يعتبر منهج النقد التاريخي واحدا من المناهج النقدية المتعددة التي انبنت على قواعد متينة، هي في حد ذاتها نتاج لفلسفات، وتيارات فكرية عرفتها الانسانية عبر سيرتها الطويلة، ولعل ما توخاه أفلاطون وأرسطو من فلسفات معينة شغلت التفكير الانساني هي تمثل الملامح الجذرية الأولى لهذه الفلسفات.
وكما هو معروف فإن اتكاء هذين الناقدين على نمطين من التفكير هما: النمط المثالي والنمط الواقعي يبرهن على عملية التأثير الذي أذكياه للنقد عبر منهجيهما الاستدلالي، والاستقرائي. وهذان المنهجان تنازعا الفكر النقدي في كل مذاهبه: فليس هناك فكر نقدي إلا ويؤول صراحة أو ضمنا اليهما.
واذا جئنا لمنهجنا التاريخي – الذي نحن بصدد دراسته – نجد أن انبثاق هذا التفكير واضح فيه، من خلال معيارية النقد الذي يتضمنه، بوصفه معنيا بحركة الزمان، وما فيه من أيديولوجيات واقعية محسوسة. تشق فلسفتها من الواقع المحض، الذي يتشابك مع رؤى المؤلف كما سنرى.
ولكننا قبل ذلك لابد أن نشير الى معطيات هذه الدراسة المتضمنة: رصد حركات التطور من خلال الوقوف على الجذور الأولى للنقد التاريخي، وذلك عبر شهوده الأول، ومدى تأثره بالمنهج التاريخي الطبيعي الذي عززته أراء "سانت بوف"، و" تين "، و"برونتير". بالاضافة الى أنماطه، وأسسه، ومميزاته ثم محاولة اكتشافه تطبيقيا في نموذج مختار، هو كتاب: طه حسين تجديد ذكرى أبي العلاء المعري. ومناقشته نظريا في نموذج لويس عوض.
المحذور الأول لمنهج النقد التاريخي:
لعل من الأهمية بمكان أن نشير الى أن منهج البحث في تاريخ الأدب قبل ظهور الرومانسية، لا يتجاوز ذكر حياة المؤلف، وعلو خده ثم يسرد مؤلفاته، وذكر نماذج منها، وشرح بعض معانيها اللغوية والبلاغية، وقلما حاولوا إحلال المؤلف محله في عصره، فإذا تعرضوا لذلك ارتكبوا أخطاء عجيبة – كما يقول الدكتور غنيمي هلال. (1)- "كما فعل "فولتير" مثلا حين وصف عصر "شكسبير" فأساء اليه، وهو قاصد وصف عبقريته بالنسبة لعصره. فوصف عصره المظلم المسود.
وكانت أحكام أولئك النقاد في تلك الفترة مستمدة من القواعد العامة التقليدية، ولم يكن منهم من يربط بين حياة المؤلف وبيئته، وجنسه، وطبقته، وانتاجه الأدبي. ليشرح ذلك الانتاج، ويبين خصائصه الفنية، وكيف تأثر بسابقيه، ثم مدى أثرهم فيه. وغيرها من خصائص المنهج التاريخي.
المنهج التاريخي في ظل الفلسفة التجريبية:
يمنكن القول بأن مدرسة النقد التاريخي جاءت مستندة على الوضعية، وهي فلسفة جاءت مقززة للفلسفة التجريبية. التي أتى بها "لوك" و"هوبز" والتي استبعدت كل تفكير لا يستمد عناصره الأولى من الحس والتجربة، فرفضت القضايا الميتافيزيقية، واهتمت بقضايا الحياة والمجتمع.
وكان من آثار سيطرة هذه الفلسفة التجريبية على الأدب: "أن نادى بعض مؤرخيه بوجوب تطبيق مناهجها، وقواعدها على الدراسات الأدبية، وحاول بعضهم أن يضع للأدب قوانين كقوانين الطبيعة. وبالغ بعضهم في ذلك متناسيا أن الدراسات الأدبية لا أن تخضع للجبرية العلمية التجريبية" (2)
ولعل ذلك التفكير التجريبي هو نتاج البحث في التاريخ الأدبي عبر مضامين العلمية السائدة في القرن التاسع عشر.
