ينتظر الآباء الصغار من خارج المدرسة يا لها من رؤوس مجعدة وشوارب بنية ظريفة ، يجلسون على الياتهم يأكلون اليبتزا ويتناقشون . إنهم ينتظرون جرس الساعة الثالثة بعد ظهر يوم ربيعي كما توحي به النظرة الأولى خارج النافذة . أملك صندوق نباتات زينة في نافذتي به نبتة الأقحوان الخضراء حيث يمكنني مشاهدة الآباء الصغار عبر وريقاتها. يقرع الجرس فيخرج الأطفال من المدرسة وهم يتدافعون عبر البوابة المفتوحة يشاهد أحد الآباء طفلته الصغيرة لا أدري هل هي صينية ؟
الى الأعلى قليلا – أعلى – أعلى ، ويرفعها فوق كتفيه ، أعلى _ أعلى ، يقول أب آخر وهو يرفع ابنه ، يجلس الطفل لثوان فوق رأس أبيه قبل أن ينزلق الى كتفيه ، مضحك جدا، يقول الأب .
يتحرك الأبوان ، يمران تحت نافذتي مباشرة والطفلان لا يزالان يضحكان يحاولان أن يتهامسا بسر ما، بينما الأبوان لم يكملا حديثهما بعد أحدهما ضعيف البنية وابنته كثيرة الحركة .
– قال لها ، كفي عن ذلك الآن .
– قالت الفتاة الصغيرة (أوينك (*) … أوينك )
– سألها : ماذا قلت ؟
– أجابت الفتاة : أوينك …. أوينك
-ماذا ….. رددها الأب الصفير ثلاث مرات ثم أمسك الفتاة بعنف ورفعها عاليا فوق رأسه ثم أنزلها بسرعة الى الأرض .
– قالت الفتاة الصغيرة وهي تتلمس كاحلها ، ماذا فعلت ؟
– فقط أمسكي بيدي، صرخ بها الأب الواهن الغاضب .
– مددت رأسي من النافذة وصرخت به ، توقف .. توقف . التفت الأب الصغير وهو يرفع يده فوق عينيه كي يرى بوضوح وقال ماذا؟
– قال صديقه ، هيه من ذلك . أعتقد إنني صديقة للعائلة أو ربما معلمة .
– صاح قائلا من أنت ؟
أزحت اصيص الأقحوان جانبا كي أتمكن من الاتكاء بمرفقي على حافة الشرفة والانحناء الى الأمام .
ذات مرة وقبل وقت قصير كانت عمارتنا السكنية تمتليء نوافذها بنساء مثلي حتى الطابق الخامس ، ينادين على الأطفال ليتركوا اللعب والحضور لتلقي الأوامر والتعليمات ، هذه الذكريات تقودني للقول مباشرة : أيها الشاب أنا امرأة عجوز أشعر بسبب كبر سني أنني يجب أن أسأل وأن أسدي النصيحة .
– يضحك بحرج واضح وهو يقول لصديقه : اطلق النار على ذلك الرأس الأشيب إذا شئت لكنه يمزح بالتأكيد، أنا أعرف ذلك ، فقد وقف مباعدا بين رجليه ويداه خلف ظهرا ورقبته ترتفع الى أعلى كي يراني ويسمعني.
– سألته كم عمرك ؟ أظنه حوالي الثلاثين .
– ثلاثة وثلاثون .
– دعني أقول لك أنك من جيل يتقدم على أبيك في موقفك وسلوكك تجاه ابنك .
– حسنا ، هل هناك شيء آخر يا سيدتي.
– أجبته وأنا أنحني بوصتين أو ثلاثا الى الامام فتشكل خطورة علي ، يا بني يجب أن أخبرك أن المجانين من الرجال يرغبون بتدمير هذا الكوكب الجميل . إن قتل أطفالنا من قبل هؤلاء الرجال أصبح يشكل إرهابا وحزنا حتى أنه أصبه يؤثر على أية متعة يومية لنا.
– صرخ قائلا : خطبة – خطبة .
انتظرت لحظة ، لكنه استمر في التطلع الي ، قلت له : أستعطيع القول مستندة الى مظهرك ومشيتك أنك توافقني.
– أجاب إنني أوافقك وغمز صديقه بطرف عينه ، لكنه أدار وجهه الجاد نحوي وقال :
-أجل -أجل –
– إنني أوافقك .
حسنا إذن ، لماذا ثارت ثائرتك على تلك الطفلة الصغيرة التي لا يعلم مستقبلها إلا الله ، لماذا كدت أن تسحق تلك الطفلة الصغيرة وأنت تلقي بها الى الأرض بغضب لا يسيطر عليه .
– قال الأب الصغير : دعينا لا نتمادى كثيرا ، لقد كانت تقفز فوق ظهري الضعيف وهي تنادي أوينك – وينك؟ .
