ان نقول ان الانجازات الابداعية المتعاقبة بتعاقب الزمن ليست الا خطابا على خطاب وما يمتاز منها ليس إلا ذاك الخط الذي يتأتى له وميض اسلوبي يجعله نوعيا في تراكم الخطاب الكمي والنوعي، لا يعني ذلك الانحصار بمقولة الاكاديمية الصارمة للتناص لأن المسألة ليست اشتغال نص على نصوص سابقة ، انما وحدة الوجود ووحدة الطبيعة البشرية تفرضان وحدة جوهر القضايا التي يشتغل عليها المبدع كل وفق الصور الزمنية الخاصة بطبيعة المرحلة . ووفق المعطيات الابداعية للكاتب وبالتالي تكاد ان تكون مادة الابداع واحدة انما كل زمن ينجز ابداعه بجدة الصورة والرؤية الجديدة لعادتها، فالتجدد الابداعي في الادب في جانب كبير منه ينحصر في مظهرين: الاول الصورة الحياتية الجديدة للقضية التي تجسد خصوصية زمنها الممايز للزمن السابق . والثاني ابداع شكل خطابي جديد نوعيا، اننا بلا تردد نقول بوحدة مادتي الخطابين التاليين دون أن يعني ذلك تعالتا ترائيا للأول بالثاني، او تناما، فالأول هو الشاعر الجاهلي الصعلوك الشنفرى حيث يقول في لاميته الشهيرة
(أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فاني الى قوم سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر
وشدت لطياتي مطايا وأرحل
لعمرك ما بالارض ضيق على امرئ
سرى راغبا او راهبا وهو يعقل
ولي دونكم أهلون سيد عملس
وارقط زهلول وعرفاء جيال
وان مدت الايدي الى الزاد لم أكن
بأعجلهم اذ أشجع القوم اعجل
… …….
وأطوي على الخمص الحواية كما انطوت خيوطة ماري
تغار وتفتل )
أما الثاني فهو ابن القرن العشرين الشاعر محمد الماغوط:
(يا أهلي… يا شعبي
يا من اطلقتموني كالرصاصة خارج العالم
الجوع ينبض في احشائي كالجنين
انني اقرض خدودي من الداخل
… …………..
اريد أن أهز جسدي كالسلك
في أحدى المقابر النائية
أن أسقط في بئر عميق
من الوحوش والأمهات والاساور
لقد نسيت شكل الملعقة وطعم الملح
ان احشائي مليئة بالقهوة الباردة )
ان تبدو الصورة الابداعية لكلا النصين على فراق ظاهري الا ان الاشتراك بين عناصر المادتين يتعدى التقاطع الجزئي الى التشابه المقارن في بنية الوحدات ولا يستطيع تمايز الخطاب الا وان يكون شفافا يمرئي الجوهر.. ويمكن في هذا السياق فهم التزيد في فضاء المادة في جانب والانكفاء في آخر استيعابا وتمثلا لروح العصر ومعطياته وبالتالي يمكننا تأسيس الخاص في العام ، أي قراءة ظاهرة الصعلكة التي تبدت في الجاهلية والاموية في الشعر المعاصر ولدى رمز مهم من رموزها الخارجين على قانون الشعر التقليدي محمد الماغوط الذي ترسبت كتابته في الاجيال اللاحقة بشكل مثير.
ثمة خلافية مشكلة في صور واداء الظاهرة ، خاصة وان هناك انقطاعا بين الرؤية للقيمة الاخلاقية والاجتماعية في جوانب متعددة بين الحالتين ، كما ان الانقطاع أبين شعرية الماغوط وقصيدة الصعلكة التاريخية . اذ تتكشف الصعلكة لدى الماغوط كصفة حضيضية يعيشها الكائن المعاصر، تتلاقح تاريخيا مع النعت التاريخي الذي ولدته المرحلة الجاهلية في سيرورتها الاجتماعية أي ما عرفناه بالصعاليك ، تلك الفئة التي صودر منها انتماؤها لمجتمعها واخرجت من دائرته لتعيش تسلكات حياتية عصامية انقلابية مناهضة للمعايير الأخلاقية والاجتماعية ، اذ هي تعيش حياة ظليلة ، حالة صراع ضار من اجل البقاء متسلكة سمتا لا يخلو من الوعي الانساني العميق هيأ لها اعادة اكتشاف صفاء الوجود المغيب في الواقع المظلم ، وذلك عن طريق انتزاع ضروريات الحياة بحد السيف لترسيخ سيرورة متفردة ومغتربة عن السائد، بهذا المستوى الذي يمكن لنا ان نعيد ترتيب مصطلحاته وفق معايير عصرنا حيث الواقع السياسي المنظم هو السلطة المجيرة كل شيء لخانتها التي سجرت الانسان في زر يبتها المموهة بالشعارات مما ولد قهرا مضاعفا للانسان ، هذا القهر يتحسسه الماغوط بعمق فريد نتيجة انسكا نه في خلايا روح ومسام ذاكر ته لذلك راح الماغوط يفنيه دون حرج من دونيته وحضيضيته .. يقول في . قصيدة النحاس:
(الاسم: حشرة
اللون أصفر من الرعب
الجبين في الوحل
مكان الاقامة: المقبرة او سجلات الاحصاء
المهنة: نحاس
البضاعة: رمال ذهبية وسماء زرقاء
………
وعندي.. شعوب
شعوب هادئة وساكنة كالأدغال
يمكن استخدامها
في المقاهي والحروب وأزمات السير)
ترقب هذه المقتطعات معالم صورة الصعلكة الفاقعة التي ينضحها كائن قصيدة الماغوط وهو يعيش انفساخا وجوديا وتجوفا كونيا بفعل الواقع الذي يدفعه الى حياة دونية مجردة من مسوغات كينو نتها، انه كائن راضخ باستلاب كلي لصعلكة على شتى مستويات وجوده حتى يطال قبة الحلم فهي بيت صعلكة وانتهاك واستباحة
(كفاك تحديقا في راحتي
بحثا عن خطوط العمر والخط والمستقبل
لقد أممت كلها من حمل الحقائب
وشد القلوع في الاحلام
وعبثا تتقصين أسرار حزني
من اضبارتي المدرسية
او رفاقي في المقهى
فحزني لا حسب ولا نسب
كالأرصفة كجنين ولد في منفى)
وتتمادى هذه الصورة في كلاحتها ووحشتها ممعنة بألوانها الظلامية التي تولد حالات انسانية مقعرة ومجوفة تنفر بها بعيدا عن معنى الحياة ، فتتحول الى جيفة مجهضة من أي نبض تتملكها حالة محل وتمحل لهذا العمل تمارس انحطاطها الى ذروة دونيته الى حد الشعور بلذتها نكاية في الواقع ومجابهة عبر الانغماس في صوره المضغوطة بكاريكاتورية سياسية تتقدس ضلالاتها وغيبوبة الانسانية:
(احسد المسمار
لان هناك خشبا يضمه ويحميه
اغبط حتى الجثث الممزقة في الصحراء
لأن هناك غربانا ترفرف حولها
وتنعق لاجلها
آه يا جدي
لقد اشتقت للظلم للارهاب
للتعلق بالاغصان بالشاحنات
للتمسك بأي شيء
ولو بقضبان السجون )
ينساق الما غوط لتعميق نص كائنه الفجائعي ولا يبقي على مسافة أمان عن انسحا قاته بل ينزاح به الى أقصى حالات البوهيمية التراجيدية انه يخلق فنتازية الصعلكة ينميها، يصعدها، يغنيها بانجراح وتلذذ، فتتمرأى هذه الحالات بشكل صور كاريكاتورية يجسدها الكائن الفاقد لمعناه الانساني والمر تكس الى حالات أشبه بالحيوانية كأنما هناك احساس عميق بجدوى سادية انتقامية فيخترق تسلك الصعلكة الى حيوية صعناها الحضيضي فتتجلى فنتازيتها في القصيدة بطولة لاذعة تهكمية هزلية:
(ولدت عاريا وشببت عاريا
كالرمح
كالانسان البدائي
سأنزع جلود الآخرين وارتديها
سأنزع جلود السحب والازهار والعصافير
وأرتديها
محتميا بالضباب والانين
بالاعلام الممزقة والاثداء الملفوفة بالجوارب
اذا كان لا يريد ان يرأف بي
أن يشبعني التبغ والنساء
وجلد الخيول في المنحدرات
كل امرأة في الطريق هي لي
كل نهد وكل سرير
هو لي.. لعائلتي لرفاقي الجائعين
طالما لنا شفاه واصابع كالآخرين
يجب أن نأكل ونحب ونهجر
ونقذف فضلات الاثداء خلف ظهورنا)
ان الشاعر يتوصل بنزقه وتهكمه الى انمساخ وتصدير، هذا الانمساخ الذي يكرس تقزمه وتضاؤله الى دمية تتلعبها شهوة الحضيض الفائرة في روح القصيدة التي تلطم قفا حروفها بأصابع استهلاكية الانسان وضلالاته المشتبه بفابيتها ببدائيتها بغفلة ومغافلة ليتحمس المسخ ويقدمه بفنتازية عارمة:
(أتمنى ان امسك هذه الارض من جلدها
وأقذفها كالهرة من النافذة
ولكنني وانا احتضر
وأنا أسبح في قبري كالمحراث
سأموت وانا اتثاءب
وأنا أشتم وأنا أهرج وأنا أبكي
…
انزعوا الأرصفة
لم تعد لي غاية أسعي اليها
كل شوارع أوروبا
تسكعتها في فراشي
أجمل نساء التاريخ
ضاجعتهن وانا ساهم في زوايا المقهى).
ان ماهية الصعلكة في قصيدة الماغوط تجل لحساسية الشاعر المفرطة بالانصداع من هزلية الواقع ووجود الانسان والامعان الفائر بتهزيل هذه الهزلية الى أعلى حالات الفنتازية، انها وصف التسلك الحضيضي لانفعال مجابه . ولم تكن وقفتنا عند مساحة هذه الصورة وقفة استقراء موضوعي بقدر ما هي قراءة اختيارية لا تحكمها معايير بحثية محددة لانها مقدمة تأسيسية لدراسة هذه الظاهرة ودون أن يعني ذلك تهويش الكلام السابق .
خالد زغريت (شاعر من سوريا)