والتي أفرزتها الوضعية المنبثقة من نظريات كثيرة تأتي في مقدمتها: نظرية "دارون" الشهيرة: التي لاقت رواجا منقطع النظير في ظل العصر. وتحدد بها إدراك النقاد للانسان ككل. "إذ رأوا أن كل أديب (امريء) معاصر هو نتيجة تكوين العالم له في مختلف العصور".
وهذه النظرة أيقظت النقاد في البحث عن كافة الأصول والنظم الاجتماعية والدينية والسياسية التي من شأنها أن تؤثر في الأديب (المبدع). ولهذا جاءت أحكامهم أحكاما مبنية على تفسير الأدب تفسيرا علميا ماديا محضا.
نقاد الفلسفة التجريبية شهود المنهج التاريخي الأول:
لعل من أشهر النقاد الذين ظهر لديهم التوجه العلمي التجريبي في منهج دراستهم للأدب هم "ارنست دنيان" (1823- 1892) وكذلك "سانت بوف" ( 1804- 1869) و " تين " (1828- 1893) و"برونتير" (1849-1906) ولقد مضى هؤلاء النقاد ينكرون التذوق الأدبي والشخصي وكل ما يتصل بالذوق وأحكامه في مجال دراسة الأدب، وأخذوا يضعون قوانين ثابتة للأدب، ثبات قوانين العلوم الطبيعية، قوانين تطبق على كل الأدباء، كما تطبق قوانين الطبيعة على كل العناصر والجزيئات (3).
وفي رأي هؤلاء النقاد: "ان من أشد الأمور خطأ أن كل أديب كيان مستقل بذاته، إنما الأديب،. وكل آثاره وأعماله ثمرة قوانين حتمية عملت في القدم، وتعمل في الحاضر، وتظل تعمل في المستقبل وهو يصدر عنها صدورا حتميا لا مفر منه ولا خلاص، إذ تشكله،وتكيفه حسب مشيئتها، وحسب ما تمليه عليه من جبر والزام ".
ولعل هذه النظرة وطدت العلاقة المفهومية لخواص المنهج التاريخي. كمنهج له خواصه المتميزة كما سنعيها فيما بعد.
أ- سانت بوف: ودوره في إرساء دعائم المنهج التاريخي:
يعتبر هذا الناقد من أوائل النقاد الذين ساهموا في دفع عجلة التطور بالنسبة للمنهج التاريخي متأثرا في ذلك باتجاهه العلمي التجريبي، الذي درس من خلاله الادب. فكان يبحث في الانتاج الادبي لا من حيث دلالته عي المجتمع فحسب،. كما فعلت (مدام دي ستال)، ولكن من حيث دلالته على مؤلفه، فكانت أحكامه في النقد أحكاما منصبة عي شخصيات المؤلفين.
ووظيفة النقد الأدبي عنده: هي النفاذ الى ذات المؤلف، لتشف روحه من وراء عباءته بحيث يفهمه قراؤه وهو بذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب.
ولقد دعا "سانت بوف" في ظل منهجية نقده هذه الى "دراسة الأدباء دراسة علمية تقوم على بحوث تفصيلية لعلاقاتهم بأوطانهم، وأممهم، وعصورهم وآبائهم وأمهاتهم، وأسرهم، وتربياتهم، وأمزجتهم، وثقافاتهم، وتكويناتهم المادية، الجسمية، وخواصهم النفسية والعقلية، وعلاقاتهم بأصدقائهم، ومعارفهم، والتعرف على كل ما يتصل بهم من عادات وأفكار، ومباديء مع محاولة تبين فترات نجاحهم واخفاقهم وجوانب ضعفهم، وكل ما اضطربوا فيه طوال حياتهم في الغدو والرواح وفي الصباح والمساء"(4).
