جوخة الحارثي
روائية وأكاديمية عُمانية
نظرَ إليّ، فاجأني وجهه قريبًا إلى هذا الحدّ من وجهي، رأيتُ التجاعيد واضحة حول عينيه، وتذكّرتُ، كأنما لم أنتبه من قبل، أنه أكبر مني بحوالي عشرين عاما.
ظلَّ يتحدّث بهدوء، بلا أدنى انفعال، وظللتُ أومئ موافقةً له، مع أني لم أتمكن من التركيز حقًّا فيما يقول، بسبب إنهاك تحضيرات العُرس، وأصوات الغناء المتواصلة في الخارج. كان الزفاف بسيطًا، حسب رغبته؛ زفَّة تقليديّة من بيت أهلي إلى بيته، أقارب يغنّون، ووليمة عشاء.
كَسَرت عمتي بيضتين، وذبحت ديكًا على عتبة الباب، خطوتُ فوق دم الديك وصفار البيض ودخلتُ إلى البيت الذي سيصبح بيتي. وقفتُ لبرهة في الحديقة، لا أراها بوضوح رغم مصابيح الزينة المعلّقة في خطوط أفقية، وذلك بسبب الطرحة المنسدلة على وجهي. دفعتني عمتي وصاحباتي حتى أصبحنا داخل الصالة، وحين أجلسوني على إحدى الأرائك جلس هو بجانبي ورفع الطرحة عن وجهي، ابتسم لي بلطف، وملأتني الغبطة، ها قد أصبح لي بيت وزوج، مثل كل البنات.
لقد انتظرتُ طويلا هذه الحياة، فرغبتُ في دخولها بكل عزم.
انفضَّ الأقارب والأصحاب، وواصل بعضهم الغناء خارج البيت، وهو مستمرّ في الحديث، وواصلتُ الانتظار، والصبر، ومقاومة التثاؤب، ومغالبة الإرهاق، ورأيتُ عينيه كأنهما سمكتان تتلبَّطان في ماء، وغبتُ عن الوعي.
حين صحوتُ كنتُ بكامل ثيابي على السرير المفروش بساتان وردي لامع، على ذوق أخته الكبرى كما خمَّنتُ، هي التي عاونته في إعادة ترتيب البيت لعُرس جديد وامرأة جديدة بعد رحيل زوجته الأولى. لا ريب أنه كان رحيلا فاجعًا، لا أعرف على وجه الدّقة المرض الذي قتلها، ولا كم من السنوات بقيا معًا.
لم يكن بجانبي، وإن كنتُ عشتُ سنيني الست والثلاثين في عفَّة قاسية، فإن أفكاري عن الزواج لم تكن مُشوَّشة، كنتُ أعرف ما ينبغي أن يحدث، أو هكذا قدّرتُ. أزحتُ الستارة، وفتحتُ النافذة فلمحتُ شفق الفجر، أشفقتُ على نفسي أن تمرَّ ليلتي الأولى وأنا مازلتُ عذراء، فتجوّلتُ في البيت الواسع بحثًا عنه، ووجدتُه نائما في غرفة أخرى خضراء الجدران، وقفتُ لبرهة أتسمَّع شخيره، الشخير الذي عليّ منذ الآن أن أتعوَّد عليه، ثمَّ فتحتُ خزانة الثياب بهدوء لأجد ملابس نسائية تملأ الرفوف، ثياب زوجته الميّتة بالطبع.
