لم يكن هذا هو أول ولا آخر حديث معه، وان كان هو الوحيد الذي خطر لي أن أسجله على الورق. كنت أحس دائما منذ أن استمعت الى محاضراته في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات – أن هناك شيئا حميما يقربني منه، وربما يميز صلتي به عن غيري من زملائي الكرام. ذلك هو الوصف الذي أطلق على أبي حيان التوحيدي وعليه (وتعطف البعض، كرما منهم أو إشفاقا، فأطلقوه علي!) واختزل في هذه العبارة المخلة التي تعجز عن الدلالة على عذاب الصراع المحتدم في كيان من قدر عليه أن يحاول التأليف بين الضدين والسير على الحبلين الخطرين ويجرب الحياة – كما تقول عبارة هيدجر – على قمة جبلين متجاورين ومنفصلين في وقت واحد: أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء.. ولعل الأستاذ قد شعر منذ أن بدأ الفتى يقدم اليه، بعض قصصه الرديئة وأشعاره الساذجة أن مزاجه وتكوينه أقرب الى الفلاسفة الشعراء والشعراء الفلاسفة منه الى المناطقة والوضعيين الذين كان يحاول ما وسعه الجهد والحماس والاخلاص أن يقنع بهم طلابه (إن أنس لا أنسى كيف كنت أقف أمام باب القاعة الصغيرة التي تعود أن يلقى فيها دروسه، وكيف كان يوقف عقارب الساعة التي لم تختل طوال ستين عاما من حياته وعمله المنظم لكي يناقش ويشجع الشاب – المتعثر في خجله الريفي وروما نسيته الخائبة – في الأوراق التي اهتم غاية الاهتمام بقراءتها له..)
ومرت الأيام والأعوام وأصبح الفتى أستاذا في نفس المكان الذي شهد كفاحهما العلمي وأحزانهما الشخصية (طعنني زملاء توهمت يوما أنهم ذخر البقية الباقية من العمر، وعضني تلاميذ وأبناء أعطيتهم تعب العمر) في هذه الفترة من منتصف الثمانينات كان من الطبيعي أن يسعى الفتى – الكهل الى أستاذه الشيخ كما سعى الحواريون والمريدون الى حكماء الشرق القديم أو الى أئمة العلم والفضل من أسلافنا وليتبادل معه الحوار عن أزمة تعليمنا ومحنة وجودنا. وكان ما كان فاستجبت لدعوة كريمة من جامعة الكويت، وكان أول ما فكرنا فيه – مع زميلي العزيزين عزمي إسلام رحمه الله وأرضاه، وعبدالله العمر مد الله في عمره، وبرعاية كريمة من فؤاد زكريا -أن نحرر كتابا نكرم به – مع اخواننا وأبنائنا – أستاذنا المشترك وقدرتنا العالية، بحيث يكون – كما قلت في الكلمة التي صدرت بها الكتاب نيابة عن لجنة إعداده – زهرة حب وعرفان ووفاء من غرس يديه، نقدمها اليه في زمن عز فيه الوفاء والاحترام أو العرفان وظهر الكتاب بفضل جريدة "الوطن" تحت عنوان "زكي نجيب محمود فيلسوفا وأديبا ومعلما" وعندما سلمه اليه المرحوم عزمي إسلام – قبل أيام قليلة من وفاته المفاجئة في خريف عام 1987- قال له المعلم مبتسما: "جاءت من الكويت ولم تجيء من مصر".. لكن الكتاب نفسه ينطق بأفصح لسان: لقد جاءت من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه العرب الى "حكيم العرب"..
توخيت في هذا الحديث أن يبتعد بقدر الامكان عن التخصص الحرفي ومصطلحاته الفنية ومشكلاته العسيرة، وأن يتناول قضايا عامة تهم الرجل العادي الذي يعلم الجميع أنه يدين لزكي نجيب محمود – وبخاصة في مقالاته المتأخرة التي نشرها على مدى سنوات بـ"الأهرام" – بفضل تبسيط الفلسفة وتقريبها منه، واشاعة الوعي بإشكالاتها التي هي في النهاية اشكالات حياته العقلية وحياة مجتمعه وثقافته ومستقبله – وذلك بأسلوبه البليغ العذب الذي ينبض بالعاطفة الصادقة والوضوح الناصع والصور الفنية الحية، كما يشهد على تمكنه من تاريخ الفكر الفلسفي وأدواته المعرفية الدقيقة، وحرصه الدائم على إشراك قرائه في التفكير معه في أصعب قضايا فلسفة العلم ومذاهب المعاصرين ومقومات العصر الذي نعيشه، لعل ذلك يتمخض في النهاية عن "مشاركته" فيه بالوعي والنقد والابداع، لا بالوقوف موقف المتفرج والمستهلك والمتباهي بأزياء يستعرضها دون أن ينسج منها خيطا واحدا! وقد اهتم الحديث بنقاط قليلة أستأذن القاريء في إلقاء شيء من الضوء عليها:
– فهو يبدأ بالسؤال عن "المقال الفني" الذي ارتبط باسمه وتفرد به واتخذ على يديه شكلا يذكرنا من ناحية بنماذجه المكتملة منذ "مومنتنى" و"بيكون" وكتاب المقال الانجليز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما يدلنا من ناحية أخرى على مدى تطوره في أدبنا الحديث من نظرات المنفلوطي ومقالات الرافعي والزيات والعقاد وغيرهم حتى المازني بوجه خاص – والجدير هنا بالتأمل أن المقال الفني الذي امتعنا به منذ أن بدأ في نشره في منتصف الثلاثينات في مجلة "الثقافة" واعترف بأنه يمثل "العصب" الحقيقي لفكره وأدبه – قد كاد ينقرض من حياتنا لقد اغتصب مكانه المقال – البحث، والمقال – المعلومة، والمقال – الثرثرة.. وأحسب أن هذا القالب الفريد هو أفقر القوالب والأشكال الفنية حظا من اهتمام النقد الأدبي وأولاها بالبعث والاحياء…
– ويتطرق الحديث لصيغة "الاصالة والمعاصرة" التي طالما اتهمت بالتوفيق أو التلفيق، وتعرضت لانتقادات عدد كبير من مفكرينا الذين نعتز بهم (مثل فؤاد زكريا وعابد الجابري ومحمود العالم وأحمد صبحي) وتحولت في صورتها التعميمية المختزلة الى أحد الكليشهات المملة التي لا نسأم ترديدها وكأنها الخرزة السحرية التي ستجيب على كل الأسئلة وتفتح مغاليق الأسرار الغامضة بمجرد أن تلوكها الأفواه.. وفي ظني أن الإشكال الذي تتضمنه، والذي لم يتوان المعلم الكبير عن الخوض في تنويعاته التي لا حصر لها، ما فتي، قائما منذ عصر التدوين والترجمة الى بدايات نهضتنا الحديثة وحتى اللحظة الحاضرة، لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه علينا هو هل نحقق مضمونها أو مشروعها أو طموحها عن طريق التنظير والثرثرة والقواعد الهابطة "من فوق" على رؤوسنا، أم عن طريق الفعل والتجربة المباشرة والابداع (الذي لا نكف عن الكلام عنهما) وهل استطعنا حقا – أو بدأنا حقا – في معرفة تراثنا وفهمه ودراسته ونقده لكي يتسنى لنا "تضفيره" في تراث العالم المعاصر الذي عجزنا كذلك عن استيعابه وقراءته قراءة صحيحة بدلا من الاستعراض والادعاء والانبهار به، أو نقله نقلا أعمى بغير نقد ولا تمحيص ؟ إن المتفلسف العربي يمكنه أن يتعلم الكثير من زميله الفنان التشكيلي، ومن القاص والكاتب المسرحي (ومن عديد من "الأصلاء" في ميادين العلوم الانسانية والطبيعية والرياضية وفي العمارة – مثل حسن فتحي -والموسيقى وغيرها) في تجاربهم المستمرة – وربما العفوية – في انتاج علم وابداع فن "يعصر" الأصيل و"يؤصل" المعاصر في عقولنا ووجداننا وتجربة حياتنا الواقعية واليومية – ويسري هنا ما يسري على شعار وجود فلسفة عربية أو عدم وجودها، فالأمر هنا وهناك رهن بالتجربة المباشرة والفرص في فعل الابداع لا التسكع على شواطيء الثرثرة وفوق رمال التنظير الأجوف. وعندما نبدأ في معرفة تراثنا وتراث الانسانية معرفة علمية ونقدية دقيقة – هي السبيل الوحيد لانقاذنا مما نحن فيه – (فتكون لدينا طبعات نصوص محققة لتراثنا وتراث غيرنا نتعلم منها كيف نقرأ ونحلل وننقد، مثل سلاسل النصوص الكلاسيكية والحديثة عند الغربيين – لريب – وبيل ليتر وتوسكولوم وريكلام وايفري مان وغيرهم) وعندما نسترد الثقة بأنفسنا وننتقل من مرحلة رد الفعل الى الفعل، ونضيق فجوة الفصام "العربي" بين السلوك والمعرفة ونتخلص من آفة النقل والتكرار ونغامر بالتفكير النقدي المستقل المتزن، وعندما تتم المراجعة الجذرية للتعليم الفلسفي وغير الفلسفي الذي أصابه التدهور والانهيار، وخرج جيوشا من الدكاترة الذين لا نفع فيهم ولاحظ لهم من أدوات المعرفة أو التفكير أو التعليم (وصدقت كلمة ماركس الشهيرة: المعلمون يحتاجون للتعليم، والمربون يحتاجون للتربية) عندها يمكن أن نقول إننا بدأنا بالفعل لا بالقول الطريق الصحيح نحو تحقيق الهوية والخصوصية أو نحو تعصير الأصيل وتأصيل المعاصر حتى في أصغر البحوث الجزئية وليس بالضرورة في أنساق أو "مشروعات" يعلم أصحابها قبل غيرهم أنها قصور وهمية معلقة في السحب والضباب..