واذا تم كشف ذلك كله في الأديب أمكن للمؤرخ أن يسلك منهجا نقديا يميز فيه بين الفردي والجماعي، ليصور في النهاية علاقاته ببنية النص، وتأثير الجماعة عليه من جانب آخر. وهذه الفكرة مالها فكرة الفصائل التي اعتمد عليها "بوف" في تقسيمه للأدباء والمبدعين.
ويتضح أن اتجاه سانت بوف المتأثر بالعلوم الطبيعية، شغله عن اكتشاف الجوانب التي من شأنها أن تجعل لكل أديب كيانا مستقلا، تتيح له التميز والتفرد عن نظرائه في عصره وبيئته.
ب- تين: وثلاثية (الجنس، والبيئة، والزمن) وأثرها في المنهج التاريخي:
يكاد تين أكثر تأثيرا في المنهج التاريخي لدراسة الأدب. فهو هن أوائل الذين استخدموه. إلا أن استخدامه له لا يختلف كثيرا عن أستاذه "سانت بوف" : إذ إنه يلتقي معه في اتجاهه العلمي التجريبي.
وهو يبني نظرياته على مبدأين: أحدهما حتمية تأثير البحوث العلمية التجريبية في الأدب والفن. وهو مدين في ذلك للفلسفة (الوصفية) لعصره. والآخر مبدأ التأثير المتبادل بين العوامل الطبيعية والنفسية.
و" تين " يستند الى المنهج التاريخي في دراسته للأدب من خلال: وصفه للأدب في مجموعة هي نتاج الفنان نفسه، والجماعة الفنية التي ينتمي اليها، والمجتمع الذي أنتجها. ويرى أن الأدب يفهم ويفسر من خلال عدة عناصر: هي في حد ذاتها ثلاثية التميز التي تكونها العوامل النفسية والطبيعية للأديب: وهذه العناصر هي.(5):
1- الجنس: ويقصد به: مجموع الاستعدادات الفطرية التي تميز مجموعة من الناس انحدروا من أصل واحد. وهذه الاستعدادات مرتبطة بالفروق الملحوظة في مزاج الفرد وتركيبه العضوي.
2- البيئة: وهي العامل الثاني المؤثر في أدب أي أمة: ويقصد بها الوسط الجغرافي والمكاني الذي ينشأ فيه أفراد الأمة، نشوءا يعدهم ليمارسوا حياة مشتركة في العادات والأخلاق والروح الاجتماعية… و
3- العصر أو الزمان: وهو الأحداث السياسية والاجتماعية التي تكون طابعا عاما يترك أثره على الأدب.
ج- "برونتير":
وهو ثالث الثلاثة في الاتجاه العلمي التجريبي الذين تناولوا الأدب بمنظور تاريخي لكنه كان متكئا أكثر على نظرية دارون. التي من شأنها قسمت الأنواع الأدبية الى فصائل شبيهة بالفصائل الحيوانية.
ويرى "برونتير" تبعا لذلك أن كل جنس أدبي له زمان خاص به يولد وفيه ينمو ويموت. فله حياة خاصة به على امتداد زمني ولهذا فهو يدرس هذا الجنس الأدبي من منظور علاقاته مع مختلف الأجناس. تبعا لحركة الزمن الذي عاشه. وهذه العلاقات في رأيه تتوزع مفاهيمها التاريخية والفنية والعلمية(6).
هذه هي الجذور الأولى التاريخية التي استقى منها المنهج التاريخي معالمه، فصارت جزءا من إطاره الموضوعي. وهي في حد ذاتها تقودنا الى مرحلة أخرى أخرى تطورا، وأكثر بلورة لمعايير هذا النقد.
تاريخية الأدب بين مفهومها العام والخاص ودورها في المنهج النقدي التاريخي:
منذ أن أعلن أستاذ الأدب الفرنسي "لأنسون" بأن تاريخ الأدب جزء من الحضارة.. وأعين النقاد التاريخيين تنصب على رصد هذه الظاهرة، ومحاولة التفريق بين المنهج: كخاصية نقدية: وبينه كخاصية توثيقية (تاريخية).
