أحمد المعشني
باحث وأكاديمي عُماني
الإبل في اللغة العربية تشير إلى الحيوانات المعروفة ذات السنام (الجمل أو الناقة)، وهي من أقدم الحيوانات التي ارتبطت بحياة العرب وساهمت في حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، يسميها العرب سفينة الصحراء، فهي ليست مجرد وسيلة نقل أو مصدر للغذاء، بل كانت شريكًا في حياة الإنسان العربي عبر التاريخ، وصديقًا يرافقه في رحلاته الطويلة ويعينه على التكيف مع الطبيعة القاسية. قامت الإبل بدور في التجارة من خلال نقل اللبان من جنوب الجزيرة العربية إلى مختلف المناطق والبلدان على امتداد صحراء الجزيرة العربية ووصولا إلى الشام والعراق، فضلا عن ذلك يُحفظ للإبل دورها في الحروب والنزاعات التي كان العربي يخوضها مع أعدائه والطامعين في أرضه، ونظرا لأهمية هذا الحيوان الذي يفتخر به العرب، ويحرصون على تربيته وإكرامه، تُعَدّ الجزيرة العربية من أقدم مواطن استئناس الإبل، إذ يعود ذلك إلى 7000 سنة. وقد أظهرت دراسة قامت بها جامعات عالمية عدّة بأن موطن ظهور الإبل ذات السنام الواحد هو الجزيرة العربية بمختلف مناطقها شمالا وجنوبا. حضرت الإبل في المخيلة العربية البدوية بوصفها أسطورة تلغي الحواجز بين الممكن وغير الممكن وبين الواقع والمستحيل. ويتفاخر العرب بما يمتلكون من الإبل ويتغنون بها في أدبهم ويرددون مدحها في أسمارهم وفي أهازيجهم. واحتلت مكانة بارزة في التراث العربي، حيث أصبحت رمزًا للكرم والصبر والوفاء والقوة. ونظرا لأهمية الإبل في العقل الجمعي العربي؛ فقد نزلت فيها آية من القرآن الكريم تحاور المشركين وتوجه أنظارهم وتفكيرهم في معجزة خلق الإبل؛ مما يدفعهم إلى التفكير والتأمل بقوله تعالى في سورة الغاشية “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت” سورة الغاشية: 17. توقظ هذه الآية في العقل الإحساس بالعظمة الإلهية في خلق الله، وتُمثل تحديًا للإنسان العربي للتفكير بعمق أكبر في مخلوقاته وكيفية تدبيره للعالم. كما أن هذه الآية تحتفظ بمكانة عظيمة في تاريخ الإبل، فقد كانت الإبل في الثقافة العربية رمزًا للوفاء والكرامة والصبر، وهذه القيم تتجلى في الآية الكريمة وتُعزز في نفس الإنسان العربي دعوة للتأمل العميق. وفي الوقت نفسه تمثل الإبل تحديًا فكريًا يُدعوهم للبحث في معنى الحياة وحكمة الخلق. وقد حظيت الإبل باهتمام كبير من الكتّاب والعلماء والأدباء، مثل الجاحظ الذي تناول في كتابه “الحيوان” قدرة الإبل على التكيف مع البيئة الصحراوية وتحملها العطشَ والجوع لفترات طويلة، وكيف أنها تمتص الرطوبة من النباتات الصحراوية لتبقى على قيد الحياة. كما تطرق الجاحظ إلى بنيتها الفريدة، فوصف بنية جسم الإبل، من السنام الذي يخزن الدهون لتكون مصدر طاقة، والشفاه السميكة التي تسمح لها بأكل الأشواك، إلى الأقدام العريضة التي تمنعها من الغوص في الرمال. وأشاد بذكائها وحفظها المسالكَ والطرق، وأثنى على ذاكرتها القوية وقدرتها على تذكر الطرق الصحراوية حتى في أصعب الظروف، مما يجعلها وسيلة نقل لا غنى عنها في الصحراء. وامتدح الجاحظ صبرها وقوتها وركز على صفة الصبر في الإبل، حيث أشار إلى أنها تتحمل التعب والمشقة في السفر لمسافات طويلة، مما جعلها “سفينة الصحراء”. وتحدث الجاحظ كذلك عن