كانت الملابس مرتّبة حسب نوعها؛ قمصان مطويّة بدقّة فوق بعضها البعض على نفس المستوى، وبناطيل مطويّة بالعناية ذاتها، أوشحة متعددة الألوان، وبعض القطع التقليدية المطرَّزة معلّقة داخل أغلفة بلاستيكية بسحّابات، وعدد من الفساتين البسيطة الطويلة المعلّقة إلى جانب العباءات. ليست كثيرة ولا قليلة، هل كانت تخرج للعمل؟ أم كرَّست حياتها للاعتناء به والولد؟ روَّعني أنه لم يتخلص من ثيابها، لِمَ لَمْ تُسعفه البديهة لهذا؟ أو أنه لا يتمتع بالحساسية الكافية ليدرك أن متعلقات المرأة الميّتة تجرح المرأة الحيّة؟
عدتُ إلى الغرفة الأخرى، غرفة عرسي، وكانت على خلاف غرفة الزوجة الأولى مطليّة بأزرق مائي خفيف، وحطَّتْ الخيبة عليَّ موجات متلاحقة، هيّنة في البدء، وعاتية من بعد، وأنا أتأمل حنَّاء يديّ الذي تمتد نقوشه الدقيقة حتى أعلى ذراعيّ، ذراعيّ اللتين لم يأبه حتى بالنظر إليهما.
تمثّلتُ ذراعيّ وساقيّ قبل أسابيع من العُرس في خلطات التنعيم، والدلكات العجيبة، وحمَّامات الحليب والعسل، وسُحُب البخور، ورأيتُهما يوم العُرس أخشابًا ملقيّة بجانبي، بلا حياة، ألواحًا تقوم مقام أطرافي اللدنة، التي حلمتُ أن رجلي سيمسّها بشفتيه، ويمرّغ عينيه ووجهه في نعومتها، لكنه لم يرها حتى، لم يمدّ يده ولو للمسة عابرة.
حكَّ النور مخدّتي التي يخشخشُ ساتانها كلما تحرّك خدّي عليها، وذكّرتُ نفسي بما أنا عليه، لستُ فتاة غرَّة موهومة بخيالات حبّ ملتهب، بل إني ناضجة، تفصلني عن الأربعين سنون قلائل، اعتنيتُ بأمي المقعدة، مشَّطتُ شعرها وحمّمتُها وبدّلتُ حفاظاتها، كل يوم، لعشر سنين. كنتُ عينيها وأذنيها ويديها ورجليها، منذ أن بدأت حواسّها في الذبول والتلاشي، أسندتُ الحياة القليلة في بدنها وهو يذوي شيئا فشيئا حتى اختارها الله إلى جواره. قالت الجارات: قد أصبحتِ حُرّة الآن.. تزوَّجي.. وأنجبي أولادًا ينفعونك مثلما نفعتِ والدتك.
قالت الجارات: ها هو ذلك الرجل من تلك البلدة قد ماتت امرأته بمرض عُضال، هلّا تكونين امرأته؟ قالت الجارات: إنّه كلّف أخته بالبحث عن زوجة، وعينها عليك. وفي ذات ضُحى قلتُ لهنَّ: نعم، على أن أراه أولا، فرأيتُه، رحَّب به أبي في صالة بيتنا، ثم انسحب ليتيح لنا أن نتحدّث. راقني الرجل الخمسيني الهادئ وهو يكلمني عن عمله في شركة استيراد وتصدير، وعن أخته المقرّبة منه، وعن ولده الذي يدرس في أستراليا. قلتُ في نفسي: هذا هو. هذا هو الرجل الذي سيجعلني امرأة، وسيُشعرني بأنوثتي التي كبحتُها في مطهّرات الديتول، وفِراش فقاعات الزئبق، ومراهم التقرّحات، والحُقن والأنابيب التي احترفتُ التعامل معها كلها بأفضل مما تعلَّمْتُه في كليّة التمريض. من أجله سأقفل غرفة أمي على معقّماتها وشاشاتها وبقايا أنينها، وأتعطّر وأتبخَّر وأكحّل عينيّ وأصبغ أظافري.
