدن بين أصابع الرسام الفرنسي سيرتهن الحقيقية: كائنات قادمات من عالم آخر سرعان ما يذهبن إليه ما أن ينتهي التمرين أو العرض. ديغا التقط الكائن الذي لا يمكن اختصاره بالجسد. الرسم بخفته العجيبة مكنه من القبض على الأسطورة.
(3)
في سيرة الرسم الحديث كان هناك الكثير من الحواة. بيكاسو كان أشهرهم. غير أن القدر جعل من الإسباني الآخر تابيث الجدار الأخير الذي احتمى به الرسم.حاول هذا الرسام بعبقرية استثنائية أن ينقذ ويبشر، يدافع ويندفع، يرمم ويعمر، يصون ويتوسع، يغلق ثغرات ويفتح مسالك، ولكن كثافة الألم البشري ألحقته بالرومانسيين من غير أن تثلم صرحه. صار تابيث جزءاً من الماضي الجميل في عصر نبذت فيه فكرة الجمال. القاعة التي كان تابيث يتلو فيها آياته امتلأت بقرع الطبول. شحاذون نحن، متسكعون، جوابو آفاق، مشاغبون، لصوص، منافقون، نهمون، ومرتابون. يخيفنا الفراغ. جبال النفايات التي نتركها وراءنا تتعفف الخرائط عن ذكرها ولا تضاريس لأقدامنا. كائنات لا تصلح للرسم. فوضى حواسنا تعيث بالأشياء فسادا. كان الرسم يضع مسافة بيننا وبين العالم، مثلما تفعل التاوية الصينية تماما. «من أجل أن تكون سعيدا، أصنع مسافة بينك وبين العالم وأتبع تاو، حيث الطبيعة». قبل تابيث كانت محاولات الأمريكي روشنبرغ قد صنعت مثل تلك المسافة، لكن روشنبرغ كان أمريكيا، لذلك حضرت معالجاته ملوثة بالمادة. كان روشنبرغ أشبه بالمتهم الذي يدافع عن نفسه من خلال قرائن تدينه. مع روشنبرغ وجاسبر جونز عاش الرسم أطول لحظات احتضار. وليام دي كوننع كان استثناء بين الأمريكيين، ربما بسبب أصوله الهولندية القريبة، فالرجل جاء مهاجرا إلى أمريكا وقد تخطى سن الرشد. دي كوننغ الذي انتهى مجنونا أو خرفا محجوزا عليه لا تزال رسومه تلهم من بقي على قيد الرسم من الفنانين أفكارا عن الشكل الذي تصنعه عناصر الرسم الوهمية (الخط، اللون والمساحة). معجزة تذكرنا بتلك الحكايات الصغيرة التي تحدث عنها الأمريكي مارك روثكو، الذي جاء هو الآخر مهاجرا إلى أمريكا من لتوانيا. لو رأى روثكو رسوم أندي وارهول لما توقع له المستقبل الباهر الذي صنعه. كان روثكو يراهن على أن الحدود الفاصلة بين ما مرئي وما هو غير مرئي قد تم اقتلاعها نهائيا من خلال الرسم. الأمر الذي جعله مطمئنا إلى أن الرسم لن يكون خادما لقضية بعد رسومه.
(4)
«أنا لا أرسم العين، وإنما أنحت النظر» جياكومتي قال ذلك. الفنان السويسري لم يقف يوما عند الحدود الفاصلة بين عالمين. خلق ليكون رسولا للامرئي. في منحوتاته كما في صوره لا يعبأ بالشكل الذي يبدأ به بقدر ما يفكر بما يمكن أن ينتجه إلهامه، وهو الهام يكمن كرمه في إزاحة كل ما هو غير ضروري. نعمة الخلق هذه جعلته زاهدا، متقشفا، ومتعففا عن الاستهلاك. صديق سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر هذا كان ينهي سهراتهم جالسا على الرصيف وهو يبكي، حسب بوفوار في مذكراتها. يعذبه الشيء الذي لم يكن مرسوما أصلا، ذلك الشيء الذي لم يجده بعد. أتخيل ديغو، أخاه الذي رسمه في الكثير من صوره كما لو أنه صورة عن ثيو، الأخ الأصغر لفان كوخ، وهو الذي مات بعد انتحار الرسام بسنة. كان ثيو هذا تاجر لوحات باريسي ناجح، غير أن اخوته للرسام المعذب جعلته يقيم في الجحيم عينه. لا اعتقد أن فنسنت كان يهمه أن يكون خالدا، كذلك جياكومتي. في متحف أورسيه بكيت حين دخلت إلى القاعة المخصصة للوحات فنسنت. لقد رسم من أجل أن لا يكون هنا. كانت لديه أفكار عن الرسم، تمنى لو أنها ظلت بعيدة عن متناول العامة. كل الأوصاف التي أطلقها عليه نقاد عصره لم تفت في عضده. تأثره بطبعات الخشب اليابانية جعله يبتكر طريقا جديدة لمعالجة الرسم، بحيث يكون الرسم هذه المرة هو المشكلة. في (غداء على العشب) احدث مانيه صخبا بسبب موضوعه، ولكن فنسنت كان يرسم بطريقة تؤخر الاهتمام بالموضوع، بل