بعدئذ تتالى حوانيت عادية من جديد: خردوات ، مستودع فحم ، مخبز، وثمة في الزاوية حانة صغيرة ، أما صاحب الحانة ، وهو رجل هزيل ذو جلد متهدل تضغط عليه ياقته ، فكان عالي المهارة في صب الكونياك الرخيص من زجاجة بمنقار في كؤوس صغيرة ، وكان معلما بارعا في صوغ العبارات الظريفة . وكل مساء تقريبا كان بائع الفواكه وبائع الخبز والمصلح وقريب الساقي يتحلقون حول طاولة دائرية بالقرب من النافذة وينهمكون بلعب الورق ، وسر عان ما يطلب الرابح بيرة للأربعة، الأمر الذي لم يكن يسمح لأحد في المحصلة بأن يثري ، وفي أيام السبت كان يجلس الى طاولة أخرى بالقرب منهم ، رجل وردي اللون ، جسيم ، وخط الشيب شاربيه المشذبين بعصبية ، فيطلب "روما" ويدك غليونه وهو يتأمل اللاعبين بعينين دماعتين لامباليتين كانت اليمنى منهما مفتوحة على نحو أكثر اتساعا من اليسرى . ولدى دخوله كانوا يحيونه دون أن يرفعوا عيونهم عن الورق . كان المصلح يبل إصبعه بلعابه ويرمي ورقة . وكان بائع الخبز يعد: "واحد، اثنان ، ثلاثة " وهو يرفع الأوراق عاليا وبقوة يضرب الطاولة بكل واحدة منها ، ثم تعقب ذلك دفعة من البيرة .
أحيانا كان يتوجه أحدهم الى الرجل الجسيم ويسأله عن سير التجارة في دكانه فيبطيء هذا في الرد، أو لا يجيب البتة في كثير من الأحيان . واذا ما مرت ابنة صاحب الحانة بالقرب منه وهي فتاة ضخمة ترتدي فستانا صوفيا مخططا بمربعات ، كان يجهد ليربت على عجيزتها الرجراجة ، دون أن يغير ابان ذلك من ملمحه المتجهم . إنه يتضرج حمرة وحسب . كان صاحب الحانة الظريف يسميه "السيد البروفيسور" وينضم الى طاولته
كان الشارع ، وهو ينعطف جانبا بواحد من الترامات يبدأ من زاوية شارع رئيسي مزدحم بالناس ويمتد في الظلام خاليا من واجهات المحلات ومن أية أفراح ، ثم ، وكأنه أراد أن يعيش حياة جديدة ، شرع يغيرا سمه بعد ساحة مستديرة التف الترام حولها بقرقعة ساخطة ، وبعد ذلك أخذ الشارع يزداد حيوية ، فظهر على الجهة اليمنى حانوت للفواكه وفيه أهرامات من البرتقال المضاء إضاءة باهرة ، وحانوت للتبغ فيه تمثال لزنجي معمم صغير، وحانوت لبيع السجق ملي ء بأفاع سمينة بنية اللون ، تليه صيدلية ، فعطارة ثم فجأة دكان لبيع الفراشات ، ليلا، ولاسيما في الليالي الماطرة حين يكون الأسفلت براقا كجلد فقمة ، قلما يمر أحد دون أن يتوقف لحظة أمام علامة الطقس البديع هذه. كانت الفراشات المعروضة ضخمة ساطعة الألوان . وكان المار يحدث نفسه : "يالها من ألوان ! كم هي نادرة ! " ويتابع طريقه . وتظل الفراشات عالقة في ذاكرته بعض الوقت . فالأجنحة ذوات الأعين الكبيرة الذاهلة ، والأجنحة اللازوردية ، والأجنحة السوداء بألقها الزمردي تستمر تسبح أمام ناظريه الى أن يضطر لتحويل انتباهه الى ترام يدنو من المحطة . وتحتفظ ذاكرته أيضا بمجسم للكرة الأرضية وبأدوات أخرى وجمجمة فوق قاعدة من كتب سميكة .
أحيانا قائلا : "إيه كيف يعيش السيد البروفيسور؟"
_ فيطيل هذا النظر اليه وهو يمصمص غليونه لاهثا، قبل أن يرد عليه ، ثم يمط شفته من تحت مشرب الغليون على شكل زورق صفير، شأن فيل يعتزم تلقي ما يحمل اليه خرطومه ، ويتلفظ بأي شي ء فظ لا يضحك ، فيعترض صاحب الحانة بعنف ، واذ ذاك يترنح الجالسون قريبا منهما مقهقهين وهم يحدقون بأوراقهم .