دورها وأهميتها في حياة العرب قديمًا، سواء أكان في النقل أم في الحرب أم كمصدر للغذاء واللبن، وكيف شكلت جزءًا أساسيًا من ثقافتهم واقتصادهم.1 أما القزويني في كتابه “عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات” فقد استخدم أسلوبًا يجمع بين العلم والدين والتأمل، حيث سعى إلى إثبات عظمة الخالق من خلال تأمل خلقه، ومنها الإبل، التي احتلت مكانة خاصة في كتابه، أبرز فيه كيف أن خلق الإبل يعكس قدرة الله في جعلها وسيلة للإنسان في بيئة قاسية، مستشهدا بقدرتها على التكيف مع البيئة وخصائصها العجيبة المتمثلة في قدرتها على تخزين الماء والدهون في السنام، و مقاومتها العطشَ لفترات طويلة، وكذلك أقدامها المصممة للسير على الرمال دون أن تغوص فيها، ومن الفوائد التي أشاد بها القزويني، بوصفها وسيلة النقل في الصحارى الطويلة، حيث تحمل الأحمال الثقيلة وتسير لمسافات طويلة، كما أنها مصدر للحليب واللحم اللذين يعتمد عليهما سكان الصحراء. ويمتدح القزويني ذاكرة الإبل كما امتدحها الجاحظ في كتابه “الحيوان” أيضا ويشيد بقدرة الإبل على تذكر الطرق والمسارات التي تسلكها، حتى لو مرت عليها سنوات، مما يجعلها شريكًا موثوقًا به في السفر. وأما عن طباعها وصبرها فهو يمتدح صبر الإبل وقوتها في تحمل المشقة، مع الإشارة إلى قدرتها على العمل في ظروف قاسية دون تذمر2.
الإبل في الميثولوجيا العربية القديمة
تمثل الإبل في الأساطير القديمة رمزًا غنيًا ومتنوعًا عبر الثقافات المختلفة، خاصة في مناطق الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، حيث قامت بدور محوريّ في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والروحية. ومن أهم السمات التي شغلتها الإبل في الأساطير القديمة:
كائنات خارقة للطبيعة:
ارتبطت الإبل في العديد من الثقافات بسمات مثل الصبر والتحمل نظرًا لقدرتها على البقاء في ظروف الصحراء القاسية. تتحمل العطش والجوع، وكانت رمزًا للقدرة على التغلب على التحديات والصعاب.
الناقة المعجزة:
في القرآن وفي الكتب القديمة، تبرز قصة ناقة النبي صالح التي عُدَّت معجزة إلهية، وتتواتر روايات بعض كبار السن في محافظة ظفار بأن “عين خيوت” التي تقع إلى الجنوب الشرقي من “قيرون حيرتي” في ولاية صلالة؛ هي عين الماء التي ارتبط ذكرها بناقة النبي صالح -عليه السلام- الذي دعا قومه إلى التوحيد وعبادة الله وحده، فأنكروا عليه ذلك، وعاندوه وتمادوا في ضلالهم وسخروا منه، ثم طلبوا منه أن يأتيهم بمعجزة من السماء لتأكيد صدق نبوته وما يدعوهم إليه، فأخبرهم محذرا بأن الله سينزل عليهم معجزة، وعليهم أن يؤمنوا به، وإذا لم يؤمنوا فسيحل عليهم عقابه الشديد، فخرجت الناقة من صخرة، وكان شكلها عجيبًا ومبهرًا، وصارت آية واضحة على قدرة الله تعالى. كانت الناقة ذات حجم كبير، وكانت لها خصائص معجزة. طلب منهم أن يتركوها وشأنها ولا يعتدوا عليها أو يؤذوها، فصار لها يوم ترِد فيه العين، وكانت تلك الناقة عملاقة تشرب ماء العين كله، بينما كان على القوم أن يرِدوا الماء يومًا بعد يوم، فتضايقوا من ذلك وسخطوا على صالح وناقته، فذبحوها، فكان أن سلط الله عليهم عقابه في صورة صاعقة ورجفة لم تترك لهم أثرًا، ومن بقي منهم على قيد الحياة -كما تقول الروايات- عاشوا مستضعفين.
