في ليلة واحدة
دخلا البيت في نفس اليوم.. كانت دموعها الصامتة سيلا لا ينقطع.. أما هو فإن بكاءه لم يكن يهدأ.. ليل نهار.. لم تكن تدري كيف تنام هي أو ينام هو.. فلم تعد تستطيع التفريق بين الصحيان والنوم: فكلاهما غارقان في بؤس الدموع.
رجعت هي الى البيت بخيبة أمل في زواج تحطم بعد سنوات طويلة.. لم تكن السبب.. كانت تتمنى أن تموت قبل أن تحطمه.. هو حطمه.. في برهة من الزمن ضائعة وتائهة.. أحب أخرى وتزوجها.. في نفس الوقت بعث اليها ورقة الطلاق.. شرط الزوجة الجديدة. كم استغرقت هذه البرهة الغبية من الزمن.. أياما قصيرة جدا.. قال لها بأنه سيتركها الى أخرى.. لم يكن ينتظر منها رأيا أو دفاعا عن بيتها.. أو دموعا.. أو حتى توسلا على قدميه وتقبيلهما.. فهناك شيء مات بداخله تجاهها.. حكم عليها بالاقصاء.. ولم يراجع الحكم.
ورغم ورقة الطلاق الغبية ظلت متمسكة بجدران بيتها.. ففيها رائحة ذلك الود والحب الذي يورق قلبها.. حياتها.. لا يهمها أن يتزوج بأخرى.. المهم الا تنقطع عنها الرائحة.. لم يراجع حكم الاقصاء.. ولم يراجع موضوع بقائها في البيت.. قالت له.. أعني مع ذكرياتي معك بين هذه الجدران.. أمسك بذراعها ودفعها خارجا.. كفي عن هذه السخافات ايتها الغبية.. أقفل الباب. بقيت طويلا عند الباب تبكي وترجوه.. هل لان قلبه عندما قبلت قدميه في المرة الأولى، حتى يلين هذه المرة.. وباتت ليلتها عند الباب تبكي وتتوسل.
لقد فتحت عينيها على العالم معه. لم تعرف غيره. لم تفهم الحياة الا من خلاله.. كيف تفقد نفسها الآن.. ما معنى الكرامة أمام رغبتك بالابقاء على نفسك.. ذاتك… كذلك.
كانت متأكدة أنها في طريقها الى الموت بدونه.. لا تقولوا عنه شيئا. انه أنا.. هكذا كانت تدافع عنه أمام أسرتها.. لم يجرؤوا بعد ذلك أن يسيئوا اليه بكلمة.. كبؤة مجنونة أحرق قلبها فقد صغارها.. تركوها لسيل دموعها.. لربما تغسل عينيها فترى الحقيقة بشكل أفضل.
أمام هذا الصمت النبيل.. خجلت من سيل دموعها المتدفق.. جعلته مستترا خلف جدران غرفتها.. وراء أمتار الليل.. عندما تسترخي جفونهم الدهشة المحيطة بها.. سيل أبدا لم يهدأ.. تسمو بطوفانه ليصل الى روحه.. تتوسل اليه.. ترجوه.. أن يأتي.. الا يتركها تعاني ذلك الفراق القاتل المرير.. الوحشة والموت البطيء.. وستنسى له كل ما فعل.
دخل معها البيت في نفس الوقت.. بكاؤه الكثير كان يرهق صمتها الكئيب.. أمه -أرملة شقيقها – كانت تمتلك من الشجاعة الشيء الكثير لكي تلقيه اليهم وهو بعد لم يبلغ الثالثة من العمر.. فقد اشترط عليها رفيق الحياة:لجديد شأن تكون حرة من أية قيود تربطها بزوجها المتوفى.. الطفل يردد من خلال دموعه كلمة واحدة.. ماما.. أريد ماما.. نحيبه لا يكاد يتوقف في أي وقت كان.. ترقب عينيه المكدودتين تعصران دموعا حتى في وقت تعبه الشديد ومغالبته النوم على ذراع شقيقتها.. بكاؤه يشق صدره.. ماما.. الكلمة التي لا ينساها في أي وقت بين نومه ويقظته.
