مدخل:
تتركنا سعدية مفرح عند الانتهاء من قراءة ديوانها (تغديب.. فأسرج خيل ظنوني) في حالة مندهشة إمام دفقة شعريه تنتمي الى سعدية مفرح وحدها، ولحين نظل امام فيض من مشاعر مختلفة ناتج عن هذا التنوع الصوتي الذي حفل به الديوان، فمن المغامرة بالصوت الصوفي، الى الذات الحاضرة التي توجه المعنى، ثم تتتالى صور عاصفة تطاول المستحيل وتحيل الفرح المباغت الى حزن متمكن يحتمه الفقدان العاطفي او يرتفع في الصوت في اشراقة متأنبة متهلة واعدة بانتصار الروح.
يستهل الديوان بمقطع من المواقف والمخاطبات للنفري (سيأتيك الحرف وما فيه وكل شيء ظهرفهو فيه… لخ)، فنتهيأ لاستقبال شعر يتلبسه حس صوفى من نوع خاص، يشتبك على نحو ما مع جدلية الشعر في مخاطبة الوجود، ففي (وعود المطر) وهي قصيدة حب تمتح من معنى حب صوفي يعلي إلقلب ويسفل العقل، حيث يتقلب القلب من حال الى حال، تتبنى جدلية القصيدة على ثابت ومتغير (محب/ محبوب)، هذه الجدلية تطرحها القصيدة في عدد من الحركات المتتابعة:
في الحركة الاولى يبرز الوعد الذي تمنحه ارتعاشة القلب عند لقاء الحبيب:
(حين اتكأت على سور قلبك، ذأت صباح بعيد تقاسمنا
فيه ارتباك الخجل…. تفاقم في خاطري أن أظل)
لكن حجم الوعد بديمومة الحب هل يظل، هذا ما تكشف عنه الحركة الثانية التي تبدأ باستدراك
(ولكن حزنك… هذا الانيق الرقيق المطل على خندق من عل
يباغتني، فأغمس وجلي ببحر أساك الاجاج اذ تطير النوارس
مذعورة تتلهى ببقايا الهياج)
ينسكب الحزن على العاطفة المتأججة, وتدخل الطبيعة طرفا في العلأقة الثنائية فنكتشف أن الوقفة بالمحبوب لا تعتمد الذوبان الصوفي بل تخالطها المشاعر.
وفي الحركة الثالثة تنتهي بنا اللحظة حين يباغتنا اليأس
(يباغتني يأسك فارسم في راحتيك…)
هكذا يتأكد الفقدان في الحركة الرأبعة ترتد الشاعرة الى ذاتها لتعايش حالة الوجد، ألفقد فلا تجد غير صوتها تغازل به الالسى والحبيب البعيد (أدوزن صوتي حداء)
وفي حركة إلنهاية تيقن في كشف مباغت ان النزق قد اضاع احب (يباغتني طيشك اذ تنقض كفيك فتهطاط بين وعود المطر)
القصيدة الثانية وهي (الخروج الاخير) تعتمد على نحو مغاير في البناء قائم على معطيين الاول المحاكاة والتاني الصور الجزئية.هذه المحاكاة تحيل الصوت الشعري ألى مناغمة صوفية للأثر:
(وقال لنا:اهزجوا بالفرلح، وقال لنا اخضوضروا بالاغاني، وقال لنا اميطوا إلاذى عن ذكريات الطفولة، تم قال لنا
اذ رآنا منشغلين بدفع الطحالب: لا تموتوأ) تتم المحاكاة الاستهلألية باقتدار وخصوصية تتجاوز تهلهل النثر الى فيض الشعرية.