الخصائص الفريدة لناقة صالح:
كانت الناقة قادرة على شرب كميات ضخمة من الماء في وقت معين من اليوم، بينما كان باقي القوم محرومين من الماء. كان لها موعد خاص للشرب، وفي الأيام الأخرى كانوا يعتمدون على مياه الآبار الخاصة بهم. كانت تلك الناقة مصدرًا للرزق والبركة لقوم صالح، إذ كانت تشرب يومًا وتترك باقي الأيام لماء الآبار. هذا التوزيع للماء كان يساعد على تيسير الحياة للناس. وتستطرد تلك الروايات الشعبية، نقلا عن بعض كبار السن، أن الله أرسل ناقة صالح؛ اختبارًا لقوم صالح الذين لم يعتبروا من تلك المعجزة، وأصروا على كبريائهم فانتقم الله منهم، والذين لا يزالون على قيد الحياة منهم يعانون حتى الآن، كما في الروايات الشعبية، من الامتهان والضعف3.
الجِمال المسحورة:
تتضمن بعض الحكايات الشعبية في محافظة ظفار، قابلية إبل الجن على تغيير شكلها لتضليل الإنس فلا يرونها، كما كان يُعتقد أن الجن يمكنهم ركوب الإبل أو حتى التحول إلى هيئة إبل لخداع البشر. تبرز هذه التصورات في حكايات عديدة عن القوافل الصحراوية التي كانت ترى ظلالَ إبلٍ غريبة تظهر وتختفي. وفي ظفار، حيث تتداخل الجبال مع السواحل والصحاري، تتميز الإبل بخصوصيتها الثقافية، ليس فقط بحسبانها حيوانًا اقتصاديًّا، ولكن بوصفها أيضًا جزءًا من الموروث الثقافي والاجتماعي. تعاظمت قيمتها عبر الزمن، ونُسجت حولها حكايات وأساطير تمثل كنزًا أدبيًا يعكس هوية المجتمع ومعتقداته.
وتعرض هذه المقالة، أبرز ثلاث أساطير يتداولها السكان المحليون في محافظة ظفار تشكِّل جزءًا من إرثهم الثقافي الشفوي الذي يتجدد جيلًا بعد جيل.
الحكاية الأولى: حب الإبل والستار
الغيبي بين الإنس والجن:
بناء على اهتمام العرب عموما بالإبل، وخاصة عرب الجزيرة العربية، وتحديدا سكان محافظة ظفار نستهل حكايات استئناس الإبل وانتزاعها من الجن بهذه الحكاية: يُروى أن امرأة من الإنس كانت تجالس امرأة من الجن (الخوفين) وكانت كل منهما ترضع طفلا، وذلك قبل أن يشيع بينهما الستر الغيبي الذي يَحُول دون قدرة البشر على رؤية المخلوقات الأخرى، وكانت المرأة الجنية تسقي ابنها الرضيع حليب الإبل، بينما كان يبكي ابن جليستها الإنسية من شدة الجوع، ولم يكن لدى أمه ما تسد به رمقه، فطلبت من الأم الجنية أن تجود عليها بقليل من حليب الإبل حتى تُسكت بكاء طفلها، وهنا تناولت الأم الجنية قدحا صغيرا من الفخار وارتشفت رشفة من حليب الإبل ثم لفظتها في قدح الرضيع الإنسي، فتناولت أمه القدح وارتشفت رشفة. وعندما ذاقت طعم حليب الإبل، أعجبها وراق لها، فقررت أن تحصل على الإبل وتستأنسها، فدبرت المرأة الإنسية حيلة بأن أجلست والدها العجوز الذي كان طاعنا في السن أمام معاطن الإبل، وفي لحظة رواح إبل الجن في المساء داست عليه تسع من الإبل، ولم يعد بمقدرة الجن استعادتها، وهنا ضرب بينهم وبين الإنس الستر الغيبي الذي يحجب الجن عن الإنس وذلك بقولهم (لكم ما أخذتم ولا أنتم تروننا منذ اليوم ولكننا نراكم) ولذلك أطلق عليهم “الخوفين”؛ أي الذين يروننا ولا نراهم4.