فالتاريخ الأدبي يحاول أن يصل الى الوقائع العامة، وأن يميز الوقائع الدالة ثم يوضح العلاقة بين الوقائع العامة والوقائع الدالة.
ومن هذا المنظور يرى "لآنسون" أن منهجه هو في صميمه "المنهج التاريخي" ذلك ما برهنه أثناء دراسته للادب الفرنسي الذي يراه كمظهر للحياة القومية الفرنسية التي تنصب في بوتقتها كل التيارات الفكرية، والمشاعر، والأحداث السياسية والاجتماعية غيرها(7).
واذا كانت هذه النظرة أحدثت معبر التشابك بين التاريخ الأدبي والمنهج التاريخي فإن فرزها يمكن استنباطه من خلال مفهومي تاريخ الأدب: العام والخاص.
فالعام: هو أن ننظر الى الفرد (الأديب) في علاقاته بالتطور البشري، والى الأدب في علاقاته بالتطور السياسي والاجتماعي والديني.
وعليه فالناقد الذي يتعاطى تاريخ الأدب من هذه الناحية عليه أن يؤرخ للحياة العقلية والشعورية في الأمة تاريخا عاما. ولعل من أرخ للأدب في هذا الجانب "بروكلمان" في كتابه "تاريخ الأدب العربي" ونسج على منواله "جورجي زيدان" في تاريخ آداب اللغة العربية. وتبعه عمر فروخ. وغيرهم فقد قام الأول: "باحصاء أدباء العرب احصاء دقيقا مبينا علماءهم، وفلاسفتهم. مع ذكر آثارهم المطبوعة والمخطوطة، وما كتب عنهم قديما وحديثا، كذلك مكانتهم في الفن والعلم،وما قدموه من علم. مع نبذة عن كل فن وعلم، ومدى ما حدث له من تطور ورقي".
أما الخاص: فيقف بتاريخه عند الشعراء والكتاب مفصلا الحديث في شخصياتهم الأدبية وما أثر فيها من مؤثرات اجتماعية واقتصادية، وسياسية، ودينية متوسعا في بيان الاتجاهات والمذاهب الأدبية التي شاعت في كل عصر.
وفي هذا المعنى يخوض الناقد التاريخي في تقسيمات الأدب تبعا لحركة العصور، ويحمل هذا المعنى في علاقته بالعامل السياسي. لهذا ظهرت تقسيمات العصور في هذا المنهج ولعلنا نلمح مظاهر ذلك في كتابات الدكتور شوقى ضيف(8) والدكتور احمد امين وغيرهما من مؤرخي الأدب العربي في مراحله المختلفة.
المنهج التاريخي عصارة تلك البذور الأول للمحاولات النقدية:
من ذلك كله نستخلص أن المنهج التاريخي": يقوم على دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للعصر الذي ينتمي اليه الأدب. ويتخذ منها وسيلة أو طريقا لفهم الأدب، وتفسير خصائصه واستجلاء كوامنه، وغوامضه،لأن اتباع هذا المنهج – كما رأينا – يؤمنون بأن الأديب ابن بيئتا وزمانه والأدب نتاج ظروف سياسية واجتماعية يتأثر بها ويؤثر فيها.
ويعني المنهج التاريخي أساسا بدراسة العوامل المؤثرة في الأدب، بعبارة أخرى أن: الطابع التاريخي والسياسي والاجتماعي لازم لفهم الأدب وتفسيره، لذا "لا يكون الأديب (المبدع) عبقريا لو تقدم عصره أو تأخر عنه ما دامت عوامل البيئة قد وجهته، وأفرزته الى هذه الوجهة"(10).
أسس المنهج التاريخي:
يجعل النقاد التاريخيون العمل الأدبي "واقعة، فهم يقفون منه موقف المفسر له، ويصدرون في ذلك عدة أسس أهمها:
1- أسس ثابتة: وتتلخص في أن وراء ذلك العمل مؤلفا محكوما بالجنس والبيئة والعصر.