الصور الجزئية:
هنا يتجاوز المتخيل عند الشاعرة بنا حد المعقول ليشبع التجربة بموجباتها فينطرح من خلأل مجموعة من الصور الجزئية المتتالية التي تماثل الشطح:
(نطلع الآن تماثيل يأس، وقفنا منتظمين على شرفات المنازل،
والشموس التي كانت تغازل بشرتنا الناعمة ما برحتنا، ولكنها قشرتنا…)
3- أول القادمين:
تنتهي بنا الدفقة الصوفية التي طالعتنا في القصيدتين السابقتين، ويبدأ نوع من التنوع الذي اشرت اليه في (المدخل)، فيجيء صوت الشاعرة في اول القادمين محملأ بالصدى والحلم بالصمت في بناء انسيابي قائم على التتابع
(هل يطول انتظار المدى كي يظل الصدى، كأن الذي بيننا حلم صامت)
يأخذنا الحلم الصامت ألى وأحة المستحيل تارة في محاولة لاستعادة ما لا يستعاد:
(يا أيها الحلم المستحيل يا ذكريات النقاش العنيف واندلاق الكلأم الموشى بالغناء الاليف)
ثم يمضي بنا تارة أخرى الى ايغال
4- أيغال:
حيث البناء قائم على المداخلة بين ثلاث دوائر:
– الطبيعة الشاعرة:
(تدلت عناقيد حزني من سلأل البنات)
– والذات الحاضرة:
(تدليت.. من كوة في قلب هذا الحبيب)
– و الزمن:
(تدلى أواني
من زمان جميل
مضى وانتهى)
حيث يشاغلها حزن رومانسي ثم تجمع ما نثرت في نهاية المقطع الاخير في صورة فنية لا تكتمل الأ بقراءة القصيدة كلها فتتأكد المداخلة التامة بين الدوائر
(تدلت عناقيد حزني
تدليت
تدلى إواني
ولكنني لم أزل موغلة في زماني)
5- تغيب فأسرج خيل ظنوني ثم نقرأ القصيدة التي منحت الديوان اسمها (تغيب فأسرج خيل ظنوني)، حيث البناء تائم على الغنائية، ولا توقف بحيث تتبدى كليتها مطلقة بلأ فواصل، هذه الغنائية يدعمها من الداخل
– إصماتة صوتية
(صمتي هذا الغريب المريب، تغالب وجدي هذا السليب)
فالباء المتكررة تؤكد المعنى وتضفي على المقطع موسيقاها الخاصة التي تمتد الى دإخل القصيدة
(غيابك نهر غضوب وحين يكون أخضب كل عرائس شوفي ملأئك حب) وحتى تصل بنا الى المنتهى
(كيف يكون الغياب حضورا، والغياب سراب)
هذه المحافظة على اصاتة الباء غلبتها ودفعت بها الى استحضار المعنى نثرا الان الاوجب للشعر أن يكون الحضور سرابا
– تسجيع ومجانسات لفظية
(يصرن شموسا يراقصن موجك منتشيا بهذأ العلى الابي الفتى)
ويمتد التذاذها بالتسجيع والمجانسة
(ويندأح فيض الهديل العليل صلأة لطقس النخيل المخضب بالعود والورد والند والطلل)
هذه الموسيقى المستمدة من وقع كلمات ذأت جرس واحد، مثل "الهديل / العليل " و"الورد / والند " ليست محضا حيلأ فنية، بل هي تؤكد محاولة تقريب الشكل من المضمون، وتعطي القصيدة خصوصيتها التي تشبه العزف المنفرد على وتري الغياب والحضور اللذين يصبحان عند المنتهى صنوين
6- ثم يتلو ما سبق مجموعة من القصائد الغنائية، ففي (النهارات الجميلة) يستحيل الزمن ألى ذكرى، حين نستعيدهـأ تترأوح بين العادية وغبر العادية، بين جدلية النهار والليل، حيث ينسخ أحدهما أحاسيس الآحر
(تمضي النهارأت الجميلة عادة عادية)
لكنها حين تؤول الى ذكرى:
( لنذكرها، فيسيل كحل رغبتنا وتضج بالاثم الصلأة المستحيلة تمضي الى صمت يشظينا..)