كان يرتدي بذلة رمادية فضفاضة تكشف عن جزء كبير من صدر يته ، واذ يتخطى اللقلق أعماق ساعة الحانة برمشة عين ، كان بحركة بطينة ، وهو يمتعض من الدخان يخرج من جيب صدر يته بصلة فضية فينظر اليها ممسكا بها متدلية على كفه . وفي منتصف الليل تماما كان ينفض غليونه في المنفضة ويدفع حسابه ، ثم يمد يده بالتحية مودعا صاحب الحانة ، فابنته ، فاللاعبين الأربعة ويخرج بصمت .
كان يسير على الرصيف بشي ء من العرج ، أخرق الخطىء وساقاه شديدتا الضعف والنحول قياسا الى جسمه الثقيل ، وما إن يتجاوز واجهة حا نوته حتى ينعطف حالا نحو باب في الجدار الأيمن ثبتت في وسطه لوحة معدنية تحمل اسم "بيلغرام ". كانت شقته صغيرة ، باهتة ، تطل شبابيكها الكئيبة على الفناء، وكان يمكن الخروج نهارا الى الشارع عبر الدكان ، عبر غرفة الضيوف الضيقة مباشرة ، حيث توجد أريكة كابية الحمرة وآلة خياطة قديمة مرصعة بالزخارف ، مرورا بمجاز عظم يغص بسقط المتاع ، وفي ليالي السبت ، عندما يدخل بيلغرام الى حجرة نومه ، حيث يوجد فوق سريره العريض عدد من صور فوتوغرافية ذابلة لسفينة واحدة ، كان يجد إليانورا نائمة كعادتها، فيدمدم بصوت خفيض ، ويتلمس طريقه الى مكان ما ومعه شمعة مشتعلة ، ثم يعود فيغلق الباب بقوة ، ويلهث وهو يخلع جزمته ، وبعدئذ يستغرق طويلا في الجلوس على طرف الفراش ، فيما تبدأ زوجته ، وقد استيقظت تئن في مخدتها مقترحة علية أن تساعده في خلع ثيابه ، فيأمرها إذ ذاك بهدير منذر في صوته ، أن اهدئي، ثم يكرر كلمة "اهدئي" بضع مرات بوحشية متزايدة . وبعد الجلطة ، يوم كاد يموت من ضيق التنفس وعجز عن الكلام طويلا، تلك الجلطة التي أصابته في العام الماضي، تماما وهو يخلع جزمته ، شرع بيلغرام يذهب الى النوم متوجسا، دونما رغبة ، ثم كان وهو مستلق تحت لحاف الريش الى جانب زوجته ، بيلذ به الغضب مداه إذا ما تساقطت قطرات ماء من الصنبور في المطبه المجاور. كان يوقظ زوجته فتجر قدميها الى المطبخ قصيرة القامة في قميص نوم باهت ، شعراء الساقين ، ووجهها صغير يلمع من دف ء الريش ، كانا متزوجين منذ ربع قرن وعقيمين لم يكن بيلغرام يريد أولادا، إذ لم يكن في وسع هؤلاء أن يكونوا إلا عقبة إضافية على طريق تحقيق ذلك الحلم المشبوب ، الثابت ، المضني والرنميا الذي كان مريضا به منذ أن وعى نفسه .