عندما صممت أن توقف سيل دموعها أمامهم، وتجعله مستترا.. لم تر بدا من اشغال عينيها بالنظر الى الطفل الذي لا يهدأ.. تسغلهما عن الانخراط في نشيجها الخاص المتصاعد مع زفرات قلبها.. لاحظت بسكونها الذي يشتمل بركانا.. الطفل الملتاع بأمه.. أدركت أنه سيذوي ويموت كما تذوب وتموت مع كل دقيقة تمر عليهما.. هو بأمه.. وهي به، لقد خطت بدونه الى الموت.. إنها لا تريد منه شيئا لا شيء.. فقط أن يطل عليها.. ولو بنظرة من عينيه لعلها تهديه التياعها وشوقها.. لعلها تذوب الى الراحة.. الى الحياة.. ان هذا الشيء الذي يربطها به في خيط واحد.. أقوى من أن ينقطع أو يذبل أو يزول.. مهما فعل.. فقط نظرة.. أما الآن فهي بقايا مهشمة.. لا قيمة لهذه البقايا الا بعبادته عبر ذكراه.. تقتات عليها.. تصبر بها على أيامها الموجعة المضيئة الملتاعة.. كل شيء.. كل شيء لم يعد له طعم.. وها هي راضية بالموت الذي سيأتيها.. وراضية بمبادئه في داخلها.. تصبر بها على أيامها المسرعة الى نهاية.. نهاية حتمية.
كانت متأكدة أنها وهذا الطفل كما دخلا هذا البيت معا.. فإنهما سيخرجان معا.. فلم يعد هناك معنى.. لحياته بعد أمه التي طارت الى بعيد كانت تعد الايام بملل كبير متى تأتي النهاية.. نهايتهما وفي ليلة سال دمعها الصامت وراء الباب.. غير قادرة على ايقافه.. كان بكاء الطفل يشق سكون الليل كأقوى ما يكون ماما.. ماما.. يأتيها الصوت الملتاع ممزقا عبر الباب الذي اختفت وراءه.. أحست بدنو النهاية.. فها هما يجودان بنفسيهما ويودعان أخيرا.
لكن الشوق. اليه يكاد يذيبها.. نظرة أخيرة قبل أن ترحل.. نظرة واحدة فقط، تتزود بها.. لعلها تريحها في قبرها الى الأبد.
لم تدر كيف تحركت خارجة من البيت، لا تكاد تبصر الطريق عبر السيل الصامت.. بينما الشهقات تكاد تفضح سكونها المسرع تجاه منزله.. منزله الجديد.. تضغط بكفيها على صدرها اللهث الممزق بشوق.. بشهيق.. بزفير.. تبحث بجنون عن ظله عبر نافذة مهملة.. يتصاعد الدم دفعة واحدة الى رأسها..
يدق قلبها بعنف.. ها هو.. إنه هو.. كما رأته آخر مرة.. غاصت عيناها في الملامح المألوفة.. العزيزة.. انها مستعدة الآن لآخر زفرة في عمرها.. تعال ايتها الزفرة الأخيرة.. وخذيني الآن. الآن الى قبري. ضوء كاشف قوي يغمرها.. يجلبها في حلكة الليل.. ملعونة أنت ومن أتى بك الى هذه الدنيا.. ارتفع صوت آخر يشق سكون الليل. تعالوا أيها الناس وانظروا الى هذه المجنونة في انصاف الليالي.. انظروا اليها كيف تتلصص علينا.. لابد أنها تريد الكيد لنا.. تعال الصراخ.. الضجيج.. الناس.. أهلها.. الشرطة لكنها..من عالم مختلف تطل عليهم.. لا يعنيها ما هم فيه.. ما يتحدثون حوله.. ربما يتحدثون عنها.. ربما يريدون أخذها الى مستشفى المرضى العقليين.. ربما تستميت تلك المرأة في حبسها هناك.. ربما هو يوافقها.. ربما أهلها يتوسلون… يستجدون السماح.. العطف.. الرحمة لها.. الستر عليها.. مازال الأمر لا يهمها.. تنتظر زفرتها الأخيرة، عيناها وعقلها مطبقان بشدة على ملامحه الحنونة.. بعد قليل.. بعد قليل سينتهي كل شيء.. وستغادر.. ستغادرهم مع صورته العزيزة.
المآقي تداري الدمع وهي تدخل البيت.. في عالم آخر مازالت..
شيء واحد تحاول اصاخة سمعها اليه.. بكاء الطفل.. ما يزال يبكي.. تقترب من النافذة.. لا بأس يا عزيزي.. لا بأس.. سننطلق معا الآن. الآن.. فمعي ما أحتاجه.. وأنا جاهزة.. هيا نطير الى بعيد.. الى هناك..فلم تعد لنا أية حاجة لهذا العالم بعد الآن..
