عليّ أن أصمت يا هالة،عليّ أن أصمت.
آلاف الكلمات.آلاف من الكلمات،لأجلها
عليّ أن أصمت،عليّ أن أحمي خيبتي!
هي شجيراتٌ تزرَقّ بداخلي مثل نجوم مختنقة،
وعطرُ أزهارها يسيل من فمي المرتجف الداكن.
وجهُ اللحظة هذه كأنه سماء في حضني!
الشفتان مطفأتان ساهمتان، وقلبي هناك
مذهولاً ويرتعش مثلما طفل خائف
يركض على أرصفة سوداء باردة!
الشِّعر،الشِّعر.آه نضوجُ غياب أبديّ.
أيتها الحجارةُ المارّةُ الناصعة لا تؤلمي أحداً غيري،
لا تعنفّي المراهقَ الذابلَ عند الناصية مثل جرو جائع!
هذا هو عملي الضئيل كزهرة أولى على شجرة صغيرة،
وعينٌ خلف زجاج نافذة، وملاكٌ خلف سياج أحمر؛
حيث العاشق، كالمعشوق حائر، لا يحرّك ساكناً، لا يُرَى!
رغم حديد العالم، عليك أن تثقي بقلبي مثلما بكلب ذهبيّ،
مثلما ريشة تطير عبر شفتي الهاذيتين، شفتي الملتهبتين مثل عيني،
ومساءٌ بينهما، برهة، مثل توهّج عود كبريت أخضر الرأس!
لمسَتُكِ، أو فقط أثر أصابعك على كوب الفودكا الباردة ،
أقفلت عيني كي لا أراكِ، لئلا تتحولي إلى شيء حقيقيّ،
أرفعه معي خوفَ عشرة سيول تجرف روحي إثركِ!
دعكِ من كل شيء، وأنا من سيرسم ظلالك،
أنا من يلتهم قلبك.أراقبك ضاحكاً،
وأنتِ تنزعين دبابيس فستانكِ من صدري!
كبحّارٍ حالمٍ في جزيرة ذات تلال بيضاء،
هو قلبي من شجرة إلى أخرى،
يخاطر بالطيران؛ رجاءَ ألف عشٍّ صامتٍ!
رأيتُ كلَّ الأحاسيس، ورأيتُ القلائد والأساور،
لكنْ فقط قرطاك المتهدلان الناعسان، وساعةُ يدكِ
الفضيةُ؛حيث يشعُّ حزني، حيث يشعّ حزني!
السماء بلا حياة، ولا شيء أقرب من قلب الحيوان.
صمتي ينمو مثل زنبقة تصدّأتْ تحت المياه،
وحنيني يلفّك، يجمّلُكِ مثل شالٍ على كتفيكِ!
اتركيني، لحظةَ انسكاب نجمة، أظنُّ أنكِ قربي.
أنّكِ لا تزالين تحرقين أنفاسي بين أسناني.
شجاعٌ؛ ذاك الذي يفني نفسه مثل نسرٍ!
غائباً، غائراً، كنصل الندى في ضلع الفجر،
سأبقى قربكِ مثل هالة حول القمر،مثل
رطوبة شفافة تحت ساق بنفسجة برية!
يكفيني أنكِ تتذكرين الفجرَ، تراقبين الأزهار.
لا أعرفُ إنْ كنتُ سأحيا بعدكِ مثل بخارٍ ثلجيّ،
وإذا متُّ أيضاً مثل حمامة بين يديك، مثل أمنية!
بلى، جبل الأمس، كان الأفضل،
لأن الذاكرة- بلا عبء- مرآةٌ نقيةٌ؛
تعرفين كيف تعكس وجهكِ داخل عينيّ!
امنحيني كلمة تشبه فمكِ المغلقَ،
أنظري كيف تشعلين قلبي.
كلمة واحدة، ولا شيءَ غيرها سواكِ!
الكلمات التي تترنح ليست أبهى من طعنات خرساء.
دعي اللغات تمضي وحيدة، دعيها مخمورة مراوغة فاسدة.
أعطنيها يدَكِ المشمسة؛ حيثُ ينبض قلبُكِ في وريدِ رسغك الشهيّ!
إني أتبعكِ على درجٍ حجريّ؛ نشطة أنت مرحة
كزهرة شمس، وفمي مغلق على قلبي، وعيناي
في شعركِ، وعيناي على كتفيكِ.
عبر اللهب، هما عيناكِ، عبر اللهب في
أصابعك الوردية، أمرّ وأنحني مثل كاهن،
أعود وأرتمي مثل شحاذ لا ترينه أيتها النائية.