كان ينام على ظهره دائما، منكسا طاقيته الليلية عن جبينه وكان نومه مكرورا، عميقا وصاخبا، نوم تاجر مديني طيب ، تستطيع حين تنظر اليه أن تفترض أن نوما بهذا المظهر الوقور خال هن الأحلام . أما في الحقيقة فإن هذا الرجل البالغ الخمسة والاربعين عام، الثقيل والفظ ، الذي تربى على السجق بالحمص والبطاطا المسلوقة ، والمطمئن الى جريدته واثقا، الموفق في جهله بكل ما لا يمس صبوته الوحيدة الفارغة ، كان يرى، دون أن تعرف زوجته وجيرانه أحلاما غير عادية . كان منهض متأخرا أيام الأحد، فيشرب قهرته على دفعات ثم يخرج مع زوجته ليقوم بنزهة صامتة بطينة كانت اليانورا تثابر على انتظام التلذذ بها طيلة الأسبوع . أما في أيام العمل فكان يبكر بفتح دكانه قدر المستطاع ، آخذا في حسابه الاطفال الذين يمرون به د طريقهم الى المدرسة ، ذلك أنه في المدة الأخيرة كان قد ضم الى بضاعته الأساسية بعض المستلزمات المدرسية . ويصادف أحيانا أن يكون صبي في طريقا الى المدرسة يجرجر قدميه ببط ء ويلوح بحقيبته وهو يلوك ماشيا أثناء مروره أمام حانوت التبغ ، حيث تحتوي علب بعض أنواع السجائر على صور ملونة وتجميعها مفيد جدا، وأمام دكان السجق الذي يذكره بأنه بكر كثيرا بأكل زاده ، وامام الصيدلية ، ثم أمام العطارة واذ يتذكر أن عليه أن يشتري ممحاة يدلف الى الحانوت التال ، كان بيلغرام يخور وهو يمط شفته ، من تحت مشرب الظيون ، فيبحث بضجر ثم يضع أمامه على الطاولة علبة كرتون مفتوحة ، ومن ثم يسرح نظره أمامه صامتا ، مكثرا من إطلاق حلقات دخانه الرخيص ، كان الصبي يجسر المماحي الباهتا الحسنة ولا يجد النوع المرغوب فيبتا دون أن يشتري شيئا، كانت البضاعة الرئيسية تطل غير ملحوظة -هكذا هم الأولاد اليوم _ يفكر بيلغرام بمرارة مستعيدا طفولته بلمح البصر. كان المرحوم أبوه ، وهو بحار متسكع محتال ، قد تزوج في سن الشيخوخة تقريبا من امرأة هولندية صفراء كابية الحينين جاء بها هن بورنيو ثم ألقى عصا الترحال وفتح دكانا لبيع الأشياء الغريبة ،وسرعان ما توفيت الزوجة وقت كان ابنهما يرتاد المدرسة ، ثم غدا يساعد أبده في الدكان ، لم يكن يذكر الآن بدقة كيف ومتى شرعت تظهر في الدكان صناديق الفراشات ، ولكنه يذكر أنا كان يحب الفراشات منذ ولادته ، وهبط ء كبير أخذت الفراشات تحل محل طيور مهر البحر المجففة وطيور الكوليبري المحنطة ، وتمائم المتوحشين ، والمروحة المزينة بتنينات وباقي التفاهات المغبرة . وحين مات أبوه كانت الفراشات تحتل الدكان نهائيا ، وان ظل موجودا ولمدة طويلة هنا وهناك حذاء ديباجي وسلاح ارتدادي وطوق من المرجان ، ولكن حتى هذه البقايا اختفت فيما بعد فبسطت الفراشات سلطتها باستبداد، ولم تبدأ هذه أيضا بالتقهقر إلا قبيل مدة قصيرة حين كان لابد من تقديم تنازلات إذ ظهرت كتب تعليمية ، كان صندوق زجاجي صغير يحتوي على سيرة مجسمة لدودة القن هو المسوغ الطبيعي للتحول اليها. كانت التجارة تسير من سيىء الى أسوأ. أما الكتب التعليمية وكل أنواع الفراشات التي يمكن أن تروق لذوق ضيقي الأفق ، أي الأنواع الأكثر ضخامة وجاذبية ، والأجنحة البراقة على الجص في أطر صغيرة ذات أفاريز لتكون زينة في غرفة لا مفخرة عالم فكانت معروضة في الواجهة بينما حفظت أنفس المجموعات ن اخل الحا نوت المشبع برائحة غلوبين لوزية ، وكان المكان مكتظا بمختلف أنواع الصناديق وعلب الكرتون وصناديق السيجار المفروشة بأوراق شجر متفسخة ، وكانت الصناديق الزجاجية مصفوفة عل الرفوف ، ملقاة على طاولة البيع أو مدسوسة في خزانات قاتمة عالية ، وكانت جميعها تغص بصفوف متساوية من الفراشات الفائقة الطراوة ، الفائقة الترتيب .
