لشعر قاسم حداد نكهة خاصة ورائحة مائزة الأثر، فشعره يأتي بطعم البحر؛ ليس فقط البحر ذلك المسطح المائي المترامي المدى، ولكن البحر بمعنى الاتساع والفساحة والعمق والامتلاء والاحتواء، والبعد، والتموج، فالوجود عنده بحر مترامي المآلات، والمعنى لديه موج لا يستقر على شاطئ، والشاعر ربان سفينة يرمي بشباك قصائده، اصطيادًا للآلئ المعنى. يفوح قصيده برائحة التشكك، والشك دهن تفرزه مسام الشعر، واللايقين شحم يلتصق بجلد القول الشعري.
صوفية التشكك
يعاين «قاسم حداد» في ديوانه «لست جرحًا ولا خنجرًا» حالة من الارتياب النازف الذي يلج بالوعي في بحار التردد، فثمة تأرجح بين لائين، وهو ما يضع الذات في منطقة المابين، فلا يقين يُحسم، ولا ألم يَبْرأ، ولا شاطئ ترسو فيه سفائن البحث عن خبر المعرفة:
أين السفينة
كلما أصغيتَ أجلت المراثي
لستَ في حل من التأويل
لا المعنى يدلك
لا انتهاكات المغِّني وهو يَجرح صوتَه
لا رفقة الحيتان
هكذا يصدِّر الشعر إشكالية يتورط الوعي فيها، ويُطَالب بحلها، فثمة حالة من الترقب المتمهل، ومحاولة للرصد، ومسعى للتأويل، ورغبة في تفسير الحال، حالة إصغاء لسماع صوت الوضوح ترجئ المراثي، حالة فقد وألم يعوزها جلو وتفسير، غير أن السفينة وسيلة التنقل ومركب الارتحال والإبحار ضائعة، فالوضح غائب، والغموض سائد، والتأويل إجباري، والمعنى لا يسعف، وصوت المغني لا يبين، مما يوجب ضرورة الانتظار:
اهدأ وانتظر
وانظر سفينتك الوحيدة وهي تغرق عند رأس البحر
في حل من التأويل
يزداد الموقف تعقيدًا، وتبسط التناقضات يدها القاهرة على مقبض المشهد، فبينما تكون الحاجة المفروضة والفرض الإجباري للتأويل، تغرق السفينة دونما تأويل وبلا تفسير، فتجرد الذات من وسيلة خوضها غمار بحر المعنى بحثًا عن تفسير يهتك أستار الغموض، هكذا يستهل الشعر حكايته واقفًا بشاطئ الانبهام الملغز، غارقًا في بحار الحيرة والاضطراب، فاقدًا المعنى، سابحًا في أغوار اللاوضوح:
شُعب شاخص في الغيم
لم يحسن قراءة موجه
لم يبتكر سفرًا بلا سفن
ولا يُحصي مسامير السفينة وهي تصدأ
فانتظر وأهدأ قليلًا
يخيم الانفصام على المشهد، ويبرز النتوء من ثنايا اللوحة الوجودية المثقلة بالتوتر، والمصبوغة باللا إبانة، فما هو ينجلي من عناصر المنظر هو (شُعب) يمثل عالة على الصورة، غير أن هذا الانجلاء لهذا العنصر قليل الخطر ما يلبث أن تداخله الضبابية، فالشُعب البارز من جسد البحر بات كأنه بديل عن السفينة، ولكن السفينة هي وسيلة حركة ومصدر حراك بالبحر، والشعب ثابت، جامد بلا حركة، وإن تحرك فغالبًا ما تقترن حركته بالانكسار، أما السفينة فقد طال الصدأ مساميرها، فقد فسدت أوصالها وتهرأت روابط مكوناتها، فلِمَ الانتظار؟ وكيف الهدوء؟
اهدأ قليلًا
وانتظر تلك الحشود تمر ذاهبة إلى الماضي
ودعها،/ دع لها مستقبلًا ينساك
واهدأ/ ريثما يتذكر القتلى خريطتهم