– لم يتسع المقام في هذا الحديث للتعرض للوضعية المنطقية التي تبناها المعلم الكبير وتحمس للدفاع عنها في المرحلة الوسطى من تطوره الفكري – ربما الى حد التزمت والتشدد الذي اتسمت به عند روادها الأوائل – دون أي محاولة جدية لنقدها من الداخل أو من الخارج – ويستطيع القاريء أن يتعرف على هذه المدرسة من الكتاب التذكاري السابق الذكر أو من أي كتاب عن الفلسفة المعاصرة أو فلسفة العلم – ويهمني هنا أن أقدم الملاحظات المختصرة التالية عن هذا الموضوع:
أول هذه الملاحظات أن صاحب الذكرى العطرة الطيبة لم يقدم إلا الجيل الأول لهذه المدرسة (التي انطلق أعضاؤها مما يعرف بحلقة فيينا ومن فلسفة فتجنشتين الأول في رسالته المنطقية الفلسفية الشهيرة ومن فلسفة رسل ومور التحليلية، كما اعتمد في البداية على كتاب "آير" المعروف "اللغة والصدق والمنطق" الذي تعرف عليه وعلى صاحبه – كما يقول في "قصة عقل" أثناء عمله في رسالته للدكتوراة عن الجبر الذاتي (التي تفضل بترجمتها للعربية الزميل الدكتور إمام عبدالفتاح إمام.) ومعلوم أن الوضعية أو التجريبية المنطقية تطورت بعد ذلك تطورا كبيرا عند أصحابها أنفسهم – لاسيما كار ناب في فلسفته اللغوية والمنطقية المتأخرة – كما تخل عنها بعض أنصارها القداس من خلال مناقشتهم لمبدأ التحقق – مثل رايشنباخ وكارل بوبر – وغني عن الذكر أن المعرفة الدقيقة بهذه المدرسة أو غيرها مطلب علمي ضروري مهما رفضنا الأسس التي تقوم عليها أو اتجه بنا الطبع أو الاقتناع وجهة أخرى لذلك فإن من واجب الوفاء أن يواصل الأبناء دراستها في أدق تفاصيلها، ومن حقهم المشروع أيضا أن ينقدوها ويتجاوزوها. ولن يسعد المعلم الحقيقي شيء قدر سعادته باختلاف تلاميذه عنه، بل ونقدهم وتجاوزهم له سر على أن يلتزم النقد بالشروط الموضوعية وبأخلاقيات العلم وآداب الحوار، وهو أمر شديد الندرة في حياتنا النظرية والعملية.
وثاني هذه الملاحظات أن هدف الراحل الكريم من الدعوة لمقولات هذه المدرسة كان في المقام الأول هدفا تنويريا واصلاحيا – تنوير "العقل العربي" لكي يميز عبارات تستخدم في مجال العلم أو المعرفة الضرورية العامة الصدق. سواء أعانت طبيعية وتركيبية تقوم أو يمكن أن تقوم على التحقق من صدقها بالتجربة، أو رياضية ومنطقية تحليلية تعتمد على صحة الاستنباط من المقدمات وفق قواعد محكمة ومتفق عليها – وعبارات أخرى تتعلق بالوجدان أو العاطفة ولكنها في رأيهم فارغة من الاشارة الى مدلول حسي ومن ثم فليست صادقة ولا كاذبة – كالعبارات المستخدمة في مجال الأخلاق والدين والميتافيزيقا والأدب.. والخلاصة أن الهدف من هذا التشدد الوضعي المبسط – الذي طالما تعرض للنقد وثبت بعد ذلك خطؤه من وجوه لغوية ومنهجية وعلمية عديدة. لم ينفصل في النهاية عن هدف حياته ورسا لتها الكبرى التي تمثلت منذ البداية في مقالاته الثورية المبكرة، ولم تخمد جمرات غضبها الكظيم في مقالاته وكتبه المتأخرة بعد تراجع الحماس المبكر للوضعية المنطقية الى الدعوة للتفكير العلمي وحضارة العلم ومنطقا وعقلانيته مع التوسع في استخدام منهج التحليل اللغوي – المنطقي لتوضيح الكثير الكثير من مفاهيمنا وألفاظنا الغامضة المضطرمة..
وثالث هذه الملاحظات أنه يحمد للمعلم الكبير – برغم ثقافته الموسوعية التي تأثر فيها بجيل الرواد وبخاصة العقاد، وبرغم اهتماماته المتنوعة بالفن والشعر والنقد والتاريخ والحضارة – يحمد له التركيز على مدرسة واحدة والاخلاص العميق لدعوتها – وقد كان المأمول أن تتكون من ذلك مدرسة علمية تواصل جهود الرائد، لكن الرجل كان أكبر من أن يفرض معتقده الفلسفي على أحد من تلاميذه، كما يبدو أن حياتنا العلمية (مع استثناءات معدودة على أصابع اليد الواحدة في بعض العلوم الانسانية والطبيعية) قد فشلت فشلا ذريعا في تأسيس مدارس واتجاهات محددة مستمرة، وانقطع الموجود منها أو انفرط عقده وهو لم يكد يتخطى مرحلة التأسيس. أقول هذا بعد أن رحل عن دنيانا أقرب وأخلص تلميذين لزكي نجيب محمود، وهما المرحومان عزمي إسلام ومحمود فهمي زيدان – كلاهما تعب في صمت وذهب، وكلاهما عاش متعففا عن إثارة الغبار والضجيج، مترفعا عن قرع الطبول والنفخ في الأبواق.. وليتنا نتوقف هنا قليلا لنتساءل: أهي لعنة خرافية تحكم علينا بالا نواصل بناء أو نتضافر لانجاز عمل مشترك ؟ أم هو مرض قديم، تحمله موروثات خفية وخبيثة ربما منذ حرب البسوس، وتجعلنا نسي ء لكل الأفكار العظيمة بمجرد أن تهبط على أرضنا وتحاول أن تجد لها مكانا فوقها؟ (الاشتراكية حولناها الى استبداد وتعذيب ونفخ وسجون ومعتقلات وطوابير محرومين مقهورين، والديمقراطية صارت لصوصية وسمسرة وشطارة وثرثرة إعلامية وفساد وانتهازية على كل الأصعدة حتى ما كان يعد حتى وقت قريب مقدسا لا يمكن أن تلوثا أو تمس طهارته تلك السموم والظلمات، والفلسفة استحالت لدى البعض سفسطة كاذبة وتجارة رخيصة وزعامة جوفاه وترديدا وتكرارا أعمى أو تخبطا عشوائيا وصياحا غوغائيا بكلمات وشعارات متضخمة تنتمي لأزمنة و "أيديولوجيات" وأفكار تخضع اليوم في العالم كله للمراجعة الشاملة ويتم تجاوزها بمنهجيات وتقنيات ومقاربات علمية جديدة لم نكد نعرف حتى ألف بائها..، حتى التدين السمح العميق الجذور لم يتورع ضعاف النفوس وطلاب الشهرة والسلطة إما عن استغلاله في نفاق النظم وتبرير وتثبيت الأوضاع الفاسدة واما عن تشويهه بالتعصب والتطرف والتخبط في ظلمات الجريمة والاندفاع المجنون الى هاوية الكوارث الجماعية، حتى "الحداثة" في السنوات القليلة الماضية، وباستثناء قلة محدودة لا تزال لديها بقية من الضمير العلمي والتمكن المعرفي صارت استعراضا مربكا للاتجاهات والأسماء والمصطلحات دون تأسيس فلسفي أو علم بالجذور والأصول أو محاولة حقيقية للنقد والتأصيل.)
إن ما جرى للوضعية المنطقية – التي انقصف عودها قبل أن تنضج وتثمر قد ألم باتجاهات ومدارس وتيارات أخرى كانت حرية أن تنمو وتتطور وينشأ بينها حوار يندي "أرضنا الخراب" وينعش جونا الخانق المختنق بالسأم والركود والجمود (ولننظر ماذا آل اليه مصه البدايات المخلصة للظاهراتية والوجودية والشخصانية والحدسية أو الجوانية والماركسية والعقلانية النقدية والأرسطية والرشدية والمثالية المعتدلة".. ألم تصبح اليوم كتبا تطل علينا من فوق الرفوف كبقاينا أطلال أو جذوع أشجار مقطوعة ومتناثرة في وحشة الخلاء والخواء؟!..)
