ألونسو كويتو- كاتب بيروفي
ترجمة: علي بونوا -كاتب ومترجم مغربي
ألونسو كويتو.. كاتب وروائي وقاص من البيرو. ولد في ليما عام 1954 وعاش طفولته الأولى بين باريس وواشنطن وعاد إلى العاصمة البيروفية وهو ابن سبع سنين. والده فيلسوف وأمه مربية. درس في الجامعة الكاثوليكية بالبيرو وحصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية. صدر له أكثر من عشرين رواية وعدة مجموعات قصصية. من أشهر رواياته: معركة الماضي (1983)؛ النمر الأبيض (1985)؛ غراميات شتوية (1994)؛ طيران الرماد (1995)؛ نظرات كبيرة (2003)؛ الساعة الزرقاء (2005). وقد تم تحويل عدد من رواياته وقصصه إلى أفلام سينمائية. حصل على جوائز أدبية كثيرة داخل البيرو وخارجها وترجمت أعماله الروائية إلى سبع عشرة لغة.
نشرت هذه القصة ضمن مجموعته القصصية «التاسعةُ إلا خمس دقائق وقصص أخرى»، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1996 في ليما والثانية ببرشلونة عام 2014 وتضم إحدى عشرة قصة. يحيل عنوان المجموعة على استعجالية المواقيت التي يجب على الشبان الالتزام بها في حياتهم كأبناء وكطلاب. وتدور نصوصها حول ما تتعرض له هذه الفئة العمرية من طرف البالغين الذين يحاولون فرض قواعدهم واختياراتهم؛ وحول الضغوطات التي يعيشها المراهقون بين ما يجب عليهم فعله وما يرغبون أن يكونوا عليه، كما هو الحال في قصة «فتيان أربعة».
لقد تربّتْ تيريسا تحت أوامر المودّة والصرامة والثقافة والآداب الحسنة والمظاهر. وتلقّت دروسا في العزف على البيانو قرب الحديقة؛ وفي اللغة والرياضيات داخل المكتبة. طويلة القامة وشعرُها طويل وحريري. التحقت بالجامعة الكاثوليكية بعد التخرّج من الثانوي. بعد ذلك، ووفقا لاهتمامها بالفن التشكيلي والموسيقى، سافرت إلى «كينغز كوليدج» لدراسة تاريخ الفن. وتبعا للمفهوم النحتي الذي كان لدى والديها عن التربية، صارت تيريسا منتوجا مكتملا عند بلوغها عمر ستة وعشرين عاما. هل ثمّة من يستحقُّها من الفتيان؟
هذا هو السؤال الذي كانت أمّها تطرحه على نفسها ذات صباح مُشمس، في حديقة منزلهم بمدينة سان إيسيدرو، تحت أغصان الشجرة التي كان ظلها يمتدُّ فوق العشب.
كانت تيريسا قد وصلت لِتوِّها إلى ليما وقد ظهرت في مناسبتين اجتماعيتين. إحداهما في الذكرى الخمسينية لزفاف جدِّها وجدّتها؛ وأخرى حين رافقت والدها أثناء أحد الاستقبالات في السفارة الفرنسية.
من قائمة الشبان (بعضهم لا يستحقّون هذا التقريظ)، الذين تقرّبوا إليها، أوّل من تمّ قبوله كان هو رفاييل، ابن خوسيفينا وبانتشو.
كانت لرفاييل مهنة محترمة ومُوافِقةٌ للموضة: هندسة النُّظُم. وكانت طباعه الهادئة وعيناه ذواتا اللون الفولاذي وعائلته الجديرة بالاحترام في تعارض، نوعا ما، مع عزوبيته المتأخِّرة. هذا الوضع في سنِّ الخامسة والثلاثين يعود، حسب الإجماع العائلي، إلى التفرُّغ الكامل لشركته المعلوماتية، وهي من أنجح الشركات في السوق.
اتصل رفاييل بتيريسا ذات يوم جمعة ليدعوها لتناول الطعام في اليوم الموالي. «إلى أين سيذهبان؟»، همست أمّها بجوار باب الحمام. «لا أدري»، أجابت تيريسا. «عليه أن يأخذك إلى مطعم جيِّد»، قالت السيِّدةُ أخيرا، رافعة يدها، وهي تُشير بسبّابة حادّة.
عندما نزلت تيريسا عبر السلالم، كانت أمّها تهيم في الصالة.
– أنت تعلمين أنه ليس من اللائق –قالت– الخروج إلى الرقص في أوّل موعد. ويُستحسن أن تكوني هنا قبل الساعة الحادية عشرة. هكذا هي الأمور في ليما. الناس يتكلمون كثيرا ولا يجب على المرء أن يكون عُرضة لذلك.
عادت تيريسا على الساعة التاسعة، بعد أقلِّ من ساعة على خروجها.
– كان الطعام سيِّئا –قالت لأمِّها–. ثم إن رفاييل كان يُشعرني بالملل.
ظهر الفتى الثاني بعد مرور ستة أشهر، في استقبال حفل زفاف كريستينا، شقيقتها الصغرى.
كان له اسم محترم، غابرييل. كان محاميا. كانت عيناه البلوريتان والراسختان تلمعان في وجهه ذي البشرة البيضاء. وكانت ربطة العنق الزرقاء مُرصّعة على صدره كأنها وسام من البحرية البريطانية. تمّ تقديمه من طرف خورخي، ابن عمه، على أنه أحد الأصدقاء؛ وتوافق أسلوبه المهذّب كرجل نبيل مع تيريسا منذ أوّل تبادلٍ للنظرات بينهما.