وقفتُ إلى جانب سريري الجديد وأنا أتخيل خطوتي فوق رأس الديك المذبوح وقشر البيض المكسور، التي ظنَّت عمتي أنه بخطوي فوقهما سيتخطّاني مصير الزوجة الأولى، وسأنجو من كل شؤم قد يجلبه الزواج بأرمل. وحينها عرفتُ أوّل ما ينبغي لي فعله: تبديل هذا الساتان صاخب الحفيف بملاءات كنتُ قد أحضرتُها في صندوق جهازي، قطنية بيضاء مُطرّزة بوردات لها بتلات ملونة ناتئة. استغرق فتح مندوسي وترتيب أغراضي وتبديل الشراشف والوسائد وقتًا طويلًا، أشرَقَتْ أثناءه الشمس، فأصلحتُ زينتي، وأعدتُ طلاء رموشي، وتحديد عينيّ بالكُحل، وشفتيّ بأحمر الشفاه، وفتحتُ البابَ مبتسمةً لأخته التي أتت إلينا بالفطور. أيقظه جرس الباب، فجاء على عجل، أخذ الصينية من يدي أخته التي رفضت الدخول لتتيح لنا الخصوصية في الصباحيّة.
وضع الصينية على الطاولة وهو يقول لي: “صباح الخير”، فجلسنا نفطرُ معًا فطورنا الأول، قطَّع الخبز والتهمه مع البيض المخفوق، بكل تلقائية وشهيّة، ومرَّر لي ترمس الحليب الساخن بالزعفران لأصبّ كوبًا لنفسي كما صبَّ لنفسه، كأنما أفطرنا معًا كل حياتنا، وما هذا إلا صباح روتيني آخر يمرُّ بنا، حتى خطر لي أنه ربما يذهب إلى الغرفة الأخرى، الغرفة الخضراء، ويرتدي ثياب العمل ويخرج. لكنه لم يفعل، بل قادني من يدي، بهدوء، وحوَّلني في الغرفة الزرقاء ذات الملاءات القطنية بورودها البارزة من فتاة إلى امرأة.
لم يكن مُتعجّلا، لكنه لم يُعنَ بأي تفاصيل، كان غائبا في ذاته، ذائبَا داخلها، كأنه يتحرَّك دون أن يراني، ظلَّتْ أطرافي أخشابًا مرميّة وأنا أرقبُ حركته حتى وعيتُ أني قد صرتُ فعليّا زوجة. خرج ليستحمّ في حمّام الغرفة الأخرى، وبقيتُ أنتظر، لا بد من لمسات حنون، وهمسات ما، ليُختَم هذا كلّه، وأستوعبه، وأحفظ ذكراه، ذكرى المرة الأولى، في وجداني إلى الأبد.
وكنتُ، في عزلتي الطويلة منذ تركتُ وظيفة التمريض في المستشفى المرجعي، وأصبحتُ ممرضة لأمي فقط في غرفتها، قد شاهدتُ عديد الأفلام، وأنبتُّ، رغمًا عني، عديد التوقّعات، عن ملامسة الجسد للجسد، وتردد الروح بينهما، غير أن زوجي عاد بعد الاستحمام ببساطة ليقف أمام المرآة يلفُّ عمامته المزخرفة بزخارف بنيّة، ويتعطّر بعطر ذي رائحة نفَّاذة، دون أن يلتفت إليّ وأنا ملتفّة تحت شرشف الورد المنقوش، وبعدما انتهى، قال لي: “تجهّزي ستأتي قريباتي للتهنئة”.