الحكاية الثانية: حرير سبرات:
تروي هذه الحكاية التي لا يزال سكان ظفار يتداولونها5 أنّ رجلا يدعى “بن كيروز” من قبيلة الدين الحكماني جاء من منطقة الريف في جبال مرباط ليستطلع مناطق الشرق التي يوجد بها كلأ، فلما وصل إلى أعالي وادي (شليون) شمال منطقة جوفاء بولاية سدح، وكان الوقت مساءً قبيل صلاة المغرب، رأى قطعانا من الإبل تتوافد إلى مباركها، وهو يعلم، في الفترة ذاتها، أنّه ليس في المنطقة سكان من الإنس، فجميع السكان كانوا ينتقلون لرعي الخريف في جبال ظفار، فأيقن أنّ الإبل للجن، فحاول الاختباء على جانب الطريق، وعندما مرت عليه بكرة كانت تسير منفردة خلف الإبل قام بمسح قطعة من نبات السقل،6 كان قد أعدّها من قبل على ظهر تلك البكرة، وساقها باتجاه الغرب وهو يسمع صوت راعيها يناديها باسمها (خود…خود) ويدعو على من أعاق طريقها ويقول (أعاق الله من أعاقك) والناقة لم تستجب لنداء راعيها، فعلم الجن أن ناقتهم أصابها مكروه، فصعد أحدهم على رابية فرأى بن كيروز يسوق الناقة، فلحق به وطلب المدد من أصحابه ولكن بن كيروز حث الخطى هاربا بالناقة، وفي كلّ واد قطعه كان يستنجد بأهل الأرض من الجن ويقول: “يا من أمامي امنعوا عني من هم خلفي”. ولما وصل إلى منطقة تسمى (مدهين) اختفت عنه أصوات المطاردة، فواصل المسير. وفي صبيحة الغد وجد الناس مقبرة وآثار معركة من سيوف وخناجر ودماء يُعتقَد أنها قامت بين طوائف الجن هناك.
ويسرد راوٍ آخر7 أن “بن كيروز الحكماني رجل له الكثير من القصص مع الجن، وقصته في خطف الناقة من الجن حدثت في منطقة تسمى (شهبّوت) في أعالي وادي شليون، وعندما تنبّه له الجن قاموا بمطاردته وهو يهرب ويستعين بطوائف أخرى من الجن بقوله في كل واد يقطعه “يا من أمامي امنعوا عني من هم خلفي”، حتى وصل إلى منطقة (مدهين) وهي منطقة ليست بعيدة عن شهبّوت تقدر بمسير ساعة مشيا على الأقدام، وكان الوقت ليلا، وهناك اختفت أصوات الجن التي كانت تطارده، وواصل هو طريقه. وفي الصباح يقال إنّ الناس وجدوا مقابر وبقايا أسلحة من سيوف ورماح وخناجر”. ويسرد ثالث8 “إنّ الجان طوائف، وطائفة (بني يشوف) كانوا يظهرون للناس، فالناس يرونهم ويرون ماشيتهم ويسمعون أصواتهم ولا يؤذون أحدا، ولكن بينهم وبين بن كيروز مشاغبات كما نسمع من كبار السن. ويُقال بأنّ عصارة نبات (السقل) إذا دُهِنَ بها حيوان من حيوانات الجن يتحول إلى حيوانٍ من حيوانات الإنس، ولا يستطيع التخفّي ثانية، وكذلك لا يستطيع الجن استرجاعه، وهذا ما فعله بن كيروز أثناء خطفه ناقة الجن. وهذه حكاية معروفة ومتداولة”. ويذكر راوٍ آخر9 أن “مقبرة (مدهين) المعروفة حاليًا لم تكن موجودة من قبل، بل أصبحت هكذا بشكلها الذي هي عليه الآن صبيحة اليوم التالي؛ بسبب خطف بن كيروز ناقة الجن، فيُقال عندما وصل (مدهين) استنجد بأهلها من الجن ليمنعوا عنه الجن الذين يلحقون به، فاستجابوا له، فدارت معركة طاحنة بين طوائف الجن هناك خلّفت هذه المقبرة وحولها بقايا سيوف وخناجر وبعض الأعضاء البشرية، وبعض من حلي النساء. وقد استحوذ (بن كيروز) على الناقة ومكثت معه مدة طويلة وتكاثرت ومازالت سلالتها موجودة إلى الآن، ويقال لها بنات (بنات حرير سبرات)”. ويسرد أحد الرواة10 قائلا: “نسمع أنّ رجلا من الإنس جاء من ضواحي ولاية مرباط يبحث عن إبل ضالّة له، وعندما وصل إلى وادي (شليون) رأى ناقة تهرول وسمع صوتًا يناديها (حي… حي) وهذا اسمها اختصارا لاسم حرير، وهو اسم لطائفة من إبل الجان (بني يشوف)، فتقدم هذا الرجل حتى وقف في مكان متخفيًا على الطريق الذي ستمر منه تلك الناقة، وعندما مرّت بجانبه قفز على ظهرها وساقها غربا هاربًا بها، وكان ذلك وقت غروب الشمس، فطاردته الجن لاسترجاع ناقتهم، وكان الرجل يردّد “يا من أمامي امنعوا عني من هم خلفي” وأصوات الجن تطارده حتى وصل إلى منطقة تسمى (مدهين) فاختفت عنه الأصوات التي تطارده، وهدأت تلك الجلبة التي كان يسمعها، وواصل المسير إلى وجهته. وفي صباح اليوم التالي وجد الناس مقابر وبقايا أدوات قتال في (مدهين) دون وجود أي أثر لدماء أو جثث. ولم تكن هناك أي قبور من قبل. ويُقال إنّ هذا الرجل الأنسي من قبيلة الحكمان وبقيت معه هذه الناقة وتكاثرت ومازالت سلالتها موجودة إلى الآن”. ويسرد راوٍ آخر11 “يقال إنّ الناقة التي خطفها بن كيروز مكثت معه عامًا كاملًا لا يظهر لأقدامها أثر إلا لخفّ واحد، وبعد عامين ظهر أثر خفين، وبعد ثلاث سنوات ظهر أثر لثلاثة أخفاف، وبعد أن أكملت السنة الرابعة ظهر أثر أخفافها الأربعة. وما زالت هذه السلالة من الإبل عند بعض قبائل المشايخ، ويطلق عليها (بنات حرير سبرات)، ولهن كرامات ومميّزات. وأذكر أنّه في يوم ما كنّا نرعى الإبل جماعات في الريف أثناء موسم الخريف، ومن ضمن الإبل التي كنا نرعاها إبلٌ من هذه السلالة، فأتى إلينا رجل ومعه ابنه الذي أصيب بمرض في عينه حرمه النوم منذ ثلاثة أشهر، فطلب من رجل كبير السن ممّن يملكون هذه السلالة من الإبل أن يتدخل في أمر ابنه، فقال له الشيخ انتظر حتى المساء فعندما تضع هذه الناقة رأسها -وأشار إلى ناقة كبيرة في السن من سلالة حرير سبرات- على الأرض في المبرك ليلا أبلغ ولدك أن يحاول الإمساك برأسها، فإن هي هدأت ولم تتغير اعلم أن ابنك لن يشفى، وإن هي قامت وتغيرت، بإذن الله، ابنك سيشفى. وفعل الولد ذلك في المساء وعندما أحسّت الناقة بقبضة الولد وقفت وصوتت وأزبدت ولم تهدأ حتى أشرقت الشمس، والولد المريض نام من لحظته حتى الصباح، ومازلت أذكر هذه الحادثة إلى الآن. وكذلك يقال إنّ هذه السلالة تظهر عليها علامات الحزن وعدم الاطمئنان إن كان سيحل بصاحبها