ذات صباح ، الشياه على المرعى ، والبندقية على الكتف ، فارس الجبل يحمل ثقل قلبه ، داميا وحزينا، كالظبي ، من صخرة الى أخرى يستشرف المكان ، وسرور تلويحة الصباح الأولى ، وجبالها ترتاد الاشعاع الأزلي .. الفارس يرقب من بعيد: تلك القطاة الضامرة ، أمامها أكثر الشياه، وحواليها البعض منها، نقطة ملتفة بالسواد تحيطها ألوان مبرقشة من البياض والسواد معا، تتراكض في السبحات الطويلة لزمن عتيد.
حين وضع فارس الجبل أصبعه على الزناد سبقته آهة الجحيم ، "ايه يا ابنة العم ، ليلة عرسك لن ترينها ، يا ابنة العم ، أنا البحار الوحيد، وما بين أبناء العمومة رصاصة أو مصاهرة ، كلها تتلون بالحمرة القانية من أثر الدم "، وحين وصلت الرصاصة الى القطاة الجبلية ، جفلت القطاة ، وتهاوت بوداعة ، رغم أن الصخور لم ترحم اليناعة في قطاة السنوات الأربع عشرة، ارتاعت الشياه وتفوقت ، وكان هناك ، فقط هناك ، قطاة تتدحرج من وسط الجبل الى سفحه ، والدم ينز في العروق الصغيرة ، والقلب يدق للمرة الأخيرة ، في زفرة الأنوثة التي حلم بها ابن العم لحظات طويلة وأغتالها ابن العم في لحظة .
يا أيها الفارس ، اضرب الصخر بقوة ، احفر في الأرض ، كي تكون لك جنة من نخيل وأعناب ، اطعن الأرض ، وحدك ، لا تهتم بالفضوليين الذين يتندرون بالمجنون الذي يحفر بئرا بنفسه ، افرغ صبرك ، الشمس لن تحرق الجلد الذي اواها سنين طويلة ، وحدك من الزمن الماضي، وحين يفت عضدك وتتعب تلك العضلات التي يزحف اليها وهن الشيخوخة اربطها بقلادة من سعف النخيل أو من الجلد كيلا تحس بالألم .. يا فارس الجبل ، أولئك الناس ذاكر تهم ضعيفة ، يلبسون ذاكرة الرمل ، وانت ذاكرة الجبل والصخر، هذا :لصخر الذي يتفتت تحت ضربات معولك ، لا تترك لهم فرصة التذكر ، ابنة العم ماتت ، وعريسها مات ، وعمك مات وانت مازلت المزروع في عنفوان المكان ، لكنك ، يا فارس الجبل بدون قطاة ، عشت بدون قطاة ، لا قطاة الا ابنة العم ، وكادت ان تذهب ابنة العم الى الغريب ، وانت الذي اسكنتها صدرك ، يا ويحه ذلك القلب الذي يعشق حتى الفناء.
**
وحين رهوك في كوت الجلالي لم تفارق ألسنة الناس في قريتك
اخرج من قمقمك ، أفرض هيلمانك ، واترك أحجار "قطون " . .. أيها البائس ، تعبت نعالك من الترحال ، في كل واد لها آثار سيارة عبرت ، وأنت المتلون ككهوف الجبل ، غادرك الزمان ، لم تبق إلإ وحدك ، كلهم غادروك ، كلهم افترشوا الغيم ، وناموا في غرفهم المكيفة ، لا تحرق نفسك بغبار الأمس الغابر ، يا أيها المجنون الذي يرمي القرية بالشرر المتطاير من احتكاك أظافره في الالتماعات البنية للجبل ، ماذا تنتظر ؟ ، وقد غادرتك البشرية تجرأ وحالها ، تلقيه في سرية محبطة ، إلا أنت يا فارس الجبل ، مازلت تترقب الصفارة والعقائق على السفوح ، بندقيتك على الكتف، لا تهتم ، أولئك أصحاب الغيلات والمنازل الجميلة مرهقون بمانيتهم، لن يتذكروا، البندقية التي جعلتك اسطورة مبهمة .
والقرى المحيطة . انتهى العزاء، ولملم عمك حزنه ومضى، وهلكت امرأة عمك كربا على وحيدتها الباقية من أزمنة القحط والخراب ، وبقيت يا عاشق الصخر، حجرا كبيرا في ممرات الأودية والشهاب ، تشمخ في عرس الماء تنقل للريح حكايات الرمل ، والريح حافظة لأسرار الرمل .. أسرارك .
**
في ممرات الحياة يتقاسمون حكاياتك ، المجنون ، هرب من كوت الجلالي .. يتساءلون ، من يمكنه فعل المستحيل ويهرب من كوت الجلالي ؟! انه السجن الذي يقيد الموت في اقبيته المبتلة ، لكنك رجل المستحيل ، قلت لسجانيك : أريد أن أصنع ما يفيد ، اعطرني سعف النخيل أقلده بأناملي زركشات طويلة من الخوص . وحين استوى امتدادا طويلا، علقته في كوة السجن ، بعد أعوام ما زال خبر فرارك من السجن يحير ويدهش ، قال من قال ان ذلك صعب ، وقال آخر، انك رجل المستحيل .
ايه يا اسطورة الجبل ، عدت ، ولكن القطاة لم تعد ، وكوت الجلالي نسي ذاكرته ، وانت القوي، أعبر الطرقات بخطو امك ، الواسعة كركضة ظبي جافل ، من يردك يعرفك هو انت الذي أقدامه لا تكاد تلامس الأرض حين يمشي ، وأنت الذي ترتدي دشداشة تهبط عن الركبة قليلا بينما تبرز عند البطن بصورة واضحة ، سكينك مكانها ، كأنها شي ء من جسدك ، انطلق ، واحفر القرية باظافرك ، من يتذكرا .. ماضيك الذي غرسته رماحا في خشوع الليل على جبال سرور، من يتذكر اثنتي عشرة سنة نمت فيها وحيدا على الأرضية الرطبة لكوت الجلالي ، وضربات الجلادين .. "اعترف " .. ولكنك أقوى .. "أعترف " .. والسوط يتبع السوط ، والرطوبة تنخر في الجسد الهزيل ، لكنك يا فارس الجبل ، تنكر بأنك سفحت دم القطاة ، حبيبة القلب ، والشهود ، رأوا جسدا ضئيلا يرقد وراء صخرة يقفل عينا واحدة ، والأخرى تنظر بامتداد ماسورة البندقية ، وحين ضغط الأصبع على الزناد كان القلب يرجف بالحرية ، وها هم الآن يصادرون حريتك .. لا تعترف من أجئ حريتك ، حرية الجبل الممهورة بالصخر ، وانشقاق الماء.
**
"أيها السائر لا طريق ، تتحدد الطريق بمقدار ما تمشي " والسنوات تسبق جرحك ، والريح تهب كتلاوين المساء في المدى المترامي ، تنبت آثا، خطوات خفيفة لأقدام سائر لا يكاد يلامس الأرض ، تأتي رياح الصحراء تسكب أغانيها على الخطوات ، والفارس ممعن في السير، كظبي شريد، يبحث عن ليل يخبئه في أر دية الجبل ، والجبل باق ، وانت باق .. لكنك تائه ووحيد ، لا يد تلوح لك بالوداع .. ولا قطاة .
محمد سيف الرحبي (قاص من سلطنة عمان)