وأحيانا كانت تظهر كائنات حية هي شرانق ، بنية ثقيلة تتلاقى على ظهورها خطوط طولانية تبين انضمام الجناحين الجنينيين والساقين والمجسات والخرطوم الصفير بينها، والأعضاء التناسلية على بطنها المدبب النهاية الذي يبدأ فجأة يتلوى بتشنج ذات اليمين وذات الشمال ما إن يلامس أحد هذه الشرنقة . كانت الشرانق ملقاة في الطحلب ولم تكن غالية الثمن ، وبسرور الوقت كانت تخرج منها فراشة مجعدة بديعة النمو. وأحيانا كانت حشرات عرضية أخرى تعرض للبين ، قوامها سلاحف صغيرة بالغة الدقة أو دستة من عظاءات جزيرة مايوركا، باردة سوداء، زرقاء البطن ، كان بيلغرام يغذيها بوجبة من ديدان الطحين وبتحلية من العنب.
لقد عاش حياته كلها في بروسيا التي لم يغادرها قط . وكان عالم حشرات فذا، وقد أطلق ريبيل ابن فيينا اسمه عل أحدى الفراشات النادرة ، بل هناك ما اكتشفا هو نفسه ووصفه . كانت صناديقه تضم جميع دول العالم ، إلا انه لم يزر بلدا واحدا، وكان يكتفي بالقيام أحيانا في أيام الأحد الصيفية بالسفر خارج المدينة قاصدا ضواحي الصنوبر الرملية المضجرة المحيطة ببرلين ، فيتذكر طفولته وصيد الفراشات ويتخيل ذلك وقتئذ خارقا للعادة ، وكان ينظر بحزن الى الفراشات التي يعرف جميع أنواعها منذ زمن بعيد وكانت تتناسب مع منظر الطبيعة على نحو راسخ ويائس .أو كان يبحث الى أن يجد عل شجيرة صفصاف يرقة كبيرة يتراوح لونها بين الزرقة والخضرة خشنة الملمس ولها قرن خزفي صغير على مؤخرتها. كان يضعها ذاهلة على راحته فيتذكر لقية مماثلة تماما في طفولته ،متجمدا متمتم بإعجاب – ثم يعيدها الى الغصن كأنها شيء. أجل ، لقد أمضى حياته كلها في وطنه ، ومع ان الفرصة واتته مرتين أو ثلاثا لكي يبدأ عملا أجدى الاتجار بالجوخ، إلا أنه ظل متمسكا بدكانه وكأنها الصلة الوحيدة بين برودة البرليني وشبح السعادة الثاقب، حيث كانت السعادة تكمن في أن يورس هو شخصيا، بيديه هاتين وبهذا الكيس من الشاش المثبت على عصا، اصطياد أندر فراشات البلدان البعيدة ، ويرى بعينيه طيرانها فيطرح بمصيدته وهو غائص في الأعشاب حتى حزامه ، شاعرا بانتفاضها العاصف من خلال الشاش، كان يجمع النقود لتحقيق هذه السعادة مثل انسان يمسك بكأس تحت ماء ثمين شحيح القطرات وفي كل مرة ما إن يتجمع قليل منه حتى تسقط الكأس فيندلق ماؤها ويتعين عليه أن يعيد الكرة من جديد، لقد تزوج وهو يعلق أملا كبيرا على مهر زوجته ، غير أن حماه توفي بعد أسبوع مخلفا توكأ قوامها الديون ثم عشية الحرب وبعد جهد جهيد كان قد أعد كي شىء للسفر، حتى انه حصل على خوذة استوائية ، وحين انهار مشروعه ذاك ظل لبعض الوقت يحدوه أمل بأنه الآن سيجد نفسه في مكان ما، شأن ضباط شباب كانوا فيما مضى يجدون أنفسهم في الشرق فجأة في المستعمرات ، ويضنيهم ضجر الترحال فيشرعون في تشكيل مجموعات من الفراشات والخنافس يمحضونها ولعهم طيلة الحياة بعد ذلك ، كان ضعيفا، مترهلا ومريضا ، فترعوه في المؤخرة ولم ير الفراشات الأجنبية الخشنة الأجنحة ، ولكن أكثر الأمور غرابة وهو ما لا يحصل إلا في الكوابيس إنما وقع بعد انقضاء الحرب ببضع سنوات ، إذ أن ذلك المبلغ من المال الذي كان بين يديه ، وكان يمثل إمكانية حقيقية وملموسة بالفعل لبلوغ السعادة ، قد انقلب فجأة ال أوراق عديمة الفائدة ، لقد أوشك على الهلاك ، ولم يبرأ من ذلك حتى الآن.
