حـلـم
هكذا ساقته قدماه الي.. دون أن يحمل في ذاكرته أدنى معرفة سابقة، كان ككلب مسعور.. نهبني سكينتي وغفلتي.. وجه أسمر.. اسمه يوحي بأنه قادم من الجزر البعيدة أو تلك المحيطات التي تبعث لنا أسرارها كل عام.. فتهتاج أرضنا وتخضر.. غاصت قدساه في الوحل كما غاصت قدماي.. الأرض كانت مشربة بالمياه رغم تنائي أيام المطر ه الغاضبة.. ورغم الشمس المتكورة في وسط السماء حيث بدت كنور ينبثق من أعلى كوة في السقف.. مشينا كلانا.. غسلنا أقدامنا وفي عينيه كلام كثير وفي قلبي مجاهيل تعمقها غرابته.. من أين انبثق هكذا فجأة؟ ماذا يريد؟ من أرسله؟ ومن يكون.
كنت كما سألته يصمت أو يعدني بالكلام حين نجد مكانا مناسب.. طال مشيئا في الفناء.. الاماكن المناسبة كثيرة.. لكنه غريب.. عندما دخل الغرفة تشبث بي كمن فقد شخصا حميما ولقيه صدفة.. استطعت أن أقاوم، وأبعده عني بقوة.. أثنى علي وتعجب من قوتي..
– ألن تحدثني عنك؟.. قلت له.. فأجاب..
– فيما بعد، حين نجد مكانا مناسبا..
كفاي تيبستا، وحلقي نهشته أشواك كثيرة.. وثمة حنين مؤلم يمزق أحشائي في ذلك النهار..
طريق وعر
" ان قدما لا تنتقي خطوها، لا يحق لها أن تفاخر بالطريق" أحمد الملا
منذ الوهلة الأولى التي تنشر فيها الشمس ضفائرها على جنبات السماء..
تشتعل الأرض بالحياة ولاسيما في الأماكن الوعرة التي ترتمي خلف البيوت حيث تشرئب أعناق الجمال نحو أعلى سدرة يحتضنها المكان.. وتوقظ الطيور أعشاشها المختبئة بين أغصان الاشجار المترامية هنا وهناك.. وبين الفينة والاخرى ينطلق هدير سيارة قديمة مخترقا هدوء المكان،. مجبرا أسراب الطيور على التحليق بعيدا عن أعشاشها.. حتى هذه اللحظة يبدو كل شيء عاديا ورتيبا.. الى أن تقبل الفتاتان بزيهما الرمادي والأصفر.. تحاولان اجتياز وعورة المكان بجهد بالغ للوصول باكرا الى "الدير" الرابض في نقطة ليست ببعيدة عن بيتهما.. تبدو الكبري عاجزة وغير راغبة في الذهاب، بينما الصغرى تتقدمها بخطوات سريعة وأحيانا متعثرة.. حاملة على ظهرها حقيبة سوداء مكتنزة بدت عليها الخيوط بألوانها المتعددة مما يوحي بأنها تفتتت أكثر من مرة.. في كل خطوة لابد أن تحترسا، خشية أن تطأ عقربا او زاحفة.. أو أحيانا بعرة.. وكل هذه الاشياء تكون حية وجديدة وكأنها تتربص بأول قادم يجتاز تلك البقعة.. وتجنبها يتطلب وقتا طويلا.. اذ أن الفتاة التي تسلك تلك الدرب عليها أن تسلكها هي حتى لا تتأخر عن "الدير".. واذا ما أرادت ايجاد طريق آخر فعليها أن تتخذ الطريق الواقع أمام البيوت والذي يجانبه خط أسفلتي طويل لعبور السيارات وما شابه.. والطريق من هذه الجهة طويل جدا ويأخذ من الوقت الكثير.. حيث يكون نصف المراسيم المقدسة قد انصرم، مما يحمل الفتاة مسؤولية استهتارها بهكذا مراسيم.. لذلك لا مناص لكل الفتيات من اجتياز الطريق الوعر.. حاولت الفتاتان أن تخطا اتجاها معينا بآثار اقدامهما.. يقيهما خطورة الوقوع في حفرة او الانزلاق من صخرة.. ولكن الاتجاهات تتغير كل صباح كجلد الحية تماما.. فالمكان معرض لسقوط الأمطار وتجمع المياه في الحفر المتناثرة فيه.. الى جانب أن المياه الجارية على سطح الأرض لابد أن تجرف معها ما لذ لها وطاب..
لاحقا.. عندما تتقدم الفتاتان بضع خطوات يتضح لهما أنهما امام بئر مكشوفة.. ترتعد اوصالهما وتغيران الاتجاه تحاولان طرد فكرة مزعجة، فقد تبتلعهما البئر يوما ما.. ولم تجرأ على التحديق فيه.. والتأكد من عمقه.. فمجرد الاقتراب يعني النهاية.. وحينها تتبدى رئيسة الراهبات في "الدير" بعصاها الغليظة أكثر رحمة من البئر.
هذا "الدير" الذي لا يكف عن الطنين بضرورة الزهد في الحياة، يكلف الفتاتين الكثير من الأحذية لقطع الطريق اليه.. وعندما علمت الرئيسة بذلك أبدت شعورها بالارتياح، لان الاماكن المقدسة لا يتم الوصول اليها إلا بعد عناء.. عند مشارف التلة الصغيرة فقط يتلاشى "الدير" لكنه لا يلبث يعاود الظهور عندما تصل الفتاتان الى قمة التلة.. لحظتئذ ينتابهما شعور بالعظمة والعلو حيث تبدوان أكبر من "الدير" نفسه.. ومن الأسفل البعيد تبدو رئيسة الراهبات صغيرة جدا وهي تنزل من سيارتها البيضاء.. تنتبه الفتاتان وتغذان السير نحو "الدير".
زوينة خلفان (قاصة من سلطنة عمان)