تزامن معرض الفنانين العمانيين الشابين حسين عبيد وموسى عمر بأتيلييه القاهرة خلال شهر نوفمبر الماضي مع إقامة صالون الشباب التاسع للفنانين المصريين، وقد يكون من المفيد إجراء مقابلة أو مناظرة بين المعرضين، مع التحفظ بعام موضوعية المقارنة نظرا للتفاوت الكمي. وحجم المشاركة والخبرة ونوعية الأعمال المعروضة. لكن ما يعنيني إجراء المناظرة بشأنه هو التوجهات الفكرية بين شباب قطرين عربيين، سعيا الى الاقتراب من جمالية قومية للفنون التشكيلية في المستقبل القريب، تلك التي سيكون فرسانها هم هؤلاء الشباب، ونحن نقف اليوم أمام برزخ القرن الحادي والعشرين.
يقف الفنانون المصريون مبهورين بتجارب الابداع الغربية من إفرازات الحداثة وما بعد الحداثة في نهاية القرن، مقيدين بآلياتها في رفض القيم الجمالية المستقرة في فنون القرنين الأخيرين، من المنظور البصري للطبيعة والانسان، الى المنظور التراثي للمنتج الثقافي والجمالي، الى المنظور القيمي والمجازي للهوية الوطنية بتجلياته العديدة من الرمز والدلالة والايحاء، ومقتفين أثارها في كسر حالة التوحد الأرسطية بين المبدع والمتلقي، واستبدالها بحالة التصادم والاستفزاز الموقظة للتحدي لدى الطرفين، واعتبار الشيئية بديلا عن الانسان، والكونية بديلا عن القومية، والتفكيكية بديلا عن الكلية، والخامة العفوية الغفل المفصولة عن سياقها الحياتي بديلا عن الخامة المهذبة بخبرة الانسان والمصقولة بالتطور الحضاري، واعتماد التركيبات العملاقة المشكلة بفجاجة من مخلفات المواد التافهة – والحقيرة أحيانا – مثل التبن والقش والأسلاك وقد تتجاوز هذا كله الى بقايا الجثث الأدمية بديلا عن لوحة الحائط وتمثال القاعدة، وفي أحسن الأحوال: توظيف المهارات التقنية العالية لدى بعض الشباب في التلاعب بالخامة والشكل في غير مكانهما، بحيث يبتعد العمل عن تصنيفه النوعي (كالتصوير والنحت والحفر) ويبدو منافيا للمتعارف عليه في مسار الأجيال، وذلك بديلا عن توظيف المهارة التقنية في بناء عضوي داخل الاطار الجمالي للمصنف الفني.
أما مصب هذا كله فهو الوعاء الشكلاني المغترب، النافر من أي ارتباط اجتماعي أو فكري أو حضاري، وأما المدى التعبيري الذي يبتغي الوصول اليه فهو تحقيق الاستهجان المتبادل بين الفنان والمشاهد، وتأليه المادة و "التكنولوجية" وفي نفس الوقت إعلان سقوط الحضارة.
ولا شك أن هناك كثيرا من الأعمال الفنية في الصالون – الذي ضم أكثر من خمسمائة عمل – لم تنزلق الى التصنيفات السابقة وحققت قدرا لا بأس به من التوازن بين الحداثة وبين الأسس الراسخة للقيم الجمالية والروح القومية، لكنها من القلة بحيث تعد استثناءات لا تنفي غلبة الاتجاهات الأخرى.