مكروه”. وقال أحد الرواة 12: كانت في مدهين مقبرة قديمة قبل حادثة خطف الناقة، وفي فترة من الفترات كانت طائفة من الجنّ تسمى (بني يشوف)، يظهرون على الإنس ويسكنون مساكنهم ويرعون مراعيهم، حتى خطف بن كيروز ناقتهم من وادي (شليون)، ويقال عندما خطفها شرم أذنها، وبال على قاربها؛ ليضمن عدم اختفائها. ونسمع كبار السن يقولون إذا أراد الإنس نهب حيوان للجن -وهذا في زمن ظهور بني يشوف على الإنس– لابدّ من فعل أحد ثلاثة أمور: جرح ذلك الحيوان وإسالة دمه، أو التبول عليه، أو دهنه بعصارة نبات (السقل). ويقال عندما وصل بن كيروز بالناقة المنهوبة إلى مقبرة (مدهين) استنجد بأهل هذه المقبرة أن يمنعوا عنه بني يشوف الذين يطاردونه من أجل استرجاع ناقتهم، فاستجاب جنُّ أهل (مدهين)، ودارت معركة بينهم وبين بني يشوف. وفي الصباح وجد الناس بقايا لأدوات القتال وبعض الضفائر من الشعر، ومن يومها اختفت طائفة بني يشوف. ويتفق راويان13 على أنّ سلالة الناقة المخطوفة مازالت موجودة عند بعض قبائل المشايخ في ظفار، وقد تفرّعت منها سلالات أخرى، وسميت بتسميات أخرى نتيجة جهل الناس بأصل هذه السلالة. ويضيف راوٍ آخر14 :”إنّ سلالة هذه الناقة لها مميزات وكرامات، ويقال إنّ الناس كانوا يتبركون بها للشفاء من بعض الأمراض كالجدري والملاريا وغيرهما إلى زمن قريب”. ارتبطت هذه السلالة بكرامات وقوى خارقة، حتى قيل إنها كانت قادرة على علاج المرضى، وتوقُّع الحوادث التي قد تصيب أصحابها. تُعد “حرير سبرات” شاهدًا على الأسطورة التي تجمع بين عالم الجن وعالم الإنس، وكيف استطاع الإنسان تطويع ما كان حكرًا على الجن لصالحه. وتُتداول حكايات مماثلة لهذه الحكاية في مناطق عديدة في جبال ظفار وصحرائها، وهي تظهر محبتها في قلوب الناس وافتخارهم بها بوصفها هُوِيَّةً ثقافية وتراثية ومصدرًا اقتصاديًّا تزداد أهميته يومًا بعد يوم. ويستطرد مربو الإبل في سرد حكايات كثيرة تُظهر القوى الخفية لهذا الحيوان العجيب، من ذلك أن الإبل يتنبأ بسقوط الأمطار وحدوث الأنواء المناخية، ويستطيع العارفون بلغة جسد الإبل أن يستنطقوا دلالات وقوفه وحركات أنفه ورأسه، وعبوره الطرقَ والمسالك الوعرة الضيقة، وتجمعه وتفرقه.
لعلّ ما يُلاحظ من الحكايات السابقة أنها قامت بدورٍ محوريّ في تشكيل الهوية الثقافية، حيث تُـنُوقِلت شفهيًا من جيل إلى آخر، وتشكل روايات استئناس الإبل مدعاة للفخر لدى سكان ظفار، حيث تعكس قدرتهم على التعامل مع التحديات؛ بما يجمع ما بين الأسطورة والواقع، ويمثل حلقة وصل بين الماضي والحاضر. فالحكايات التي نسجت حولها الأساطير تضمنت دروسًا تعزز ارتباط الإنسان ببيئته وتراثه. ومن خلال الحفاظ على هذه الروايات، يمكننا أن نستمر في تعزيز الهوية الثقافية ونقل هذا الإرث الثمين للأجيال القادمة.
