يتبدى خطاب الثقافة العربية . في جموع حنينه الى الماضي وكأنه يبحث فى اشلائه وحطامه ومراياه الساحرة ، عن ستقبل غامض او مستقبل الماضي فى جنة مفتقدة ، ليس ذلك فى السجال الفكري والثقافي الكثيف ، خاصة فى الفترة الاخيرة حول ما أضحى شبه متداول عن الكيفيات التي ينبغى ان تتواصل فى ، بؤرتها الازمان ، لتنتج فاعليتها الحضارية وفق وجهات ، رغم تفارقاتها ،وتقاطعاتها، ينتهى بها التحليل الى هذا المطرح او هذا المصب ، وانما بالدرجة الاولى فى الخطاب الابداعى بتفريعاته المختلفة من شعر وسرد وسينما.. الخ وهو ما نستهدفه عبر هذه العجالة .
هذا الخطاب ، او هذا ا لمشهد لتجليات مختلفة يجهد دوما فى مغادرة مواقعه فى ثباتها لغة واشكالا، ليبحث عبرهما وفى اشتباكهما مع الحياة والتاريخ، الشخصي والعام ، عن جديد يتوسل طرقا تعبيرية مختلفة ومفارقة ، ليبحث (اى النص المعنى) في تضاريس حياته الحسية والداخلية ، التي هي حياة صاحبه ومحيطه وعصره وفى قوة المعيش وسطوته على كائن والمخيلة ليقول اضافته الخاصة للمنجز والمتحقق، يتراءى وكأنه يغرف صوره ورؤاه من اراض مليئة بالضباب والتهويم ، لكنها ليست تجريدية فى المطلق وانما هي ارض بشر، بما هي مجبولة عليه من كراهية وحب وقسوة وبما يشبه كوابيس النائم وهو ينزلق عل سفح هاوية .
تمض وجهة هذا الابداع الجديد فى دروب وعرة وملتبسة لكن سماتها الاغلب تستجدى او تباشر. ماضيا رحل وطفولة هربت ، وربما حبا لم تعد ملامحه واضحة اطلاقا عدا سطوع الغياب .
يشكل الماضي، بما يستدعيه من طرائق تعبير . تشبه السير الذاتية ، نسيج هذا النص ويستغرق صوره وتخييله للاشياء والاماكن والاشخاص ومنه يستمد الكلام طراءه الشعري وطاقته المختزنة كمن صنعته صدمة الغياب والعبور والحنين
يقف على ديار الاحبة التي انطفأت نيرانها ويشتم الرماد والدمن ويبكى، وكأنما يتفجر فى اعماقه صوت الشاعر القديم مخترقا كثبان الازمنة .
يقف ولا يستوقف لان الصلة بالآخر فقدت آصرتها الطبيعية . فهو وحيد في ليل محنته وذكراه ، بمعنى آخر يصل ما اعم انه قطعه لكن بأشكال أخرى وفى اماكن وازمنة مختلفة .
هل لحظة الكتابة هي ذلك الخزان الهائل لما سبقها فى اللغة والكتابة والحياة ولا فكاك من ميسمه، فهو يتواصل كتدفق مياه فى المجرى الطبيعي مهما شطت الاحقاب والاختلافات والثقافات ؟
يتبدى مشهد الابداع العربي على هذا النحو وبتحديد اكثر ينطبع بسمات وعناصر غالبة، واذا كان الحنين وعشق الماضي، بمعنى الذى مضى وتاه فى الذاكرة والزمان ، من مواقف ولحظات وتفاصيل ، وليس فقط ، تلك المراحل الحضارية من القوة والازدهار فى تاريخ الامم، وان كان يتقاطع معها ويلبسها، اذ يتداخل الفردى والجماعى بشكل لاشعوري – اذا كان يسم مراحل الابداع الاصيل فى ثقافات وازمان مختلفة وليس حصرا على مرحلة بعينها او ثقافة وحدها وهو ما يستدعى اكثر البراهين وضوحا قديما وحديثا، فليس بمثل هذه الغلبة التى تطبع مشهد الابداع العربي الذى يجترح شعراؤه وروائيوه منطلقات سير شبه ذاتية، اصبحت هى الشكل التعبيري الغالب والاقوى فنيا، وان كان هناك بعض الضعف وهو امر طبيعى عند البعض، قادم من غياب تجربة وقدرة تعبير بالاساس ، وان اتخذ احيانا شكل مطولات ذات نفس ملحمى، تظل مركزية الذات وسيرتها ، ولسنا فى هذا السياق بحاجة الى استدعاء اسماء وبراهين من فرط بداهتها وحضورها .