2- أسس متغيرة: ويأتي في مقدمتها المؤلف الذي نراه محكوما بالجنس الذي ينتمي اليه وبالمجتمع الذي يعيشه وبالعصر الذي يحيا فيه.
خواص المنهج التاريخي ومميزاته:
يمكننا أن نتبين مميزات هذا المنهج التي تعتبر متداخلة في حد ذاتها بالعديد من المناهج الأخرى، شأنها في ذلك شأن انفتاح العلوم بعضها على بعض وتداخلها مع حركة الوعي الانساني الذي صاحب معطيات التفكير في كل العصور:
1- المنهج التاريخي في النقد، شأن أي منهج. حساس، إذا فقد فيه صاحبه توازنه، فقد خصائص نقده، وصار مؤرخا أو جماعة للتاريخ، وصار النص الأدبي لديه مادة للتاريخ. ولم يصر التاريخ مادة للنقد.
ويقتضي إذن – أن يحدد الناقد – منذ البداية علاقته بالتاريخ – فصميم عمله هو النص الأدبي بما فيه من العواطف والخيالات، والمشاعر، وهو يستعين بتاريخ العصر ونظمه السائدة على استجلاء النص الأدبي. وما خبأه الزمن وراء حروفه، وكذلك العلم بما تضمن من اشارات لمواقع وأحداث واعلام وغير ذلك من آثار واقعية يمكن معرفتها بمساعدة التاريخ.
2- إن المنهج التاريخي هو منهج يحاول أن يبلور العلائق الموجودة بين الأعمال الأدبية في إطار تاريخي زمني (أي إطار وعي بحركة التاريخ) وهو بذلك يتعامل مع الأدب من الخارج.
3- تبعا لذلك فإن المنهج التاريخي يحتاج الى ثقافة واعية، وتتبع دقيق لحركة الزمن. وما فيه من معطيات يمكنها أن تنعكس بصورة مباشرة أو غير مباشرة على النص الأدبي. ولعل عنايته أحيانا بالطابع التحليلي يبرز مظهر ذلك الوعي، فالناقد التاريخي قد يلتفت الى النص الأدبي ويحلله في إطار لفري أو احصائي أو بياني أو حتى جمالي ليصل في النهاية الى هدفه، وغايته وهي محاولة الربط بين استخدام تلك المقاييس اللغوية (التحليلية) وبين العصر الذي وجدت فيه، وبين المؤلف الذي تأثر بذلك العصر، فاستخدم تلك المصطلحات اللغوية. ولهذا نجد المنهج التاريخي منهجا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالمناهج النقدية الأخرى على الأقل من هذا الاطار.
4- المنهج التاريخي معني بمستويات النقد وأطره، لذا فهي تستخدم كل مراحله المتمثلة في التفسير، والتأويل والتقييم والحكم، نظرا لعنايته الجادة بالنص كرؤية واقعية ترتبط بالزمن والعصر والبيئة، ويلعب المؤلف دوره المحلل في ضوء تلك المراحل التي لا غنى عنها في العملية النقدية.
5- يظهر منهج التاريخ الأدبي، وكأنه ولاية خاصة في حقل التاريخ: أي إنه يذكر الماضي من أجل الحاضر، ويحيى العلاقة التي غالبا ما تكون عاطفية مع كبار القدماء الذين سبقوه، فهو بالطبع يحصر حقل أبحاثه في ميدان الأدب محددا علاقاته بكافة الأطر الاقتصادية والسياسية، والثقافية، لتبيان ما فيها من عوارض أو اشارات تنم عن عقلية نقدية ما.
6- المنهج التاريخي: منهج فرعي: يختص بالتوفيق في الأعمال القديمة من حيث ذكرها وحفظها وترتيب ظواهرها في سياق التسلسل التاريخي التي يتكون منها حياة الأدباء وانتاجهم والجمهور والعلاقات بين الكاتب ومستهلك الكتاب، ويقدم التفسيرات حول هذه الأشياء، وعلى مستوى أعمق يحاول شرحها وحتى احياءها من خلال المقتطفات أو يقوم أمام تراكم الوقائع بإطلاق المعايير. والقواعد التي تحكم بيئة الأدباء وسيرتهم الذاتية.