الحكاية الثالثة: حكاية الناقة (عدانة):
يروي لنا كبار السن أن رجلا يسمى (علي السوالخّ) من قبيلة ثوعار المهري، وبالتحديد الجد الخامس لفخيذة (بيت أحيطل بن حنيف)، ذهب إلى عين (ذكور) الواقعة في أعالي وادي ذهبون؛ ليرد الماء ليلًا، وبينما هو متجه لهذه العين فوجئ بسماع أصوات الإبل ورعاتها التي غادرت المورد، ففرح الرجل بسماع ذلك واستبشر خيرًا رغم استغرابه، لعلمه المسبق بعدم وجود رعاة إبل في تلك الأودية خلال تلك الفترة، وعندما وصلت الأصوات، أخذ الرجل جانبا خلف صخرة ليفسح الطريق للإبل وتتمكن من العبور؛ بسبب ضيق الوادي وكثرة الإبل. ولكنه تعجّب من رؤية الإبل بدون أصحابها، فراوده الخوف في بادئ الأمر، فحاول التماسك والثبات في مكانه، ثم سمع صوت رعاة الإبل مرة أخرى، إلا أنه لم ير أحدا من الرعاة أيضا في المرة الثانية، وحينها أيقن الرجل بأنها إبل سكان الأرض من الجن، و بدأت بعد ذلك الإبل تذهب خلف أصحابها بعد أن ارتوت من ماء الغدير، فقام بتتبع الإبل متخفيا حتى استطاع الإمساك بإحدى صغار الإبل التي كانت في مؤخرة القطيع، وهي فصيل صغير أو (حاشي) أو (فريض) باللغة المهرية، ولما فقدت الناقة أم الفصيل ابنها؛ عادت تبحث عنه، وحينها سمع الرجل صوت صاحب الإبل ينادي الناقة باللغة المهرية باسمها: (عدا عدا) لكي تتبع القطيع، ويقول: (يغيير به ذغيير ببيش) بمعنى (يتعطل كل من عطلك) وعندما لم تجد الأم ابنها عادت تتبع القطيع، وتابع الرجل إمساكه الفصيل بإحكام. ويحكى أن الحاشي بدأ بالتمثل في أشكال عدّة منها (أفعى، ثم ضبع ثم ذئب…) إلا أن الرجل لم يفلته طمعًا فيه، لما للإبل من قيمة ومكانة في ذلك الزمان، ثم اختفت أصوات الإبل ورعاتها، ولم يبق إلا هذا الرجل والحاشي الصغير، فأخذه وضمّه إلى إبله من سلالة تسمى (السنود)، وقام بتربيته في إبله، وكان يربط في ذيل الفصيل غصن شجرةٍ لكي يظهر أثر الغصن ويعلم وجهة الحاشي، لأنه، وكما يروى، لم يكن يظهر له أي أثر، واستمر كذلك بلا أثر لمدة طويلة، إلى أن كبر وأصبح بكرة، وبعدما لقحت بدأ أثرها بالظهور، ويقال إن أثرها ظهر بالتدرج، بدءًا بآثار أخفاف اليدين، ثم أخفاف الرجلين، وبعدها بدأت بناتها تتكاثر ويتوارثها ملاكها إلى يومنا هذا، و(عدانة) من سلالات الإبل المعروفة في المحافظة، ولها صفات معينة تعرف بها وتتميز؛ منها القوة، وقدرة التحمل، والسرعة، وإدرار الحليب. ومن صفاتها أيضا أنه لا يطيق ركوبها إلا أصحابها، ومن مميزاتها كذلك أنها تصلح للركوب في كل أحوالها، حتى لو كانت حاملا أو مرضعا، على غير عادة أغلب الإبل في ذاك الزمان، وفي ذلك دلالة على القوة والصلابة. ومن صفات هذه السلالة أيضا أنها لا تقبل أن يحلبها غير مالكها. ومهما يكن من أمر فإن تلك الحكايات تكشف عن أهمية الإبل بوصفها جزءًا من الهوية الثقافية لأهل ظفار. حيث تمثل مزيجًا من الأسطورة والواقع، وتبرز قدرة الإنسان على التكيف مع بيئته والتغلب على التحديات.
خاتمة:
حكايات استئناس الإبل وانتزاعها من الجن في ظفار تمثل رمزًا لتراث غني يعكس قوة الإنسان في مواجهة التحديات، سواء الطبيعية أو الخارقة. في هذه الروايات، يظهر ارتباط الإنسان بالإبل، إحدى وسائل التغلب على الغموض والسيطرة على المجهول، كما تتجلى قيمة الإبل بالنسبة لسكان محافظة ظفار، فهي تسقيهم من حليبها وتطعمهم من لحومها وتحملهم وتنقلهم من مكان إلى آخر، وهي سفينتهم عبر رمال الصحراء الشاسعة ينقلون بها تجارتهم، وهي مصدر للزينة والتفاخر ومعيار للثروة والطبقة الاجتماعية، وهذا يبرر ما يدور بين الإنس والجن من صراع أسطوري للاستحواذ عليها واستئناسها، حيث جسدت هذه الحكايات مزيجًا بين الواقع الإنساني والخيال الأسطوري. إن استئناس الإبل من عالم الجن وتحويلها إلى جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان في ظفار يبرز قدرة الإنسان على استثمار بيئته وموارده في إطار من الحكمة والشجاعة. عبر هذه القصص، يظهر جليا صمود الإنسان العُماني في ظفار في مواجهة ظروف الحياة القاسية، وتظهر الإبل عنصرًا أساسيًّا في تعزيز هويته الثقافية والاجتماعية؛ لذا فإن نقل هذا الإرث الفريد للأجيال القادمة لا يُعد مجرد توثيق وتدوين حكايات وأساطير قديمة، بل هو دعوة للاعتزاز بتاريخ الأجداد، وسرد قدرتهم السردية على تطويع الأسطورة لصالحهم لتصبح الإبل اليوم رمزًا للفخر والكرامة والصبر والقوة في الوجدان الوطني والشعبي.