والملاحظة الرابعة والأخيرة هي أن الوضعية بأشكالها التقليدية أو الحديثة قد ساءت سمعتها وقلت قيمتها في ساحة الفلسفة المعا هوة (وبخاصة في الظاهريات والفلسفات التي خرجت من معطفها..) ولكن هل يعني هذا أنها فقدت الحق في دراستها أو أنها اختفت من الوجود؟..لا شيء يختفي في الفلسفة – كما علمنا هيجل – بل كل شيء يتحول الى مستوى آخر أكثر غنى ونضجا -والدارس الجاد يحتاج لمعرفة الوضعية حاجته لمعرفة غيرها من المذاهب والمدارس والاتجاهات. والمهم أن يعمل في صبر ودأب على تربية حسه النقدي الذي لا تستقيم بغيره فلسفة ولا علم ولا حياة واعية ويبقى النقد بمعناه الشامل هو روح الفلسفة، إذا خلت منه أصبحت جثة هامدة بلا روح، وتلقينا ركاما من المعلومات التاريخية والحقائق المذهبية ترددها الببغاوات الكبيرة والصغيرة، ويرزح فوق صدور الجميع فيحبس عنهم أنفاس الحياة والتجربة العقلية الحية، ويزيد اغترابهم عن واقعهم واغتراب واقعهم عنهم ويمكن للوضعية بأشكالها المختلفة أن تكون إحدى المدارس التي نتعلم منها النقد – أي التفلسف الحر – بممارسة التحليل المنطقي للقضايا والمفاهيم والقيم والأوضاع السائدة بغية توضيحها ومن ثم تغييرها عن وعي (كما فعل الراحل العظيم مع كثير جدا من المفاهيم الشائعة في حياتنا) كما يمكن أن تكون قيدا ولجاما ونيرايشل حريتنا ووعينا وتقدمنا – فالأمر يتوقف في النهاية علينا نحن – والمهم في هذا كله أن زكي نجيب محمود قد حقق بفلسفته العلمية والتحليلية قدرا لا يستهان به من المهمة التي ننتظرها وينتظرها كل حريص على حاضرنا ومستقبلنا – من "توظيف" الفلسفة في نقد واقعنا وتنبيه وعينا وتوطين العقل في حياتنا، بجانب متابعتها لتخصصاتها الدقيقة وتطوير البحث في نظمها المعرفية المتنوعة، وبهذا تكون قد أدت دورها الاجتماعي على يديه "هنا" في مكاننا و "الآن" في لحظتنا التاريخية، وواجهت – بغير ترد في الاعلامية الفجة أو الغوغائية المرتفعة الصوت ويغير أن نتنكر لحظة واحدة لعلمية الفلسفة ومنهجيتها الصارمة أشكال "اللاعقل" و "اللامعقول" التي أدت في الماضي وتؤدي في الحاضر الى تزييف العقل والمعقول، واهداره وتغييبه أو سحقه وطمسه في بعض الأحيان ولست أقصد بهذا ما جرى في تاريخنا القريب، في ظل نظم النقهر والطغيان، للعقل والحرية والانسان بوجه عام، بل أعني كذلك ما جرى للفلسفة نفسها على يد نفر تسللوا الى حرم معبدها العريق بعقليات اللصوص والسماسرة والمسفسطين الجوف أفرزهم زمن العسكر الأغبر ثم عصر الانفتاح الفاسد واقتصاديات السوق المسعورة التي تكتسح اليوم كل القيم التي تربت عليها وتشربتها أجيال يهال عليها التراب اليوم وترجم بكل الأحجار.. ولكن يقيني الذي لا يهتز في أقسى ساعات الشك واليأس يؤكد لي أن آلاف المخلصين العاملين في صمت في كل أركان عالمنا العربي سيعيدون الزمن المعوج الى محوره، ويساعدون في صبر وصدق على تكوين الضمير الثقافي في العام الذي يضع "العلمية" الدقيقة، والأمانة والجدية الصامتة كما وضعت دامعات << ريشتها في كفة الميزان فخسفت جبال الكذب والاثم والضحالة والغثاثة في الكفة الأخرى.. ولا ننسى أبدا ما أكده افلاطون في "الجمهورية" وفي غيرها من المحاورات الافلاطونية من أن عدم وجود فلسفة على الاطلاق أفضل بكثير وأكرم من وجود فلسفات أو بالأحرى سفسطات كاذبة…
ومع انني لا أومن بأن الأخلاق وحدها تكفي لتفسير التاريخ، فإن الجميع يتألمون اليوم لغياب "القدوة" على كل المستويات، ومعلمنا الكبير رحمه الله قد كان – ولا يزال بعلمه وسيرته وتأثيره -هو "الضمير المجسد" لكل حريص على أن تكون لنا ثقافة تستحق الاحترام، وكلما ذكرت الضمير تذكرت حسرتي الدائمة على عجز جراحينا الممتازين عن إجراء عمليات زرع للضمير الغائب بمثل ما مكنتهم براعتهم الفائقة من نقل القلب والكبد والكل وبعض الأعضاء…، إن عصور الانبعاث والتغيير الحقيقي قد حمل تبعاتها الجسام وجسدها رجال عظام -حدث هذا في فجر الاسلام وعصر الفتوح كما حدث في بدايات المسيحية وغيرها من الديانات الشرقية القديمة وفي بواكير عصر النهضة الاوروبية ومطالع نهضتنا الحديثة، وزكي نجيب محمود – في تقديري المتواضع – يستمد قيمته الباقية واشعاعه الحقيقي من تجسيده للضمير العلمي والانسان الحي الأمين – أقول هذا وأعتقد أنه لابد أن يقوله كل من أسعده الحظ بالتتلمذ على يديه والاتصال به عن قرب (مهما يكن من الاختلاف بينهم وبينا في وجهات النظر الفلسفية والأمزجة الفنية والأدبية كما سبق القول.).
وفي الختام يخيل الي أن شخصية المفكر والأديب "المنقذ" أي شخصية المعلم والمفكر والكاتب المنذر والمحذر والموقظ والمتنبيء والمنبه – تتمثل فيه ولا تقل أهمية عن شخصية الأديب البليغ والمعلم الفذ والعالم المتمكن والمترجم الرائع والداعية – في إطار الثنائية العلمية والتنويرية التي تسود كل جهوده وتتفلفل في كل كتاباته كما سبقت الاشارة -الى حركة أو مدرسة فلسفية بعينها. صحيح أن شخصية المفكر والأديب "المنفذ" التي اعتقد أنها تتمثل فيه صراحة أو ضمنا -لم تعبر عن نفسها في صورة شعرية (كما فعل على سبيل المثال لا الحصر شاعر مثل صلاح عبدالصبور على لسان النبي الذي يحمل قلما في مسرحيته ليل والمجنون، أو كما فعل شعراء آخرون مثل خليل حاوي والبياتي وأمل أنقل في بكائه بين يدي زرقاء اليمامة لم ولا في صورة قصصية وروائية (كما نجد لدى نجيب محفوظ في تحت المظلة والشحات والثرثرة وغيرها من روائعه) أو أشكال مسرحية (مثل سعدالله ونوس في رأس المملوك جابر والمنمنمات التاريخية، ومثل كاتب هذه السطور في بعض قصصا ومسرحياته التي اكتشف في كهولته أن أحدا لم يكلف نفسه بقراءتها ولا نقدها فحق عليه الا يكلف نفسا بذكرها..) – والرأي عندي أنها عبرت عن نفسها في العديد من مقالاته المبكرة والمتأخرة التي سيرد ذكرها في تضاعيف الحديث كما أنها مبثوثة في ثنايا أعماله العلمية ودعوته التنويرية والاصلاحية من خلال المدرسة والمنهج التحليلي اللذين تبناهما وطبقهما بصورة شاملة متسقة وشديدة الوضوح والقوة والصدق مع النفس.. إن مهمة "المنقذ" أي الكاتب والمفكر المحذر والمبشر أيضا بمستقبل لن يقوم بناؤه الا على عمودي العلم والعمل الصامت الجاد – تظل مهمة ملحة ومطلبا مستمرا لا مجرد أمل رومانسي أو يوطوبي حالم يحركا التمني أو الغفلة – وحسن النية – ولاشك عندي أن قراءة تراث زكي نجيب محمود العلمي والأدبي ومعاودة قراءته والتعلم منه، ونقده وتجاوز» أيضا مع كل الاحترام له والاعتراف بفضله – يمكن من هذا المنظور الذي حاولت تحديد معالمه وأبعاده أن يعيد الينا الثقة المنتقدة بالنفس – بلا غرور ولا تطاول على الآخرين – وأن يساعدنا على اكتشاف طريق الخلاص وتحقيقه بالفعل المبدع لا بالكلام والأصوات العالية – وخطوات هذا الطريق تتلخص باختصار في الرجوع الى رحاب العلمية الدقيقة والى حمى الضمير الصادق الأمين..
في الطريق شعرت بالخشوع والرهبة التي تكاد أن تشل قدمي العابد قبل دخول المحراب، كما شعرت في الوقت نفسه بجناحين ينبتان في كتفي ويطيران شوقا ولهفة اليه. ولم تكن هذه هي أول مرة أن وره فيها، فلقد طالما فتح لي أبواب بيته وعقله وقلبه، وأعطاني فأجزل في العطاء من نبع حكمته وفهمه وتعاطفه. لكن هذه المرة تختلف عن المرات الأخرى. فعلي اليوم أن أسأله وأدون إجاباته، وهو عمل لم أتعود عليه من قبل، ولعلي لن أحاوله أبدا من بعد..
قلت لنفسي: أيها العصفور التائه في سماء مصرية وعربية تلبدت بسحب المحنة، وحومت فيها غربان التمزق والضياع وتدمير الذات الى الحد الذي يذكرنا بالانقراض والانتحار الجماعي لبعض القبائل والجماعات القديمة أو لبعض فصائل الحيوان، وبالانتحار الحضاري لكثير من الشعوب والحضارات المنهارة – اذهب الى النسر الشامخ الحكيم وأحمل اليه همومك القومية والفردية وجراحك الفلسفية وعند من تلتمس الدواء إن لم تلتمسه عند "حكيم العرب" ؟ – ها هو ذد المفكر الجاد والمعلم الأمين – منذ أكثر من خمسين سنة من حياته الخصبة المنتجة – لا يتوقف عن الدعوة الى الأخذ بحضارة العلم ومنهجه ومنطقه والمشاركة في ثقافة العصر التي يرتفع بناؤها منذ عصر النهضة على أعمدة العقل والفعل، وحرية الفرد وكرامته وحقه المطلق في التساؤل والبحث والنقد، دون إهمال لقيم تراثنا "المعقولة" التي لا يستغني عنها الوجدان والايمان، إلا إذا تخلينا عن ركن راسخ من أركان هويتنا، ولا تزدهر بغيرها شجرة العقل المنتج المستنير الا إذا أمكننا أن نتصور شجرة معلقة في الفراغ بغير جذور.. وها هو ذا في مقالاته التي نتابعها هذه الأيام يجدد وعينا بحرية الانسان وقيمته ومسؤوليته – على نحو ما فعل في مقالاته الفنية التي بدأ نشرها في منتصف الثلاثينات وأوائل الأربعينات – دون أن تخبو جذوة ثورته التي لم تفلح قسوة الزمن والبشر وتسلل العلل والوهن للجسد الفارع:لمتين البنيان وشحوب الضوء في مصباح العين الوحيدة – في أن تنال من دفء حرارتها ونورها وصدقها وها هو ذا يعيد نشر بعض جهوده العلمية التي كانت وما تزال علامات على طريق الفلسفة بـ "نظرة علمية" والفكر التحليلي والمنطقي الدقيق، ويثبت لنا مع كل جديد يقوله أو يكتبه أن أعوص المشكلات الفلسفية يمكن أن تمر بقلب الأديب وقلمه فتخرج منه وهي تنبض بالحياة والذوق والجمال والقدرة على التأثير في وعي العامة والخاصة على السواء.