بكاء الطفل يرسم في أذنيها سيمفونيات الانطلاق.. تلتصق بالنافذة وزجاجها البارد.. يتبدى لها وسط الظلام طريق مفتوح.. واسع.. عريض.. يشدها.. يجذبها من زفرات قلبها المتصاعدة بلهب.. يتوقف صوت الطفل.. بكاؤه.. ترهف أذنيها.. تنتظر برهة.. برهتين.. تتلفت بفرح طفلة تمنح أجمل الهدايا. فاقد حانت اللحظة.
لكنه يتحدث ؟؟ صوته واه.. لكنها تسمعه.. ماما بعدين أيوه يا حبيبي ماما بعدين… ماما بكرة ؟ نعم يا حبيبي ماما بكرة.. تضمه أختها.. تؤكد له.. ماما بعدين.. أيوه بعدين.. تتجمد عيناها عليه.. تتأمله.. مذهولة.. كيف استطعت ؟؟ كيف ؟
أرض جديدة تهب عليها بقسوة.. تدير العينين في الوجوه المحيطة الدامعة.. تردهم بوضوح شديد الآن يائسون ينتظرون، مازالت ملتصقة بالزجاج البارد.. مازالت الطريق مفتوحة.. سالكة.. تشدها بقوة.. تمثالا من العاج تحولت.. أنفاس صغيرة مضطربة تتردد تحت سطح العاج.. احد الأنفاس المضطربة تتفجر عبر صدرها.. نشيج عال يهز تمثال العاج.. يحطمه شظايا.. نوبة بكاء عال مازالت تهزها.. تركها تهتز بذلك الانفعال.. فدموعه مالحة جدا.. هكذا خيل اليهم… وهي كفيلة باكتساح شيء ما في داخلها بنفضة.. الطفل استغرق في نوم هاديء لأول مرة.. والنافذة الباردة بدأت تعكس شعاع فجر آخر.
الظــل الكـبيـر
كنت أسوق عربتي الهزيلة البيضاء على الطريق الاسفلتي الواسع جدا.. نار الشمس تكاد تصيبني بضربة في رأسي.. ياه.. هذا المكيف الذي ينز ويثن لا رجاء منه.. والزجاج المحيط متواطيء مع الشمس لكي تشويني.. خاصة عبر نافذتي التي بلغت قمة التواطؤ واللؤم.. فسياط الشمس تأتي منها مباشرة الى جانب وجهي وكتفي اليسار وتمتد السياط الى باقي جسمي.
فتحت النافذة لعل بعض النسيمات الرطبة تجعل المكيف في حالة أفضل.. لكن لم أكن أدري أن المؤامرة ستكتمل.. فضجيج الشارع أصم أذني.. وحرارة الجو ألهبتني.. لم أعد أحس إلا بأنني أسير في طريق داخل الجحيم.. انتقلت اليه عبر النافذة المفتوحة.
لم أستطع أن أسرع هربا خوفا من انفجار مطاط عجلات عربتي الهزيلة.. انتقلت ببطء الى أقصى اليمين.. تركت مكاني لتعربد فيه أجمل العربات.. أزهاها وأقواها. من المؤكد أن مفهوم الجحيم نسبي بيني وبين أصحابها الذين يمرقون بسرعة البرق، فالرجاج الأسمر لعرباتهم يزيدهم بعدا عن جحيمي.. ويكفيني منهم ضجيج عجلاتهم الفارهة !
آه.. ما هذا الظل ؟ ما هذا الهدوء؟ لحظة هدوء وظل ؟ من أين ؟ إنها تستوعبني.. تحجز عني سياط الشمس اللاهبة.. تحتوي عربتي بالكامل.. بل أكثر.. فيمتد الظل الجميل.. يمتد أمامها وخلفها لمسافة جيدة.. أحسست بانقطاع عجيب عن الجحيم.. ناره وضجيجه.. انقطاع جعلني أحس ببرودة المكيف المتهالك.. فقد هدأ صوته وقويت نسمته وتآزرت مع النسيمات العليلة تحت الظل الكبير الذي انغمرت فيه بالكامل..
التفت الى المصدر بتشوق استنفذني.. إنه بجانبي.. قريب التفت الى المصدر بتشوق استنفذني.. إنه بجانبي.. قريب مني.. فعلى يساري شاحنة ضخمة تحجز عني الضوضاء.. وسياط الشمس الحارقة..
يا سلام.. لقد نسيت تعبي، ألمي قبل لحظات.. ازدرائي لعربتي المسكينة، ولنفسي التائهة في قعر جهنم.. امتلأت نفسي بحب كبير لجميع ما كنت ألعنه في سري قبل لحظات، جحيم كاد أن يضعني على عتبة الجنون. ظل الشاحنة الكبيرة.. الروح العظيمة.. لقد حولتني من شقية الى سعيدة تغمر هذا الكون الواسع رغم كل منغصاته بحب كبير..
