كان صوتها شجيا وعلى شيء من الألفة, فبعد أن طرقت الباب لثلاث مرات كما كانت تفعل من قبل, فقد طلبت بنبرة ثابتة ان يفتح لها الباب, لم يستجب, كررت نداءها فلم ينهض عن سريره, اذ كان هناك في تلك الساعة المعتمة ما يغلق رغبته عن الخارج: عما هو خارجه وخارج غرفته, وفيما هو يسمع نداءاتها الملحة, فقد كان ولسبب لا يدريه عازفا عن الكلام, فلم يبلغها رغبته في الاختلاء بنفسه وكانت ستحترم هذه الرغبة لو افصح عنها, ثم قالت من وراء الباب انها ترغب في التحدث قليلا إليه ولبرهة من الوقت ثم تتركه في حاله, ولدهشته فقد شعر أن كلامها لا يعنيه وانه ليس المخاطب به, فإذا بها وببطء شديد وكما في الأفلام تدفع الباب, وقد أقلقه حينها ليس دخولها المفاجئ, بل اكتشافه انه ليس في غرفته, اذ لو كان فيها وليس في غرفة اخرى لاغلق على نفسه الباب كما يفعل دائما.
إنها هي المرأة التي سبق ان عرفها فاسعدته واشقته, على ان شعرها طويل هذه المرة وكذلك ثوبها أبيض. ورغم المفاجأة والاثارة القوية للماضي, فإنه لم يشعر نحوها بشعور خاص. أما هي وقد دخلت متسللة فقد فوجئت به وهو مستلق على السرير ساهما في الفراغ. اعتذرت له عن فتح الباب دون أن يأذن لها بالدخول, ثم سألته فيم امتناعه عن النهوض والوقت يقترب من الظهيرة, ثم بنبرة اعتذارية: إذا كنت تنتظر أحدا فلسوف أغادر في الحال. وسألته ان كان يشكو من شيء, وهل أصابه مكروه, وهل تطلب له طبيبا, ومنذ متى وهو على هذه الحال. ولما لم تصدر عنه نأمة أو صوت فقد زعقت به: ما بك. ألم تعرفني, هل تسمعني?
كان يعرفها ويسمعها, وكل ما في الأمر انه فاقد الرغبة بصورة شبه كلية بالكلام. وحين ادرك متأخرا انه ينبغي له وفاء للماضي الترحيب بها والرد على أسئلتها, فقد اكتشف عجزه الطارئ عن النطق وكذلك عن النهوض وحتى عن مد يده لتحيتها. أدهشه ذلك وكدره, دون أن يبتئس بالمرة, فقد زين له حينها ان اطرافه وأعضاءه تتواطأ وتتجاوب معه جيدا, في عزوفه عن الكلام والحركة. حتى سألت: هل احضر لك ماء. وما ان سمعها حتى أدرك عطشه. أومأ برأسه بالايجاب فاسرعت الى احضار كأس شفافة من مكان لم يتبينه. اقتربت بالكأس الممتلئة من فمه الجاف وسقته الماء من يدها الصغيرة? شرب الماء كله منتشيا بمذاقه الحي, ولكأنه لم يشرب الماء منذ زمن سحيق, ولما استعادت الكأس الفارغة منه, حانت منه التفاتة الى قميصه فإذا بصدر القميص مبلل بكامله, فلم يتمالك نفسه بعد كل هذا التحفظ من الضحك, تمتم لنفسه من شرب الكأس.. أنا أم القميص? شعر ببرودة الماء تداعب صدره, فقال بصوت مرتفع وهو لا يدري إن كان يوبخها أم يمتدحها: كيف فعلت ذلك.. أنت ساحرة.