تجعله آخر ما يهتم به المتلقي. تقنية الرسم، أو كيف يرسم الرسام كانت تهمه أكثر من أي شيء آخر. كان يكتب يومياته، وهي رسائله إلى ثيو، لكنه في الوقت نفسه كان يعيد خلق ما يراه رسما. كان يسعى إلى خلق نوع من التوازن بين ما يراه وبين ما يسمعه. الموسيقى التي توله بها كاندنسكي وكانت مصدر ارتجالاته سمعها فنسنت قبل الرسام الروسي من الطبيعة مباشرة. (الرسام الصيني) ذاك حسب نقاد عصره كان نبوءة فريدة من نوعها. برغم أورسيه وبرغم اللوفر هناك الشيء الكثير من فنسنت لا يزال يقيم خارج ما يمكن أن نسميه رسما. ذلك لأن رسوم فنسنت لا تصلح سوى أن تكون درسا لمرحلة ما بعد الرسم. لذلك لم يكن فنسنت انطباعيا، بل أن أي أحد من نقاد عصره لم يصنفه باعتباره ما بعد انطباعي. في كل الدراسات التاريخية لا يزال فنسنت وحده. درس فنسنت في الرسم هو درس الرسم ذاته.
(5)
لا يعلمنا فنسنت كيف نرسم، ولكنه يقول لنا: ما الرسم؟ نموذج نادر فنسنت هذا. فكثرة من الرسامين تعرف كيف ترسم، وهناك قلة تعرف لماذا ترسم، ولكن الفاتحين وحدهم هم الذين يستطيعون أن يعرفوا الرسم كونه ضربا من ضروب الكدح في عالم غير مرئي. فلا تتعلق جهودهم بما يظهر على سطح اللوحة من موضوعات وأشكال، بقدر ما تذهب إلى الروح التي تتخفى بانفعال خلف كل خط وكل بقعة. بهذه الطريقة يمكننا النظر إلى تجربة الشاعر الفرنسي هنري ميشو رساما . لقد انصبت جهوده على محو الشكل من أجل انبعاث عوالم موازية له من العدم. وهي عوالم يصنع ظاهرها الحبر الصيني بتلقائية حرة، لكن بواطنها تقيم في المنطقة التي اختارها ميشو جزيرة معزولة لشعره. تلك الجزيرة التي لا وجود لها تشكلت بأبخرة سرية كانت مادة الميسكالين (وهو نوع من المهلوسات الطبيعية، يستخرج من صبار المسكال) واحدة من أهم مصادرها. غير أن ولع ميشو بالأمم البعيدة (في الشرق الأقصى وأمريكا الجنوبية) كان له أثر واضح في قراره الفرار خارج حدود الفنون الأوربية. ومع ذلك فلا أعتقد أن هوية عمله الفني كانت تؤرقه. مشكلة كهذه هي اكثر خفة من أن تأخذ حيزا في المعيار النقدي الذي اتبعه ميشو (وقبله فنسنت) للتأكد من موقع قدميه. إن سؤال الهوية بما يجره من مقاربات واقعية لا يشكل إلا جزءاً صغيرا وغير مؤثر من علاقة الرسام بالرسم. ما أنا على يقين منه: إن ما يراه الرسام من رسومه هو شيء مختلف تماما ولا علاقة له بما نراه نحن من تلك الرسوم. وفي الحقيقة فان الرسام لا يرسم بعينيه فقط، بل يستدعي أثناء الرسم حواسه الخفية لتشاركه مغامرة اختراق مسافة ما في منطقة لا وجود لها. واقعة تشبه السحر أو الانخطاف غالبا ما تكون اللوحات آياتها. أتذكر الرسائل الإلهية، تلك الآثار المصنوعة من العظام التي فتحت عيوننا على بدايات الحضارة في الصين، وبالضبط من عهد (سلالة شانغ). شيء ما يصل ما هو بدائي بما هو مطلق عبر ممر يصنعه الهواء النقي. أهذا ما ذهب للبحث عنه غوغان في تاهيتي بين الناس البدائيين؟ لغة الكتابة الصينية كانت تحيي في الصورة قوتها الرمزية، تقبض على الينبوع الذي يغذي العقل والقلب معا، حيث تترسب أملاح ذلك الينبوع في العين والذاكرة في توازن يذكر بالعدالة. رسوم ميشو على سبيل المثال تهبط من مكان علي، واقعيا لا سبيل إلى الوصول إليه، غير أنها في الوقت نفسه تنبثق من الورقة كما لو أن مادة عضوية تتفجر لتتشظى إلى ما لا يحصى من الأجزاء. وهو ما يجعلنا نشعر أن فعل الرسم لم ينته بعد، ما يعني أن الطاقة الروحية التي يستمد منها الرسم قوته لا تزال غير مستنفدة. ذهب غوغان إلى أقصى الأرض بحثا عن الشكل الذي يكون في إمكانه أن يستوعب انفعاله الغريزي بالحياة. هناك تخلص نهائيا من عادات الرسم الباريسي. امتلأ حياة مثلما امتلأت رسومه شهوة. لم يكتشف غوغان شعبا بقدر ما اكتشف الرسم من خلال نوع الحرية التي التقط حروف أبجديتها من قطرات العرق التي كانت تتجمع على جسد امرأته الخلاسية. لنتخيل أن امرأة أوروبية قد حلت محل تلك المرأة التاهيتية في لوحات غوغان. حينها لن تكون لتلك الرسوم أية قيمة تذكر. مجرد صور إباحية يمكن العثور عليها في كل مكان. ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة. كانت هناك لحظة كونية هي التي صنعت ذلك التماس بين قوى متوترة ليكون الرسم هو الفضاء الذي يشهد ولادة لمعانها. ما فعله غوغان، فعله في الوقت عينه ذلك المجنون الذي تركه في آرل: اكتشفا الرسم من جديد، ليغلقا قوسا.