وعدت أسأل نفسي: ما بالنا اليوم لم نتقدم خطوة واحدة على درب العقل والمنهج والحرية ؟ كيف نحتمل الحياة في ظل شجرتنا العربية – التي تخنقها أعشاب التخلف وتجففها رياح القهر ويزحف عليها الجراد المتطفل – ناعمين بالغيبوبة في كهف كئيب تتلاطم على جدرانه أمواج العصر الزاخر بالحركة والوعي والابتكار المتجدد؟ لماذا لم نجتمع حتى اليوم على طريق أو منهج أو نظرية أو مشروع أو ميثاق.. الخ، يمكن أن ننطلق منه للخروج من المحنة، مع أن الرجل قد قدم "صيغة فلسفية عربية" تستحق الاهتمام مهما اختلفت حولها الآراء؟ وما بال جهودنا الفلسفية تفتقر في كثير من الأحوال الى الأمانة والدقة المنهجية واللغوية، وتكاد أن تنعدم فيها الرؤية والتجربة والقضية والمشكلة، ويغلب على أغلبها النقل والخطف والقص واللصق من هنا ومن هناك، ولا يخرج – إلا في القليل النادر – عن كتب ركيكة ومذكرات رخيصة تلقن أو تلقم لطلاب مساكين (لم يقبلوا على دراسة الفلسفة عن وعي واختيار، بل حشرهم "التنسيق" في متاهاتها كما يحشر المساجين معصوبي الأعين في مركبات مظلمة تتجه بهم الى مصير مجهول مظلم !/ ثم ما بال أعرق أقسام الفلسفة، الذي وهبه عرق ربع قرن من كفاحه العلمي والتعليمي، لا يجني منه بعض أبنائه إلا ما حصده هو نفسه في وجولته وكهولته من أشواك التآمر والافتراء والتجني والمرارة؟..
أسئلة كثيرة.. وهل يتسع لها الحوار؟
وهموم أكثر.. وهل يقدرها إلا الحكيم الذي يطل على الساحة في غير قليل من الحسرة التي يشاركه فيها الحكماء الحقيقيون من كل العصور والحضارات ؟
وبدأت الحوار بسؤال يمكن أن يشغل بال القاريء والمثقف العادي لأتطرق منه للسؤال عما يهم المختصين قلت: أستاذي الكريم.. اسمحوا لي أن أبدأ الحديث معكم عن المقالة الأدبية والفنية التي ارتبطت باسمكم لدى الجمهور الواسع من القراء. فلا أظن أن قارئا عربيا مثقفا لم يطلع على بعض هذه الدور النادرة من أمثال جنة العبيط، وشروق من الغرب وتجويع النمر، وظلم، وذات المليمين، وبيضة الفيل وغيرها وغيرها من اللأليء والعقود التي يزدان بها صدر الأدب العربي الحديث، ولا أعتقد أنه قد غاب عنه أنها قد بلفت على يديكم مرحلة مختلفة عما عرفه وتعود عليه منذ المقامات والرسائل الى مقالات المنفلوطي والرافعي والزيات والبشرى وغيرهم. ففيها الفكاهة الحلوة والسخرية المرة والاطار الفني الذي يقربها من القصة القصيرة أو الحكاية الخرافية على لسان الحيوان أو "الحدوتة" والأمثولة والابيجرام، كما فيها التجربة الشخصية، والتمرد على الأوضاع الفاسدة، وكل هذا مع اللجوء الى الرمز والحلم والأسطورة والمجاز والمفارقة الذكية اللماحة والخيال الممعن في الغرابة والاغراب واختراق المألوف وسطح الواقع الى ما تحته ومدفوقه هلا حدثتموني عن وجهة نظركم فيها، ومدى تأثركم بالثقافة الانجليزية التي اشتهرت -منذ فرانسيس بيكون (1561-1626) بترسيخ هذا الفن الأدبي، وعن أسباب ندرتها في حياتنا الأدبية ؟
قال وهو يرجع رأسه الى الوراء ويسنده الى ظهر المقعد المريح وكأنه يحاول أن يستعيد ذكرى عزيزة تأبى على الرجوع:
– إنك بهذا السؤال تلمس العصب من صميم حياتي وجهودي الأدبية وأبدأ فأقول إن المقالة الأدبية كأي، جنس أدبي آخر من شعر ورواية وقصة ومسرحية لها شرط يجعلها مقالة أدبية. هذا الشرط المشترك بينها وبين كل ما يندرج تحت عنوان الفن التشكيلي أو التعبيري هو أن يكون هنالك شكل أو "فورم" يحمل الفكرة المراد نقلها. بهذا تنقل الفكرة بطريق غير مباشر لأن الذي سوف يقلقاه الرائي أو القاريء سيكون "تركيبة" عليه أن يستخلص منها الفكرة المبثوثة فيها. والأديب يستعير الشكل المعين من أي جهة ليست مصدرا للفكرة نفسها، وانما يرى أن هناك توازيا بين هذا الشكل المستعار والفكرة التي يريد أن ينقلها ولتكن أسطورة أو حلما من الأحلام أو قطعة من التاريخ أو ما يشبه ذلك. والمهم الا تظهر الفكرة المنقولة أبدا على السطح، بل تترك للقاريء وللناقد الأدبي أن يستخرجها فيما بعد. هذا هو شأن الأدب دائما على المستوى الرفيع. فلابد أن يقدم شكلا يضمر فيه فكرة قد لا يكون الأديب نفسه على بينة منها. واستخراج هذا المضمون الفكري المضمر لا يجوز أن يكون واضحا في الأدب والا أصبح وعظا. والنقاد الكبار يسقطون من حسابهم أو على الأقل ينزلون الى الدرجة الثانية أو الثالثة كل قطعة أدبية يشتم منها الفكرة المنقولة. فالفكرة مضمرة وتحتاج لعملية حفر كما نفعل مع الأثار المدفونة. والناقد يحفر في القطعة الأدبية ليستخرج ما هو دفين فيها من فكرة رآها الأديب وقد لا يكون كما قلت على وعي بما رآه..
هذا هو الشرط في أي صورة أدبية كائنة ما كانت بما في ذلك المقالة الأدبية. إلا أنني لم أعرض إلا قليلا من أمثال هذه المقالات الأدبية التي لا تصرح بالفكرة ولا تحتاج الى ناقد ليستخرجها من ثناياها. كتبت بالطبع مقالات مثل التي تفضلت بذكر بعضها كجنة العبيط أو بيضة الفيل أو تجويع النمر أو قرصنة في بحر الثقافة. ولكن مقالاتي لم تكن كلها من هذا النوع. ففي كثير من الأحيان كنت أجد نفسي مضطرا الى الايماء الواضح بالفكرة التي أريد نقلها، لأنني أخر الأمر أريد للقاريء أن يفهمني والقاريء اليوم ليس لديه في الغالب القدر الكافي من الوقت ولا من التأني والصبر والشرق الى المعرفة الحقيقية.وبهذه المناسبة أقول إن هذا هو بالضبط المعنى الذي نقصد اليه حين نقول إن معظم الأدب العربي الذي ينتج الآن سطحي. ماذا نريد بقولنا إنه سطحي؟ نريد أنه يأخذ شكل الرواية أو شكل المسرحية أو شكل المقالة الأدبية أو غير ذلك. فإذا جاء ناقد وطرح شبكته التحليلية ليستخرج من القطعة الأدبية مضمونها أو مضمرها لم يكد يجد شيئا، لأن الأديب كان مباشرا أكثرهن اللازم ولم تكن لديه رؤية لحقيقة مبثوثة ودفينة في القطعة الأدبية التي صورها. وتسألني مرة أخرى عن غياب المقالة الأدبية بمعناها الفني الدقيق أو عن ندرتها فأقول أولا إنها ليست جديدة في الأدب العربي وانما يجب أن نشير الى صور كثيرة لها في تاريخنا الأدبي وان تكن مختلفة عما نحاوله نحن الآن. فمثلا المقامات والرسائل هي من قبيل المقالة الأدبية، وبعض الحكايات التي تسرد في كتاب الأغاني أو غيره من كتب الأدب هي من قبيل المقالة الأدبية، لأن كل هذه الصور تنطوي على ما نريد للأدب أن يطويه في ثناياه، وغاية ما هناك أن الأشكال مختلفة.. نحن في الأدب الحديث أو أنا على الأقل لا أتبع مقامة ولا رسالة وانما أتبع الاستعارة من مصدر آخر غير مصدر الفكرة التي أعرضها، وكثيرا جدا ما ألجأ الى الأحلام، ولكنها ليست بالضرورة أحلاما حقيقية، وانما هي أحلام مصطنعة، تماما كما أتصور حديثا دار بينى وبين آخرين. والواقع أن مثل هذا الحديث لم يقع، وانما استحدث من أحدثه لأصّّب الفكرة في قالب معين…
وقد حاولت المقالة الأدبية من السن المبكرة لأن أول مقالة أدبية في هذا المعنى كانت في أواسط الثلاثينات في مجلة الثقافة عندما نشرت "البرتقالة الرخيصة" ومن ثم يمكنك مرة أخرى أن تقول على لساني: من أراد أن يلمس العصب من حياتي الفكرية والوجدانية فليبحث عنه في مقالاتي الفنية قبل كل شيء..
