في بحر ظلماته القصوى يرتقي رويدا كلما عانقته حمامة بكى من فرح وأعلن الحب للتي لم ترد البوح به سوى لذاتها ، هي التي لم تر في المرآة سوى روحها أما هو فقد غاص في متاهاته وحيدا كما الشعراء…
قال لها لا تبعثي إلي برسائل الحب، فالحب في تراب الأرض ينبث فطريا، كلما حل فصل الربيع، وكلما اشتد مطر الشتاء…
لكنها كانت لا تريد إلا أن تبوح له بما تكن لعينيه البهيتين من عشق ، هي التي شيدت في البراري بيتا لها واستعادت صورة الهاربة من سطوة الذات المتجلية فيه ،هي التي لم تكن تقرأ الكتاب إلا وهو متجل في مرآة عينيه صباح مساء …
قالت له: ابتعد عني وهي تقترب منه ، قالت له اقترب مني وهي تغوص في البعد ،وتعلن العزلة القصوى في الجبل ،قال لها أنى لي ذلك ،أنا الماء يمشي نورا والنور ينغرس في تموجات الماء …
فجاءت الطيور إليه تسمع غناءه الشجي، جاءت الأسود، وجاءت الأشجار تمشي، لكن الحبيبة أبت إلا البعاد، إذ لا الشجر شجر في غيابها ولا الطيور طيور ولا الأسود أسود ولا الغناء في غيابها غناء…
البحر وحده ظل البحر، لكنه بعيد الأمواج وروما ظلت وحدها روما، لكن الطريق إليها بعيد، والحوريات الصغيرات يتجولن في أرجاء الكون، ويا لها بجمالهن الفاتن من أرجاء…
هو إذ وحده يفتح الكتاب ،تتسابق الحروف إليه لتعلن له الحب، وتتجمع فرحة بما يشيده بها من عوالم ،ظلت بعيدة عن التشييد ، لكنها الآن تريد الانمحاء في ذواتها من الألف إلى الياء ..
تتراءى له في مراياه صورة رجل أعمى يبصر من بعيد ،ومبصر لا يرى ما بالقرب منه، هو الذي شيد مكتبة تتسابق حروفها نحو النار لتحترق، وتعيد تشكلها البهي على بعد من ثنايا العطور ، هو الذي سافر إلى مدن تختفي لحظة الوصول إليها ، قبل لحظة الاختفاء ..
الصوت صوته والعينان لطفل يرى في النوم تجليات عرائس البحر ،أما القلب فلشاعر أعيت الأبجدية كلماته ،فغاص في ذرات الكون يبحث عن جديد الأسماء ..
يتجلى في الكلمات عصفورا، ويشرب الشاي تحت الشجرة الوارفة الظلال صحبة الحبيبة، ويمشي في رحاب الزمن، ممتطيا صهوة أحلامه، هو الذي عانق الأشياء حتى تغيرت بحبه الأشياء…
القول قوله، لكنه يتخفى في ظلال السر المكنون، ولا يبوح بأسرار الطير وهو يعرف منطقها، ويسافر كل عام معها نحو الجبل، بحثا عن كلمات لا تعرف الفناء…
لا يعود إلا من أجلها، هي الحبيبة التي تتجلى بهية كلما اشتاق إليها أو كلما شعرت باشتياقه، كلما تجلى في عينيها طوق اشتهاء…
تعالي نشرب الشاي المغربي وحيدين في ظل الأطلس، تحت شجرة تسكن العصافير فوق أغصانها، تعالي نشرب الشاي المغربي، أنت الأنثى المتدثرة بالكلمات وأنا الموسيقي، عازف الكمان وسيد الغناء…
تعالي ، اقتربي ، فالماء يسري بيننا بهيجا ،تعالي كي أحبك أكثر ،كلما اقتربت دقات قلبك مني وكلما أعلن قلبي الحب، تعالي نحوي يا أبهى النساء …
تعالي، إني أرى طيفك كلما حلت جلسة شرب الشاي، تعالي، إن طيفك يأتي كلما كأس الشاي حضر، وكلما رفرف عصفور، وكلما المطر جاء…
تعالي سيدتي ،ها كأسك بالقرب مني،ها كأسك يتلألأ بهيا ها ضياؤه يتجاوز عتبات الضياء …
تعالي …
نورالديـــن محــقق
كاتب من المغرب