حشود تنشي بالغيم
تهفو للدلالة
فانتظرها وهي تعبر
ربما تكبو كما جيشٍ وهاويةٍ
وتحتمل الخسارة
تتأسس استراتيجية الشعر على تصفية الماضي والتخلص من رواسبه والتنقي من عوالقه، فرهان الماضي هو رهان خاسر، فالذات الواقفة وقوف العارفين ترقب الحركة الحادثة على شاطئ الزمن تنشد التخلص من وطأة الثقل الضاغط لشوارد الماضي وتمثلاته الذاكراتية، إنها تتابع الماضي وتفتح له المدى للانصراف، فتهييء الفضاء للمستقبل، وما بين الماضي المتروك والمستقبل المنشود تنبلج اشتياقات اللهفة إلى اصطياد الدلالة، ولكن أي قنص للدلالة الذي يزهق روح الماضي؟ أي جلو للغموض الذي يتأتى بإراقة دماء الذكرى؟ فيم الوقوف المتمهل الذي أشبه بوقوف المتصوفة بأبواب الوجد طلبًا للكشف الإشراقي؟
إن حالة البين بين واللاحسم- التي تنسجم مع الروح الصوفي- تُحكم سيطرتها على مسارات الوعي الموجِّه وتحدد له خط سيره:
دعنا نؤجِّل جنة المعنى ونرفل في الجحيم
نفنى قليلًا ريثما يستيقظ القتلى
وينثلج الحواريون في تابوتهم
دعنا نراهن أن دار الله واسعةٌ
لتشملنا إذا متنا بعيدًا عن الخوف.
إن الرغبة في إرجاء المعنى وتأجيل بلوغه تتساوق مع الطبيعة الصوفية التي لا تخلد إلى راحة في سبيل نيلها المعرفة، ولا تعرف مستقرًا في مبحثها عن الحقيقة، فالحقيقة غائبة، واليقين منفي، والمعنى ضائع، فأي جهاد ذلك الذي يعشق الفناء؟ إنه الفناء الصوفي في الوجود الذي يرى كل الوجود بعياناته المادية والفوق مادية مأوى وبيتًا للذات، ولكن أي ذات تتحدث؟ أهي ذات الشاعر في كينونتها المفردة أم الذات التي تنوب عن الذات الجمعية؟ إن صوت الذات الشاعرة- رغم تنوع الإضمار بين المتكلم الفردي والمتكلم الجمعي- إنما يتبرع لأن يمثل الذات الكلية، إنه تلبس الذات المفردة بالذات الإنسانية الكبرى تعبيرًا عن مواجدها وتمثيلًا لمكابداتها.
وإزاء هذا التطلع الصوفي في المعرفة الموسومة باللامعرفة والحقيقة التي تُعدم أي حقيقة، يبدو مجال الرؤية منفتحًا في مداه:
دع لعينيك أن ترى ما لا تراه
دع لها أن تفسر ما يستقيم من الحُلم
عيناك مأخوذتان بما يجعل النومَ أحبولة
والقميص الجريح احتمالًا
وما سوف يبقى من الموت أخدوعة للحياة
دع لها
فهي مأمورةٌ
سوف يبقى لها أن ترى ما تراه.
ثمة مفاوضة قائمة وحجاج حاصل حول صلاحيات الرؤية ومتاحات النظر، فهي رؤية متمادية لا تقنع بفتات الواقع اليقظان، ولا تكتفي بعطايا الحس المحدود، ولا تخلد لهبات المعرفة المباشرة، بل تطمع في تجاوز آفاق الجزئي القاصر، وتطمح في بلوغ الكليات الفارقة، فتتلبسها حالة من الشطح الجامح، شطح صوفي مارق، إنه المسعى لوصل العلم بالحلم، والحقيقة بالخيال، وإزالة الحواجز بين العيان المباشر والعيان المفارق، إنه شوق التحان إلى حرية المعرفة وكسر قيود الصواب المتمطلق والتمرد على إملاءات الحس الخادع وإنكار الحل الأحادي.