كنت قد تقشرت كثيرا وتعثر القلم معي وأنا ألاحق الجدول المتدفق وأحاول أن أقيد بالمداد تموجاته الفائرة. وأسرعت أسأله عن جانب من إنتاجه أستأثر باهتمامي وتمنيت لو شاركت فيه ذات يوم فقلت له:
أحب أن أنتقل من المقالة الأدبية الى السيرة الذاتية لقد قدمتم قبل حوالي العشرين سنة "قصة نفس" قبل أن تعيدوا صياغتها في طبعتها الثانية ومعها في الوقت نفسه على وجه التقريب "قصة عقل". والقصتان – ولا أقول إن الروايتان ! متفردتان في، بنائهما والهدف منهما بين الترجمات أو السير الذاتية التي عرفها أدبنا الحديث. وتوشك "قصة نفس" في الجزء الأول منها أن تكون عملا روائيا بكل ما يحمل من مقومات ودلالات، ولولا الاشارات التي جاءت في الأجزاء الأخيرة منها الى أحداث أدبية ووقائع ثقافية محددة ارتبطت بشخصكم وسيرتكم العقلية والعلمية، ولولا بعض الخواطر والتأملات الفلسفية – وخاصة على لسان ابراهيم – لاحتفظت بالشكل القصص والاطار الروائي حتى النهاية -أما "قصة عقل" فهي إذا أذنتم لي – أقرب الى التسجيل المجرد لتطور عقل فلسفي مر بتجارب مختلفة مع الوضعية المنطقية بوجه خاص ثم اتسع أفق رؤيته مع تجربته الأخيرة مع تراثه العربي والاسلامي. فهل تسلكون هاتين "القصتين" في منظومة الترجمات والسير الذاتية المعروفة في أدبنا العربي الحديث ؟ وهل توافقونني على أن العالم قد تدخل في أكثر الأحيان في عمل الأديب ؟
قال بعد أن أطرق برأسه قليلا ثم رفعها فلاحظت أن وجهه الطيب قد اكتسى علامات الجد وربما طاف به طائف من الحزن أو الألم:
-الحق أنني صاحب "قصة نفس" وكاتبها. لكنني أعترف بأنني قلق جدا إزاء هذا النوع من الكتابة. فقد أخرجتها في الصورة الأولى سنة 1964 وبعد عشرين سنة على وجه التقريب أخرجتها في صورة أخرى تختلف اختلافا كليا عن الصورة الأولى. لماذا صنعت هذا؟ لأنني كنت قلقا ومازلت قلقا حتى إزاء الصورة الثانية. ولماذا كل هذا القلق وكيف نشأت الفكرة عندي؟ الواقع إنني عندما فكرت في أن أكتب تاريخ حياتي في المرة الأولى وفي المرة الثانية صممت على أن تأتي حياة كما يراها صاحبها من الداخل لا كما يردها الرائي من الخارج أو الباحث العلمي الذي يفحص آثار الرجل ليكتب عن قصة حياته. ذلك لأن حياتي كما أراها ليست صوتا واحدا من الداخل، بل عراك داخلي أحس به باستمرار منذ طفولتي، أرى شيئا بعاطفتي وأرى شيئا آخر بعقلي وأحس صراعا داخليا خفيا هو مكشوف لي بالطبع وان لم ينكشف للرائي الخارجي. وأنا أعتقد أن كل إنسان هو عدة أشخاص في جلد واحد لأنه عدة سيول واتجاهات.. ففيه عاطفة وفيه غريزة وفيه عقل وربما كان الفرق بين شخص وشخص هو في الزوايا التي تفصل كل جانب من هذه الجوانب عن الجانبين الآخرين. بيد أن الزوايا منفرجة جدا عندي.. فالذي يرى جانبي العقلي لا يتصور إطلاقا غزارة الجانب العاطفي في حياتي. ومن يرى الجانبين لا يتصور إطلاقا مدى التزامي بالقوالب الاجتماعية التي أعيشها ولا أرضى أن أعيش غيرها ما دمت بين الناس (مثل فوزي الراوي) وعندما شرعت في كتابة "قصة نفس" استحسنت الا ألجأ أبدا الى الاعتراف بأن هذه حقائق عن نفسي أو حتى أن أظهر نفسي بالاسم. واكتفيت بإشارات خفيفة أحيانا وغليظة أحيانا أخرى يستشف منها القاريء أن أصحاب الأسماء التي أعطيتها للأشخاص الثلاثة الذين يؤلفون التفاعل في هذه القصة هم جوانب مختلفة من نفس واحدة. فرياض عطا هو الأحدب، والحدبة هنا حدبة نفسية وليست جسمية، بدليل أنه عندما كان يستريح نفسيا كانت الحدبة تختفي عن الأنظار، والطرف المقابل لهذا الانسان المنفعل هو الانسان العاقل والدارس إبراهيم الخولي (نسبة الى قريتي التي ولدت فيها وهي قرية ميت الخول من أعمال محافظة دمياط) أما فوزي فهو الذي يروي، وهو الذي ينخرط في القوالب الاجتماعية شأنه شأن سائر الناس (كان فوزي هذا هو اسمي المنزلي الذي لم يعرف أبي وأمي الى أن ماتا اسما غيره. وقد سألت والدي مرة فيم هذه الأسماء كلها فقأن: ماذا نصنع ؟ عند ولادتك زارنا ثلاثة من الأعزاء من أقاربنا كل منهم اقترح اسما، أحدهم اقترح زكي والآخر نجيب والثالث فوزي ولارضاء الجميع وضعنا اسمين في شهادة الميلاد واستبقينا الثالث ليكون هو الاسم المتداول في الأسرة !).
بعد ظهور الطبعة الأولى أحسست أنني لم أكن موفقا وأن الرمز كان أكثف مما ينبغي ويوحي بانعكاسات أو إشعاعات قد يساء فهمها وهكذا أخذت على نفسي في الطبعة الثانية أن أكون أقرب الى مراحل الواقع كما وقع، مع الاحتفاظ أيضا بالرمز بعد التخفيف منه ولكنني – كما سبق أن قلت لك – مازلت قلقا..
وأما عن "قصة عقل" فلم يكن في نيتي أبدا أن أكتبها، لأنها بالفعل تسجيل – أقرب الى الجرد!- للخط الفكري الذي سرت فيه منذ سنة 1940 ولم أنحرف عنه مدة نصف قرن تقريبا. ولأن الكثير جدا من إنتاجي مقالات أدبية أو مقالات تعرض الفكرة عرضا مباشرا، فإن كثيرا من القراء لم يستطع أن يستجمع لنفسه الخط المشترك. وقد حدث مرة أن جاءتني مذيعة لتأخذ مني حديثا فقالت لي: على كثرة ما كتبت لا نجد لك خطا واضحا. قلت لها: وماذا أصنع إذا كنت لا تقرئين ؟ هناك الخط المستمر وقد جاءت دراستي في انجلترا لتؤكده لا لتخلقه أو تبدعه للمرة الأولى.. ولكنني بعد ذلك اختليت بنفسي وسألتها: ماهر هذا الخط ؟ في هذه اللحظة فكرت أن أكتب عن نفسي بدلا من أن يكتب عني أحد غيري، وقلت ماذا لو درست هذا الخط كما هو واقع فيما كتبت لكي يهتدي به من يريد – لقد بدأ عندي -أي هذا الخط الفكري – وأنا في حوالي العشرين. ومازلت أتذكر كيف بدأ غامضا بعض الشيء ثم ازداد مع الإيام وضوحا وكان المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة "الرسالة" يخرج على عادته في كل عام عددا خاصا بمناسبة الهجرة. واستكتبني في هذا العدد الخاص الذي صدر في أوائل الأربعينات، وجعلت عنوان مقالتي "هجرة الروح" وقلت لنفسي فيها ما خلاصته: نحن أمام هجرة الرسول الكريم (ص) وأنت محتاج الى هجرة لأنك مازلت حتى الآن عارض أزياء الآخرين. ليست الأزياء أزياءك، لا أنت تملكها ولا أنت صنعتها إنك تتحول شخصا بعد شخص بانتقالك من رف الى رف في مكتبتك، فإذا تصادف أن وجدت كتابا فيه (س) من الناس أصبحت (س)، وانت وجدت كتابا آخر فيه (ص) أصبحت (ص)، وكأنك دودة تتلون بلون أرضها، تصفر عند سيرها على رمال الصحراء وتخضر عند سيرها على الزرع منذ هذه اللحظة لابد أن تكون أنت هو أنت. عليك أن تهاجر هجرة تشبه هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة الى المدينة وقد كان.. وجدت البداية التي اتضحت على مر السنين والبداية كانت في هذا السؤال ماذا تريد لنفسك أن تكون ؟ والذي أردته لنفسي هو أن أسير على خطين في وقت واحد: خط عقلي وخط وجداني، لأنني أراني لا أستطيع أن أستغني عن أحدهما. فهنالك مسائل عقلية لا ينبغي أن يشربها وجدان، وهنالك مسائل وجدانية لا ينبغي أن يشربها عقل. والانسان مؤلف من هذين الجانبين. ولكل منهما أداة إدراكية تختلف عن الأداة الإدراكية الأخرى. الوجدان أداة حدسية مباشرة لا تقدم مقدمات تستدل منها النتائج، وانما ترى رؤية مباشرة كما يرى الانسان قيمة لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو قصيدة من الشعر، وكما يحب من يحبه أيضا بغير تحليل أو تعليل أو استنباط واستنتاج.
