نجس هنا، وهي هناك .. مدينة أخرى مقترحة .. مدينة أول الضوء، وأول المعرفة، وأول الحب . مدينة لا نعرفها ويقترحها علينا الحلم بفرشاة الالوان الطاغية في يد الرسامة الطاغية، ترسم وجهي كبيرا على ارضية ساحة المرسم الآجورية، وتدعو الاطفال للعب عليه والقاء قشور البندق والبرتقال . وفي السماء عندما تعلن فوانيس الخيطان بداية الموسيقى بين شباك حانات البحارة قرب الميناء، تأخذني الى بيتها الصغير ضاحية المدينة . واخاف ان اهرب من طيشي وتفكيري في المواعيد المؤجلة على ناصية مقهى المثقفين الشباب .
وفعلا كدت اهرب من عقلها لو لم تفتح علبة "الهانيكان » الباردة، وتدندن بأغنية "جولين » تلك الفتاة التي خطفت منها صديقتها حبيبنا.
* .. وانا معها بوجهي المتعب من طول التجوال في المدن المستديرة في الضوء والمتاهة . وحالما التقتني ورسمتني وحوتني بأناملها الناعمة صرت أنا الوجه الذي حباني ودعا جسدي الى حمامها والى ملابسها الداخلية .. ثم ارغمتني الى الوقوف طويلا أمام باب ثلاجتها الصغيرة المرتكنة بين المطبخ والصالون للاستمتاع بذلك الفرح الذي تعلنه كما فتحت علبة هانيكان باردة، وهمست بتلك الاغنية الحنونة التي ابكت آخر صديقاتي في مطار وارسو شتاء 1979.
تركتها تغني أنا الوجه الذي أدخلته معها بيتها الصغير وتركته يتجول في ردهاته وفي عبق عطرها القاتل ساعة اسدلت الستائر على تلك الفوانيس البعيدة واشتعلت في الانوثة .
*.. كان الليل يفتح ذاكرتي على تاريخ هذا المدينة . ان عمرها في الظلام يكبر في الضوء المديد.. وان موسيقاها تغتال العقل .. وان النساء فيها يمرحن تحت فوانيس ارقتها كما تمرح الفراشات العاشقات للشعلة الأولى التي يطلقها الغرباء في ملاذاتهم ..
*..لم تكن تلك البنت الرسامة تكبرني بأي عام .. كان وجهي يقودها كطفلة فيلسوفة تبحث عن حديقة مشتهاة روتها الذاكرة، فتفتحت ازهارها وورودها كما يتفتح وجهي في الضوء.
كلانا من سلالة واحدة .. عاشقات للضوء وللمدن التي تشتهي عاشقيها في المساء.
*..انتهى المساء.. بدأت موسيقى الليل .. أقفلت آخر الشبابيك، وأحكمت الابواب الفاصلة الى غرفة نومها، لم افارقها، كنت معها بوجهي الذي نسج نوتة موسيقاها، ورسم طريق خطواتها الى غرفة نومها. .
في غرفة نومها كنت هناك في انتظارها.. تذكرتني ووجهي يلعب مع الاطفال وتكسوه قشور البندق والبرتقال .
سحبت اللحاف الى جسدها ونامت ووجهي في مقلتيها الى اول الحلم .. في اول الحلم دخلت .. رأتني بردان تحت برج المدينة الضبابي قرب الميناء.. نزلت من عربتها الرمادية التي تجرها الخيول الاربعة البيضاء وآوتني .. ضمتني الى صدرها راحتين .. وفتحت عيني على وجهها المضيء، وقد تسرب الدفء الى جسدي.. رأيتها تحبني وقد ضمتني بافتراس بمجرد عودة الذاكرة الى وجهي.
*..يا وجهي المرسوم في ذاكرتها.. أفاقت وقد قلت لها نامي يا رسامتي فالليل طويل، والمدينة منذ وقت دخلت الى حديقة اماسيها، اشعلت فوانيس شوارعها ونامت تحلم كما نحن ..