(6)
كان غوستاف كليمت زخرفيا مبتذلا، ظهر في لحظة حرجة. عاش بوهيميته من غير أن يلتفت إلى الوراء فلم تجذبه الانطباعية و لم ينتبه إلى ما كان يحدث من حوله حيث كانت التعبيرية تنظر بعينين يائستين إلى إنسان، هو في طريقه إلى الهلاك. كان الرسم بالنسبة لكليمت فعل تنقيب بحثا عن مسرة، يكون مصدرها الكائن البشري. في رسومه لا يرى المرء إلا مديحا لفكرة وجود الكائن، التي هي عبارة عن ركام من الطبقات المتخيلة، التي يشف بعضها عن البعض الآخر. وإذا ما كان تأثير كليمت قد خفت أثناء حياته وبعد موته عام 1918 فان شيئا منه ظل مشتبكا بالرسم، تظهر أجزاء منه في تجارب رسامين أتوا من بعده، من غير أن يخضعوا لتأثيره المباشر. العثور على كليمت في رسوم الآخرين ليس أمرا عسيرا، بل يمكنني القول أن شيئا منه يوجد لدى معظم الرسامين الذين جاءوا من بعده. ربما مثال ماتيس يغني عن الذهاب إلى سواه. فالرسام الفرنسي يكاد يكون أهم رسام أنتجته عبقرية الحداثة الفنية في النصف الأول من القرن العشرين. وكما أرى فان ذلك التأثير ما كان ليقع لولا أن كليمت قد استطاع بتمرده أن يضيف بضعة سنتمترات إلى الأرض الخيالية التي تنبثق منها الرسوم. وهكذا صار التأثر برسومه إن لم يكن مقصودا لذاته فانه يحدث بداهة. شيء لابد منه. وهو ما يحدث لأجيال من الرسامين العراقيين (على سبيل المثال) وهم يعيدون اكتشاف عوالم شاكر حسن آل سعيد من خلال رسومهم. كان آل سعيد راعيا والرسوم رعيته (أو خرافه لا فرق). فكان يشير بعصاه إلى أفق قد لا تراه تلك الرعية بأعينها المباشرة، غير أن شيئا من تلك الإشارة يظل راكدا في أعماقها. وهو ما ينتقل كالعدوى إلى الآخرين، حيث يجدون أن الأرض قد اتسعت تحت أقدامهم. مثل الموسيقى ينتقل الرسم إلى الروح لتحدث تفاعلاته هناك تأثيراتها. كان من المفترض أن يطوي النسيان كليمت بعد لوحة بيكاسو (فتيات أفنيون) غير أن بيكاسو نفسه عاد إلى التأثر في مرحلة لاحقة بكليمت. نعود إليه لأنه التقط العصب الحي الذي يأوي إليه انفعالنا في لحظات شعورية بعينها. لا يمكن أن نتفادى المرور به. حين اعترف شاكر حسن آل سعيد بتأثير تابيث فانه أراد من خلال ذلك الاعتراف أن يشير إلى حقيقة أنه كان مجبرا على الذهاب إلى تابيث، ولم يكن مخيرا. بالنسبة له فانه لن يكون رساما ما لم يفعل ذلك. هل كان آل سعيد على خطأ؟ ذلك ما لا يفكر به الرسامون، ولا المولعون بالرسم. حقائق الرسم لا يمكن قياسها بميزان الخطأ والصواب. فالعين التي تبهر بالجمال وهو سر من أسرار الذات الإلهية (صفة لها أيضا) يهمها أن تعثر عليه في كل مكان لا في مكان بعينه. لقد اكتشف آل سعيد وهو صوفي موهوب في كتابات المتصوفة الكثير من الرسم، فصار ينقل إلى سطوح رسومه شطحاتهم في الخطوط والأشكال غير أنه في مقام أول صار يتلقى الوحي الذي تختزنه كلماتهم. وهي محاولة لاختراق اللامرئي بأدواته: الكلمات. الصوفي يسمع الكلمة ويراها ويشمها ويلمسها ويتذوقها وبعد كل ذلك يعبر من خلالها إلى المكان الذي يكون فيه عدما. كان آل سعيدا يتلاشى في رسومه مثلما في كلماته، وهي طريقة لبعث الروح في ما لا يمكن استعادته من الوجود عن طريق الوعي. لقد بعثت زخارف كليمت حياة في أماكن ساكنة من التفكير البصري. مفردات صغيرة قد لا تقول شيئا بعينه لكن لا يمكن الاستغناء عنها.