اذا طرحنا السؤال على نحو أخر اى ان الامم والشعوب حين يكون حاضرها متخلفا ومفرغا من قوى الاندفاع والحياة فلا بد ان ترى، نفسها او يرى مثقفوها انفسهم فى مرايا الماضى بسحره الخاص ؟ فمثل هذا الجواب غير مقبول تماما فى ضوء شواهد اقوام اخري لها من الحضارة والقوة ما يكفيها للجم سطوة الماضى، والمثال الاوروبي اقرب واوضح فى هذا السياق ، ولدى مثقفيه وكتابه وفلاسفته الذين يحن بعضهم للاستفادة من شمس الاندلس الذهبية "نيتشه " والى حكمة الشرق وعواطفه وطاقته الروحية "رامبو" "جوته " واغلبهم الى فردوس الاغريق المفقود، الذى لن تتمكن البشرية من استعادته . .. حنين فكري وفلسفي لكنه فى النهاية طرف من اطراف محرق النوستالجيا الكبير.
اذن ما سر هذه الاعاصير الروحية الخلاقة للحنين ؟
يستعبد الحنين صاحته ، لكنه استعباد عذب ، يبلل جوانحه من يباس محقق ويقيه سحق المنافى والمدن ، لنتخيل سيناريو العربى المعاصر وهو يجلس حول مدفأة بمدينة حديثة مثلما كأن سلفه حول مواقد الخيام فى الارباع الخالية التى تسعفوها الرمال من الجهات الاربع .
اى حوار بين السابق واللاحق ، بين الجد الاكبر وبطشه وسطوته الصحراوية وبين هؤلاء الاحفاد اللائذين بمدفأتهم السيزيفية، يتحلقون حولها رجالا ونساء؟ يبدأ الحديث اولا حول النميمة وافقها المبهج ، ولاتفتأ الابخرة تتصاعد والعيون تحدقا بين مسافة السقف والنافدة المضرجة بالثلج ، لتلتقى وتفترق فى حركة عصبية .
ليبدأ الحنين نشيده الازلي ويأخذ الماضى هيمنته المطلقة . . كلمات وأغان وضحك متكسر واصوات كثيرة،غابة تفضى الى بعضها مثل قصص الف ليلة وليلة، وفى الصباح يصحون وكأنهم قد تطهروا من رحلة امتدت قرونا فى الأعماق.
الحنين الى الماضى ليس خاصية عربية او شرقية لكنه فى هذه البلاد له اوجه كثافة اكثر جراحا واحتداما، وما قاله بعض دارسى بدر شاكر السياب فى استقصاء النيرة المأساوية والنواحية، بأنها ليست قادمة من الزمن الكربلائى كموروث وانما يمتد بها التاريخ كخاصية فى حضارة بلاد الرافدين ، ريما ينطبق على اشاراتنا فى سكنى الماضى وحنينه .
فأحفاد الصحراء المترامية التيه والغياب ، ربما ورثوا هذه الخاصية اكثر من غيرهم من شعوب الارض ، والظاهرة الطللية فى الشعر العربي بمأساويتها وتشظيها تعطى هذه الخاصية قوة ومدى وكذلك الصوفية وشطحها الى الحلول فى المطلق واللامتناهى جسدت نصوصا مكتنزة بأسرار الحنين .
