خليل صويلح
كاتب وروائي سوري
1
كان يوم ثلاثاء من الأسبوع الأخير لشهر تشرين الثاني، بمطر خفيف، وسماء داكنة، وضجر، عندما داهمتني فكرة جمع المسودات المتراكمة لدي، في فلاش ميموري. لم أستغرب كثيرًا مثل هذه الإغارة المباغتة، فقد اعتدت على مخاضات مشابهة خلال السنوات الأخيرة، في مثل هذا التوقيت من الشتاء! كآبة، شرود، صمت، رعب، كمن يضع قدمه فوق لغم أرضي، ويبقى عالقًا إلى الأبد، بين معجزة النجاة أو الخروج من هذا الكابوس بساقٍ مقطوعة. لم أكن متحمسًا لتفقّد موضع الفلاش ميموري بين حاجياتي المبعثرة! كنت أتمنى في أعماقي أن تكون الفلاش ميموري معطوبة بفعل فيروس ما، كي أتخلّص من هذه الغواية التي لطالما أرهقتني إلى حدّ المرض كلما بدأت بمشروع رواية جديدة، فالأمر بالنسبة لي يشبه الذهاب إلى مخبر طبي لتحليل الدم وما يرافقه من احتمالات أمراض لا شفاء منها، أو خلع ضرس في الفك العلوي بتأثير خرّاج مؤلم، أو موت مباغت لصديق. ظهيرة ذلك اليوم، كنت أفتّش في درج الطاولة الملاصقة لسريري عن صور شخصية، أعلم بأنني وضعتها هنا، بقصد استخراج جواز سفر جديد بدلًا من جواز سفري منتهي الصلاحية، عندما اصطدمت أصابع يدي اليسرى بالفلاش ميموري بما يشبه لدغة عقرب. إنها هي لا لبس في ذلك، بيضاء من ماركة فيليبس بحمولة 4 غيغا، ما اعتبرته فألًا سيئًا، فلا ذريعة مقنعة بعد الآن لتأجيل جمع المسودات أو معرفة محتواها! كنت أكتب بضع سطور ثم أتوقّف عن العمل بسبب عدم الرضا أو خشية الانزلاق إلى اعترافات خطرة قد تقودني إلى التهلكة بأصنافها المعروفة محليًّا، لكنني سأعود لاحقًا للكتابة بمزاج آخر مراهنًا على تلك البهجة المؤقتة التي تداهم الصيّاد لحظة انقضاضه على فريسة نفيسة في كمين محكم، أو كمن يصطاد طائرًا من فصيلة نادرة بعد مشقة، بما يكفي لملء نصف صفحة من الوقائع المهمة التي كانت قبل قليل مشهدًا ضبابيًا يصعب اقتناصه، فهذا يعني بأن عجلات العربة تعمل على ما يرام، بصرف النظر عن الحفر والمطبات التي ستصادفني في الطريق، لكنني سأضجر سريعًا، وأهمل ما كتبته، بعد أن أخزّنه في ملف لا يحمل عنوانًا دقيقًا، فقد اعتدت أن أحتفظ بكل ما أقرّر بأنه مهم، سواء أكان نسخًا لكتب إلكترونية متاحة على الشبكة، أو لوحات، أو أفلامًا ممنوعة، أو صورًا فوتوغرافية، أو مكونات قائمة طعام، أو كتابًا تراثيًا نادرًا، في أيقونة واحدة، على أمل فرز محتوياتها لاحقًا، ربما كي لا أجدها بسهولة، ففوضى الملفات خطة استراتيجية للهرب إلى الأمام من خوض معارك جديدة بالسلاح الأبيض، فكتابة رواية بالنسبة لي تشبه معركة باللحم الحيّ، أو كتابة بلا بنج، أو هكذا أدّعي في لحظات الرضا المؤقتة. كنت أرغب في أعماقي لو أنني من سلالة أولئك الروائيين الذين يعملون بورديات عمل صارمة، كما لو أنهم ثيران حراثة، أولئك الذين لا يغادرون مكاتبهم قبل أن يكتبوا خمس صفحات في كل وردية عمل غير مكترثين بالفرق بين الأقدام والأظلاف في وصف أصناف الحيوانات، أو اختلاف البعر عن الروث، أو عدد علامات الحب كما صنّفها ابن حزم في كتابه الملهم “طوق الحمامة في الألفة والألّاف”. كأن لا زهور في معجمي، متجاهلًا نبتة الصبّار التي وضعتها منذ أشهر فوق مكتبي، وعنايتي بنباتات حديقة السطح في أوقات العطالة، كنوع من الرومانسية المتأخرة في مواجهة قاموس الرعاة الذي يلازمني كمقلاع في حروبي الخاسرة. وضعت الفلاش ميموري فوق الطاولة كقرار جدّي للكشف عن الجرائم التي أنوي ارتكابها قريبًا بفحص صلاحية المسودات اللعينة، وعلى أملٍ غامض بأن أقع على كنزٍ ما في هذه المغارة الإلكترونية المنسية. سطر، أو عبارة، أو ذكرى، أو ملاحظة، أو اقتباس. لقناعتي بأن أعظم الحرائق لا تحتاج إلى أكثر من عود ثقاب واحد. استللت صورة قديمة نسبيًا من مغلف صغير لطبع صور جديدة من النسخة نفسها إذ لم أجد سوى ثلاث صور بدلًا من أربع وفقًا لقائمة الوثائق المطلوبة. كان الذهاب إلى أستوديو التصوير لالتقاط صور رسمية بخلفية بيضاء وابتسامة مصطنعة عقوبة قاسية بالنسبة