(7)
أجمل الرسوم هي تلك الرسوم التي تحتفي بالجمال من غير أن تظهره أو تشي به أو تفسد عليه خفاءه. الرسوم الجميلة غالبا ما تكون رسوما فاسدة. لا لشيء إلا لأنها تدعي ما ليس فيها. لقد كان مفهوم الجمال ملتبسا دائما. لذلك يتحاشى البعض الانجرار وراء مجازفة تضع الجميل في مواجهة القبيح. وهنا لا أقصد بالطبع الأفعال، فهي تنضوي تحت ثنائية أخلاقية طرفاها الخير والشر. يذهب المرء إلى نفعية اللوحة من حيث قدرتها على تزيين حياتنا، ولكن الجمال في حقيقته قيمة تتأسس عليها نظرة شاسعة وغير ميسرة إلى الكون، وإلا ما جرى وصف الله في القرآن بالجميل على لسان الوحي. وإذا ما كان الجمال قد ارتبط منذ البدء بالطبيعة الحية البكر، فان الرسامين الفاتحين في مختلف العصور حاولوا أن يهتدوا إلى جزء من ذلك اللغز من خلال إزاحة الشيء الجميل عن طريقهم ليذهبوا إلى فكرة الجمال مباشرة. أما من استغرقوا في وصف الأشياء الجميلة فانهم لم ينتجوا إلا لوحات يمكن تفادي المرور بها بيسر. صورة الجميل ممكنة لكل فرد على قدر ضئيل من الحساسية. وهي صورة سرعان ما تتخلى عن عناصر المدهش والجريء وغير المتوقع التي رافقتها أول وهلة لتبدو مملة، بل ومستهلكة. وهو الخطأ الذي لا ترتكبه الطبيعة بتاتا. كل هذيانات الطبيعة هي أفكار تذهب إلى إزاحة العادي والميسر وسهل الاقتباس عن صورتها: أعاصير بحرية، زلازل، براكين، انجرافات، اختفاء جزر وظهور أخرى، دوامات ومتاهات مائية، تغيرات مناخية، حيوات تظهر في أمكنة غير متوقعة. كل هذا وسواه من تحولات الطبيعة يجعلنا ندرك أن جمال الطبيعة لا يكمن القبض عليه في لحظة ساكنة من لحظات وجودها. جمالها هو قيمة لن يتمكن الوصف من انتزاع اعترافاتها. من قال أن تسونامي الذي ازهق آلاف الأرواح على سواحل تايلند عام 2005 لم يكن جميلا؟ لقد قررت الطبيعة يومها أن تستبعد مفردات جمالها التي استهلكت لتستعير من الجمال المطلق مفردات جديدة. فكرة التحول هذه دفع ثمنها آلاف البشر ممن كانوا مستغرقين في التهام فتات الجميل الممكن. كل رسام فاتح هو تسونامي: كرافاجيو، بوسان ، رامبرانت، غويا، مانيه، ماتيس، بيكاسو، تومبلي، زاووكي، ماتا، كاندنسكي، موندريان، كيفر وسواهم ممن صنعوا معجزة الرسم في عصرنا، كل واحد منهم هو تسونامي، الذي محا ليخلق مساحة للكتابة. كان الألماني هارتونغ في نهاية حياته يرسم لوحات كبيرة وهو مقعد على كرسي متحرك. ولم تكن الفرشاة التي يرسم بها عادية، كانت أشبه بمجموعة متلاصقة من غصون النخل اليابسة. كان هارتونغ يخربش بطريقة إيقاعية، تكشف عن عمق تأثير الإلهام عليه. لم يكن في حاجة إلى أن يغمض عينيه ليعرف أن كل ما كانت تتركه تلك الأغصان على اللوحة إنما هو صورة عما يراه في خياله. قبل موته بسنة كان بول غوغان أشبه بالأعمى، ومع ذلك فقد رسم يومها عددا من أعماله العظيمة. كان مونيه في سنواته الأخيرة هو الآخر لا يرى جيدا. أتذكر يوسف الناصر، الرسام البحريني الذي عرفته أعمى تماما. كانت ذاكرة أصابعه تعمل بحيوية كما لو أنها تعود إلى شخص يرى الأشياء وهي تمضي إلى مصائرها. ربما أخطأت الطبيعة حين اختارت يوسف الناصر للعمى غير أن الرجل برغم ذلك لم يخطئ طريقه إلى الرسم. درس يوسف الناصر يضعنا في قلب المسألة: كان لدى الرجل شيء ما يراه، ولم يشكل العمى حائلا دون أن يرى ذلك الشيء. لذلك استمر الناصر في الرسم بالرغم من عماه. معجزة غير أنها صفة للجمال وليست امتيازا لخالقه.