– متى غضبت أكثر عندما قفزت فوق ظهرك أم عندما قالت أوينك -أوينك؟
– حك رأسه الجميل ذا الشعر الداكن والمصفف بعناية وقال : أعتقد عندما قالت أوينك .
حسنا هل سبق وان قلت أوينك – أوينك ؟ فكر جيدا.، قبل سنوات ربما
– كلا أو ربما_ربما.
– من تتذكر بهذه الطريقة ؟
ضحك ونادى صديقه هيه … "كن " ، هذه العجوز لديها شيء ما، ضحك وتذكر قليلا. الشرطة ، أجل الشرطة في إحدى المظاهرات .. أوينك …. أوينك
– ضحكت الطفلة الصغيرة وقالت أوينك .. أوينك .
أجابها والدها بغضب واضح أخرسي .
– ماذا تستنتج من ذلك ؟
– هل تظنين أنني غضبت من (روزي) لأنها تعاملت معي وكأنني ذو سلطة، هذا ليس من طبعي ، لم ولن يكون .
– كان بإمكاني أن ألاحظ سعادته وابتسامته الواسعة اللطيفة وهو يتذكر ذلك، وهكذا أكملت ، لطفاء هؤلاء الصغار فهم نماذج محببة لا يمكن أن يكون عليه آخر جيل من الجنس البشري، لماذا لا تبدأ مرة أخرى من جديد، من عند باب المدرسة وكأن شيئا من هذا لم يحدث أصلا.
– شكرا لك ، قال الأب الصغير، شكرا لك ، من الرائع أن تكون حصانا ، قال ذلك وهو يمسك بيد روزي الصغيرة ، تعالي يا روزي .. لنذهب ، وقتي ضيق اليوم . أعلى .. أعلى …
قال الأب الأول . أعلى … أعلى … قال الأب الثاني.
لنصعد صرخ بها الأطفال بينما الآباء يصدرون أصواتا كصوت الخيل ، نخز الأطفال صدور آبائهم وكأنها بطون خيل وهم يصرخون ، لنصعد .. لنصعد ، واتجهوا نحو الغرب .
ملت الى الخارج قليلا مرة أخرى وقلت : كونوا حذرين .. توقفوا لكنهم كانوا قد ابتعدوا أوه .. أي شخص يحب أن يكون حصانا سريعا يحمل فارسا جميلا محببا ، لكنهم يتجهون نحو واد من أخطر زوايا الشوارع في العالم ، وربما كانوا يسكنون خلف ذلك التقاطع عبر شوارع خطيرة .
إذن يجب أن أغلق النافذة بعد أن أبعد نبتة الأقحوان برائحتها الصيفية الصدئة ثم أجلس في ذلك الضوء اللطيف أتساءل كيف يعودون بسلام الى بيوتهم عبر أحلام العلماء المخيفة وأحلام الصناع الكبيرة . أتمنى فقط لو أنني أستطيع مشاهدة كيف يجلسون الى طاولات مطابخهم لتناول وجبة
صحية تتألف من عصير البرتقال أو الحليب مع المعجنات قبل خروجهم للعب في ذلك المساء الربيعي؟
غريس بالي
ولدت الكاتبة غريس بالي في مدينة نيويورك عام 1922 ونشأت بها وخلال داستها في كلية (هنتر) استطاعت أن تطور اهتمامها بالكتابة بشكل جيد حتى أصبحت قصصها توصف بالقوة والحيوية وقدرتها على التقاط الكثير من ماسي الحياة اليومية وسخريتها. ورغم أن القصص التي كتبتها قليلة من حيث العدد إلا أنها لقيت مع ذلك إطراء من النقاد وصنعت لها جمهورا كبيرا من القراء.
بعد أن بدأت قصصها بالظهور في أشهر المجلات الأدبية الأمريكية نشرت أول مجموعة قصصية وهي بعنوان "إزعاجات صغيرة للانسان ، قصص رجال ونساء وقعوا في الحب " وكان ذلك في عام 1959، ولأنها كرست الكثير من وقتها لتدعيم اعتقاداتها الشخصية فقد نشرت بعد ذلك مجموعتين قصصيتين فقط هما "تغيرات كبيرة في آخر لحظة " عام 1974
ومجموعة "في وقت لاحق من نفس اليوم " عام 1985.
كتبت بالي ذات مرة عن الأدب تقول : ليس هناك قصة تكتب ولا تكون عن المال والدهاء، الناس وعلاقاتهم ببعضهم البعض هي الدهاء والعائلة ومعيشتها، هي المال .
قصتها هذه التي بين يدينا "قلق " قصة حيوية فيها قليل من الحركة وكثير من الحوار وتخلق شعورا متضاربا حول امرأة عجوز تفترسها مخاوفها.
قصة: غريس بالي
ترجمة: عامر الصمادي (قاص من الأردن)