لي، عقوبة تشبه الذهاب إلى صالون حلاقة، أو الوقوف في طابور لدفع فاتورة الهاتف. اتجهت إلى شارع 29 أيار حيث يقع استوديو السفراء للتصوير، لفتني الزحام في تراس مقهى العرّاب عند ناصية الشارع، رغم برودة الطقس. كان ثلاثة حرّاس بلباس أسود موحّد يقفون أمام مدخل المقهى، كما لو أنهم رجال مافيا خارجون من فيلم فرانسيس كوبولا “الأب الروحي” بالنظرات الغاضبة نفسها. إشارة أخرى أحالتني إلى المشهد نفسه، فبعد نحو خمسين مترًا، كان بائع كتب أرصفة يضع نسخة مقرصنة من رواية “العرّاب” في أعلى كعب السور المحاذي لمستشفى الشرق لمعالجة العقم وأطفال الأنابيب، ثم بمسافة أقل سأنتبه إلى محل عصائر يضع على الواجهة أكوامًا من البرتقال على هيئة هرم هندسي متناسق. في شريط كوبولا يحتل البرتقال مكانة رمزية عميقة “فأينما ظهر البرتقال، انتظرْ بحرًا من الدماء في المشهد التالي” حسب تعليق أحد النقّاد. كنت أستعيد في ذهني مشهد فيتو كورليوني أمام عربة بائع برتقال في الشارع، ثمّ إطلاق النار عليه من سيارة كانت تقف بالقرب منه، ثمّ سقوط كيس البرتقال على الأرض، وفي مشهدٍ آخر، كان توم هاغن يتناول العشاء مع جاك وولتز، سننتبه إلى وجود آنية برتقال على المائدة، ثمّ سيستيقظ وولتز ليجد نفسه وسط بركة من الدماء ورأس حصان مقطوع في سريره، ثم ستتوالى مشاهد الهلاك الوشيكة وفقًا لمشيئة البرتقال.
بالكاد وجدت أستوديو السفراء، بعد أن تغيّرت ملامح المكان. اجتزت ممرًا ضيّقًا ومعتمًا إلى يسار مبنى زجاجي لأحد البنوك المستحدثة. كانت دمغة خاتم الاستوديو المطبوعة خلف الصورة باهتة تمامًا، وكان على صاحب الاستوديو أن يستهلك وقتًا أطول مما هو معتاد للبحث عن تاريخ الصورة في أرشيفه الضخم، ثمّ كان عليّ أن أنتظر مدّة 15 دقيقة إضافية ريثما ينتهي العمل على طباعة الصور.
2
كانت محتويات الفلاش ميموري لحظة فتحها على شاشة اللابتوب أشبه بسفينة نوح لفرط زحام الكائنات، والأقوال المأثورة، والملاحظات، والمقابلات الأدبية، والصور الفوتوغرافية المنتخبة من مواقع متخصصة، والمسودات المبتورة التي كانت يومًا ما مجرد مواد خام أو إنني كتبتها على عجل في رواياتٍ أخرى لأسباب تتعلّق بالنزق، وعدم الصبر، وقلّة الحيلة. كأن يلجأ البدو -كما هو مدوّن في ملاحظة صغيرة- في إحدى سنوات المحْل إلى حفر أوكار النمل لاستخراج ما اختزنته صيفًا أسراب النمل من القمح كمؤونة للشتاء، لمواجهة مجاعة أكيدة، بعد أن استهلكوا مخزونهم من الطحين، والعصيدة، والتمر، والجراد، ونعال الأحذية، والأغنام النافقة، بهبوب ريح أربعين يومًا من الثلج من دون توقّف، في صحراء لا تعبرها السيارات إلا بمصادفات متباعدة. هناك إشارة أخرى إلى ذئب وُجد نافقًا على بعد خطوات من مضارب القبيلة، كما لو أنه هدية من السماء، وكان على أحدهم أن يبتكر فتوى تجيز أكله، من دون سند فقهي متين، فأمر بطهي الجزء الأيمن منه باعتباره حلالًا، ودفن الجزء الأيسر منه في الفناء باعتباره محرّمًا! سأفترض بقناعة راسخة أن هذه الفتوى لن تصمد طويلًا، إذ كان على أحدهم أن يتسلل ليلًا، ويحفر القبر، ثم سيسحل نصف الجثة وراءه تاركًا خطًا أحمرَ من الدماء فوق بياض الثلج. ولكن مهلًا، ماذا لو كان أجدادي قد تشربوا طباع الذئب بعد تلك الوليمة؟ وإلا ما تفسير كل هذه المذابح التي ارتكبوها لاحقًا بحق القبائل الأخرى كقطّاع طرق أشدّاء؟ شخصيًّا، أعوّل كثيرًا على حقيقة ما كان يرويه شعراء الربابة الجوّالين عن مآثر الأجداد في سلخ جلود أعدائهم في غزوات متلاحقة، بذريعة سرقة ناقة، أو خطف امرأة، أو اعتداء على قافلة حبوب!
لطالما كنت أتجاهل حوادث من هذا الطراز باعتبارها حكي مضافات، تضفي سحرًا مؤقتًا على ضجر الليالي الطويلة لا أكثر، كمذاق الهال في القهوة المرّة. لكن فحصًا آخر للحكاية ينطوي على ثراء هذا العالم المهمل، ومهارة الرواة في تحويل الطين إلى خزف، وسمّ الأفعى إلى ترياق، ووحشة الصحراء إلى قوس ربابة مشدود إلى أقصاه.
الهوامش
* مفتتح رواية بعنوان«ماء العروس» ستصدر قريبًا.