*..في الصباح عندما افاقت الرسامة من سبات ليلة كنت فيها حلمها الشديد.. رأت ثلاث نجمات من الليل الفائت تصبح على الشمس، وقد غدت مثل ثلاث بيضات مقليات بزيت البحر، الشمس راحلة وشاهدة، والنجمات المتألقات يغطسن في البحر قرب الميناء.. والرسامة امام المرآة تستعيد قيافة قوس قزح الشتاء لتمطر وجهي من جديد على ساحة الاطفال وهم يلعبون . وجهي الذي يشعل الفوانيس في المساء.. ويذهب مع رسامته الى بيتها الصغير ضاحية المدينة .
مدار الشهوة
كانت كلما دعتني الى تقبيلها اغمضت عينيها وضمتني بنزق، كم اهاب عينيها ولحمها الذي يرتعد، وشفتيها اللتين تمتصان عرقي وانهياري..
ثم لست ادري من أين أتيت من بعيد،تغادرني المصابيح الطافحة وأنا أقاوم خدري، وأعود الى البيت وخلفي جسد مازال يشتعل على الحصيرة تحت الكرمة ..
منذ زمن وانا احاول تفسير التعب اللذيذ الذي يسري في بدني كلما تركتها تحت القمر وأنصرف الى بيتنا عبر السطوح .. حتى رائحة عرقي تبدلت بتلك الرائحة التي اشمها حين أنهار.
منذ زمن وأنا طوع يدها عند الباب . . وافكر هل تعطي مثل هذا الحنان لكل صغار الشارع، ام لي أنا وحدي.
كان صغار الشارع يتلاشون من أمامي حين تبدأ تمسد شعري وتتحسسني وهي تلوك اللبان . ثم تطوقني وفي عينيها كلام حار لا أفهمه غير أنه يريد ابتلاعي.
– لا تحك لأحد هه، حتى لا أحرمك من هذه الاشياء.. هكذا كانت تودعني باديء الحال عند الباب وتضع النقود في جيبي..
منذ زمن وانا مجلوب الى تلك الرائحة. . حنى عندما أنام، حتى عندما انام كنت اراها تتعرى وتدخل معي الفراش وتكتم أنفاسي، فاتحسس رجولتي بين أردافها الحامية .. واصحو على الماء بين يدي أمي والسؤال القديم وقرص الاسبرين .
ماذا فعلت بي نواره؟!
ذات مساء ككل المساءات، كنت أنا والقمر فوق سطح بيتها، أتطلع وألقي بالحصى لتخرج من دارها وارتمي الى أحضانها كالعادة، فتلقي بي الى الحصيرة وتنهال على جسدي الصغير.
ألقيت بحفنة الحصى ولم تخرج . همست أناديها والبرودة فوق السطح تجلب معها بعض الصوت في المدينة، وكرمة العنب أحدثت صوتا عندما ألقيت بقشرة الجدار الكبيرة .. ونوارة لم تخرج لعادتي .
جلست أنتظر وعيني على القمر والحصيرة، والبرودة تثقلني بالرغبة، والسحب التي تمر على القمر تمر علي .. ولا صوت الآن في المدينة الا للكرمة الوحيدة ..
.. كدت أسقط لو لم أفق على صوت في الداخل ..
فرحت رغم ارتفاع صوت المؤذن واكتمال التعب .. وفيما انبعث الضوء من دارها على رقعة الحصيرة في الفناء الترابي رأيت أبي يخرج ويغادرها بالتقبيل .
سحبت بعضي مندهشا، واختلست النظر الى أردافها وهي تدخل دارها منهكة .
على صفعة الباب، لف السحاب القمر، فغادرت المكان أبكي؟!
سالم الهنداوي(قاص من ليبيا يقيم في قبرص)