(8)
الرسم ليس صنعة. ليته كان كذلك لانتهينا منه منذ زمن طويل. فشل الملايين من الرسامين يكمن في انزلاقهم إلى الصنعة. كلما تمكن المرء من صنعة الرسم كلما فشل في أن يكون رساما. معادلة غريبة غير أن الوقائع التاريخية تقرها. في كل مكان يكون الخطأ ممقوتا إلا في الرسم. هناك أخطاء صنعت تحولات عظيمة في مسيرة الرسم. في اللقاء الوحيد بينهما رغب كالدر في أن يرى مربعات موندريان وهي تتحرك. الرسام الهولندي الصارم طرد يومها الشاب الأمريكي من مرسمه، غير أن كالدر المتأثر أصلا بالإسباني خوان ميرو حقق ما يصبو إليه حين أنجز منحوتاته التي هي عبارة عن رسوم مقصوصة سابحة في الهواء. ولكن موندريان نفسه لم يكن إلا رساما وهبه الهواء بركته. لا تزال تخطيطاته التي تمثل الشجرة وهي تنقص موجودة، بل هي جزء مهم من ارثه الفني العظيم. يمكننا أن نرى شجرة موندريان موجودة في كل مكان. ولكنها ليست هي كما رآها. فكرة الرسم عن الشيء لا تمثل ذلك الشيء، بل أنها قد تخونه في أحيان كثيرة. نساء مودلياني جميلات بل وملهمات لكن في الرسم فقط. نساء هنري مور لا يصلحن للمضاجعة أما نساء تولوز لوتريك فهن خريجات الطاحونة الحمراء. ولكن الرسم وهو الذي لا يعنى بصنعته هو ملاذ لمفهوم مختلف يقف بعيدا عن الحاجة والأخلاق معا. فما لا نأكله من تفاحات سيزان شبيه بالنساء اللواتي لن نضاجعهن في لوحات مودلياني وفي تماثيل مور. الرسم يهب الأشياء صفات عجيبة تجعلها قادرة على أن تلصق بالأسطورة قدمين. كنبي يمشي في الأسواق ويحدث الناس وهم الذين ما حلموا يوما بلقاء نبي. يشفينا الرسم من واقعيتنا إذ يرتفع بها من موقعها السفلي وينظفها من ابتذالها. لا أحد في إمكانه أن يصدق أن فتيات بيكاسو هن عاهرات أفنيون أنفسهن. العاهرات مضين إلى زوالهن، فيما تلك اللوحة لا تزال أصباغها طازجة كما لو أنها رسمت اليوم. مائة سنة مرت هي ليست من عمرها، بل من عمر مشاهديها. الطفلة التي تتعلم المشي والكلام ووصف العالم بطريقة تذكر بالمعجزات. هنالك سر ما يقف وراء هذه البداهة الكونية المضافة. لا يكفي أن نكون متمردين لكي يضمنا الله إلى حاشيته. بيكاسو كان خادما في المصنع الإلهي: كان ملهما لكي يخلق إذا لم نقل أنه كان خالقا. الرسم العظيم هو نوع من الخلق الذي لا يبلى ولا يبدل مثل كلمات الله. أعتقد أننا نجد ضالتنا في الموسيقى لتأكيد هذا المعنى. فالأصوات التي تطلقها الآلات الموسيقية وفق تأليف موضوع سلفا هي نوع من الاستعادة لأصوات الملائكة وهي تسعى إلى إسعاد الإله في وحدته. ما من شيء يشبه خشوع العبادة سوى الاستغراق في الإنصات إلى الموسيقى. في روحانياته ارتجل كاندنسكي أصواتا للأشكال هي في حقيقتها ذات الأشكال التي ارتجلها ارثور رامبو لأصوات الحروف التي أفقدته هناءة العيش ودفعته إلى إنكار التربية. لقد وهبنا الرسم نعمة أن نرى الجمال موصوفا بعد أن كان مجرد صفة تلحق بأفعال الإله. وهو ما عبر عنه الرسامون حين أضافوا إلى الجمال صفة (الخارق). وهي صفة تذهب إلى المستحيل لتضعه موضع المساءلة. صار الرسامون الفاتحون يمدون أيديهم إلى ذلك المستحيل ليقتطعوا منه أجزاء تكون فيما بعد خميرة لرسومهم. حيث كان الرسم كانت فكرة الخلق حاضرة.
