نزوع
كدأبِ الطفلِ والصوفيِّ و العصفورِ ،
ألْوي هارباً مِنْ أرضِكم،
كالعيسِ أتلو رأسيَ المصدوعَ مِنْ سُمِّ الفضائياتِ والحاسوبِ،
أجْري مستغيثاً بالقرى مِنْ نشرةِ الأخطارِ،
فاحتاطوا لمهوى جثتي بين انفجارِ اللونِ والتكوينِ،
إني راكلٌ خلفي وصايا الكاهنِ الأعمى
سلاما يا طلولَ الروحِ، يا أنقاضنا الأسمى
أنا المستأنسُ الآليُّ،
باتت تنكرُ الديدانُ والأشجارُ والأحجارُ مَسْخي
الآدميَّ، الفاجرَ، المسحوقَ في فُرْنِ الحضارةِ،
أحْتمي بالزرقةِ العظمى ؟
سأجتازُ المرايا للفتى المنسيِّ ،
لمْ يبرحْ يسمِّي الطيرَ والأصدافَ ،
يحكي في نواحي حَيِّهِ
عن بطةِ الجيرانِ تَنْقرُ نومَه عند الظهيرةِ،
عن ( عريشِ القيظِ ) جَزّوا ظلَّه،٭
عن موسمِ ( القُفَّال )٭٭
عن سلمى
دعُوني.. لم أثقْ في ربِّكم
هذا الحديديِّ، الكحوليِّ، المرابي،
مُدْمنِ الكولا، المدَنَّسِ، تاجرِ الشهواتِ،
يمْسي عارياً ثملاً، يعاقرُ كأسَه النوويَّ،
لا تستغربوا لو قلتُ :
أبصرتُ المدينةَ كلَّها تهوي كفصلٍ من أغاني الروكِ،
والأرواحُ لائذةٌ،
وهبَّتْ كلُّ ذي حَمْلٍ إلى كوخٍ بدائيٍّ،
وآوى كلُّ ذي روحٍ إلى الغاباتِ والصحراءِ والأحراشِ،
واستلقى الإلهُ المعدنيُّ الهشُّ
مخموراً على سجادةِ الأفيونِ ،
تعْرِضُ قيئهُ الشاشاتُ ،
سُحْقاً.. لمْ أثقْ في ربِّكم هذا،
خذوني الآن شحاذاً أجدْ لوساوسي أُمّا
راهب الطرقات
أُفوِّضُ حزني إلى الدربِ ،
ثم أفوِّضُ دربي إلى الريحِ ،
أجْمَعُكم منْ بطونِ القفارِ ،
وأنْصبُ خيمتنا أسفل الجسرِ ،
في هذيانِ المدينةِ للعابرينَ ،
وظِلِّي تهيمُ به إبلٌ شاردةْ .
سأخرُجُ في الليلة الباردةْ .
أمرُّ …
النوافذُ لاهيةٌ ،
هلْ سأحرجُها لو سقيتُ القوافلَ من ضوءِ نافورةٍ،
أو تدثرتُ قبل الظلامِ بأغنيةٍ بائدةْ ؟.
سأسألُ :
كيف تشقُّ الجنازةُ خطوَتَها في الزحامِ ،
وتضْبطُ إيقاعَها حسْبَ أنظمةِ السيرِ واللافتات؟
وكيف سينجبُ هذا الصدى نجمةً .. نجمةً واحدةْ؟.
تركتُ شبيهي قديماً لدى مسجدِ الحيِّ ،
لكنه لمْ يزلْ كلما نبَّهتْني الحوافرُ
ماضيةً في السديمِ
أطلَّ يقاسمني يُتْمَه والدروبَ ،
وأنتِ هنالك حيث العواصفُ ،
ـ يا لهفي ـ
تحْملين الحريقَ برمَّته للحكايةِ ،
أيتها المستحيلةُ ،
أيتها الباعدةْ .
هنا نسِيَتْني الحمامةُ ،
لا قمراً ،
يا سماء دعيني على ضفتيك قليلا ،
دعيني لأهطلَ فوق هضابِ
الزمانِ الأخيرِ
أنا راهبُ الطرقاتِ العجوزِ
مضى باكراً يتَتَبَّع أسرابَه العائدةْ .
وضعتُ جبيني هنا
وتمددتُ ملء السكونِ ،
كأعمى ،
لأنصتَ في هدأةِ الكائناتِ
لما قاله القبرُ للشاهدةْ
الديار وراءك
الديارُ وراءكَ ،
ذاكرةُ البيدِ جارحةٌ ،
أوْهَمَتْكَ المَطالعُ
واليقظاتُ المَهيبةُ للبحرِ ،
أوْهَمَكَ الظلُّ ( قُلْ فتنةُ السنديانِ وغَفْلَتُهُ ) ،
أوْهَمَتْكَ البراري
تَبيتُ جِوارَكَ دائخةٌ في ولاداتها وجواثيمها ،
أوْهَمَتْكَ البروقْ.
الديارُ وراءكَ ،
والريحُ ضالعةٌ في العروقْ!
الديارُ وراءكَ ،
تلك مضاربُها والطلولُ ،
وتلك المواقدُ غارقةٌ
في رمادِ المواويلِ ،
تلك هضابُ الجميلةِ ،
كنتَ تساورها بالقصيدةِ يوماً ،
وهذي نياقُك سائبةٌ في مياهِ الشروقْ .
الديارُ وراءكَ
فارقْتَها مُذْ هتفْتَ إلى صاحبيكَ
( الصدى والدخانِ ) :
قِفا نَحْكِ سيرةَ أحجارِنا للعراءْ .
الديارُ وراءكَ ،
والآن ها أنتَ
مرتبكٌ في الزمانِ على
حدةٍ كالمقولةِ ،
خُضْتَ البحارَ التي لسْتَ تألفها
وتلبَّسْت بالعزلاتِ الأشدِّ خواءً ونأياً ،
شهدْتَ انصهارَ المواسمِ
كأساً .. فكأساً ،
شهدْتَ أفولَ السلالاتِ إبَّانَ هجْعَتِها ،
وشهدْتَ عويلَ العواصفِ عند حوافِّ النهاراتِ،
كنتَ تسوقُ اليمامَ إلى حلمكَ النبويِّ
لكيْ تسَعَ الأرضُ زقزقتينِ ،
وإمَّا تأوَّلَكَ المبْحرونَ وسابِلةُ الليلِ
أوْغلْتَ حتى تساقطْتَ مثل الوشايةِ
فوق ضفافِ العصور …
العصور التي انزلقَتْ كلُّها في ظلامِ الوراءْ ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭٭ العريش : نوع من الأكواخ المبنية من جريد النخيل كان يسكنها أهل الخليج ، بعضها سميك يستخدم شتاء و بعضها غير سميك ، ليسمح بمرور الهواء و يستخدم صيفا .
٭٭٭ موسم القفال : موسم عودة الغواصين من رحلات الغوص .