لم يكن المشترون نادرين نسبيا، ولكنهم كانوا لا يقتنون إلا سقط المتاع ، يبخلون ويشكون من الفقر. كان في السنوات الأخيرة يتجنب الافراط في الاضطراب فيتحاشى زيارة نادي هواة الحشرات الذي كان عضوا فيه ، واذا ما عرج عليه زميل مرة وطفق يتغنى بفراشة ثمينة ويحكي عن المكان والظروف التي تم فيها اصطيادها، كان بيلغرام يثور، إذ كان يخيل اليه أن المتحدث لامبال إطلاقا، متخم بالرحلات البعيدة ، ويفترض به الا يكون قد عانى أي إحساس حين حمل مصيدته وخرج الى البرية صباح أول . يوم وصل فيه . كانت تفوح في الحا نوت رائحة لوز كابية ، والصناديق التي كان ينحني فوقها بهدوء هو وزميله كانت تدريجيا تحتل طاولة البيع كلها، وكان الغليون بين شفتي بيلغرام يصدر زقزقة حزينة ، كان يستسلم لأفكاره وهو ينظر الى الصفوف المتراصة من الفراشات الصغيرة المتشابهة تماما بالنسبة للجاهلين ، وكان يصمت أحيانا وهو يدق الزجاج بإبهامه مشيرا الى مجموعة نادرة ، أو يلهث بألم عبر غليونه وهو يرفع صندوقا صوب الضوء ثم ينزله الى الطاولة ، ويغرس أظفاره تحت أطراف الغطاء المحكم فيخلخله ويخلعه بدفعه خفيفة ورشيقثه ، " نعم ، إنها أنثى"، يقول زميله وهو ينحني أيضا فوق الصندوق المفتوح ، ويحشرج بيلغرام وهو يتناول بإصبعه وأس الدبوس الأسود الذي صلب عليه كائن مخملي دقيق ، ثم يطيل المنظر الى الجناحين والى الجسم ، يقلبه وينظر الى بطنه ، وبعد أن يلفظ مع الدخان اسمه اللاتيني يعيد غرس الفراشة من جديد. كانت حركاته تبدو عديمة الاكتراث ، ولكن عدم الاكتراث هذا كان مميزا لا يخطيء كان عدم اكتراث جراح ضليع . إن الفراشة الهشة التي أمكن أن تتكسر مجساتها لدى أدنى صدمة – أو ذلك ما كأن يبدو على الأقل – والتي كان في الامكان أن تنزلق ببساطة وهو يدورها ممسكا بالدبوس ، هذه الفراشة الغالية الثمن ، هذه الفراشة التي قد تكون الوحيدة من نوعها، تناولها بيلغرام بقد، من البساطة كما نلو كانت اصبعاه والدبوس اجزاء متناغمة في آلة بريئة واحدة ولكن كان يصادف أن زميلا مأخوذا بالمنظر يمس بطرف كمه علبة مفتوحة ماء فتبدأ تتزحلق على زجاج الطاولة ، وإذ يلحظها بيلغرام يوقفها في الوقت المناسب . ثم بعد بضع دقائق فقط يطلق أنة ألم وهو مشغول بشي ء آخر.