فى تلك الصحراء، كان العربي يتأرجح فى شعاع سرابها وقسوة طبيعتها تأرجحه بين الحياة والموت ، فى ترحاله الدائم عبر الاخطار الماحقة، متأملا فناء الاشياء والكائنات فى مرايا اطلاله ورسومه الخوالي ، كأنما الاحبة لم يوجدوا على ارض واقعية قط وانما عبر هذا الغياب القاهر بدوارسه وعلامات جماله الغارب.
عبر هذه الخلفية التاريخية تتقاطر صور الحاضر العربى وما جرته من نكوص حضاري ادى الى كوارث من حروب ومناف واقتلاعات مستمرة زادت هذا الجموح الحنينى احتشادا واراقة ورهافة.
فى هذا المنحى يتجلى الخطاب العربي الحديث فى لاوعيه وكأنه يقتفى اثر اسلافه الغابرين فيما هو يفارقه ويتقاطع معه تعبيرا ورؤية وقلما نجد اعمالا تشير الى النقيض وان طمحت الى ذلك فسنجد احجار الحنين والماضى الدى غرب الى غير رجعة او هو محلوم به فى مرأة مستقبل غامض خبيئة فى جسد العمل الفنى.
هى مسألة فى كل الاحوال يتفاوت ايقاعها من عمل الى أخر، فإن كانت صاخبة وعارية هنا فهى هادئة وخبيئة ومحايدة ظاهريا هناك ، وفق الايقاع النفسى والكتابى.
اذا كان الحنين والماضى على هذا النحو من السطوة والحضور، فمسرح احداثهما ومآسيهما هو المكان ، المكان الذى يشهد انخلاعه وتصدعه باستمرار، مكان لايستقر على حال ، مكان واقعى لكنه لايلبث أن يتحول الى ذاكرة وحنين . يسرد النص أو يومىء ويشير، ذكريات غيابه وأحبتة بمرارة وعذوبة، فى اماكن متفرقة مثلما تشى به معظم النصوص العربية الحديثة، إلا اذا استثنينا بعض الكتاب الكبار وهو استثناء نسبى مثل نجيب محفوظ ومركزيته القاهرية الضخمة وان تعداها فإلى الاسكندرية وحتى هذه المسألة ليست بإطلاق اذ يمكن للمكان الواحد ان يشى بأمكنة وانكسارات ومدائن .
ينبنى النص من شظايا امكنة كانت ذات يوم عامرة بالضوء والحياة وعامرة بظلمة كثيفة وناعمة يمكن لمسها باليد، ويستحضر المرأة والاصدقاء والاعداء بشرفات ومقاه وغرف فى بلدان مختلفة وربما قارات .
حتى حين ينزع الشاعر او الكاتب الى ايجاد ضالته فى مكان ما، يلوذ به من مكر الشتات ورعبه لايلبث ان يفيض به الحال لامكنة اخرى، ويطرح به دوارها وهواجسها، تؤرقه فى يقظته ونومه كأنها قدر حياته الذى لامهرب منه إلا بالاستسلام اليه والحلول فيه .
يبنى الحنين مضاربه على ارض صلبة فى مرآة مكان تتهشم باستمرار، هذه المفارقة اعطت الحنين سلطته الخاصة على المكان الواقعى والمتخيل ، والذى يعاد تشكيله كل لحظة فى ضوء الحاحات الحنين والخيال.
لكن هذه المفارقة تصبح مقلوبة ايضا فمنبع الحنين هو المكان بماضيه وذكرياته ، هو الذى يمد تلك الطاقة الغامضة بدم الفتنة والاستمرار.
والاثنان يمارسان سطوتهما على النص والحياة .
الاثنان توأما غربة سحيقه فى النفس البشرية.