(9)
كان سلفادور دالي أسوأ رسام عرفته في حياتي، يليه في السوء البلجيكي ماغريت. كانا رسامي أفكار وصفيين. وكانا يستعرضان قدراتهما على الإيهام البصري. كان فعل الرسم بالنسبة لهما خاتمة. شعبية لوحاتهما جعلتهما دائما في موقع منحط من جهة القدرة العامة على تأويل خيالهما الصوري. لا يشعر المرء بالحاجة إلى رؤية رسومهما مرتين. وهو أسوأ ما يمكن أن يقع لرسام. اللوحة في حد ذاتها حدث جمالي لا يمكن الاستغناء عنه. لذة المشاهدة هي أشبه بلذة الرسم. أن نرى اللوحة بعينين مغمضتين هو فعل خيانة في كل الأحوال، إلا إذا جرى ذلك في الأحلام، وهو أمر لا إرادة لنا فيه. قبل أن أراها كانت موناليزا دافنشي مجموعة من الحكايات السياحية والتاريخية التي يصدر بعضها عن فكر شعبي ساذج وبريء، لكن الوقوف أمامها كان شيئا آخر تماما. لست هنا في معرض الحكم الإيجابي أو السلبي، بل أتحدث عن فكرة معايشة العمل الفني، كونه واقعة ملموسة تترك مواجهتها أثرا ما في أعماق من يعيش تلك المواجهة. ما يمكن التعبير عنه من خلال الكلمات يمكن إزالته من اللوحة من غير أن تلحق تلك الإزالة أي ضرر يذكر باللوحة. فإن حدث ضرر ما فان ذلك يعني أن اللوحة صنعت ناقصة. ولكن هل كانت الموناليزا على سبيل المثال عملا فنيا غير ناقص؟ هنالك فرق جلي بين أن تحل الكلمات محل اللوحة وبين أن تكون اللوحة نبوءة لولادة لوحة أخرى. ففي الحالة الثانية يجد المرء نفسه أمام سؤال نقدي من شانه أن يفتح أمامه أبوابا يسترسل من خلالها في مديح الخيال. وإذا مما كان الخيال الشعبي قد وضع الموناليزا في مكان لا يناله الشك فان الموناليزا نفسها كانت تسخر من كل كلمة. لقد صارت مثل هبة إلهية، يقف أمامها الجميع كما لو أنهم ينهون بها حجتهم. لن تكون الموناليزا سوى جزء من المشكلة وليست المشكلة كلها.
(10)
وليام دي كوننغ انتهى مجنونا. لقد تم الحجر عليه بطلب من ابنتيه. حدث ذلك في سنواته الأخيرة، يوم بلغت أسعار لوحاته درجة لم تبلغها أسعار أي رسام حي. كان دي كوننغ مجنونا منذ البدء. نساؤه كن قدرا استثنائيا لوصف ما لا يمكن وصفه. لقد قرر ذلك الهولندي المتأمرك أن يبلغ الشعر عن طريق الحيلة البصرية. ضربات فرشاة تبدو كما لو أنها على عجلة من أمرها غير أنها في الحقيقة تريد أن تقول كل شيء في كلمة واحدة. لم يكن متأنقا بالرغم من أن رسومه كانت تصل بنا إلى حافات أناقة لا يمكن سوى أن نتورط في تقليدها. «الأنوثة في اعمق نقاط تجليها» نساؤه وقد امتزجن بالعدم يبشرن بولادة جمال لا يستهلكه شكله. المرأة التي اكتشفها دي كوننغ هي خلاصة كل النساء اللواتي نعرفهن ولا نعرفهن. ضربة فرشاة هي أشبه بضربة حظ جعلت هذا الرسام الاستثنائي يطل بنا على جنة من نساء. يا لجحيمه!