7- وفي (سطو) تبرز احاسيس عدمية تغطي مسطح القصيدة بمخاوف الموت التي تتبدى في (غابة من الصديد، تسطو، على أفق روحي) ذلك الصديد الذي يتهدد الروح يصادر كل المفردات الشعرية التى تساوي الحياة نفسها (تصادر، شطآن قلبي عصافير قلبي، أمواج قلبي) وينشأ صرأع بين الموت الحال والحياة التي تنجسم في ارادة القلب
(لكنه مثل ديك صبي ينفض أدرانه ويصيح، في كل فجر جديد)
8- القصيد ة (و طني) حيث القصيدة سلسلة من العبارات المتتالية البسيطة الواضحة كل الوضوع، تفضي الواحدة ألى الاخرى كأنها تناغم النشيد بما يناسب ألمقام، أليست البلأغة بقول الجرجاني (ما جاء من القول مطابقا لمقتضى الحال)
هنا تتوارى الصورة المجازية القائمة على ايجاد علأقة ليست موجودة في الاصل عند الموازي الواقعي التي فاجأتنا في القصائد السابقة، وينفسح المجال لنوع من التناغم الداخلي والعلأقات الجدلية الممنطقة طبقا لقانون القصيدة وحدها (ولو فتشوا، أنت في القلب ذاكرة)
حيث تحيل الشاعرة ما هو منتسب أصلأ الى العقل الى محض عاطفة، فهي تهب الذأكرة للقلب ليس من خلأل علأقة مجازية بل من خلأل تقرير اخباري وحين يصبح الوطن محبوبا بمفهوم الابدال النفسي للمعطى القبلى، ترتفع به الشاعرة الى كيان خفي قدسي (فلن يجدوك، وإن وجدوك أنت باه شفيف كغيم)
ثم تعلو بالعلأقة في حنو شجي كأن الوطن حبيبها وحدها (فلن يعرفرك، وان عرفوك أنت باق فلن يأخذوك)
وهي تتخذ من علأقة التأكيد والنفي القائمة بين (إن) و (لن) أساسا لطرح العلأقات ألجدلية ألقائمة داخل القصيدة بحيث يصبح الصراع وأضحا جليا بين المحب والكاره.ثم تخرج في النهاية وتعلو بالعلأقة عن فرديتها الى الجماعية حيث يتحد الوطن في المجموع (فلست تموت، وإن مت في بيت قلبي، فهل تموت في قلب كل البيوت)
لكنها تسقط في خاتمة القصيدة في أفتراض بائس (وان مت في بيت قلبي)، لأن الوطن الذي لوحت لنا في أول القصيدة بوجوده الخفي المسيطر لا يجوز لها امكانية موته في قلبيها حتى وان سألت (فهل ستموت في قلب كل البيوت).
9- ملأمـح كائن نبيل
قصيدة من أربع حركات تذكرنا بتقسيم السوناتا، فالحركة الأولى (حديث) الايقاع الموسيقي يتحد باللغة على نحو من هدوء متعمق حزين، الامر الذي يبطىء موسيقى اللغة ويحد جوأنبها ويوشيها بمشاعر رومانسية، جدليتها (هو / هي)
(حديثك غيم، وحزني رمال اليباس القذيم)
والحركة الثانية (مجىء) متصاعدة سريعة تواكب تسارع حركته (هو) فقط
(تأتي كريح البدو، تشدو بالاغنيات المغريات)
الحركة الثاللة (رحيل) توضح التناقض بين المجىء ولوعة الرحيل، فينلكس بطء الوقم الدي يصاحب المشاعر الخاصة بـ (هي)
(تتعلق كلماتي العجلى بركاب رحيلك).
الحركة الرابعة (اطلألة) تأتي متأملة ذاتية متفلسنة تستمد نفسها من موسيقاها الدأخلية
(هل أروع من أن تملك عينين، اتطلأن على خارطة الكون، عبر زجاج النظأرات الطبية)
هكذا بعد زمن حين يصبح الرحيل فراقا والزمن ملأمح وعيونا تطل فى عتمة البئر والذكريات فلأ نرى سوى (هشيم الكلمإت أخجلى، وسيول حنان)
10- ثم في مجموعة من القصائد القصيرة الغنائية المتتالية القائمة على الرؤى الذاتية للشاعرة وعلى الصور الجزئية، نقرآ:
قصيدة (معادلة) وفيها تغازل الشاعرة ذلك التوق الأصيل للأنعتاق من القيود التي تفرضها الحضارة على الحرية الشخصية
(كلما حكت ثوبي من الرمل والماء، ولبسته متباهية، ذات عيد سعيد، توهجت بالرمل مهد القرار، وسالت مياه الحضارة خجلى نحو بيد القرار.) وفي (وحدها) خروج على أجماع القبيلة وتأكيد على ذات الشاعرة وأكثر على حريتها المستمدة من تحققها بالفن والقصيدة:
(الفتيات الجميلأت، يتسربن، نحو ثقوب الحياة السعيدة والتي بقيت وحدها، تفتش بين خبايا الكلإم اجتباها نورس أن هيام فاصطفاها فتون القصيدة)
وفي (لا عزاء لها):
نزعة فلسفية قديمة توازي ذلك الحس الصوفي الذي يتواتر داخل القصائد، ليجسم لحظات بعينها من فرع او أسى أو خوف من خلأل مفرداته الخاصة، غير أنه هنا يجىء ممتزجأ بهذه النزعة الفلسفية التي قال بها الطبيعيون، وهي أن الكون كله وحدة واحدة، ثم أخذ بها الرومانسيون حين آمنوا بأن إلطبيعة تتحد بمشاعر البشر، تقول القصيدة:
(نفرح للأرض اذ يزف اليها المطر ترى من يعزي السماء، من يؤبن إبناءها إذ تتلاشى الغيوم)
هذه القدرة على الفعل التي تفرضها اللغة داخل المقطع / القصيدة لعناصر الطبيعة حيث المطر يزف الى الأرض، والسماء تفقد المطر ابنها، فيتأكد المعنى الطبيعي بالاتحاد بين العناصر، لكن من يوقف جموح الشعر وتقلب أحواله إلظاهرة بالشعراء وهم و كل واد يهيمون، عندما تعود الشاعرة ألى تأكيد أنسانية المعنى وتفرده وانفراد ألانسان به في قصيدة (لا أحد) كأنها تناقض الموقف السابق وتؤكد في آن واحد (من يعزي الحبيبة حين يموت الحبيب غير أن تدفن رأسها وألفضيحة بين رمال النحيب)
موقف الفقدان الذي ولعت به الشاعرة في غير قصيدة بين ثنايا الديوأن، هنا يفارق في البناء القصائد الاخرى (راجع ملأمح كائن نبيل، وعود المطر) فهو يعمد الى بساطة العبارة ووضوحها، والتماس الشعر في ألمعنى الكلى المنبثق من حالة الموت المباشر الذي يفرق بين الأحبة, بينما في القصائد الأخرى يزاوج بين المشاعر والطبيعة ويعمد الى محاولة تأكيد الحالة او اعلأئها بالصور البلأغية، ولا يفسد جمال القصيدة وبساطتها وبناءها سوى كلمة واحدة هي كلمة الفضيحة، فحالة القصيدة قائمة بدونها واضافتها تعني احالة الشعر الى ميلودرإما قديمة، بالاضافة الى خروج ألكلمة عن السياق التشكيلى القائم على تلمس حزن الفقدان.
ثم تجيء قصيدة (نورس القلب) على مبنيين هما أمتزاج الانسان بالطبيعة، وتداخل المشاعر في المعاني، هنا تعلو حالة من الوجد والتوق متخذة من كلمات الاستحالة لولا، حتى، لو، أداة لتصل بناعند نهاية القصيدة لإنعدام الفعل أو توقفه عن التحقق، ففى المطلع (نورس القلب، هذا الحرون المعنى يجادلني حين أدعوه حتى يؤوب، يقول موات هي البيد، لولا خصوبة هذي الرياح الغصوب أقول مودعة: لك البحر) والحركة الجدلية القائمة على المحاورة تنتهي الى حالة من الادراك الساطع المشوب بالحنين والألم اللذين تنتهي بهما القصيدة:
(مالي سوى اسمه، اذ أفض بكارة هذا البريد ولكنه لا يجىء)
لكن الشاعرد في (ليتني استطيع) تفقد خيط الشاعرية، وتكتب نثرا شعريا تقص فيه عن امرأة من زميلأت الطفولة، كانت الأجمل وألابهى تم سقطت في تجربة حب وزواج أضاع فرصتها وبهاءها، وتحاول القصيدة أن تمرر لنا الشعر في لغة وأقعية حكاءة تقريرية، تقول في نهاية القصيدة (لكنها الذكريات، وسود ثيابك، ووحدتك الباهرة).
وفي (اخوة) تراوغنا الشاعرة والقصيدة حين نحاول مقاربتها واكتشاف معاملأت الشعر عندها، وفي حداثيتها تقلب العبارة القديمة المعتمدة (أن المعنى ألكلى ليس من الشعرية في شيء، ألمعنى الجزئي هو أساس الشعرية) بحيث يمكنها اعادة الصياغة علي المحو التالي (ان المعنى الجزئي ليس من الشعرية في شيء، المعنى ألكي هو أساس الشعرية)، ولا تسمح لنا إلا بقراءة القصيدة كلها, حيث يقع التناقض من المفتتح (يقفان…. وتجلس)
وتتمتل علأقة الاخوة الثلأثية في ثنائية الموقف في المقطع الثاني.