وأما الأداة الثانية فأدرك بها الحقيقة العلمية سواء في مجال الرياضة أو مجال الطبيعة وأطبق بها منهج التحليل المنطقي مع الحرص على عدم الخلط بين هذا وذاك، لأن الانسان من هذا وذاك معا. هذا هو الخط الفكري الذي التزمته ومازلت ألتزمه حتى اللحظة التي أتحدث فيها، و "قصة عقل" ترسم سيري في هذين الخطين وكيف ازداد وضوحا وعمقا خلال قراءاتي ودراساتي وتدريسي أيضا. وقد حاولت فيها أن أبرز في الفصول المختلفة الحقائق الفرعية المختلفة التي تندرج تحت كل خط على حدة.
لاحظت أمارات التعب والارهاق على وجهه الذي يفيض بالرضا والسماحة وان بدا في بعض الأحيان كأن التجهم أو الذكريات أو خيبة الأمل أو السخرية قد حفرت فيه أخاديد متعرجة وغائرة. واسترحنا قليلا مع كوب جديد من الشاي الدافي ء مع قطع مستطيلة من الكعك المكسو والمحشو بالشيكولاته – وتحرك في نفسي مع جرعات الشاي – الذي ارتبط دائما عندي بميل مفاجيء الى التأملات المجردة ! – سؤال عن مشكلة الميتافيزيقا التي توهم كثير من الدارسين من عابري السبيل أيضا في طرق الثقافة، أنه هو عدوها "الكلاسيكي" في عالمنا العربي وكيل له من الاتهامات والادانات ماهر أفظع وأوجع بكثير مما أصاب "كانط" في زمانه عندما شنع عليه البعض – ومنهم للأسف شاعر كبير وبصير مثل هيني – بأنه هو هادم معبد الميتافيزيقا وقاتلها السفاح، ومن ثم فهو عدو الدين أيضا لأنه هو أبوها وهي ابنته العاقلة !.. وكانت قد صدرت في الفترة الأخيرة – كما سبقت الاشارة الى ذلك – طبعة جديدة من "خرافة الميتافيزيقا" مع مقدمة جديدة وبعنوان جديد غير مثير هو "موقف من الميتافيزيقا".. وهمست لنفسي: أتراني أنكأ جرحا قديما لو وجهت اليه هذا السؤال ؟ واذا كنت أعلم – مع كل منصف – أنه فرق منذ البداية – على نحو قريب مما فعله كانط الذي أهاب به بعض أصحابه من الوضعيين المناطقة – بين ميتافيزيقا مقبولة مهمتها النقد وتحليل العقل والمعرفة، وأخرى مرفوضة تقرر أقوالا عن العالم والوجود والجوهر والروح والحرية والخلود.. الخ. مصا يستحيل التحقق من صدقه أو كذبه في مجال الواقع أو بأي سند من التجربة، ويخرج به عن دائرة القول العلمي، واذا كنت أعرف كذلك أن موقفه هذا – كما أكد معظم نقاد الوضعية القديمة والحديثة – موقف ميتافيزيقي بالضرورة – مهما يكن من سلبيته أو عناده وانغلاقه ! – وأنه لم يكف أبدا عن الاهتمام بالميتافيزيقا منذ أن كتب في منتصف الأربعينات رسالته – التي سبقت الاشارة اليها في التمهيد – عن مشكلة ميتافيزيقية عريقة هي مشكلة حرية الإرادة بين الجبر والاختيار تحت عنوان "الجبر الذاتي" – وحتى تحليلاته الأخيرة في أواسط الثمانينات للمعاني المختلفة للحرية (التي ظهرت بعد ذلك في كتابه عن الحرية أتحدث)- إذا كانت هذه الأصداء كلها قد ترددت في نفسي فقد ترددت كذلك ترددا شديدا عن طرح السؤال.. وخطر لي أن أعرف رأيه في مسألة أخرى يطرحها الناس في غير قليل من الحسرة وغير قليل من اللهفة الساذجة الى "العالمية" المنتقدة – ومع شعوري بفجاجة الكلمات على لساني فقد حاولت أن أسوغه من وجهة نظر الرجل العادي الذي صورت لنفسي أنني أنطق بلسانه وأعبر عن رأيه: هل لدينا اليوم فلسفة عربية ؟! واذا كانت الاجابة بالنفي لافتقاد النسق الكلي المحكم فما هي العقبات التي تحول دون قيامها؟ واذا كانت لدينا – مع افتراض حسن الظن ! مشرعات واجتهادات مختلفة باختلاف الاوصاف التي تطلق عليها والرؤى أو "الآيديولوجيات" التي تعبر عنها – من إسلامية ووجودية وشخصانية وجوانية وبرجماتية وعلمية وعقلانية.. الخ – فما هو رأي الفيلسوف العلمي والوضعي فيها ؟ ثم ماذا يقول نفسه عن "مشروعه"، وهو الذي يجاهد منذ سنوات طويلة لتأكيد صيغة ثقافية وفلسفية توحد بين أصالة تراثنا ومقومات هويتنا وبين ثقافة العصر وحضارته العلمية في عبارة "الأصالة والمعاصرة" التي ابتذلها التكرار والثرثرة الاعلامية وبرع الكثيرون في التهجم عليها دون أن يفكروا في تقديم بديل مقنع لها أو يدخلوا في تجربة إبداع أصيل من أي نوع ؟ وظلت الأسئلة تطن في رأسي حتى انطلقت في هذا السؤال المكرور الذي يردده كل من هب ودب: هل لدينا أو يمكن أن تكون لدينا فلسفة عربية ؟
قال وهو يثبت في نظراته الأبوية وعل فمه ظلت ابتسامة:
– لكي تكون الاجابة عن هذا السؤال واضحة للقاريء يجدر بنا أولا أن نلقي الضوء على حقيقة الفلسفة ما هي قبل أن ندلي برأي.
في وجودها اليوم أو عدم وجودها لدينا. لكل عصر مناخه الثقافي الخاص الذي يدور حول محور الاهتمامات العقلية أو الوجدانية التي تسود ذلك العصر. ويمكن القول بأن اهتمامات العصر المعين الرئيسية إنما تتبلور عادة في فكرة واحدة كبيرة أو في عدد قليل من الأفكار الأساسية. فمثلا كان اليونان الأقدمون يديرون اهتماماتهم العقلية حول الفكر الأخلاقي بمعنى تحديد صورة السلوك التي تتألف منها الحياة الفاضلة. بعبارة أخرى كانت فكرة "الخير" – الذي هو غاية الغايات في حياة الانسان من وجهة نظرهم – هي الاساس العميق والمضمر في كثير جدا من النشاط الفكري الذي يطلق عليه اسم الفلسفة اليونانية. ثم انتقل التاريخ الى العصر المسيحي والعصر الاسلامي من بعده فتغيرت الاهتمامات الرئيسية التي تشغل الناس وتنبع منها عوامل تكون المناخ العام للفكر والثقافة. كانت تلك الاهتمامات بالطبع هي أسس العقيدة الدينية في كلتا الحالتين في المرحلة المسيحية والمرحلة الاسلامية على السواء. ولما كانت العقيدة الدينية تنزل من المؤمنين بها في أول الأمر منزلة الايمان الصرف الذي لا يحتاج الى تحليل عقلي للعناصر المكونة له، فقد كان من الطبيعي أن تمر فترة بعد كل ديانة منزلة يكون فيها إيمان بغير فلسفة. ولكن سرعان ما يقف الناس عند المفاهيم الرئيسية في ذلك الايمان ليوضحوها لأنفسهم توضيحا يقتني تحليلها الى عناصرها وارجاعها الى مبادئها الأولى. ومن أمثال هذه التحليلات تكونت الفلسفة المسيحية وتكونت الفلسفة الاسلامية.
لنلاحظ هنا أن الفلسفة الاسلامية مثلا كان هدف الفلاسفة بعد إطلاعهم على الفلسفة اليونانية هو أن يبحثوا ليعرفوا إن كان هنالك فرق بينها وبين ما نزل في الكتاب الكريم. ثم وجدوا أن الحقيقة في المصدرين واحدة وان جاءت بلغتين مختلفتين وأصبحت الفلسفة في هذه الحالة هي أن تكتب الفلسفة اليونانية بلغة إسلامية.
هذه أمثلة توضح للقاريء أن الفكر الفلسفي يأتي أساسا ليحلل مناخا ثقافيا قائما بالفعل ابتغاء للوصول الى الجذور والأصول المضمرة التي هي منبع ذلك المناخ الثقافي الذي يعيشه الناس. واذا انتقلنا بعد هذا التوضيح الى عصرنا الحالي في الوطن العربي لوجدنا أن المناخ الثقافي الذي يعيشه عدد كبير من المثقفين هو في صميمه شيء منقول. وهو منقول إما عن التراث الماضي واما عن ثقافة الغرب كما هي قائمة. وفي كلتا الحالتين ليست هنالك إضافة كبيرة أضافها العربي المعاصر لعصره. وتأتي الفلسفة لتحلل هذا المناخ الثقافي كما هو شأنها دائما. فإذا بها إما أن تكون صورة من الفلسفة الاسلامية القديمة – وذلك إذا كان النظر منصبا على الجانب الثقافي بيننا – واما تكون فلسفة مأخوذة من فلاسفة الغرب – إذا كان النظر منصبا على الجانب الغربي من مناخنا الفكري. وبعبارة مختصرة نقول إنه حتى إذا سلمنا بوجود العقل الفلسفي من حيث منهج التفكير النقدي والتحليلي عند بعض أبناء الأمة العربية اليوم، فلن يجد ذلك العقل موضعا لمنهجه يخرج منه شيء جديد لا هو مأخوذ من التراث فقط ولا هو مأخوذ من الغرب فقط.
