-1-
كل كتابة تتضمن بالرغم من أنفها حركة إيروسية تتفاوت درجة حرارتها حسب نية الذات الكاتبة. أحيانا ننسى أن قواعد النحو والإعراب متواليات رياضية تتوخى تنظيم هذه الفوضى الشهوانية التي تندفع بحدسها لغة الشاعر الى حتف سيرورته الانتشاء، إن هاجس أي قاعدة في أي سياق، لغويا كان أو مجتمعيا، هو كبح النهوض، ترويض الإندفاع وتكميم الطوفان لتحقيق نوع من التوازن يضمن للسائد استمرارية واقية من شرور التغيير ولعنات الشهوة المفرطة.
-2-
هكذا كلما يدخل مشروع ابداعي ما النسيج اللغوي يجد نفسه مجرورا الى نزهة قسرية في شارع عمومي تصطف به محرمات متبرجة تستميث للايقاع بشحنته، وكسر انتهاضه بمصالحة جنسية عادية تحلب منه كل قدرة على التوغل في مساحات مجهولة وجاهلة بمواضعات التعليب المعهر للذة، إذن في بضع لحظات يفرغ المشروع الابداعي جرابه من احتمالات كانت قبل قليل تحلم بافتضاض مغاير ويستمر في نزهة لا تعد بشيء.. هكذا يبضع الشعراء بأثمان بخسة، عندئذ تنتهي الكتابة التي لم تبدأ قط ويهرول ببراءة حمل وديع الى حظيرة يقتات قاطنوها بغائطهم وتسمى أحيانا الحداثة.
-3-
ماذا لو ارتدى مشروع ابداعي، وهو دائما نكرة، قبعة مجرم حقيقي وجال في شارع الكتابة العمومي بمشية تستهزئ من مومسات الواجب وتحتقر علنا طائل لذاتهم المستعملة. وعيه بالمشهد أضحى عضويا لحد أن كل هذه الفخاخ المبثوثة هنا وهناك لا تبتز منه ولو التفاتة متقززة. هكذا يصنع من تأففه ملاعبة تأجج توقه للحم آخر بعيدا عن عملية المذي في محيط آسن. في صلب اختلافه الشجاع يربض نهوض حقيقي هدف رمايته برية تزيد من شساعتها رعشة المجهول القصوى. بخلو مخيلته من أي براءة تنساق بفكره الى ميتة رخيصة، يقصد مسالك الحب الوعرة ويرتكب الجرائم تلو الأخرى مطيحا بالفيتشيات والاستيهامات والتراكيب المعطلة التي تلح على استدرار وده محولا مجرى النزهة الى مغامرة تلتهم كل ما يقترح عليها من صور تشيئية.
-4-
المغامر لا يؤمن بالصداقة المخمرة بمساحيق الوفاء ولا بالحب المزين بالاخلاص ولا بالخيال المتباهي بالواقع. ومن يختار الجريمة يدرك ببساطة أن الاسراف بطبيعته يمسخ الكل الى نقيضه والنقيض الى ضده في هجمة وحشية لا تهادن. نستطيع الآن تعريف النكرة بشكل استثنائي؛ المبدع بخياراته المفرطة لا يتردد في تبذير محزوناته تخييلا وواقعا. وهو في غالب الأحيان يصرف من كينونته ذاتها كي يتحدى أخلاقيات المقايضة المحنطة بحيث ان القواميس ذاتها أصبحت تتكفل بالقتل واعدة الضحايا بحياة أفضل على غرار رغد المومياوات في كنف المتاحف.
-5-
في مغامرته الكتابية يسعى المبدع بتفان الى اغتيال علاقات القرابة المستشرية بين الكلمات والتي تمثل المترادفات جانبها الأشد فضائحية واستهتارا بحق التفرد. لهذا فغالبا ما تنحر الكلمة أختها عند حضوره وتتلذذ بالاستمناء على رفاتها. كما أنه يلزم الجمل على خنق بعضها البعض ويزرع الشك والبغض بين الفكرة واحتمالات انبطاحها على البياض بسلام حتى لو استدعى ذلك كبح التناسلات المجازية وأدوات التشبيه الرخيصة، الكتابة سماد القلق ووقاحته في آن.