فماذا عن معرض الفنانين الشابين حسين عبيد وموسى عمر؟
إننا أمام تجربة يمكن وضعها – في المردود الأخير – في إطار "الحداثة القومية"، تستفيد من معطيات التجارب الابداعية المعاصرة في لغة التصوير، نائية بقدر الامكان عن التسجيل والمحاكاة للطبيعية، ومقتربة. في المقابل. من بنائية شكلية مستقلة عن الواقع، ذات نسيج بصري مركب من مستويات عدة، ليس من بينها – إلا فيما ندر – المنظور الهندسي ثلاثي الأبعاد، أو التجسيم الأسطواني أو الوصفية المجانية ئلمشخصات الانسانية أو الطبيعية، لكنه نسيج يتكون حينا من معطيات الخامة بتقنياتها غير الشائعة، وتوظيفها توظيفا تعبيريا في نسق جمالي، يضع المشاهد على شفير حالة شعرية متوهجة لكنها مخاتلة، تستحثه للمشاركة الابداعية واستقطار القيمة والمعنى الدلالي من النص التشكيلي. ويتكون هذا النسيج حينا آخر من معطيات الموروث الثقافي والبيئي والمعماري بتجلياته الميثولوجية والايمانية، وفي كلا الحالتين فإن ذلك النسيج لا يبحث عن الناشز والمتصادم والمغترب مع الآخر، بل عن المشترك والمؤتلف معه والكاشف عن عالمه، بما يعمل على بناء جسر للتواصل بين المبدع والمتلقي، وما يسهم في تأسيس لغة بصرية جديدة تسمتد مفرداتها من بيئة بلدها وحافظته الثقافية، وما يحفظ لفن هذا البلد – في النهاية – تفرده وفرادته، أمام اجتياح ثقافة العولمة.
لقد نجح حسين عبيد في استغلال السطح الأملس لقشرة "الفورمايكا" بالرسم عليه وتجريحه وكشطه واللعب بملامسه العفوية، كي تؤتي نسيجا مرتعشا هامسا حينا صاخبا حينا أخر، يستحضر من الخزانة النفسية للفنان ومن الذاكرة البصرية للمشاهد في الآن نفسه تداعيات معنوية مرادفة للطبيعة في البيئة البحرية أو الصحراوية ويوميه من حين لآخر بوجود الانسان محاصرا أو مواجها.
أما عمر موسى فاستطاع توظيف ألوانه ذات البريق والعجائن السميكة في خلق تضاريس وحوار بصري بين خطوط ومساحات متباينة النصاعة والبروز، لمدائن عربية تقع في المنطقة بين الواقع والحلم، حوار يستدعي بقوة الخيال مشاهد من عالم ألف ليلة وليلة، موشاة بزخارف محلية متوارثة أقرب الى التطريز على ثوب عروس تتناعم مع فتحات النوافذ والأبواب والشرفات في إيقاع تطريبي موقع على طبول بدوية، واذ نشعر بأننا نعرف هذه المدائن وان اختلفت التفاصيل، فإننا سرعان ما نندمج في إيقاعها السحري متوافقين مع أنفسنا.
إن هذا التباين بين رؤى الفنانين المصريين الشبان واخوانهم العمانيين – على قصر عمر التجربة التشكيلية عندهم، بل عمر حركة الفن التشكيلي الحديث بعمان – يدل على أن البوصلة الفكرية في مصر تنحرف بشدة نحو ثقافة الغرب المأزومة، وتدفع الشباب الى بحر متلاطم لا يقوون على أمواجه… وهكذا تضيع مواهب يانعة تحت إلحاح وترويج أنساق فكرية وجمالية صارت بائرة في منابعها بدول الغرب، بينما نجد البوصلة الفكرية لدى فناني عمان تتجه الوجهة الصحيحة نحو المنابع الأصيلة للوجدان والروح والهوية العربية، والالتزام بكلمة يحرص الفنان على أن تنبثق من خلايا عمله الفني.
ولا أظن أن المستقبل قادر على أن يحتمل المزيد من العبث بإبداعات الفنانين الشباب في مصر على أيد تلهو بمقدراتهم إشباعا لمطامح ذاتية في ركوب موجة الغرب بنظامها العالمي فاقد الجنسية، وليأت بعدهم الطوفان !.. بل لابد آت عن قريب اليوم الذي يعيد الفنان المصري الشاب اكتشاف ذاته واستخراج لؤلؤاته الأصيلة لا الزائفة.
كما أظن أن المستقبل يعدنا بعطاء إبداعي وفير من أشقائنا العمانيين، نحو مزيد من الانتماء والأصالة القومية، متراكبين مع أشقائهم في الأقطار العربية الأخرى، لصنع وجه جديد للفن العربي في القرن القادم.
عز الدين نجيب (فنان وكاتب من مصر)