في مديح العزلة
يبدو الصوت الشعري الفاعل لدى «قاسم حداد» جنوحه نحو العزلة والرغبة في الانكفاء على الذات، فتبدو أن ثمة حاجة قوية للرجوع إلى النفس:
قصي عن الليل والنوم
في الهامش البعيد من النص
ترثي حروفكَ
تنسى الكلامَ
وتنثال في شكل طيرٍ
في غزالة الذعر
القصي عن الناس والنص
حصن يتلاشى وينهار.
إنه ليل التشبيب الصوفي، يرفع العاشق مواجده، ويفصح عن مكابداته، وقد انخلع عن الناس، واعتزل العالم، وتجرد من عوالقه المادية، فبات في هامش النص، هامش العالم بعد أن هجر متنه، إنه يقف على الأعراف بين عالمين: عالم المادة، عالم الناس، في إزاء عالم العزلة، العالم المفارق، والصوفي في لحظات التجلي بعد أن امتلكه النور الإشراقي، يفقد اللغة ويتبدد المعنى، الذي ما يلبث أن يجد نفسه متحققًا في عناصرة الوجود المتناثرة في تكاثر وجودي.
إن الذات التي تساءل موقفها من العالم والوجود ترصد مكانها وتراجع أحوالها في هذا الكون:
سألت شمسًا جاءني ظلامٌ
يدايَ مصقولتان بالعطش
ورأسي مقصوفة بحلكة الهواء
واقف
يقتسمني الوقت
ويجتاحني مكان يضيق عليَّ.
إن الصوفي دائمًا لا يرضى بمأتاه، فهو ينشد المزيد، نورًا مشتعلًا بلهب الإشراق وفيوضًا تروي ظمأ المعرفة، فثمة صراع ناشب مع الزمان والمكان، صراع مع الوقت يؤججه الشوق المستعر لإدراك الغايات وبلوغ النور، وصراع آخر مع المكان، فالمكان مهما اتسع يمثل حدًا يخنق هفو الذات للانطلاق، فالمكان يضيق لأن المعرفة تتسع، المكان يصغر لأن الذات تتمدد، فالعلاقة ضدية بين الذات والمكان، تلك الذات المشتاقة للانتشار الرحب يضايقها المكان مهما اتسعت أرجاؤه الطبوغرافيا، إذ تبقى الذات عصية على الاستيعاب المكاني، ومتمنعة على التحدد المادي.
تبرز عبر هذا الديوان «لستِ جرحا ولا خنجرًا» رغبة عارمة في العودة إلى البيت تتكرر عدة مرات على امتداد الديوان:
هل حقك في البيت
أقل من نصيبك في الغياب
كلما وضعتَ قدمًا في طريقٍ
ارْفَضَّ وتقلص وتلاشى
طارتْ في وجهك غربان وكفت شمسٌ عنكَ
لن تهزم المصادفات بمديح الأمل
إذا كانت الذات تئن بالشكوى من ضيق المكان وتسأل سعة تفسح لها مجالًا للانبساط وتهييء لها فساحة للانتشار، فكيف إذن تطلب العودة إلى البيت وترك العالم؟ أي تضاد هذا الذي يقع بين نشدان الاتساع وطلب التحصن بالبيت؟ إن البيت المقصود هو الذات، فالذات تريد العودة إلى أناها، فلكي تتمكن الذات من استيعاب العالم واحتواء الوجود لا بد لها من ترميم الذات والثبات فيها، فالذات هي موضع العالم ومحتواه، فالذات هي البيت هي المسكن وحصن الأمان والألفة:
ليس لك سلطان عليه
لا سيفك يهزمه
ولا ضغائن الليل تناله
بيتٌ ذاهل لفقد كائناته المأخوذة
يريد أن ينام في كتاب الحلم
في لؤلؤٍ/ في محارةٍ
في بحرٍ/ في سفرٍ/ وفي مكابدات.