اقتربنا سويا من الدوار.. الثقة في داخلي بالبقاء تحت الظل الكبير تزداد.. الى آخر لحظة.. لا فراق.. فهناك كيلومترات كثيرة بعد الدوار.. تمتد بامتداد العمر.. ولابد أن أبقى في ظل هذا الحنان.. الأمان الذي فاض علي أخيرا.. وفجر بداخلي ينابيع الرغبة في العطاء.
كان دوارا واسعا.. مبنيا على أحدث المواصفات. ثلاث عربات تستطيع السير فيه بالتوازي براحة كبيرة. عندما دخلنا في مجاله.. كنت في حالة إصرار شديد بالتوازي مع الشاحنة،، ففي الطريق متسع.. ولا توجد عربة ثالثة توازينا.. بدأنا بالالتفاف معا.. تقدمت بعربتي قليلا.. حتى أكون في مجال نظره مثلما أنا في مجال ظله.. ربما لطاريء ما.. هكذا هجست لي نفسي.. نفسي الكثيرة الهواجس !
أشعر بهزة خفيفة.. ما هذا.. ما بها عربتي.. هل هناك وسخ ما في أنابيب الوقود المتهالكة، فأخذت تسعل.. هزة أخرى.. وكأن يدا رفعت عربتي من الخلف ثم دفعتها دفعة حطت بها على الأرض.. هزة ثالثة أقوى.. لقد أمسكتها اليد ودفعتها بقسوة شديدة الى الأمام.. الى سياط الشمس.. الى النار… ما هذا.. كيف هذا.. قفز قلبي الى فمي.. يداي ترتعشان.. قدماي.. الدفعات تشتد.. تتوالى.. عربتي ترتفع.. تهوي… بقسوة.. بعنف.. رأسي تضرب شيئا.. قدماي تعلقان.. ذراعي تلتوي.. آه.. آه.. و.. تظلم الدنيا أمام عيني.
فتحت عيني بألم شديد.. مطارق تفري دماغي.. قدماي مربوطتان.. معلقتان.. ذراعي.. لا أستطيع تحريكها.. بقعة كبيرة من الدم عليها.. المطارق تهوي.. تفري.. رفعت ذراعي الأخرى بضعف الى رأسي لأوقف المطارق.. رأسي مربوطة.. بقطعة رطبة تتحسسها يدي… بقعة كبيرة.. تراجعت يدي بوهن.. أخ.. تفجرت عيناي بالدمع.. أخ.. الظل الكبير.. هل كان الأمر يستحق هذا العقاب. وقع أقدام تقترب من غرفتي.. أمسح دموعي بسرعة.
الحمد لله على سلامتك.. لقد نجوت بأعجوبة.. فعربتك انقلبت بقوة شديدة.. لم تعد تصلع لشيء لكن لا بأس.. إن شاء الله تعوضيها.. نظرت بعينين مكدودتين الى الضيفين.. ما الأمر.. لا شيء.. فقد أردنا أخذ أقوالك رغم أن المخالفة واضحة.. واضحة جدا.. لكن لأجل الروتين الاعتيادي، ولتثبيت حق صاحب الشاحنة، ولتصلحي ما أصابها من تلف..
مخالفة ! تلف ! مخالفة من يا سيدي؟ وتلف ماذا؟ مخالفتك أنت.. ضد الشاحنة.. وهل خالفت ؟ هل كتلة الحديد الضخمة يعيبها تلف ؟ خارجيا لا يبدو عليها أي تلف.. فهي قوية. كبيرة. صلدة عظيمة.. لكن ربما داخليا، وصاحبها يحق له أن يطالبك بتحمل مسؤولية التلف الداخلي إذا ظهر مستقبلا.. وكيف سيتأكد صاحبها من التلف الداخلي ؟ لا ندري؟ لكن يجب إثبات حقه القانوني.. وأنا يا سيدي.. عظامي المكسورة ؟ دمائي؟؟
صاحب المخالفة ليس له أي حق.. أية مخالفة !.. وأية شاحنة !.. وأي دوار!.. لقد أردت ظلا.. ظلا كبيرا. فقط كبيرا.. لا شيء آخر.. لاشي آخر. وأحرقت مقلتي دموع حارة ومالحة جدا، لم استطع تمالكها، فانهالت رغما عني.
طاهرة عبدالخالق اللواتي (قاصة من سلطنة عمان)