الهوامش
الجاحظ، 1988، 65-116
القزويني، 1999، ج1من55-60 و ج2 من 102-106.
(انظر: ابن كثير، 1998، مجلد4،3، تفسير سور الأعراف، هود، الشعراء صفحات 380-385 و404-408 و140-145 و462-465).
سلمى بنت سالم المعشني، مقابلة شفوية، صلالة، 11/6/2024.
الشيخ سالم بن سهيل سعيد الحكماني، مقابلة شفوية، ولاية سدح، جفا، 5/2/2021.
نبات بري من فصيلة الصباريات التي تنمو في الجزيرة العربية.
محمد بن سهيل سعيد الحكماني، مقابلة شفوية، ولاية سدح، جفا، 5/2/2021.
مسلم بن سعيد سالم الحكماني، مقابلة شفوية، ولاية سدح، جفا، 5/2/2021.
الشيخ محمد بن محيسن مسلم المشيخي، مقابلة شفوية، ولاية سدح، جفا، 5/2/2021.
الشيخ سعيد بن سهيل محمد العمري، مقابلة شفوية، مرباط، 6/2/ 2021.
مسلم بن سالم مسعود البرعمي، مقابلة شفوية، سدح، 5/2/ 2021.
سعيد بن سهيل سعيد فرجيش المشيخي، مقابلة شفوية، ولاية سدح، جفا، 5/6/2021.
سعيد بن معتوق سليم. – محمد بن سعيد معتوق فرجيش المشيخي، مقابلة شفوية، ولاية سدح، جفا، 5/2/2021.
علي بن سعيد سهيل الحكماني، مقابلة شفوية، ولاية سدح، جفا، 5/2/2021.
المراجع:
المراجع الخارجية:
القرآن الكريم. سورة الغاشية، الآية 17.
الجاحظ. كتاب الحيوان. تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، 1988.
القزويني. عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات. تحقيق عبد الرحمن بدوي، دار الجيل، 1999.
ابن كثير. تفسير القرآن العظيم. تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، 1998.
الرواة (المراجع الداخلية):
سلمى بنت سالم المعشني. «رواية شفهية حول استئناس الإبل». محافظة ظفار، 2021-2024.
أحمد بن سالم سهيل المعشني. «رواية شفهية حول استئناس الإبل. «محافظة ظفار، 2021-2024.
محمد بن سعيد نصيب المشيخي. «رواية شفهية حول استئناس الإبل». محافظة ظفار، 2021-2024.
سالم بن سهيل سعيد الحكماني. «رواية شفهية حول استئناس الإبل.» محافظة ظفار، 2021-2024.
سعيد بن سهيل سعيد فرجيش المشيخي. «رواية شفهية حول استئناس الإبل.» محافظة ظفار، 2021-2024.
مسلم بن سعيد سالم البرعمي. «رواية شفهية حول استئناس الإبل.» محافظة ظفار، 2021-2024.
سعيد بن معتوق سليم. «رواية شفهية حول استئناس الإبل.» محافظة ظفار، 2021-2024.
علي بن سعيد سهيل الحكماني. «رواية شفهية حول استئناس الإبل». محافظة ظفار، 2021-2024.
سعيد بن مسلم حزمي عموش المهري. «رواية شفهية حول استئناس الإبل». محافظة ظفار، 2021-2024.