بعد قليل كان الزبون يتناول قبعته عن الطاولة ويخرج فيما يستمر بيلغرام يغعغم مدة طويلة منهمكا بالصناديق وبالبحث عن شيء ما ، كانت معرفته الضخمة في مجال الفراشات تثقل عليه وتغيظه وتبحث عن مخرج ، فلم يكن يتصور أي بلاد، باستثناء بلاده ، إلا بوصفها وطنا لهذه الفراشة أو تلك _وما كان في الامكان مقارنة ذلك التوق الذي يكابده عندئذ إلا بالسنين الى الوطن . كان يعرف العالم على طريقته هو تحديدا . من زاوية مميزة ، جلية جلاء عجيبا وعصية على الآخرين ، فلو زار بيلغرام منطقة شهيرة ما لما لاحظ فيها إلا ما له صلة بطريدته ، أو ما كان فلغية طبيعية لها، وما كان ليحتفظ في ذاكر ته باريكتون إلا إذا طارت عن ورقة زيتونة تنمو في أعماق هذا المعبد، فراشة يونانية بديعة فاصطادها بمصيدته التي تصدر صفيرا، وكان وحده كتخصص قادرا على إدراك قيمة تلك الفراشة . لقد كون لنفسه ، دونما وعي منه جغرافية للعالم ودليلا مفصلا غاية التفصيل /حيث لا وجود لبيوت القمار والكنائس القديمة / وذلك اعتمادا على كل ما وجده في مؤلفات عن الحشرات وفي مجلات وكتب علمية _قرأ منها كمية تتجاوز الحد، وكان يتمتع بذاكرة ممتازة . إن دين في جنوب فرنسا وراغوزا في دالماسيا وسابيرتا على نهر الفولجا لأماكن شهيرة وغالية على كل متخصص بالحشرات ففيها يصطاد الحشرات الدقيقة أناس غريبون _وهذا ما يثير عجب السكان الأصليين وخوفهم _ جاء وا من بعيد . هذه الأماكن الشهيرة بحيواناتها كان بيلغرام يردها بقدر من الوضوح كما لو كان قد سافر شخصيا ال هناك ، وكأنما هو بالذات في ساعة متأخرة قد أخاف صاحب فندق رديء بهديره ووقع قدميه وقفزاته في الغرفة التي اندفعت فراشة رمادية تطير عبر نافذتها المفتوحة قادمة من الليل السخي الأسود ومضت تدور بعنف وتصطدم بالسقف . لقد زار تينيريف وضواحي أوروتاوا حيث في السواقي الصغيرة الحارة المزهرة التي تشق طرقها عبر السفوح الدنيا من جبال تغطيها أشجار الكستناء والغار، تطير أنواع غريبة من فراشة الملفوف ، كما زار الجزيرة الأخرى _ ولع الصيادين القديم _التي تعيش فيها فراشة ما خاوون الكورسيكية السمراء السمينة على منحدر السك الحديدية ، بالقرب من فيسأفونا، وأعلى قليلا في غابات الصنوبر. وقد زار الشمال أيضا أي مستنقعات لابلانديا حيث الطحالب وشجيرات الغونوبوبل والصفصاف القزمي. وهي منطقة قطبية غنية بالفراشات المخملية ، ومراعي الألب العالية ذات الأحجار المسطحة المتناثرة هنا وهناك بين الأعشاب القديمة اللزجة الملتفة ، لعله ما من متعة أكبر من أن ترفع أحد تلك الأحجار التي تحتها نمل وجعل أزرق وخفاش سمين ناعس ربما لم يطلق عليه أحد اسما بعد، هناك أيضا في الجبال رأي أبوللونات شبه شفافة حمراء العيون تسبح في الهواء عبر الطريق الجبلي الذي يمر بمحاذاة صخرة شديدة الانحدار ويفصله حاجز حجري واسع عن هوة تتألق مياهها القوية بالزبد . وذات مساء صيفي كانت الطريق الحصباء تصرف بغموض تحت قدميه في البساتين الايطالية ، وأطال بيلغرام التحديق عبر الظلمة المبهمة الى شجيرة مزهرة ، واذا بفراشة دفلى تظهر من مكان مجهول وتبعث طنينا خفيضا ثم تتنقل من زهرة الى زهرة وهي تتوقف في الهواء أمام التويج وترفرف في مكانها بسرعة جعلته لا يرى إلا هالة شفافة حول جسمها المغزلي . كان يعرف الهضاب البيضاء الدائمة الخضرة قرب مدريد، ووديان الأندلس ، والصخور والشمس ، والجبال الضخمة ومنطقة الباراتسين الحراجية الخصيبة التي نقلته اليها حافلة صغيرة عبر طريق لولبي،. وسافر صعدا الى الشرق ايضا. الى منطقة نهر او سوري وبعيدا الى الجنوب ، الى الجزائر، وغابات الارز، ثم عبر المناحل الى واحة يرويها نبه ساخن وحولها الصحراء صلبة ، متماسكة ، مزدانة بازهار المنثور والسوسن الليلكي.