كما كان متوقّعا، علمت أمّها بالخبر في نفس تلك الليلة. أخبرتها أخت زوجها بأن خورخي قد سمع كلاوديا تقول لفيفيانا أنها قد سمعت غابرييل وهو يقول لتيريسا إنه سوف يتّصل بها. كان خبرًا جيِّدًا.
خرج غابرييل وتيريسا معا ثلاث مرّات. في المرة الأولى ذهبا إلى المسرح لمشاهدة أحد أعمال الممثِّلة لولا فيلار. لقد استمتعا. وفي المرة الثانية خرجا لتناول الطعام.
«تناول الطعام معًا في أحد المطاعم هو أمر جيِّد دائما –قالت لها أمّها–. أثناء تناول الطعام يجب على الرجل أن يُبيِّن أنه شخص نبيل. إذا نجح الخروج لتناول الطعام في بداية العلاقة فهناك أمل».
لكن هذا الخروج لم ينجح بتاتا. هي طلبت حساءً بينما طلب هو طبقا شعبيا. كانت تيريسا تشعر بالاستياء. لم تكن تستطيع تفسير ذلك لكن الأمر كان كما لو أنهما لم يتناسبا مع بعضهما. كان أحدهما يُقاطع الآخر في الحديث. أحيانا كانت ثمّة توقُّفاتٌ فارغة. وفي النهاية، هي رفضت أطباق التحلية.
أما المرة الثالثة والأخيرة التي خرجا فيها معًا فكانت لحضور تدشين معرض فني. ظهر غابرييل مُتفاجئًا باللوحات التي لم تكن «تعني» له شيئا، حسب قوله.
لم تكن تيريسا مُضطرّةً لبذل مجهود كبير في رفض الرد عليه عبر الهاتف.
حادثته بشكل وجيز ذات يوم.
حين أصرّت أمّها على سُؤالها لماذا لم تكن ترغب في رؤيته، صارحتها: «كان يُشعرني بالملل».
انبجس ثالث الفتيان من بين دخان الشهب الاصطناعية في إحدى حفلات رأس السنة.
لقد بقيت تيريسا وحيدة منذ أن قامت بحذف غابرييل. ماريو كان هو اسم المُتودِّد الجديد وكان مقاولًا وسمسارًا وسياسيًا طموحًا. كان جسده قويًّا وعيناه زرقاوان رائعتان. التقيا معا بشكل مُتكرِّر خلال عدة أشهر. فجأة، دون أن يتدخّل في الأمر أي حادث، عادت تيريسا إلى المنزل فوجدت أمّها تُطرِّز.
– عُدتِ مُبكِّرا –قالت لها أمّها.
– أجل. لن أخرج.
– وماذا عن ماريو؟
– لن أراه مُجدَّدا. كان يُشعرني بالملل.
مضت شهور طويلة. كانت تيريسا تُعطي دروسا في العزف على البيانو. كان لديها القليل من التلاميذ لكنها في الحقيقة لم تكن في حاجة إلى المال. لم تكن ترى صديقات كثيرات. كانت تقضي الأيام في الاستماع لمعزوفات كوريلي وتيليمان. كانت تُبحر عبر صفحات كتاب «أعلام الفن التشكيلي» وهي جالسة في الصالة. وكانت أمّها مشغولة البال عليها.
لقد مرّت ثلاث سنوات على عودتها من أوروبا. شقيقتها الصغرى صارت لديها طفلة جميلة. كانت تيريسا تقترب من عمر الثلاثين عاما. لم تكن تبدو مهتمة ببناء أسرة.
– إنه بسببكِ أنتِ –قال الزوج للسيِّدة ذات يوم– إنها فتاة كاملة، ولهذا بالذات فهي مُتطلِّبة جدا. إنها غريبة جدا. هذا بسببكِ أنتِ.
تجسّد فصل الشتاء عبر خشخشة الأغصان من النافذة. تغاريد العصافير صارت مُشتّتة. كانت تيريسا تقضي أياما كاملة في المنزل أكثر من ذي قبل. بالكاد كانت تخرج لشرب العصير مع أمِّها في مقهى «أُولِي». عبرت بعض الشعرات الشائبة جانبا من شعرها مثل البرق.
بدأت أمّها تخاف منها. كانت ظلا يزحف عبر صالونات المنزل. بالكاد كانت تتحدّث عن شيء غير الموسيقى والفن التشكيلي. كانت عاجزة عن الاعتراف لها بأيِّ شعورٍ أو أمنية.
– تيريسا… –قالت لها ذات ليلة–. تيريسا يا ابنتي. أنا أردت أن أُربِّيَك أحسن تربية. أردت أن أجعلك سعيدة بأفضل الأشياء. لكنني أظن أنك لست سعيدة. أنت مُتطلِّبة أكثر من اللازم؛ تعتقدين أن الحياة يجب أن تكون كاملة مثل لوحة تشكيلية. ماذا يُمكننا فعله يا ابنتي؟ ماذا فعلتُ بك؟ هل هذا كله بسببي؟ أنا أحبك كثيرا، كثيرا.
نظرتْ إليها ابنتُها بحركة جامدة. وفجأة، تحرّك نورٌ نَدِيٌّ في عينيها. اقتربت من أمِّها وعانقتها.
خلال أعياد الميلاد تعرّفت إلى ويليام أوربيغوثو تشانغ. أُغرمت به كما لم تُغرم بأي رجل آخر. كان يملك سلسلة من مصانع النبيذ وكان يُعجبه موزارت. كانت فترة الخطوبة قصيرة؛ أخذها ويليام إلى الرقص بصفة مُتكرِّرة. تزوّجا. مع توالي السنوات، بدأت أمّها تعتاد الأمر.