إن البيت/ الذات الظليلة تبقى بمنأى عن أي تأثير سواء كان ذاتيًّا (لا سيفك يهزمه) أو موضوعًا خارجيًّا (ولا ضغائن الليل تناله). إن الذهول قد لف البيت/ النفس وقد فقد كائناته، فقدت النفس جوهرها الذاتي/ ذاتها الظليلة/ أو الذات المنشودة، والبيت/ الذات ما زالت تحلم بالبيات في كتاب الحلم، وكأن الحلم هو الذي يعيد للذات كينونتها المفقودة ويسترد أصالتها الغائبة، فتحقق الذات يكون في عناصر البحر، البحر الذي يرمز إلى المعرفة المترامية، وكذلك في السفر والمكابدات، إنها المعرفة الصوفية التي لا تُنال إلا بالمكافدات والأسفار العرفانية التي تكوٍّن حدسًا صوفيًّا يهيكل الذات.
موسيقى الحزن
يغلب على القول الشعري في ديوان «لستِ جُرحًا ولا خنجرًا» طابع الحزن، فخلايا القصيد تئن بالوجع:
كلما صادف جُرحًا طرح عليه الصكوك والمواثق
كلما بكته امرأة منهمكة بصنيع المعادن
تخلله غيمٌ وخالجته شهوة المغامرين
موسيقاه كنزه الوحيد وخسارته النادرة
ميزان الذهب ساعته
وكرة اللهب بوصلته في سهرة الندم
محتقن بالدلالات
يغوي الخطأ لكي يصيب.
إن الجدل هو القانون القار لعناصر الكون وموجوداته، والجرح هو السائد في تغريبة الذات الوجودية، فالبكاء وغشاء الغيم الذي يرمز للسحب المعنى الكثيف يزيد من نزوة المغامرة، فالألم هو الذي يكثف المعنى ويحرض المغامرة الجمالية على المطالبة بقنصه، وهو ما يثري الموسيقى ويشعل لهيب الدلالة المتوهج، فكأن الجُرح هو الذي يولد المعنى، والمعنى هو الذي يحرك الموسيقى، والموسيقى تشعل الدلالات في دورة الحياة الشعرية التي تمر بها الذات التي تعاين وجهين متقابلين لكل حالة من حالات الوجود.
إن القصيدة لدى- قاسم حداد- تخرج من رحم الحزن، فالحزن هو ملهم القصيدة وموجهها:
قصيدتنا النثيرة تخرج من تخوم القوس
من يقوى على تقدير إيقاع البكاء
كأن حزن الناس بحر ثالثٌ
نصفٌ حزينٌ
والبقية شهقة القتلى
وجوقة نادمين ونادبين
لكأنَّ نصف الحزن فعلٌ ناقصٌ
لا يقبل التأجيل.
إن الألم هو المحرك لدفة القصيدة، وهو الضابط لإيقاعها، وما أشد الجدل المفارقة بين الحالة وشكل التعبير الجمالي عنها، ببينية الشعور وقالب التعبير الإبداعي عنه، فأي تخلٍ عن إيقاع التفاعيل وأي لواذ بإيقاع الحزن؟ فالقصيدة النثيرة التي تترك الإيقاع التفعيلي ارتباطًا بإيقاع البكاء، وكأن تخلي القصيدة عن إيقاع التفعيلة الصوتي إنما لتمادي مدى الحزن وتعاظم البكاء، فالحزن بحر غشا الناس ولا يقبل تأجيل التعبير عنه.
رضا عطية\
\ كاتب من مصر