ولما كان جل انشغاله منصبا على عالم الحيوان القديم فقد كان يصعب عليه تصور المدارات الاستوائية – وكانت محاولته التغلغل الى هناك بوساطة الحلم تسرع دقات قلبه وتبعث فيا شعورا يكاد لا يحتمل ، حلوا مدوخا. كان يصطاد فراشات امازونية لازوردية شديدة البريق بحيث ان اجنحتها الوسيعة تلقي على اليد أو على الورقة ظل ضوء ازرق .وعلى الأرض السوداء الخصبة في الكونغو كانت الفراشات الصفراء والبرتقالية اللون تقف متراصة مضمومة الأجنحة وكأنها مغروسة في الطين فتحلق سحابة تتلالأ حين يدنو منها ، ثم تحط ثانية في المكان نفسه وفي جزيرة سومطرة ، في بستان بين الادغال ، كانت >شجار البرتقال المزهرة تجتذب واحدة من أضخم فراشات الفجر ذات اجنحة مخرمة بديعة وبطن مبقع محني بسماكة اصبع .
"نعم ، نعم – يقول وهو يمسك العلبة الثمينة أمأم عينيه كانها لوحة . ويرن جرس صغير فوق الباب ، ثم تدخل زوجته ومعها مظلة مبللة وسلة للمشتريات – وببطء ، كما لو على قرص دوار، يدير لها ظهره وهو يدفع العلبة في احدق الخزانات . وأدت يوم باهت ورطب مز ايام نيسان ، وبينما كان مستسلما لاحلامه دق الجرس الصغير فجأة ففاحت رائحة المطر ودخلت اليانورا متجهة الى الغرفة بخطوات قصيرة ، سريعة وعملية . فاحس بيلغرام إحساسا واضحا انه لن . يسافر الى اي مكان أبدا، ثم خطر له أنه على مشارف الخمسين وانه مديون لجميع جيرانه وعاجز عن تسديد الضريبة وخيل إليه أن كون فراشة جنوبية تحط الان ، وفي هذه اللحظة بالذات على قطعة صغيرة من البازلت وتتنفس باجنحتها ، وهم همجي و هذيان مستحيل .
كان منذ اكثر من سنة يحتفظ بمجموعة بديعة ورفيعة القيمة تتكون من انواع بللورية ضئيلة تنتمي الى فصيلة رائعة تشبه البعوض والزنابيه . والحشرات الطفيلية ، وقد اودعتها عناد لنبيه ارملة هاو كان قد تعامل معهما من قبل. وقال للارملة حالا انها لن تحصل على اكثر من خمسة وسبعين ماركا، في حين كان يعرف معرفة اكيدة ان ثمن المجموعة يساو تن بضعة آلاف ، وان الهاوي الذي سيحصل عليها بقرابة الفي مارك سيقدر انه اشتراها بسعر زهيد، غير أن ذلك الهاري لم يظهر، وردا على الرسائل التي ارسلها الى أربعة أو خمسة من الهواة المشهورين جاءته اجابات ملتوية ، وعندئذ اقفل بيلغرام الخزانة على المجموعة وكف عن التفكير فيها. وهاهو في نيسان _ وتحديدا يوم كان كدر المزاج يجأر على زوجته ويكثر من الشراب والأكل والشكوى من آلام الدوار ، يجيء الى حانوته سيد في ثياب حديثة الطراز جدا ، وفيما كانت عيناه تجوبان الحانوت طلب طابعا بريديا بثمانية قروش ، دس بيلغرام القطه النقدية الصغيرة التي دفعها السيد في حصالة فخارية كانت على الرف ، وحدق في الفراغ وهو يمص غليونه . أما السيد فتظاهر بالشرود وألقى نظرة الى صناديق الفراشات ثم أوما باتجاه فراشة زمردية متعددة الاذيال قائلا انها جميلة جدا، تمتم بيلغرام بشيء من مدغشقر وخرج من وراء المعارضة . "أما هذه، أهي فراشات حقا؟" سأل السيد مثسيرا بأصبعه الى صندوق آخر. وفي هذه الأثناء كان بيلغرام قد أخرج الفراشة الزمردية ذات الأذيال وراح يقلبها وينظر الى وريقة المعلومات المثبتة بدبوس تحت صدرها تماما. كرر السيد سؤاله فنظر بيلغرام باتجاه إصبعا وغمغم قائلا إن لديه من هذه الفراشات مجموعة كاملة تتألف من خمسة آلاف فراشة ، ثم أعاد المدغشقرية الى مكانها وأغلق الصندوق ، «تشبه البعوض » _ قال السيد. حك بيلغرام ذقنه غير الحليقة ثم فكر قليلا وابتعد الى أعماق الدكان ، عاد بصندوق فتنحنح ووضعه عل العارضة ، شرع السيد يتفحص الفراشات الدقيقة الملونة الأجسام ، أشار بيلغرام بطرف غليونه الى صف منها، وف الوقت نفسا نطق السيد باسمها "بولاريس " فاضحا بذلك نفسا، أحضر بيلغرام صندوقا آخر، ثم ثالثا فرابعا واتضح شيئا فشيئا أن السيد كان على معرفة ممتازة بوجود هذه المجموعة ، وقد جاء من أجلها خصيما، وأخيرا حين نطق بسؤال عرفي "كم سر هذا كله لعله ليس غاليا؟"، هز بيلغرام كتفيه وابتسم ساخرا، وف اليوم التالي حضر السيد ثانية ، وتبين أن بيلغرام كاتبه وأن لقبه زومر، نعم _نعم زومر الشهير … وعندئذ أدرك أن الصفقة ستتم .
