راسم المدهون
شاعر وكاتب فلسطيني
رحلة رواية الفلسطيني باسم خندقجي “قناع بلون السماء” (جائزة البوكر العربية– 2024) من الكتابة السرية في زنزانة إسرائيلية إلى تهريبها للخارج ثم نشرها في كتاب ورقي لتصل أخيرا إلى القراء هي ذاتها رواية تحمل كثيرا من مفردات التراجيديا الفلسطينية وتجسد في صورة فائقة التعبير مفهوم وصورة المقاومة كفعل إنساني– حضاري ينتسب إلى حيوية الحياة والمجتمع الفلسطينيَّيْن خصوصا في حمَى المحرقة الإسرائيلية الحالية والدائرة منذ شهور ثمانية بشكل رئيس في غزة وبأشكال أقل حدَة في عموم فلسطين.
أهمية رواية “قناع بلون السماء” أنها فنيا وموضوعيا تواكب تطورا كبيرا عاشته الرواية الفلسطينية خلال العقد الفائت وأبرز ملامح هذا التطور هو في الاشتباك الروائي مع الآخر والخروج من تابوهات قديمة كانت تحتفظ له بصورة نمطية، وخندقجي يحقق ذلك ببراعة فنية عالية تضع الفلسطيني المبتلى بالاحتلال والتهويد وجها لوجه مع عدوه الذي لا يكتفي باغتصاب الوطن بل يسعى وعبر حروب لا تتوقف إلي اغتصاب الشخصية الوطنية الفلسطينية والحلول مكانها، ناهيك بالطبع عن سرقة الآثار والثياب والمأكولات والمشروبات في معركة محمومة لتأصيل وجوده في فلسطين.
“قناع بلون السماء” هي أيضا لها شأنها المختلف عن مضامين ما يكتبه الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون في سجون ومعتقلات إسرائيل إذ تدور أحداثها ويتحرك أبطالها خارج تلك السجون والمعتقلات لتأتي من هناك بسردية ترسم صورة الصراع في أبعاده الكبرى، وتقارب عدوها في ميادينه الأهم والتي باتت تقليدية وشائعة: كيف ينجح فلسطيني يعيش تحت الاحتلال في ارتداء “جلد عدوه” ليصل إلى مواقع تقليدية لقوته الغاشمة، وليعاين من “هناك” تلك الحياة الإسرائيلية الممنوعة والمحاطة عادة بالغموض والتكتم حيث يمكن للعين في صورة مباشرة رؤية تناقضات ذلك المجتمع الذي تم تصنيعه هناك في عواصم الغرب البعيدة، وحيث يمكن للفلسطيني ببصيرة المقاوم وحنكته وجلده كسر كل الحواجز وقوانين الحظر والحماية والوصول إلى “كعب أخيل” ذلك المحتل، ورسمه كما هو دون رتوش أو أصباغ ليبدو في صورته الحقيقية مجتمعا بالغ الهشاشة وتعشش في شرايينه عوامل الضعف التي تخبئ مقتله وقابليته للزوال ولأن يصبح يوما ما نسيا منسيا يعيش في صفحات كتب التاريخ.
في “قناع بلون السماء” “ثنائية” العلاقة (المتخيلة والمتصادمة) بين النقيضين “نور” الفلسطيني الذي يعيش في مخيم بعد أن هجرت عائلته من بيتها ومدينتها و”أور” اليهودي الإسرائيلي الذي يبيع في سوق الثياب المستعملة معطفه الجلدي وينسى في أحد جيوبه الداخلية بطاقة هويته الإسرائيلية، ليشتريها “نور” ويقوم باستبدال صورة صاحبها بصورته مع بعض التعديلات البسيطة لتكون قناعه في الدخول للمجتمع الإسرائيلي والوصول لأي مكان يريده متجاوزا الحواجز ونقاط التفتيش الأمنية في دولة يقع الأمن في مكانة مركزية فيها.