فكّرت في كلماته العادية القليلة، كأنما أخذ كالمعتاد امرأته التي كانت معه لعشرين أو ثلاثين سنة، وبعدها قال ببساطة: تجهّزي لكذا أو كذا…
لم ألبث في ذهولي إلا قليلا حتى سمعت أصوات الزوّار، فأصلحتُ من شأني، وخرجتُ لضيوفي، لضيوفنا، مبتسمة. انشغلنا بمجاملات الناس سحابة يومنا، وفي الليل لبستُ أحد القمصان التي ساعدتني صديقتي في اختيارها، قميص كريمي طويل الذيل بلا أكمام، بدانتيل على الصدر والكتفين. صنعت شايا بالنعناع، ووضعت الإبريق على الصينية الفضية، ونسَّقتُ الكيك الذي أحضرته قريباته، بجانب الكوبين المزخرفين بزهور صغيرة وردية وحواف ذهبية، وكنتُ تخيّرتها مع طقم الصحون لجهازي. جلست بجانبه على الأريكة في الصالة، فنظر إلى قميصي الشفَّاف نظرة لا بالطويلة ولا بالعابرة، لا معجبة ولا ساخطة، كأنما يرى من خلال جسمي مسند الكرسي خلفي، فداهمني الخجل، ووددتُ لو لم ألبس قميصا شفَّافا بلا أكمام منذ البدء، ولكنه لم يقل شيئا عن القميص، ولم ينتبه إلى خجلي، بل واصل الحديث وهو يترشَّف الشاي عن أقاربه الذين زارونا اليوم، مُعرّفا إيّاي ببعض تفاصيل حياتهم وعلاقاتهم.
توقفتُ عن الاستماع إليه وتنامى إحساسي بالخجل من ذراعيّ العاريتين، ونحري العاري، وأذنيّ وقرطيّ وشعري، ولم أتمالك التفكير أني امرأة غير جذابة، ولم أنتبه إلا وهو يأخذني إلى الغرفة الزرقاء، وهو في تركيزه ذاك على نفسه، ومتعته الخاصة، كأنما لم يعرف في حياته رغبات الأنثى، ولم يسمع شيئا عن نشوتها.
بقي أسبوعا في البيت معي، نخرج في نزهات بالسيارة في الصباح، ونتكلم بخفوت في شتى المواضيع بالليل، لكنه لم يقل كلمة واحدة عن لدونة كتفيّ في القميص الحريري الكحلي الذي قالت صديقتي إن أي رجل يرى جسدي الممشوق فيه سيجنّ، ولا عن لمعة عينيّ التي كانت أمي تعدّهما أجمل ما فيّ، ولم يلمس أصابع قدمي ولو سهوا. فكرت في كونه جاف الطبع وحسب، لكنه لم يكن جافّا، بل لطيف المعشر، وسلس المعاملة، ولم يكن كذلك صموتا، كان يتحدث في كل الشؤون باسترسال، مما زاد ارتباكي وحيرتي.
طالما عددتُ نفسي امرأة عمليّة، قد مرَّت عليّ أحداث جمَّة، ومصاعب لم تمرّ مثلها على من أعرفهم، فعزمتُ على حلّ مشكلتي، ومصارحة زوجي، الرجل الناضج، صاحب الخبرة، بإحساسي بالإحباط. لن أقول له إني أعرف جسدي جيدا ولو لم يلمسه رجل من قبل، فهذا غير لائق، ربما أقول له إني سمعت الصديقات وشاهدت الأفلام وقرأت بعض الكتب التثقيفية، رغم كرهي للقراءة منذ طردي من المدرسة الابتدائية، وهكذا فعندي بعض التصوّرات….
قال بدهشة حقيقية: “وفي ماذا قصّرتُ معكِ؟”
فازددتُ إحراجًا وقلتُ بارتباك: “آمل في المزيد”
قال بجدية:” المزيد من ماذا؟”
فقلت بتلعثم: “من الأحضان؟…أو..”
فابتسم بلطف، واحتضنني برقّة لبرهة، ثم أفلتني وخرج. ففهمتُ أن الكلام بلا جدوى، وأحسستُ بالحاجز الذي كنتُ أحسُّه مع والدي، الحاجز الذي كان يمنعني من شدّة هيبته من جهة، وعظيم كرمه من جهة أخرى، من طلب زيادة مصروفي.