و (يتدفق هدر النصح الأفخم يتفق الرجلأن على مقربة منها أن تقتل) يتبلور الموقف ويصبح التناقض التام واضحا، بما هما ممثلأن للقهر وبما هي ممثلة للتمرد، وفي المقطعين الثالث والرإبع، تكشف الزيف وتتجاوز الوهم فهى:
(تلتف برث عباءتها الانقى وتنام)
وفي (فنان تشكيلي) تطرح الشاعرة علأقة الفنان بالآخر وبالاشياء بما هي وجود فني يناقض الحياتي العادي، ويخالطه التصور والظن، وكأنها تستلالم ايليا ابوماضي في بيته الرائع:
ومن نفسه بغير جمال لا يري في الوجود شيئا جميلأ
ومن يقين بأن الفن نقيض للواقع وموأز له في آن واحد، وبمقدار الجمال والقوة الفنيين يكون الحكم له اوعليه
(كانت عيون الصبايا الجميلأت أبهى والورق المدرسي أبهى، والمدى نحو كل البلاد طريق، والضياء الذي حجبته الستائر هذا الصباح بريقا يستحلبه الآن ومضة.. ومضة)
فالعلأقات الفنية في الموضوع ألخارجي بالنسبة للفنان ليست الأشياء بما هي عليه بل رؤيته لها، احتضانه النفسي، حنوه وترفقه او حتى ابتعاث الجمال من قبحها وتشظيها, هذه الرؤية وان كانت للفنان وحده فهي أبدأ ليست أحادية ثابتة بل جدلية دينامية، وجزاؤه الإبدي:
(يروى العطشى ويظما في جانبيه الحريق)
في (الرهان الأخير) يخاتلها الشعر وتفر جنياته الندأهة, ففي هذه الغنائية القائمة علي تكريس النص المبتدع لحمل عدد من العلأقات بين المطلقة والنسبي (الضفاف- الإله- الماء- الفضة- النخيل)، وفي محاولتها لانتظام محموعة العناصر المتنافرة أصلأ تلجأ الى بعض الصياغات الجاهزة التي تسربل العلأقة (من سريالية) في خروج عن قانون كليتها (ربهـأ… بحت يوما برهاني الأثير سأستله فضة رائقة تنتشي في ضفافي)
يظل البناء قلقا منذ المفتتح، فيختفي القصد لكن المتضمن لا يشي به، ولو استثنينا ما دأب شعراء الحداثة من الولع به من (فضة رائقة، وضفاف مشتهاة) سيبقى
(كل شيء احتمالا ذكيا للرهان الاثير) هكذا تفقد القصيدة دفعها وتلتمس النثر فتتلأشى الشعرية.
لكنها تعود لتدوزن صوتها وعودها العربي، فتتسق النغمات وتتقارب وتعاود العزف ففي (اختلأف) صورة نفسية لخلفية الحب عند كثير من الرجال والنساء، حيث يراه الرجل لحظة عابرة، تراه المرأة بدءا وانتهاء، ثم تعلو باللحظة، فالذي يساوي عنده هزة النشوة الزائلة يتعادل مع حزنها السيال وتوقها للحب الأبدي:
(أعرف
انه المستحيل
أتراه كذلك؟
وأعرف
أنك في أوج ذاك العناق الطويل
كنت تراها، لحظة عابرة
وكنت أراها، البدء والانتهاء
فكان انتشاؤك حزني)
(فتنة الشجر المشتعل):
هي قصيدة تعتمد نهجا تركيبيا من ثلأثة مقاطع، تتصدر مفتتح كل مقطع (ضحكته) وهي تقيم جدلية القصيدة على ثابت واحد هو انعكاس (ضحكته) على مفردات الموجودات داخل القصيدة مستخدمة الصور التي تقع في عدد من التتاليات الممنطقة بمنطق خاص يناسب القصيدة، يزاوجه بناء للأصوات مستفيدا من وفي القافية بما يمثل (موتيفا) غير كاملة
(وضحكته
فضة وصهيل
لها عبق من أس دافق
ينداح بين السهوب
وابتهاج خيول رائق، ونبيل)
ويستمد المجاز نفسه من التشبيه بـ (مثل) التي تمتد من المقطع الثاني بعد افتراضها مرة في مفتتحه
(وضحكته الحلوة