7- وعلى مستوى ضيق فإن التاريخ الأدبي: يتتبع الأعمال الأدبية من حيث اقرار النصوص والوقائع والأحداث فيها فهو يدرس المخطوطات ويقارن الطبقات ويدقق في التصويب النهائي للنص بالاضافة الى دراسة تكوينات الوقائع الاجتماعية المتعلقة بسيرة الكاتب الذاتية.
هذه أهم الملامح التي تميز المنهج التاريخي، وتحدد خصائصه ولا شك فإن معطياته قد لا تعطي كل الثمار المرجوة في الحركة النقدية فهو منهج قديم. أهم ما يعيبه دراسة النص من الخارج. والوقوف على المغزى الواقعي، الذي قد لا يكشف لنا أحيانا رؤى النص، المتمثلة في التحليق، والخيال، والبعد المثالي. الذي تفضيه مشاعر المؤلف (المبدع) حينما يغدو كطائر محلق. يترشف نسمات الهواء.
ولعلني هنا أتلمس بعد هذا المنهج ورؤاه السهلة من خلال مقولة: "لدانيل بورتيال" يصف فيها الحركة النقدية في ضوء هذا المنهج. الذي تسلط على النقد قديما فغزا كل أبعاده، وكان ذلك الغزو بمثابة المجمع التوثيقي الذي نفرزه نحن الآن بمختلف رؤانا النقدية المختلفة يقول بورتيال:
"الروح النقدية التاريخية هي بطبيعتها يسيرة، متسلسلة متحركة متفهمة إنها نهر كبير وعذب، ينبسط فيها النقاد حول المؤلفات والبدائع الشعرية. كما يفعل الماء حين ينبسط بين الصخور والتلال والقلاع ".
إذن فالروح النقدية التاريخية: فيها من السهولة بمكان ما يجعلها مستهدفة من قبل بعض النقاد الذين يملكون قدرة البحث والتقصي. فتكون متعتهم بارزة في هذا المجال. وهي خاصية تنبعث من رؤى هذا المنهج الذي أكثر ما يميزه ثقافة مؤلفه (تابعة) التي يدججها معلم الواقعية الحصينة في فهم الاشياء عليها.
فالمنهج النقدي – من كل هذا – يهدف الى تحقيق منطق الزمن الذي يعايشه من خلال النص، فيرى فيه المتعة في البحث والتقصي وايجاد العلاقات الواقعية في إطار هذا المغزى.
نموذج تطبيقي على استخدام المنهج التاريخي في دراسة الأدب:
1- طه حسين:
يعد طه حسين أبرز من استخدم هذا المنهج في دراساته عن الأدب العربي القديم: مثل كتابه "حديث الأربعاء" و "تجديد ذكرى أبي العلاء(11)
ففي الكتاب الأخير: طبق طه حسين المنهج التاريخي تطبيقا دقيقا، فقد خصص بابا من هذا الكتاب شغل حيزا كبيرا من الكتاب (نحو ثلثي الكتاب) درس فيه زمان أبي العلاء، ومكانه وشعبه والحياة السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والدينية في عصره. وقبيلته وأسرته. ليرى أثر ذلك كله في شعره وأدبه. ونقتطف هنا جزءا يسيرا من هذا المنهج في قوله:
"ليس الفرض من هذا الكتاب أن نصف حياة أبي العلاء وحده وانما نريد أن ندرس حياة النفس الاسلامية في عصره فلم يكن لحكيم المعرة ان ينفرد بإظهار آثاره المادية أو المعنوية وانما الرجل وما له من أثار وأطوار نتيجة لازمة، وثمرة ناضجة لطائفة من العلل. اشتركت في تأليف مزاجه وتصوير نفسه. من غير أن يكون له عليه من سلطان. من هذه العلل المادي والمعنوي فالمادية ما ليس للانسان صلة بها، فاعتدال الجو وصفاؤه ورقة الماء وعذ وبتها، وخصوبة الأرض وجمال الربى، ونقاء الشمس وبهاؤها. كل هذه علل مادية تشترك مع غيرها في تكوين الرجل وتنشيء نفسه.