وبدأ صدى صوته يتردد في الغرفة الفسيحة, كصوت ممثل متوحد أمام صالة بمقاعد فارغة. سمعته وضحكت وهي مأخوذة بالصدى لا بخروجه لأول مرة عن صمته, وقالت من خلال نظرات ثابتة لم يتبين ان كانت ودية ام عدائية: لست ساحرة.. أنت الذي خدعتني أولا. قالت ذلك باعتداد شديد وما لبثت ان اتخذت مظهرا شبحيا بلا قوام وانطفأت. وقد ترك اختفاؤها المفاجئ دوارا أخذ يعصف برأسه, حتى بعد أن استيقظ مما رآه في نومه. الماضي بحر قديم لم يجف ماؤه, وهذا دواره. انه دوار الماضي قال لنفسه وهو يبتسم بحياد, قبل ان ينهض ملتمسا قطرات ماء تبلل جفاف حلقه..
تحت المراقبة
الطفل الذي يناهز السنوات الأربع, اقتعد أرضا تتخللها أعشاب شبه جافة في حديقة عامة, وقد اصطحبته هناك لعله ينسى امه الغائبة ثم لاحظته وهو يرقب باهتمام شديد شيئا على الأرض.
سألته: ماذا رأيت?
قال: هذه..
وأشار الى نملة
ثم سألني ان كانت تلسع, فأجبته بالنفي.
كانت نملة شقراء دقيقة تدب على الأرض بنشاط واسعدني انه لاحظها في ساعة الغروب. وقد حاول بين تردد ووجل وفضول.. حاول أن يلتقطها, لكنه تراجع في النهاية. ثم أخذ يلاحظها وهي تدفع قشة تعترض طريقها. ولقد تمكنت النملة من زحزحتها, فيما الطفل يرمقها باعجاب, حتى انه حاول مد يد المساعدة لها وصدرت عنه همهمات تشجيعا لها.
قال إنها تدفع القشة برأسها. وافقته على ذلك. غير انها لم تلبث أن تعبت فتركت القشة ومضت في سبيلها متثاقلة, تتسلق الأعشاب وتبحث عن أرض ممهدة.
حمل طفلي القشة ووضعها من جديد في طريق النملة.. سوف تفكر أنها قشة جديدة قلت له ضاحكا, فلم يأبه لملاحظتي. دفعتها مرة ومرتين الى الامام, ثم تركتها وشقت لها طريقا جانبيا. ولما وضع الطفل في مرة ثانية القشة أمام النملة, فقد عمدت هذه المرة الى الدوران والانكفاء الى الوراء.
هربت . قال إنها هربت, سألته هربت منك? فقال: إنها لا تراه.
ثم قلت له ان القشة ثقيلة فلم يصدق (لم أقل له بالطبع انها قصمت ظهر البعير, فأنا نفسي غير مقتنع بذلك) وقال انها صغيرة جدا وخفيفة جدا. فقلت له: لان النملة هي أيضا صغيرة جدا وخفيفة جدا, فإنها تعجز عن دفع القشة أمامها. لم يصدق ولم يتمالك نفسه من الابتسام, ونهض واقفا وعيناه مازالتا تحتفظان بلمعان الفضول, ليفتش مرة أخرى عن النملة والقشة, فصادف قشا كثيرا ونملا كثيرا وحاول هذه المرة أن يدوسها. وقد نظر صوبي يسألني رأيي, وقبل أن أجيبه تقدم منه فجأة جرو صغير لم نلحظه من قبل, وأطلق نباحا قصيرا أفزعه, وسارعت سيدة عجوز في المقعد المجاور صائحة على الكلب ودعته للعودة إليها وقد فعل. أدنيت صغيري مني ومسدت على رأسه: الكلب لم يؤذك, انه صغير لا يؤذي وأنت لم تؤذ النملة. فهز رأسه بخوف وبدا على أهبة البكاء. وقد لاحظت ان السيدة في المقعد المجاور ولكن ليس الشديد القرب, لاحظت انها تسمعني تهز رأسها وتغمغم بكلام لم أسمعه, وتمسد على الكلب بطريقة تشي بالتوبيخ والعطف معا. وربما كانت تراقبني من البداية دون أن ألحظ ذلك, إذ كنت منشغلا طوال الوقت بمراقبة الطفل, الذي يراقب نملة غافلة تجد في طلب رزقها.
محمود الريماوي قاص من الأردن