سألني في المساء عما قصدتهُ حين قلتُ إني طُرِدتُ من المدرسة الابتدائية، فأخبرته بمعاناتي من عسر القراءة في مدرسة لم يسمع أحد فيها بهذا، فطُرِدتُ حتى تمَّ ردّي بتوسّط عمتي التي كانت تعمل أمينة مكتبة إن وُجِدَت الكتب القليلة، أو أخصائية اجتماعية إن فُقِدَت الكتب بالاستعارات والسرقات لقصّ الصور منها، فأرجعتني المديرة مجاملة لعمتي التي كانت تحضر وجبات دائمة لحضرة المديرة في علب أنيقة مربوطة بمناديل مشغولة الحواف بالكروشيه. لكن عسر القراءة ظلَّ مستمرا، فألصقت المعلمة على ظهري ورقة كُتِبَ عليها: “أنا حمارة، عمري عشر سنين ولا أقرأ”، وأجبرتني على الطواف بها في كل أرجاء المدرسة.
كان مستمعًا جيّدا مثلما هو متحدث جيّد، إنما لم يمدّ يده ليلمس خدّي أو أصابعي ونحن نتحدث. أخبرته وأنا أغفو أن معلمة جديدة جاءت للمدرسة في النهاية، وركّزت معي على اللغة البصرية أكثر من التدريب الصوتي، وأنقذتني من اللافتة المعلقة على ظهري. نمنا ونحن نتحدث، وحلمتُ بولده الذي يدرس في أستراليا عائدا إلى البيت وغاضبًا مني.
في الغرفة الخضراء وقفت أمام المرآة التي تغطي أحد أبواب الخزانة، وشككتُ في كل شيء.. لعلّ وجهي ليس جميلا كما كانت أمي تظنُّ. لعلّ شَعري ليس ناعما، لعلّ قوامي ليس ممشوقا، لعلّ يديَّ وقدميَّ غير جذّابات، لعلّي لا أعجبه، لعلّه يؤدي ما يعتقد أنه الواجب والسلام. حاولت توجيه أصابعه إلى بشرتي غير مرة، أو مبادرته بضمّه إلي، فكان يجفل قليلا. وفي أحد المساءات كان يمضغ فطيرة بالجبن حين طوّقتُه فجأة، فقال وهو يدفعني برفق: “سيقف الأكل في بلعومي هكذا”، مما دفعني إلى التوقف في النهاية.
عاد إلى عمله الذي تبيَّن أنه يستغرق ساعات طويلة، فتلصّصتُ بحرية على أرفف ثياب المرأة المرتبة بعناية في خزانة الغرفة الخضراء، بعثرتُ محتويات الأدراج، شممتُ قوارير العطور، وحرّكتُ بإصبعي بقايا الكريمات في العلب، ولكن لم أعثر لها على أي صور، وكان هذا غريبا، أو مقصودا.
تضخّمت المرأة الأخرى، الميّتة، بداخلي، تخيّلتُها خارقة الجمال، ولما مرضتْ ذبلتْ، وشحبتْ كملاك ذاوٍ، ليس بروائح الصديد وقطرات البول كأمي، بل تحولت امرأته إلى روح شفافة في جسد يحتضر بأناقة. وحين تلاشى الجسد، بقيت الروح تقوده إلى ذلكم الجسد الذي كان ريّانا، والذي لن يفتح بعده عينيه على وسعهما، ولا يديه على اتساعهما لأي جسد آخر.
حاولت إلهاء نفسي بالطبخ، أشم رائحة ثوم يتعطَّن، أشم رائحة قديد قديم، أبحث عن القديد والثوم ولا أجدهما. كانت أطقم الأواني في المطبخ جديدة كلها، ما أدراني أنها ليست أوانيها؟ لعلها مثل عمتي مهووسة بالعناية بمواعينها، لعلها اعتنت بكل مقلاة وقدر وصحن وملعقة حتى ماتت، لعلها لـمَّعَتْ مدقّات الهاون هذه متعددة الأحجام والأشكال بنفسها، لعلها تخلصت بنفسها من صورها في البيت، لعلها واظبَتْ على عنايتها الخارقة بزوجها حتى لما أصبح زوجي أنا، وأصبحت هي في قبرها.