مثل حلى الصبايا الصغيرات
ولثغة طفل خجول)
ثم مرة أخرى:
(الحادة مثل سيف يعلقه على هامته شموخ
القبيلة
المستقيمة مثل شارع من ضياء، سيجته
التفاصيل الدقيقة)
ويظل التشبيه ممتدا عبر المقطع الثاني ليلحق أثره بالمقطع الثالث دون الحاجة للأداة:
(وضحكته
الأمارة بالحب والحرب والكلمات
الأميرة بالنغمات، سليلة كل الجهات،
تشبه فتنة الشجر المشتعل)
وفي (هل يعود) تعود القصيدة الى الحومان حول الفقد فتجسده في لحظة وداع قاسية بين رجل وامرأة، وتعتمل بالمشاعر الانثوية المصاحبة، وبما يمثله الرجل في المتخيل حين يصبغه الحب، فيبدو أكبر وأجمل وأذكى وأحكم، عندها تصبح لحظة الفقد مساوية للضياع التام والحزن المتمكن الذي يلف أقدامه كالاخطبوط حول الروح، تقول القصيدة:
(صب أحزانه
في قاع روحي
ومشى
لم يقل لي: تعالي)
تتصاعد التجربة فتصبح الروع في منطقة وسيطة بين اليأس والرجاء، وتتمهد للخروج من جحيم التجربة، أليس الحب كما يقول جلأل الدين الرومي (الحب عذاب، الحب يقتل)
(لم أره
لكن الرياح التي ودعتها لوقت طويل
إخبرتني
اذ رجعت من دونه بالشجن
أنها شاهدته لآخر طقس
يشير الى إلشمس)
وحين يصير الفقد يقينا صراحا:
(لم يعد
ولكنها بزغت في مخدعي
باسمة، شمس هذا الصباح)
تعتمد القصيدة نهجا قائما على التتالي بمعطى درامي في الأساس الا انه يعطي التجربة امكانيتها وتماسكها.
وفي (كتبي) وهي قصيدة تبدأ بمقطع نثري قصير:
(في مكتبتي كتب لم أفتحها،
أخشى اذ أفعل
أن اتلأشى بين رياح الكلمات المحمومة)
شيئا فشيئا ندرك أن العلأقة بين الشاعر والاشياء (كتبي) ليست علأقة ثبات بل علأقة تفاعل، فمن هذا الخوف الذي يتلبسها ينطرح خوف أكبر، يتتالى:
(أو اغرق تحت سيول الكلمات الهادرة
أو اتجرع عاصفة الكلمات، فانفجر)
وفي المقطع الثاني تحيلنا الى حالة من الحزن الوجودي الدفين من مرور الوقت دون أن نبلغ المعرفة، بل والتأكد من مروره دون أن نفعل
(في مكتبتي، كتب معلقة
مازالت تتزايد كل نهار
ترى
هل تكفي كل مساءات العمر الآتي
لقراءتها)
(كيف أتم القصيدة) عنوان أم سؤال، هو كلأهما بالنسبة للقصيدة التي تنهي بها الديوان، فالفنان حين يصيبه ما يعرف في السيكولوجيا (writer block) او التوقف عن الكتابة يفعل المستحيل في سبيل الدفاع عن موهبته، لكنها هنا التجربة الشعرية نفسها تتساءل (كيف أتم القصيدة؟
هل أسمي الحفيدات بأسماء جداتهن؟ "
وتصعد بالتساؤل الذي هو مناط البناء
(أم أتصيد فرحا عالقا في شباك البساطة)
لكنها في الظلمة الحالة بالسؤال تكتشف الشعر:
(أم أيمم كذبي شطر السماء البعيدة، فتكون القصيدة)
وما الشعر؟ أهو الشعلة المقدسة المختلسة، الجذوة التي تضيء بصيصا في روع الشاعر حين يدين له القلم، وهي أيضا ذات النار التى تؤلم حين تراوغنا التجربة
خاتمة:
في هذه السياحة بهذا الديوان، وعند نهايتها أجد أن قصائده متنوعة مستفيدة من المعطى الشعري على امتداد حركة الشعر الحديث منذ نهاية الاربعينات وحتى وقتنا هذا، لكن بقدر الاستفادة بقدر الخصوصية، بحيث يمثل الديوان وشاعرته اضافة خاصة، لعل قراءتي تكون قد أضاءت بعض جوانبها.
جمال زكي مقار(كاتب من مصر)