لكن إذا نحن قلنا إنه على ضوء ما أسلفنا لا تقوم بيننا فلسفة عربية مبتكرة الآن، فلابد أن نتحوط في هذا التعميم حتى لا يغيب عن أنظارنا كثير جدا مما ينتجه أصحاب العقل الفلسفي من جزئيات يبدعون فيها فكرا عربيا جديدا إذ يتناولون جوانب من هنا ومن هناك في حياتنا الفكرية، ولكن أحدا من هؤلاء لم يستطع حتى اليوم أن يقيم "منظومة متسقة" من الفكر الفلسفي يمكننا على ضوئها أن نقول: هذه هي الحياة العقلية للأمة العربية أو جانب منها على الأقل معبرا عنه بلفة الفلسفة، كما نقول بذلك مثلا عن برتراند رسل في انجلترا، أوجدن – بول سارتر في فرنسا أو جون ديوى في أمريكا أو هسرل وأتباعه في ألمانيا أو غيرهم وغيرهم.
ابتسمت قائلا: لقد احتطتم فذكرتم "المنظومة المتسقة" التي نفتقدها ولم تقولوا النسق أو المذهب الذي ينكر معظم الباحثين إمكان قيامه في العصر الحاضر، مؤكدين أن فلسفة الفيلسوف يمكن أن تتجلى في مبحث صفير يتناول فيه، بطريقته الكلية، أصفر الجزئيات، وأنه قد أن للمشتغلين بالفلسفة – كما يقول رسل فيما أذكر في احدى مقالات كتابه "التصوف والمنطق" – أن يتعلموا التواضع من أصحاب العلوم المتخصصة، فيعالجوا مشكلة مشكلة لينتقلوا منها الى غيرها، صارخين النظر نهائيا عن محاولة بناء نسق شامل أو تشييد مذهب يضم أطراف الوجود والمعرفة والقيم.. الخ. قال والابتسامة عبا تزال تضيء وجهه بالنور الخفي الذي يشع من باطنه: حقا. بدليل أنني استشهدت باسم سارتر.
قلت بعد أن أثارت عباراته في نفسي أسئلة واعتراضات عديدة وجدت أن الوقت والمجال لن يسمحا بإبدائها جميعا، وأنني لا أستطيع أن أكتم عنه واحدا منها على الأقل:
إن كلامكم عن تحليل المناخ الثقافي يذكرني بتعريف "هيجل" للفلسفة بأنها هي بنت عصرها أو هي عصرها وقد تبلور في أفكار. وهو تعريف أؤمن بصدقه وان كنت أعتقد أن المفارقة الكامنة في الفلسفة نفسها تقتضي القول بأنها لا تقف عند مضمون عبارة هيجل وانما تجاوزها – كما حدث في فلسفته ذاتها – طامحة الى العام والدائم أو الجوهري والمطلق، مهما تبين بعد ذلك من عجزها وقصورها عن بلوغه. والمهم – كما يفهم من هذا التعريف. أن أي فلسفة لابد أن تنطلق من الواقع والحاضر الموجود ادهنا والآن، لكي تعود فتصب فيا، ابتغاء المزيد من الفهم والوضوح والوعي بالمواقف والقيم والأوضاع المختلفة التي يواجهها الانسان أو يتحداها وكل تحليل عقلي يتعمق جذور المشكلات والقضايا والأزمات التي يحياها الانسان العربي اليوم، أو يشقى بها بالأحرى وتشقى به لا يمكن إلا أن يكون "فلسفة" أو جهدا واجتهادا يمت بصلة للفلسفة ولا يقلل من شأن هذه الاجتهادات أن تجيء من غير المشتغلين بالمعرفة الفلسفية بمعناها الدقيق أو من غير القائمين على تعليمها. ولن يتسع المجال لذكر العديد من الكتاب والشعراء والمثقفين من مختلف البلاد العربية الذين يحملون همن م الانسان الحاضر ادهنا والآن، ويعبرون عنها في صيغ وأشكال ربما تظل بحاجة الى الصقل والتحليل والتوحيد والاتساق واللغة المحكمة المحددة لكي يسمح لها بالدخول من أبواب الفلسفة. ولكن لماذا أذهب بعيدا وأمامي أقرب دليل على ما أقول ؟ فجهودكم التي أشرت اليه والتي قدمتموها أخيرا في "ثلاثيتكم" (تجديد الفكر العربي، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، ثقافتنا في مواجهة العصر) بجانب عشرات المقالات التي نشر تموها في السنوات الأخيرة ومن بينها المقالات التي تحللون فيها مفاهيم الحرية والتقدم والثقافة والعروبة..
قاطعني بإشارة حاسمة من يده وقال بتواضعه الكريم وزهده وترفعه النادر: – لا أنكر شيئا من هذا كله عندي أو عند غيري. لكنها جميعا قفزات مجزءات أو طرقات على باب الفلسفة ..إنها تحليلات أقرب الى التنبؤ والتمني منها إلى التحليل الدقيق للمناخ القائم بالفعل.. ولو كانت لدينا وحدة ثقافية..
قلت ضاحكا ومعتذرا عن مقاطعته: حتى تحليلاتكم الأخيرة لمعاني الحرية ؟ إنني لا أجاملكم وربما لا أعدو الصواب إذا قلت إنه سيكون لنا منها فلسفة في الحرية كما كان للانجليز فلسفتهم التي قدمها أمثال "لوك" و"مل" وغيرهما..
رد على ضحكتي بتقطيبة حفرت خطوطها العميقة على جبهته وشدت عضلات وجهه. ولم يلبث الصمت أن لفها في سحبه الكاهية، فقلت مؤكدا اقتناعي بالضغط على كل كلمة أسدد حروفها الى قلب الصمت: معذرة يا أستاذي إذا قلت – دون أن أخشى مظنة التملق الذي تعلمون أنني أبعد الناس عنه – إن التحليلات التي ذكرت القليل منها لا تستحق هذا الظلم وأنا أعتقد مخلصا أنها تزيد عن كونها مجرد قفزات أو طرقات عابرة، فوراءها ركائز فكرية مغروسة في شتى جهودكم الفلسفية وكتاباتكم الأدبية والنقدية. وهي كغيرها ما تزال تنتظر العقل الفلسفي الذي يستخرج مبادئها وأصولها ويؤلف بين عناصرها في وحدة متسقة. ثم إنه الزمن والـ.. ولكنني وجدت أن صمته الذي طال وتكاثف يكاد ينطق بأن أتوقف. ولم أجد مناصا من الانتقال الى آخر موضوع من الموضوعات التي كنت قد دونتها في ورقة أمامي:
– دعوتم طوال أكثر من نصف قرن من حياتكم المباركة الى الأخذ بمنطق العلم ومنهجه وحضارته، وكان ارتباطكم بالتجريبية أو الوضعية المنطقية وبفلسفة التحليل الانجليزية تأكيدا لهذه الدعوة التي ابتغت تخليص العقل العربي من الارتجال والفوضى، وتجنيبه الخلط بين مجال العقل ومجال الوجدان، وبين لفة العلم ولفة الدين، وحثه على الانتقال من عالم السكون والثبات والمطلقات والوهمية الى عالم الحركة والفعل والانجاز العلمي والعملي هل ترون اليوم أن هذه الدعوة قد آتت بعض ثمارها ؟ وهل تقدمنا على طريق التفكير العلمي والمنهجي في مواجهة مشكلاتنا وأزماتنا أو حتى طريقة استخدام الكلمات التي لا ننفك نكررها ليل نهار بغير تمحيص ولا تحليل ؟ واذا كنا قد خطونا خطوة واحدة على هذا الطريق أو عزمنا على وضع أقدامنا عليه فلماذا تغص حياتنا العقلية واليومية بشتى صور اللاعقل واللاعلم ؟ – لا أكتمكم أنني أحس نغمة الحزن والحسرة والاحباط في بعض مقالاتكم الأخيرة مثل "رسالة في زجاجة"، "أدرك السفينة يا ربانها" و "مجتمع جديد أو الكارثة" وغيرها. هل تعب الثائر الذي لم يكف عن تجديد ثورته من محاولة تغيير "أنوال الفكر العربي" والخروج من عصورنا الوسطى الى ثقافة عصرية تحترم العقل وتتسلح بمنهج العلم، وتضع فردية الانسان وكرامته وحريته في منزلة المبادىء والبديهيات والمسلمات ؟ وهل يكفى في نظركم أن نطبق منهج التحليل المنطقي ونؤسس الفلسفة العلمية لتحقيق التغيير الذي نشدتموه، أم لابد أن تؤازرها ثورة اجتماعية تقتلع جذور الفساد وتحطم أصنام الاستبداد والتسلط والكذب والخرافة والتخلف؟.
قال بعد أن سكت حتى خلت أنه فاب مني بعقله وربما بسمعه أيضا.