كانت هذه الهلاوس تستحوذ عليّ يومًا بعد آخر، يغذّيها صمته عن أي شيء يخص وجود المرأة الأخرى، بدَتْ لي أكثر حياة من أي امرأة حيّة أعرفها، بتُّ أقضي الوقت كله في غرفتها، الغرفة الخضراء، أتأملُ فساتينها، وأرشّ بقايا عطورها، أصبح هو ينام على فراشي بالغرفة الزرقاء، ولكنه مازال يستحمُّ في هذه الغرفة، يُحكم إغلاق الباب فلم أره يستحمُّ ولا مرّة. كان على هدوئه ولطفه الذي رأيته عليه أول مرّة حين جاء بيت أبي خاطبا، ولكني لم أعد أستطيع العودة إلى الحديث عن الإحباط والتدليل والخيالات، بدا لي رجلا بلا خيال، أو أن خياله قد سُرِق منه في حياته السابقة.
قررتُ زيارة أبي وعمتي لأسبوع، وربما أكثر. نظّفتُ بيت أبي وتوقفتُ عن شمّ الثوم العَطِن والقديد القديم. نفضتُ الغبار عن غرفة أمي، وتأكدتُ أن ثيابها كلَّها في الخزانة لم تُمسّ. لم أستطع الشكوى لعمتي أو لصديقتي، ستقول عمتي: “على المرأة التكيف والصبر ما دام الزوج يحترمها ولا يؤذيها، لو كنت حظيتُ بزوج مثلك لم أكن لأتركه ولو يوم”، وستقول صديقتي: “عليك ألا تقيسي ثقتك بنفسك وأنوثتك باهتمام رجل أو عدم اهتمامه، لماذا تهتزّ ثقتك بنفسك لأنه بلا ذوق؟ مجرد رجل أناني في الفراش. ما علاقة هذا بإحساسك أنكِ غير مرغوبة؟ أنتِ فاتنة، لولا رهبنتك من أجل أمك كنت تزوجتِ من زمان”.
لا أريد سماع كلتيهما، لا أريد القول لا لهما ولا له إني انتظرتُ هذا الاهتمام لعشرين سنة على الأقل منذ تفتَّحت الزهور فيّ إلى اليوم. وكنتُ مرةً، قبل بضع سنين، في هوىً أفّاك، يتغذّى من لا شيء سوى الرغبة في الهوى، وقد علّمتني تلك العاصفة كيف تذوب الأعضاء لكلمة، وإن لم تُمَدّ لها إصبع. فلما جئتُ لرجلي هذا جئتُه باشتهاء الكلمة التي عرفتُ، واللمسة التي لم أعرف، فوجدتُ قبض الريح.
إذا كنتُ رجعتُ إلى المدرسة على الرغم من الورقة المعلّقة على ظهري التي تعلن أني حمارة، فكيف لا أرجع إلى حياتي الزوجية على الرغم من إحباطي من الحسيّ فيها؟ لعلّني أحبلُ منه، ولعلَّ البنت التي ستجعلني أمًّا وستعتني بي كما اعتنيتُ بأمي ستأتي، تماما كما تنبّأت جاراتي، وسأنسى كم هو قاسٍ أن تحلم، أن تستند إلى كتف لن يكون لكَ رغم العقود الموثّقة، والمواثيق الغليظة، والأفراح المعلنة.
انتقيتُ من خزانة الغرفة الخضراء بنطلونًا أبيض واسعًا، وقميصًا سماويًا بياقة وقُبَّة مخملية مقلوبة إلى الخارج، فردتُهما على السرير، وتخيَّلتُ المرأة الأخرى بداخلهما، من قياسهما لا يبدو أنها ممتلئة أو نحيفة، ربما كان قوامها مثاليّا، القوام الذي يفضّله هو. هممتُ بارتداء ثيابها لأرى إن كان لنا المقاس نفسه، أو ربما لأفاجئه بي في ثيابها، ثم تردّدتُ، طويتُها وأعدتُها إلى حيث كانت.