أبعد مني، يا هالة، صوب شرّ أقوى من الخلود ذاته،
ها أنا ذا أستسلم مثل سكران مُهان، وعلى يدي
عبير جسمك، وعلى يديّ طفولتي.
أيها الحبّ، أيها الحبّ
أيتها الحمرة الطاهرة،
أيتها الأشجار المضاءة.
تلك الابتسامة، تلك الابتسامة
مرة أخرى امنحيها،
مرة أخرى لعيني المنتظرة.
لا شيء يرتجف مثل الحنين،
ويدك بين يدي،
وقلبانا كرتان فوق العشب.
فوق العشب، فوق العشب،
وقلبانا كرتان بين أقدام طرية،
وأنت لا تعبئين، وأنا أخفي دمعتي.
يجب أن أصمت، يا هالة، يجب أن أصمت،
من يجرؤ كتابة نظرة واحدة،
من يجرؤ النظر في عين تبتسم!
خصلتان من شعرك فوق حاجبيك،
ويداك متعانقتان تحت صدرك الممتلئ،
صدرك وأنت طفلة، صدرك وأنت ميتة.
شفتاك ملتصقتان بنعومة كبتلتين مبللتين،
وأنت تخفين تموّج الظلال في وجهك،
وأنا مثل هواء أمامك، وأنا أحملك عنكِ.
أنفكِ الجميل، يبتسم، أنفكِ أيضاً يبتسم،
وخطانِ نصف دائريان على جيدك،
وخاتمكِ الذهبي الملتاع بحجره الأحمر الصغير.
وخلفكِ حواسي كلها، حواسي كلها خلفكِ،
وأنا أعضك بعينيّ، وأنا أشمّكِ بجلد نحري،
وأنا أتذوّق ليلكِ، وأنا أُلبّي نهاركِ.
ما أنت سوى فرحة نزيهة، سوى التفاتة
مسائية نادرة؛ حيث أتعبتنا خطوات الجبل،
حيث رافقتنا أفجارٌ نديّةٌ شاسعة.
عليّ أن أصمت يا هالة، عليّ أن أصمت.
مثل طائر بلا قلب، مثل غيمة في عين ثور،
عليّ أن أصمت، عليّ أن أبدعَ اسمكِ.
وفيما أنا أترنّح، وفيما أنا أهذي،
تحيطين عجزي بذراعيك الباسمتين،
تقبلين رأسي، وأنا أفقد عقلي.
ونقف مثل ظلين خلف نافذة حجرة الراهبات،
لهبُ الشموع يوهّج أيقونة بحجم كفك المقبوضة،
وأنت تقرئين صدفاتِ الحلزون، وأنا أخشى لمسكِ.
وأنا أخشى لمسكِ، وأنا أخشى لمسكِ
وأنت مثل مروحة نبات منعشة،
وأنت مثل دمعة مرة ساخنة.
وأقول إنك ابنتي المرهفة الخاسرة،
وتقولين إنني ابنكِ الطائش الغائب،
ونعرف أننا سنولد مثل النسيم،نولد.
مثل النسيم نولد، مثله برقة نزول.
لا نجد بيتاً يليق بأقدامنا، لا نجد آثارنا،
وأقدامنا تحمل جسدينا، مثل شمس بين الغيوم.
مثل شمس بين الغيوم، مثل شمس بين الغيوم.
لا الغيوم تمطر أو ترحل،
ولا الشمس تذبل، لا الشمس تسقط.
يجب أن أصمت يا هالة،
مثل حملٍ خانته السماء،
مثل كلمة لم يسمعها أحد!
عليّ إنقاذ لساني، عليّ إنقاذ لساني؛
هذه الزهرة ذات النسغ اللين،
إنها الوحيدة التي تشبه حليبكِ .
ربما لأنني وحيد،
والعالم لا يكفي نظرتي،
بحنان يكفيني ضمّكِ بحنان.
رباطُ حقيبتك البنية يشدّ كتفيك إلى الوراء،
ثنْيةُ سترتك القطنية تغمضُ عينها على مرفقك،
وعلى ذراعك أصابعُكِ خمسُ قبلاتٍ تضغطُ على ذراعك.
أيتها الأحلام إنّكِ تقتلينني، أيتها الأحلام.
إنّ فمَكِ معذَّبٌ، إنَ دروبَكِ محيِّرة،
وتخومُكِ مرعبة مثل ترابٍ بلا بيت!