-6-
الفعل الجنسي لا يمكنه اختزال المشهد الايروسي الذي لا يستوي إلا على جثة الواجب الجنسي ودم نتائجه التناسلية الأليفة، المغامر يلبي دائما نداء الوحشي المطمور في أمعاء المخيلة ويغذيه بمركز النشوة الحارقة في تضادها مع غنائية القلب الجوفاء، لذا فالبناء الايروسي يطو بقدر ما يفتك بالعواطف وسائر المواويل السجدة للذوبان السهل: القلب شاعر جبان. أما الايروسية فهي مسلك تنيره علامات استفهام تفضي بالكتابة الى حيث يجب أن تكون، برزخ تنحل في وحله مجمل ما ابتدعته اللغة من علامات تكلست بسبب أحوال الطقس المتأدب.
-7-
ثمة قوم يأتون القصيدة، كتابة أو قراءة، من تلال الملل بحثا عن زوبعة ما لبعث ما تهدل تحت ملابسهم الداخلية: مواعيد عادية لاجترار أهات المكبوت ودغدغته بدل بتره، الكتابة الايروسية لا تتوخى أحداث الأثر بجماليات الحب من أول نظرة أو بشعريات الستربتيز التي لا تلهم سوى المصابين بعقدة الحجاب البصرية. انها، ورغم اشمئزاز البعض، تدريب مستمر على رؤية لا تكف عن الاحتفال بصرع المرئي والاستهزاء بانعكاساته الرثة. فتح للصنابير كلها لعل الماء يعترف. الصياد الحقيقي لا يحتاج حملقات المشاهدين وهواة الفرجة كي تبتهج صنارته، ولهذا فالقصيدة بحاجة للشاعر وطعمه أشد مما هي بحاجة لانتظارية القارئ أو أي شاهد آخر في ديكور السياق.
-8-
أحيانا تعرج الكتابات المناضلة على العهارة، هذا العري المقنن والمقنن في آن، كي تفضح السائد كمن يعاقب الماء لسيلانه من الأنابيب، أو الأشجار لعدم خدشها للسماء، هكذا يصافح الغث السمين في كرنفال البراءة وهو خطأ يعادل هفوة سكير قضى عمره في انتظار الانجاب دون أن يدري أنه كان يجامع عشيرته من الخلف. سنتيمتر بسيط يفصل بين الهوتين، لكنه غير كاف لتبرير الزلة. ان لعن البيولوجيا، الركض في "الروض العاطر" أو استنساخ (…) كلها علامات تنحرف بالقلم الى بياضات مغشوشة.
-9-
غالبا ما تتبجج الأدبيات السائدة:"لذة النص" وكأن القراءة دخول مخملي الى حمام تركي لارخاء الأعضاء والتمتع بايقاع شهيق المؤنث السالم، في حين أن القصيدة توجد بقدر ما تلذغ، واللذغة بسمها الحازم لا تعادل اللذة إلا اذا تماست بمخيلة مازوشية مريضة. لماذا اذن يتم اسقاط نظرية الارتقاء على الكلمات، هذه الحيوانات الكاسرة التي بغيابها تنقرض الغابة: الكل يصفق بغباء لجريمة الارتقاء باللغة من مرح الأدغال الى زرائب الحضارة ومخلوقاتها التقدمية الأليفة. ربما الانتحار الجماعي للدلافين بالهواء ما هو إلا صرخة احتجاج مفرطة ضد مسرة الإنسان في اتجاه يجعل من الشعر تناقصا أعزل في محيط الهدنة المدجنة.
عبدالإله الصالحي (كاتب من المغرب يقيم في باريس)