(11)
محاطا بحراسه الليليين رأيته في امستردام . لم يذكرني تمثاله بعبقريته في رسم الصور الشخصية. كان الذي رأيته آخر يشبهه تماما، غير أن هناك شيء كالوصفة السحرية مفقود. ليس الشبه هو السر الذي يهب أل (بورتريه) نبوغه. صحيح أن أندي وارهول كان قد سعى إلى تحطيم هذه الهالة التي اعتبرها بعضا من بقايا الفكر المتحفي. وارهول كان مبتذلا فيما بقي رامبرانت نادرا. ما الذي يعنيه أن نرسم صورة لشخص ما؟ رامبرانت هو الشخص الوحيد الذي في إمكانه أن يجيب على هذا السؤال. في الصور الشخصية ليست هناك سوى عبقرية وحيدة: أن نخترق العزلة. بهذا المعنى تكون الصور الذاتية أشبه بالاعتراف، بل هي الاعتراف في شكله الموصول بحافاته الحادة. رسم رامبرانت نفسه ليروي سيرته من خلال الرسم. غزارته في إنتاج صور شخصية تهبه كرامة مضافة. الرسام الذي صار يقول أشياء مهملة، نادرا ما التفت إليها الرسم. كل صورة هي عشرات الصفحات المكتوبة بصفاء راهب يعرف أن الطريق التي تقوده إلى السماء لا تزال مفتوحة، ولا أحد من الحراس الليليين في إمكانه إغلاقها. هناك دائما رجل وحيد، وحياة هي صفته وليست حيز عيشه. النور الذي تشع به رسوم رامبرانت الذاتية هو هبة كفاحه من أجل أن يكون كما هو. نشاطره الإعجاب بتلك الذات التي أمسكت ببوصلتها منذ الصبا لتتمكن من كل جهات الموت، غير أننا نعجز عن القبض على السر الذي يجعل كل حياة عاشها ممكنة مثلما تفصح عنه رسومه. ذهب رامبرانت إلى الأيقونة ليكتشف أرقامها السرية ويتعرف على لغز المقدس فيها لا ليهابها بل من أجل أن يتخذ من فضائها ملعبا. درسه في الرسم كان أكثر دروس الرسم عمقا وأشدها كثافة. فتيات التصوير اليوم ليس لديهن سوى تسلية واحدة: التشبه به. كل واحدة منهن صنعت من غرفتها معبدا. غير أن مرآة رامبرانت كانت على الدوام صامتة. لم يكن ينتهز فكرة أن يكون موجودا ليعلي من شأن أناه، وهي أنا تجاوزت مشكلة الرسم إلى ما يهدد موضوعيته في الوصف. رامبرانت في كل صوره الذاتية لا يصف بل يعترف. حكاية تصنع من ارتجالها نوعا من الإلهام، لا يزال رامبرانت سيدها. في أماكن كثيرة من العالم رأيت رسامين بؤساء يرسمون صورا شخصية للسائحين ( قرب كنيسة القلب الأقدس في باريس أم في ساحة نافونا في روما) كانت عبارة عن كذبة يمكن تفاديها عن طريق عدسة التصوير: «كنت هناك» هذا أقصى ما يمكن أن تقوله الرسمة على الورق. نوع من الذكرى الذي يفقد معناه الرمزي مع الوقت. أما الرسام الذي ذيل تلك الرسمة بتوقيعه فانه يعرف أنه ضحية خيانة يمارسها كل لحظة. يمكنه أن يقول «لم أكن هناك أبدا». فما فعله يمكن أن يفعله لا أحد. و رامبرانت كان عدوا لذلك اللا (أحد). بسبب هذا اليقين فقد صارت كل الصور الشخصية تنتسب إليه. الرجل الذي قرر أن يكون موجودا في صفته صنعة إلهية.