هي لعبة فنية تشبه الحياة وتستخدم مفرداتها ونحن إزاء هذه اللعبة نشاهد قدرة الرواية الذكية والمتبصرة على بناء مسرح الأحداث في فلسطين ليأخذ أبعاده المغيبة عادة، وقد نجح الكاتب هنا في استقصاء صورة العنصرية في تجلياتها الحادة والأكثر عدوانية وتحسب له براعته في إدارة الصراع على بساط الرواية ومسرح أحداثها بالعصب البارد وأعني الموضوعية الفنية التي تسوق الحقيقة بهدوء فني ساطع يجعلني أحيي هذه “الصيغة” الفنية البارعة التي منحتنا متعة العيش في تفاصيل الحياة هناك في فلسطين بأسلوب لا يركن إلى عدالة القضية وجدارة أصحابها وحسب، بل هو يذهب بعيدا وراء حقيقة أن من يعانون قسوة الاحتلال والظلم يستطيعون هم أيضا تقديم إبداع روائي له هذا العلو الفني ورقيه. هنا بالذات تبدو أهمية الرواية في ولوجها تلك المنطقة “المعتمة”، المحجوبة بفعل عوامل وأسباب لا تحصى والتي ظلت تجعل عدو الفلسطينيين “غامضا” ولا يتم الاقتراب منه ومن حالته إلا في الشكل العام للتأطير بين حيزي الخير والشر: هنا تذهب الكتابة في مغامرتها الفنية والفكرية القصوى لتستحضر من “هناك” سياقا دراميا وفكريا ينتظم بتلقائية في بنائية روائية يبرع صاحبها في أدائه إلى الحد الذي تنتفي منه عادة “الاستنطاق” بما تفضي إليه من “أسطرة”، فنحن في “قناع بلون السماء” أمام رواية تستحضر ذلك العالم “المجهول” وتستقصي أبعاده بعصب بارد يشبه الحيادية ولا يلتزم بها بالطبع، أو بدقة أكثر هو الموضوعية التي تختار، الموضوعية في زمن الحرب والصراعات الكبرى بما هي مآسٍ كبرى.
نسجل هنا أن رواية باسم خندقجي “قناع بلون السماء” اشتبكت مع ذلك الغامض والممنوع ونجحت في زج أشخاص من لحم ودم ويعيشون حيواتهم بتلك الكيفية العنصرية ووضعتهم في مواجهة موضوعية مع الشعب الفلسطيني، مواجهة تلامس الأسئلة الكبرى والمصيرية وتؤشر للمآلات النهائية وتقدم في الوقت نفسه لوحتي حياتين إحداهما للمحتل ومؤسساته وأيديولوجيته، والأخرى للشعب المثقل بقوانين الاحتلال وتعسف سلطته وأدواته وحتى أفراده ومناصريه في أن تتركهم “طبيعيين” وطلقاء يختارون بحرية كاملة كيفية التعبير عن أنفسهم ومفاهيمهم التي يمارسونها عادة في الحياة اليومية والتي تشكل قوام علاقتهم بالشعب الفلسطيني.
ثمة في الرواية صعود كبير، عال ومرموق ولافت للبنائية الروائية التي نلمس بوضوح ما تحمله من تركيبية متناسقة تلملم ملامح الشخصيات بل والأماكن من جغرافيا فلسطين بوجهيها الفلسطيني الحقيقي، والآخر الذي يحمله ويجسده سرد الرواية الإسرائيلية، وسنرى براعة الكاتب في القبض على التناقضات الحادة بين أفراد وتجمعات وفئات المهاجرين إلى فلسطين من الصهاينة وما يحمل كل واحد منهم من وعي مختلف ينتمي لبلاد أخرى وعوالم أخرى.
هي حكاية تنفتح بعد ذلك على سياقات حدثية لها خطوطها المتعددة في العمل ومراكز البحث والاكتشافات الأثرية، كما في عالم النساء برمزيته التي تجسدها من جانب اليهودية الصهيونية “إيالا”، وابنة حيفا الفلسطينية “سماء إسماعيل”. هناك أيضا الصديق الذي يكتب له بطل الرواية “نور” رسائله التي يبوح من خلالها بأشيائه الهامة، ومشروعاته اليومية وما يحدث معه، وهي كلها شخصيات نلحظ أن باسم خندقجي شاء لها بقصدية محمودة أن تكون بملامح حقيقية حتى وإن حملت بعض الرمزية، وهي على أية حال رمزيات لا توازي حضورها وتجسيداتها في الواقع وانتمائها له بقوة. ليست الشخصيات في الرواية مكبَّلة بالسرد، فالسرد يواكبها ويتيح لها أن تنبثق منه بسلاسة وتلقائية، وقارئ “قناع بلون السماء” سيتوقف بالذات أمام “الحوارات المتخيلة بين بطل الرواية “نور” وبين نقيضه “أور” المتخيل أو إذا شئنا الدقة الإفتراضي: إنه كناية درامية– فنية عن الطرفين الرئيسين، الشعب الفلسطيني والاحتلال: في تلك الحوارات المفترضة يرسم الكاتب صورتين للنقيضين وصورتين لخارطة وعيهما وثقافتهما التي هي علامات كبرى على صراع دام قرابة ثمانين عاما إلا قليلا، كان المحتل خلالها يقلب باطن الأرض في بحث محموم عن “آثار” ما لأسلاف له وكان اختيار الكاتب لرحلة البحث الأثري قرب مستعمرة “مشمارهعيمق” من أجل العثور على معسكر “الفيلق الروماني” الذي يرى فيه الصهيوني “أور” جذورا تاريخية تربطه بقوى عظمى أوروبية مرَّت على البلاد في ارتباط ذكي ومنطقي بالجهود الكبرى التي بذلتها وتبذلها الدولة الإسرائيلية لتكريس “رواية” تاريخية تقوم على اعتماد تفسيرهم للتوراة. وهو خيار يشبه الإمساك بمفاتيح الدراما الإنسانية وما تمتلكه من رؤى تتجنب اليقينيات وتختار بدلا منها الصراع المفتوح والموضوعي من خلال واقعية هي مزيج من الفن العالي والالتزام الفاعل والإيجابي بالحقيقة وقد رأينا هذا في عدد من الروايات الفلسطينية التي صدرت خلال العقد الأخير، وها نحن نعيشها في صورة مباشرة مع رواية باسم خندقجي.