وأبو العلاء.. ثمرة من ثمرات عصره. قد عمل في انضاجها الزمان، والمكان والحال السياسية والاجتماعية والحال الاقتصادية… فالمؤرخ الذي لا يؤمن بالمذاهب الحديثة. ولا يصطنع في البحث طرائفه الطريفة. ولا يرضى أن يعترف بما بين أجزاء العالم من الاتصال المحتوم. ولا أن يسلم بأن الشيء الواحد على صغره وضآلته انما هو الصورة لما أوجده من العلل".
فأبو العلاء إذن عند طه حسين صورة مرتبطة بواقع، طالما كان منشدا بكل أطرافه لاتجاهات الزمان والمكان والبيئة والعصر، والجنس. وما تنبثق عنها من معطيات وأيديولوجيات سياسية واجتماعية وثقافية -. فهو عصارة ذلك التكوين المتشابك كله. وهذا هو المنهج التاريخي في عمق مغزاه.
الهوامش
1- الأدب المقارن: د. محمد غنيمي هلال ط 3 دار نهضة مصر، القاهرة 1977، ص 48.
2- الأدب المقارن: السابق: ص 48.
3- البحث الأدبي – طبيعته – مناهجه – أصوله، مصادره: د. شوقي ضيف: ط 6. دار المعارف، القاهرة، 1977، ص 26.
4- المرجع السابق: ص 53.
5- انظر تفصيل العناصر الثلاثة: الأدب المقارن: د. غنيمي هلال ص 60/61/62.
6- مقدمة في النقد الأدبي: د. علي جواد الطاهر.المؤسسة الحربية للطباعة والنشر بيروت، ص 185.
7- في النقد الأدبي: د.فائق مصطفى: ص 94.
8- يتضح ذلك من خلال مؤلفاته، كالعمر الجاهلي، والعصر العباسي، والعصر الاسلامي.
9- يتضح ذلك من خلال مؤلفاته: كضحى الاسلام، وظهر الاسلام، وفجر الاسلام.
10- المذاهب النقدية، ماهر فهمي: ط 1 مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ب ت، ص 181.
11- تجديد ذكرى أبي العلاء: طه حسين، ط 5 دار المعارف، 1976 ص 15 – 27.
المراجع:
1- الأدب المقارن: د. فحمد غنيمي هلال ط 3 دار نهضة مصر، القاهرة 1977.
2- البحث الأدبي – طبيعته – مناهجه – أصوله، مصادره: د. شوقي ضيف: ط 6. دار المعارف، القاهرة، 1977.
3- النقد الأدبي: برونل وآخرين: ت: هدى وصفي، ط 1، دار الفكر للدراسات والنشر، باريس 1990.
4- النقد الأدبي ومدارسه الحديثة ط ا ستانلي فايمن: ت: د. احسان عباس ود. محمد يوسف نجم، ط 6دار الفكر العربي، بيروت. ب ت.
5- النقد الادبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال ط، دار الثقافة، بيروت 1973.
6- النقد الفني: اندريه ريتشارد: ترجمة صباح الجهيم، وزارة الثقافة والارشاد القومي: دمشق 1979.
7- المذاهب النقدية، ماهر حسن فهمي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة،ب ت.
8- تجديد ذكرى أبي العلاء: طه حسين، ط هدار المعارف، القاهرة 1976.
9- ما النقد: بول هيرناوي: ت /سلافة حجاري، ط، دار الشؤون الثقافية، بغداد (سلسلة المائة كتاب)، 1979.
10- مقدمة في النقد الأدبي: د. علي جواد الطاهر.المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1979.
11- في النقد الأدبي الحديث: د.فائق مصطفى. ود. عبدالرضا علي. منشورات جامعة الوصل، ط 1، العراق، 1989.
12- مجلة فصول، المجلد الأول، ع 1، 2، 1980.
محسن الكندي ( كاتب من سلطنة عمان)