– يؤسفني أن أقرر أننا لم نتقدم لا كثيرا ولا قليلا في الطريق الذي نتحول به الى شعب يستخدم منطق العقل في المسائل التي هي بحاجة الى منطق عقلي. فعلى الرغم من كوننا نقلنا كثيرا من علوم الغرب وأجهزة الغرب ونظم الغرب إلا أننا نقلناها نقلا دون أن نتشرب التفكير والمنهج العقلي الذي أدى الى انتاج تلك العلوم والنظم عند أصحابها لقد قطفنا الثمرة ورفضنا أن نأخذ الشجرة بجذورها كي نزرعها نحن بأنفسنا ونجني منها ثمرتها. وسؤالك: ما الذي جعلنا نقبل ثمرات العصر ونرفضه من حيث المنهج العقلي الذي أنتج هذه الثمرات جوابه عندي أننا عندما رأينا أنفسنا خاضعين لمستعمر أجنبي أوروبي تصورنا أن النهضة لا تكون إلا إذا استرددنا لأنفسنا هويتها العربية الاسلامية ثم توهمنا أن هذه الهوية الأصلية لن تتحقق لنا إلا إذا رفضنا المستعمرين جسدا وروحا، أي إلا إذا رفضناهم فكرا ووجودا وحضارة.
من هنا نجد التعليل لما حدث في منتصف القرن التاسع عشر وما بعده من حركات الاصلاح التي اتجهت نحو البدء بإحياء التراث والتراث الديني بصفة خاصة. كل هذا كان يصبح لا غبار عليه، بل ضرورة ملحة عند أي شعب يريد أن ينهض، لولا أننا لم نربط ربطا واعيا بين رغبتنا في أن نسترد هويتنا وحاجتنا لأن نستبقي من ثقافة المستعمر ومن أصوله الحضارية ما يمكن أن يشتد به عود الهوية التي نحن بصدد إحيائها وحمايتها. لقد سرنا على العكس من ذلك تحت وهم أن استرداد الهوية يقتضي رفض الغرب، وعندما رأينا أنفسنا في الوقت نفسه مضطرين اضطرارا الى الأخذ بعلوم الغرب وأسلحته وأجهزته ونظمه في التعليم والسياسة والاقتصاد وغيرها، نقلناها من حيث الصورة والقالب ولم ننقلها من حيث الروح والمنهج، فنتج عن هذا كله الموقف الذي نحن فيه الآن من احياء للتراث وبجانبه تطوف قطفناها من ثقافة الغرب وحضارته، وأصبحنا في الواقع مثلا فريدا نستطيع أن نوضحه بالآية الكريمة: (كالحمار يحمل أسفارا)..
إن المفارقة هنا لا تكمن في أن الحمار يحمل ما ليس من طبعا حمله من أسفار كبيرة، ولكن في أنه يحصل أيضا ما كان مضطرا الى حمله وكذلك نحن نحمل علوما وأفكارا نظرية اضطررنا اضطرارا الى أخذها من الغرب، ورحنا نعلمها في جامعاتنا ومدارسنا ونبني نظامنا السياسي وكثيرا جدا من بنائنا الاقتصادي على أساسها، بل الأغرب من ذلك كله نرفض أن نبث في أنفسنا روح الثقافة الغربية، وهو المنهج، والمنهج يعني المنهج العلمي بصفة عامة بخصائصه النوعية ومقوماته الأخلاقية.
ولكي أزيد الأمر توضيحا أقول إننا عندما أحيينا تراثنا بالصورة التي أحييناه بها، وهي صورة من يحفظ هذا التراث حفظا أصم، كنا بالضرورة أمام ثقافة كلمة. أما حين نقلنا الغرب بغير منهج فقد نقلنا نوعا آخر من الثقافة أوجد الحضارة بالفعل لا بالكلمة. فلو كنا نقلنا الغرب بمنهجه لتم لنا تطوير تراثنا في الوقت نفسه، لأننا كنا سننقل محورا جديدا هو محور الفعل لا محور الكلمة. من كل هذا نتج لنا الموقف الشاذ الذي نحياه اليوم. إنه مرة أخرى موقف إنسان يعيش في صميمه كلمات ويستخدم في حياته العملية نتائج نتجت عن حضارة فعل، فأصبحنا نرتدي ثوبا مرقعا هو في نهاية التحليل ثوب لم نصنعه بأيدينا، وانما استعرنا رقعا من ماضينا الذي لم نحسن فهمه ودرسه، ورقعا من حاضر الآخرين الذي لم نحسن كذلك استيعابه. ومن أجل هذا كان من الطبيعي الا يكون لما كتبت أصداء ذات تأثير ملحوظ لأنه يتلخص في الدعوة الى منهج العلم. وطالما كان منهج العلم مرفوضا بالرغم من قبول نتائج العلم، فمن الطبيعي أن ترفض دعوتي. أما عن بقية السؤال الخاصة بحالة التدهور وعدم الجدية الى آخر هذا الخط فهي أيضا نتيجة طبيعية لانسان يشتري العصر بماله ثم يرفض أن يعيش هذا العصر نفسه في حياته، فيحدث بالطبع انفصام في الشخصية هو الذي نواه بكل وضوح في الازدواجية الرهيبة التي نعيشها فلا مانع عندنا من أن تكون الواجهة نتاجا غربيا صرفا ثم ندعي أنها ليست هناك كأنها ليست موجودة في حياتنا.
والعكس أيضا صحيح. وهو أن ندعي أننا إنما نعيش على قيم أبائنا التي ورثناها ثم نكتفي من ذلك بمجرد القول. أما حقيقة حياتنا نفسها فلا هي من التراث ولا هي من العصر. إنها تتلخص في فردانية انتهازية، كل منا يشعر بأن البيت ينهار فيخطف ~ استطاعت يده أن تخطف لينجو به وبنفسه وعلى الدنيا بعد ذلك السلام..
فكرت بعد هذا البيان المبين أن أطرد شبح اليأس أو الحزن الذي كاد أن يلقي ظله الثقيل علينا وأن أقول إن دعوته لم تكن أبدا بلا ثمرة، لا على المستوى الجامعي ولا بالنسبة للقراء العاديين الذين يتابعونه بشغف ويشعرون نحوه بالامتنان والاحترام، ولكنني رأيت أن أفضل ما أختم به الحديث هو أن أفتح باب الأمل على المستقبل رغم كل شيء وأن أدعوه لتوجيه كلمة للشباب الذين عاش معهم ولهم طوال حياته – قلت له وأنا أهم بالقيام مستأذنا وشاكرا:
– من الطبيعي أن يشعر الشباب في هذا الجو الشاذ الذي وصفتموه بالتمزق والضياع والاغتراب بصورة أفدح مما لاحظتموه على بعض الشباب من جيلنا، فهل أطمع في النهاية أن توجهوا اليه كلمة أخيرة ؟
قال في صوت هادي؟ عميق ومفعم بالثقة والرضا:
– أقول للشباب ما قلته طوال حياتي المنتجة: أن يعيش حياته في خطين ليشبع بهما جانبي الحياة الانسانية. عليه أن يتقبل ما هو قائم على التفكير العلمي ثمرة ومنهجا، بمعنى أن يحاول أن يكون ذد منهج علمي بالاضافة الى تمتعه بثمرات العلم الغربي. ولكن عليه كذلك الا ينسى لحظة أن هناك جانبا آخر لا ينبغي أن يغفله في أي لحظة، وهو الجانب الذي يتعلق بالذات أو الهوية العربية المتدينة. في هذا الجانب لا مجال لمنهج علمي، ولكن المجال للايمان كل الايمان بالعقيدة التي نؤمن بها، ويصاحب هذا الاهتمام بجوانب خاصة كاللغة العربية وصور البطولات العربية وأركان الهوية الثقافية التي هي في الحقيقة جوهر العروبة… والحقيقة أن حياتي الوجدانية قد حافظت على الدوام على هذه الهوية بقدر ما تمسكت في حياتي العقلية بالمنهج العلمي فيما لا يمس الهوية.
اعتذرت عن التعب الذي سببته له، وأبديت أسفي من أن أكون قد جرت على الموعد الذي يخلد فيه الى الراحة. لكنه نهض قائما من مقعده كالعملاق المهيب ومد يده فلمس كتفي وربت عليه وهزه في حنان وكأنه يقول: وهل يتعب الأب من الحديث مع أبنائه ؟ الأسئلة الحبيسة تتلاطم في رأسي وأنا اتجه نحو الباب الخارجي، ورجوته بصوت مرتعش بالخجل والندم أن نستأنف الحديث مرة أخرى فلم يضن كعادته بالترحيب والتشجيع وزرته بعد ذلك مرات وخرجت وكأسي مملوءة بالشهد والرحيق. لكنني لم أكن أحمل قلما ولم أحاول أن أدون حديثا، مكتفيا باختزان كلماته وأفكاره وتجارب حياته وحكمته ورحلته الطويلة مع الكتب والناس، تاركا إياها تهبط مع رنات صوته المميز الخارج من أعمق أعماقه لتستقر في الطبقات التحتية للشعور وتبقى زادا مذخورا للبقية الباقية من العمر. ألم أظلم نفسي بالتقصير في تسجيل الأحاديث التالية في جلسات لا أحصي عددها ؟ ما من شك في ذلك. لكن عزائي أن صوت المعلم القدوة وصورته وحضوره القوي ستظل ماثلة في كياني وأمام عيني وعيون أبناء جيلي والأجيال السابقة واللاحقة التي سعدت بسماع صوته والتعلم منه. ويقيني الذي يملا نفسي أنه الآن في رحاب الملأ الأعلى يواصل الحوار – الذي تنبأ به سقراط في خطبة دفاعه – مع الحكماء الخالدين من كل العصور، وأنني ربما يسمح لي أيضا بالاشتراك في الحوار ومواصلة الحديث.
عبدالغفار مكاوي (باحث وكاتب/ استاذ سابق للفلسفة
بجامعات القاهرة والخرطوم وصنعاء والكويت)