باسم خندقجي في “قناع بلون السماء” يرسم لوحة للصراع الدائر في فلسطين بين عالمين مختلفين بل متناقضين، عالم الشعب الفلسطيني بسياق وجوده الطبيعي، في مواجهة عالم آخر تأسس على الأساطير التوراتية وما يسمى “الوعد الإلهي” الذي منح بموجبه الرب أرض فلسطين لـ”الشعب المختار”، ونرى هذا التناقض الحاد والمصيري في جدل الحياة والعبث بين “نور” الفلسطيني و”أور” الإسرائيلي وكلاهما يقف في الرواية متسلحا بعدَة المواجهة وأدواتها، ويختار خندقجي للشخصية الإسرائيلية اسم “أور” والذي يعني أيضا نور، أي إننا أمام اكتمال السطو على وجود الفلسطيني بالكامل، فالغاصب يتحرك ويعمل لتحقيق فكرة وحيدة هي إزاحة الفلسطيني من البلاد في صورة نهائية تشمل حتى أسماء الناس والأماكن وبالتأكيد تسطو على التاريخ وتعيد كتابته من جديد وحسب شعارات وهمية تستند إلى أوهام توراتية ووعود إلهية لا أساس لها، ولا دور تحققه سوى أن تكون مادة أيديولوجيا الكراهية التي تحذف الآخر وتلغيه والتي يريد لها الاحتلال ورموزه وأفراده ومؤسساتهم أن تكون لغة اليوم وغدا التي تميز دولتهم والتي نراها اليوم وقد ارتطمت ببدايات صحو العالم كله حتى في بلدان الغرب الأمريكي والأوروبي التي كانت لعقود سبعة ونيف مساحة التأييد المطلق لإسرائيل وعدوانها الصارخ على العدالة الدولية.
هي رواية بموضوع جديد تماما على الرواية الفلسطينية، وأعتقد أنها بهذا الاشتباك الحاد والمباشر مع الرواية الإسرائيلية النقيضة يزج الرواية في ساحة اشتباكها الأهم والأشد وعورة. يلاحظ قارئ الرواية حيوية تكوين الشخصيات ضمن بنائية تمنحهم ملامحهم الواقعية كما هم في فلسطين اليوم: فكر مهاجرين مدججين بالأيديولوجيا التوراتية والأحلام العنصرية يتوحدون حول خيار واحد وحيد هو الإحلال، وفكر ووعي فلسطيني مختلف بل نقيض يؤمن بالتعايش الذي يلزم كي ينتصر أن تتم هزيمة العنصرية ودولتها بكل قوانينها وطغيانها وارتباطاتها الكولونيالية بالقوى الاستعمارية الغاشمة ويسهم انتصاره في استعادة العالم لمنطق العدالة للجميع الذي أدى اختلاله في العقود الماضية لأن يحدث كل ما حدث من حروب متكررة واعتداءات دمرت الكثير وقتلت مئات الآلاف من الأبرياء في فلسطين وحتى في البلدان العربية الأخرى التي عانت طويلا من آثار العدوان الإسرائيلي وحروبه التي لم تتوقف وطالت البشر والحجر وأورثت الجميع التخلف والفقر بسبب غياب العدالة خلف أسوار العدوان والعنصرية.
ثمة فلسطين الواضحة في “قناع بلون السماء”، ففي ذلك “الكيبوتس” الذي شهد سعي الصهاينة العبثي لاستنطاق باطن الأرض ليقدم شهادة زائفة لمصلحتهم، نلمح أجزاء فلسطين وأهلها في “نور” بطل الرواية وابن المخيم وصديقه الشيخ وصديقه الآخر “مراد” الذي يقبع في سجون الاحتلال، ليكتمل الجمع بتلك الفتاة الحيفاوية (سماء) التي تحضر في مشاهد التنقيب عن الآثار، بوعيها وبموقفها الوطني الواضح والثابت. إنها نصف “نور” الآخر، صورة من ظلوا في مدنهم وقراهم في فلسطين في عام النكبة. “سماء” التي كانت ترقب بثقة وتماسك ووعي، هي بطلة المشهد الأخير للرواية، هي من تهرع إلى “نور” لتحمله بسيارتها بعيدا عن ذلك الكيبوتس الموبوء فتحقق معادلة وحدة الفلسطينيين في مناطقهم وتجمعاتهم كلها رغم تاريخ طويل من العسف والاضطهاد العنصري لتشويههم وكسر وحدتهم ووجودهم على أرضهم.