فكّرتُ أن هذا لم يبقَ قياسها نفسه لـمّا مرضت، وذبُلت وَذَوَتْ. هل كانت تُمسك بيده بأصابعها النحيلة خوفًا من مداهمة الموت لها وهي وحيدة كما كانت تفعل أمي؟ هل كانت تشتاق إلى أوانيها الـمُلمَّعة فيحملها بين ذراعيه إلى المطبخ ويدقّ من أجلها الثوم في مدقّة الهاون الضخمة؟ هل أصرَّت على إبقاء الأنوار مشتعلة بالليل، وهمسَتْ له كما تَمْتَمَتْ لي أمي بصوتها الواهي: “لا أريد أن أموت في الظلام”؟
هل طلبَت منه أن يُعلّق قنديلا على قبرها؟
لم يُصدّق أو يهتمّ أحد برغبة أمي في القنديل. ظنَّ أبي وعمتي أن دافعي هو الحزن والإنهاك حين أخبرتهما بطلب أمي، ظنّا أن مرض أمي قد أكل روحي، وجعلني أهذي. لم يرَ أحد الجمال الخبيء في امتزاج روحينا إلى ذلك الحد، استحضرتُ طيفها بعد زواجي لأخبرها أن زوجي لم ينتبه للحَسَنة التي اكتشفتُ أني ورثتُ مكانها أعلى الفخذ عنها لما حمَّمتُها لأول مرة بعد اعتلالها.
بملازمتي سرير مرضها أعادتني أمي إلى رحمها كما أخرجتني منه. ولأن ذهنها ظلَّ متوقّدًا بقيتْ هي هي؛ أمي التي بوسعها ولادتي كلما شاءتْ، لم يُهزَم فيها غير الجسد، أما ضوء عقلها الشفيف فسبَحنا فيه معًا بتناغم لم يدركه سوانا، وإن كان ذلك الضوء يبدو شبه متَّسخ للآخرين، فإنه كان نقيًّا تمامًا بالنسبة إلي، وما أسمته الجارات بـ”تضحياتي” كان حياتي وحسب. حياة شاقة ولكنها ليست بئيسة كُليًّا. لكنَّ أحدًا في بلدتي لم يسمع بقناديل تُعلّق على القبور المتقشّفة التي لا تُميّزها شواهد أحجارها القصيرة الكالحة المتشابهة عن بعضها البعض، ولم يستوعب أحد كيف يمكن لميّت أن يخاف من الظلام ويستأنس بضوء قنديل.
مرَّت أشهرٌ على زواجي الآن، قررتُ بعد تخبّط ألّا أستعرض ملابس وأشياء الزوجة السابقة مرة أخرى، وأن أكفَّ عن تحميلها مسؤولية لا مبالاة زوجي تجاه تفاصيل جسدي. توقّفتُ عن دخول الغرفة الأخرى، اعتبرتُها خارج بيتي ببساطة، وكفَّ زوجي عن الاستحمام في حمَّام تلك الغرفة. أشمُّ أحيانا الرائحة العَطِنة للثوم والقديد، وأسمع دقَّ الهاون الحديدي في المطبخ، وأنفضُ الغبار عن ملابس أمي كلما زرتُ أبي في بيته، وأعبثُ أحيانا بعبوات الحنّاء لتجريب نقوش جديدة على ذراعيّ وساقيّ، أولعتُ خاصة بنقش أطواق من الأزهار الدقيقة المتداخلة، وهو نقش يحتاج إلى دقّة ووقت أطول ليُنقَش ويجفّ.
ودون أن أخبر أحدا علَّقتُ قنديلًا مُضاءً بالكيروسين على القبر الذي قدّرتُ أنه قبر أمي، فلم أكن متأكدة لشدّة تشابه القبور وخلوّ شواهدها من الأسماء، وعلّقتُ قنديلًا آخرَ مُطفأً داخل خزانة المرأة الأخرى في غرفتها الخضراء.
* النص من مجموعة قصصية قيد النشر، بعنوان “ليل ينسى ودائعه”.