(12)
سي تومبلي يقول أشياء كثيرة عن المناخ. مع كل لوحة منه تحضر كل فصول السنة في يوم واحد. تعصف فرشاته وتهدأ وتمطر وتشمس وتثرثر وتصمت وتتغنج وتحتجب وتخضر وتتصحر وتعلو وتهوي وتعتم وتنير. تفعل كل شيء في وقت واحد كما لو أن هذا الرسام يشعر أن يوم القيامة قد بات على بعد خطوة واحدة. كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. يذكرنا بالألماني هارتونغ غير أنه يتركه وراءه في محطة بعيدة. كل شيء ولا شيء هو الحب في تمرده وامتناعه وشغبه وهو بلاغة الأشياء التي تمحوها ضحكات الأطفال. مع تومبلي نكتشف أن الرسم لا يمكن إخضاعه إلا عن طريق مزاج متقلب، لا يبحث عن سويته في سلوكه، ولا يتراجع عن شغبه. المتعة لذاتها وما من شيء يدعو إلى الاستغاثة بالفكر. هناك دائما خيال صوري يدفع بنا إلى الجنون. سام ريندي فنانة كمبودية فقدت اتزانها أمام إحدى لوحاته فقبلتها وتركت عليها أثرا أحمر من شفتيها. حدث ذلك منتصف عام 2007 في متحف لامبرت بمدينة أفنيون الفرنسية. قالت سام : «تركت قبلة عليها، بقعة حمراء على قماش أبيض، فهذه البقعة تشهد على قوة الفن». لقد شعرت سام أن تومبلي ترك تلك البقعة بيضاء من أجل قبلتها. «عاطفتي غلبتني» محامي الاتهام أجاب «في الحب هناك حاجة إلى شخصين متوافقين». لم يكن تومبلي طرفا في القضية، بالرغم من أنه كان السبب في كل ما حدث. لولاه ما وقع ذلك الحب الذي انتهى إلى المحكمة. في كل سنتمتر من لوحة تومبلي هناك غواية، بل أن الرسم بين يدي هذا الرسام صار فعل إغواء. «أقودك خارج كل معنى لتكون المعنى لذاتك، أنت موجود وذريعتك وجودك الذي لن يكون أبدا سوى الطريق التي تصل بك إلى البيت، ولكن اطمئن فانك لن تصل قريبا». تشعرك رسوم تومبلي بضرورة أن تتخلى عن كل أثقالك: هويتك، صورتك، ذكرياتك، ماضيك، نسبك، ملامحك فلا يبقى لديك ما يشير إليك إلا خطواتك التي تركت قدماك نغمها على الطريق وهو النغم الذي سيستقبلك ليقول لك: «أنت آخر، أو هكذا صرت» يحررنا تومبلي من أنفسنا في الوقت الذي يضعنا فيه مباشرة أمام المائدة الرسولية: القوت الذي يشف عن القيامة. حيث لاشيء هو كل شيء دائما. البياض الذي تركت عليه سام قبلاتها هي أشبه بتلك الثقوب السوداء التي تلتهم كل شيء يمر قريبا منها. النظر إلى رسوم تومبلي هو نوع من الصلاة.
(12)
الآن وقد تخلى الجميع عن الرسم، هل نقول للجمال: «وداعا»؟ فبعد هذا التبدل الخطير الذي طرأ على مزاج عصرنا الثقافي صارت اللوحات بمثابة ودائع متحفية. جاكسون بولوك وليوناردو دافنشي وبونار وكليمت وماتا وجواد سليم وفريدة كويهلو وآيغون شيلا هم اليوم في خزانة زجاجية واحدة. الأسلاف والأحفاد، الأصدقاء والأعداء، الموناليزا ومرآتها الساخرة التي رسمها دوشان. الجميع ذهبوا إلى غرفة العناية التاريخية مثلما فعل من قبل الكاتب السومري كوديا والفرعون المصري توت عنخ آمون وقياصرة روما والمغول. ذهب الرسم إلى المتحف، يتبعه الجمال خاسرا موقعه لحساب الفكرة التي لن تعدنا بتلك اللذة الروحية التي كان الرسم مصدرها. ما لن تعرفه الأجيال القادمة أن ثمة متعة خفية كانت العين مصدرها وملعب وحيها ورجاءها الأخير قد تلاشت إلى الأبد. كان هناك شعور لا يصلح أن يكون مادة للوصف هو الذي كان يزيل الحدود التي تفصل بين حياتنا وبين حياة مجاورة. حياة كانت في حقيقتها المرعى الذي تجد فيه أرواحنا مستقرها. بسبب الرسم وقع حوار بين ما كنا نراه وما لم تكن لدينا القدرة على رؤيته. كنا نؤخذ بسحر إلهام كائنات عاشت فصول الحكاية التاريخية كلها بخفة السر الذي يحدث غيابه نقصا في الحكاية. كائنات هي ليست نتاج انبهار الحواس بعبقرية رؤاها، بل هي تلك العبقرية وقد جردت الحواس من قشرتها. «لقد انتهى الرسم». أقولها بأسى من يتوقع الأسوأ وأنا أنظر إلى الجمال بعيني طفل يتيم. لقد أبيدت حساسية كنا نظنها خالدة من أجل أن يقول الوعي كلمته، وهي كلمة، ربما تكون مضللة وملتبسة ومقيدة، غير أن ما يجب أن نعترف به أن لغة الرسم وقد تلفت لم تعد قادرة على أن إنتاج الجمال الذي يبقينا على قيد اللذة، بل صارت تلك اللغة ماكنة لاستهلاك حيوية الجمال الذي استسلم لذائقة السوق. كان الرسم مصنعا ألهيا لإنتاج الخميرة التي تساعد على صناعة شعورنا بالجمال، وهو شعور كان مصدرا لكل لذة لا ينتجها النظر المباشر إلى العالم. وحين صار يخسر موقعه هذا تدريجيا لحساب تقنيات الفن الجديد فقد صار لزاما عليه من أجل أن يحافظ على كرامته أن يختفي. كان الرسم كريما دائما.
فــــاروق يــوســـف
شاعر وكاتب من العراق يقيم في السويد