آخر مرة ربح فيها مبلغا ضخما بضربة واحدة كانت عشية التضخم حينما تمكن أيضا من بيع خزانة فيها نوع معين من الفراشات التي تطلق على أصنافها الوبرية ذات الأجنحة الخلفية الساطعة اسماء لها صلة بالحب مثل : المحظية والمخطوبة والعقيلة والزانية .. والآن ، وهو يساوم زومر ببراعة ، أحس بالاضطراب ، وبثقل في صدغيه ،ومضت تسبح أمام عينيه بقع سوداء _ إذ كان إحساسه منذ اللحظة بدنو السعادة ، وبانو السفر أمرا يكاد يفوق طاقته ، كان يعرف حق المرنة أن هذا جنون وانه يخلف زوجته المسكينة وديونه ودكانه التي لا يجوز حتى بيعها، وان ألفين أو ثلاثة آلاف من الماركات التي سيحصل عليها ثمنا للمجموعة مبلغ يسمح له بالترحال مدة عام لا أكثر، ومع ذلك كان ماضيا الى غايته شأن إنسان يشعر أن الشيخوخة غدا، وأن السعادة التي أرسلت في طلبا لن تكرر دعوتها له بعد الآن أبدا.
وأخيرا ، عندما قال زومر إنه سيعطي جوابه النهائي بعد ثلاثة أيام ، قرر بيلغرام أن تحقق حلما قاب قوسين أو أدنو. راح يطيل تفحص الخريطة المعلقة على جدار دكانه ويختار خط السفر، ويخمن في أي شهر يتكاثر هذا النوع من الفراشات أو ذاك ، والى أين سيسافر في الربيع والى أين سيسافر في الصيف _وفجأة رأى شيئا أخضر، باهرا فانهد بثقله على الكرسي . حل اليوم الثالث ، وكان على زومر أن يأتي في الحادية عشرة تماما ، ولكن عبثا ظل بيلغرام ينتظره حتى وقت متأخر من المساء- وبعدئذ راح يجر قدميه ، قانية، أعوج الفم ، فدلف الى حجرة نومه واستلقى فصر السرير تحته ، لقد رفض العشاء، وأطال مناكدة زوجته وهو مغمض العينين ، ظنا منه أنها تقف قرب السرير، ولكنه حين أنصت سمع بكاءها الخفيض في المطبخ ، فساورته فكرة بأنه يحسن صنعا لو أخذ فأسا وهوى بها على يافوخها، لم يستيقظ في الصباح فنابت إليانورا عنه في الدكان وباعت علبة ألوان مائية وزوجا من الفراشات الرخيصة ، وبعد مني يوم آخر، حين أصبحت ذكرى ذلك الزبون هلامية تماما، شأن شي ء وقه منذ رهن بعيد، أو لم يحدث أبدا وانما حل ضيفا على الدماغ عرضا _ وإذا بزومر يدخل الدكان في الصباح الباكر، قائلا : " طيب ، لك الله ، ناولني المجموعة حالا.." . ولما أخرج الظرف وخشخشت الاوراق المالية الأليفة تدفق الدم قويا من أنف بيلغرام .
بيلغرام
ترجمة:ن.ن