من المهم في أية قراءة لهذه الرواية ملاحظة ميزتين لافتتين:
اهتمام الرواية من خلال سرديتها بالمكان، ونحن هنا نتحدث عن مسألة كانت لزمن طويل تغيب من الروايات الفلسطينية غالبا لسبب بسيط وواقعي أنها روايات أبدعها كتاب يعيشون في بلدان الشتات، بل لعلنا لا نبالغ أن نقول أن الاستثناء الوحيد الذي كنا نعيش معه أمكنة فلسطينية هو قصص وروايات الراحل إميل حبيبي وهو الذي عاش ومات في حيفا ومدن الجليل الفلسطيني. هنا في “قناع بلون السماء” ثمة حياة حقيقية تتجسد في المدن المحتلة وفي القلب منها القدس. أهمية المكان تبدو على جانب متعاظم إذ هي نجحت في تكوين مشهد حياتي يسند واقعية الحدث الروائي، ويرتقي به ليس في مدن الضفة الغربية ومنها القدس وحسب، ولكن –وهذا يحسب للرواية– في مناطق الاحتلال الأول إثر نكبة العام 1948، فالكيبوتس الذي كان مسرحا لأحداث البحث الأثري عن معسكر الفيلق الروماني جرى تقديم منطقته في الرواية بأصولها الفلسطينية وتاريخها وبعض وقائع حياتها قبل النكبة التي تشهد أنها كانت مسرحا لحياة حقيقية كانت تنبض بالزراعة والخير ويعيش أهلها في سلام كان يمنحهم الحلم والحياة الكريمة، الطبيعية والخالية من الحروب وكوارثها وآلامها الدامية على النحو الذي يعرفه الجميع من تاريخ المنطقة والعالم.
في إشارتنا لعنصر المكان في الرواية نشير إلى ما حققه المكان روائيا في خلق مناخ درامي يتفاعل مع الحدث الروائي ويمنحه الكثير من صدقيته وواقعيته والأهم أنه يمنحه حضوره كحاضنة اجتماعية تختزن عادات الناس وتقاليد وأشكال ثقافتهم ووعيهم ما طبع الرواية وشخصياتها الرئيسة والثانوية بالكثير من ملامح حقيقتها وكينونتها بما هي عدَّة مقاومة الهجمة الاحتلالية التي تزود الفلسطينيين بإكسير الصمود والمقاومة، فالمكان هنا هو ماض وحاضر مستمر ومتفاعل بينه وبين أهله وهو تفاعل يذهب بنا نحو ضمان مستقبله كفضاء اجتماعي– إنساني له ثقافته وعاداته وتقاليده مثلما له وعيه بأهوال الحاضر ومخاطره في زمن الاحتلال الاستيطاني الإحلالي.
أما الميزة الأخرى فهي بالتأكيد في استحضار بلاغة العذاب الذي عاشه ويعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال المباشر دون “خطابة” بل من خلال التحديق في تفاصيل تلك الحياة القاسية وغير الطبيعية والتي باتت منذ الاحتلال الأول لفلسطين وما ترتب عليه من نكبة كبرى صورة فلسطين وقوام عيش أهلها الذين لم تتمكن عقود الاحتلال الاستيطاني السبعة من إلغائها أو إلغاء أصحابها بل ها هم يعودون كطائر الفينيق الذي ينفض عنه الرماد ويحلق عاليا من جديد في عالم لم يعد مغلقا، عالم فشلت كل أدوات الشر في تأبيده وها هو اليوم يسترد رؤيته ورؤاه وينتصر للعدل والحرية والسلام الحقيقي الذي لن يتحقق إلا بتحقيق استقلال الشعب الفلسطيني في وطنه.
“قناع بلون السماء” كسرت أسوار المعتقل وحلقت عاليا في سماء الأدب فاستحقت جائزة البوكر للرواية العربية في دورة 2024 واستحق صاحبها باسم خندقجي أن ترتفع الأصوات لفرض الإفراج عنه وعودته إلى الحرية والحياة الطبيعية بين أهله وأصدقائه ومحبيه كما يفترض المنطق الطبيعي والتفكير السوي، الإنساني والموضوعي في العالم كله.