يذكر البحّاثة المجري: مرسيا إلياد، المتخصص في الميثولوجيا وتاريخ الأديان، في كتابه «مظاهر الأسطورة» أن النوم والموت، في الميثولوجيا الإغريقية: «هبنوس» و «ثناتوس»، أخوان شقيقان. وعند اليهود، أيضًا، يشبّه الموت بالنوم، على الأقلّ ابتداءً من زمن ما بعد السبي. النوم في القبر، أو في شيؤول، أو في المكانين معًا. والمسيحيّون، بدورهم، أخذوا بهذا التشبيه بين الموت والنوم وأحكموا صياغته: «في سلام ارقد، ارقد في نوم هادئ، في سلام نم، في سلام الربّ ارقد». وهذه من أكثر الصيغ شيوعًا في الأدب الجنائزي».
وقبل الدخول إلى نصّ روايته الجديدة: «كأنها نائمة»، يُوقّع إلياس خوري النص ببيت لأبي العلاء المعري:
«الموت نوم طويل لا هبوب له
والنوم موت قصير بعثُه أمم».
وهو البيتُ المَدخلُ مُضافًا، تحتًا منه، هذا الاقتباس من لوقا: «لم تمت الصبيّة ولكنها نائمة». وقد أتُِيَ بكلّ هذا بوصفهِ تناصّا لا مناص من إحيائه لأسئلة الموت والنوم، وبوصفه جرسًا لإيقاظ الفرق الصادق بين وقائع المنامات المنقسمة على وَصفَين: النبوءات و الأوهام. ونذكر أنّ هناك، أيضًا، في اللزوميات/ الجزء الأول صفحة 59، بيتـًا من الأبيات المتشابهة والمتماثلة في المعنى، ذاته، لدى المعري، وهو:
«ونومي موت قريب النشور
وموتي نوم طويل الكرى».
الصدقُ، أيضُا، نجده، هنا، في قلب بلاغة العرب الذين اطمأنّوا غداة انتقال وانتهاء المعنى وطمأنينته، من قلب الشاعر – لا بطنه – في قلب القارئ؛ عندما زرعوا المعاني في الألفاظ، جنبًا إلى جنبٍ، حتى استمدت حياتها من اختلاف الألفاظ المنسجم في معنى ينصّص نفسَه بالوصف والطباق، كما في بيت المعرّي الأوّل، والذي نقرأه، بعين البلاغة، بوصفه مَدخلاً شعريّا لهذه الرواية الشعرية والتاريخية المليئة بالطباق بين الصفات العديدة والطباق بين الأسماء وأفعال أصحابها.
والرواية تهتمّ بجماليات الشعر العربي بقدر ما تقرن الشعر بالموت. فقراءة لأبعاد وأغراض الرواية تبدأ من قراءة بيت المعري الذي يتطلب تعريف التشبيه.. هو لغةً: التمثيل. واصطلاحًا هو: إلحاق أمر بأمرٍ في صفةٍ مشتركة بينهما بأداة ملفوظة أو ملحوظة لغرض يقصده المتكلم، أو قد تختفي أو تنعدم الأداة؛ فهناك العديد من أنواع التشبيه أرقاها المؤكد المجمل، والبليغ الذي تحذف أداته ووجه الشبه؛ ولعل سرّ هذا أن حذف الأداة فيه دعوى لاتحاد بين طرفي التشبيه: الموت والنوم. وأما الطباق بنوعيه، الإيجابي: (طويل x قصير)، والسلبي: (بعثه أمم X لا هبوب له)؛ فيضيء المعنى ويحييه.
وإن لكلّ ابن آدم، وإن طالت سلامته، نصيبًا من الطباق بضديه الإيجابي والسلبي, على أية حال. وإنّ لي، الآن، نصيبًا إيجابيّا، على أكثر تقدير؛ ذلك لأنّ الرواية رفيعة وطويلة, وهذه القراءة، التي أشرع بتقديمها، متواضعة وقصيرة إلى حدّ ما! على أنّ هذه القراءة التي نقسمها الى أربعة عناوين؛ نسلك فيها مسالك نقدية عدّة، جمالية وتحليلية وجدلية للأحداث والشخوص، والانطلاق من الأسماء نفسها لقراءة الابعاد التاريخية، المتعددة، والمتصارعة، في مجمل العمل الروائي البارع في توظيفه المحكيّة اللبنانية داخل سرديات محكمة.
الموت، البياض، الشعر:
إذن تأتي رواية «كأنها نائمة» كتحدٍّ، أو عشق إضافيّ، للشعر والشعراء، كونها رِوايةً شعرية بذاتها، وتحبّ الشعر لذاته. ومن طريق ذلك هي فلسفةُ تَحدّ، أيضًا، وقبول، في آن معًا، لأسئلة الموت والنوم، بواسع واختلاف مدلولاتهما.
ميليا، شخصية الرواية المحورية، التي تدور كلّ أحداث الرواية في نومها، ينطبق عليها هذا البيت، في رأس الصفحة الـ44، من لزوميات المعري – الجزء الأول:
«كَرِيَتْ فسرَّت بالكرى وحياتُها
أكرَت فجرّ نوائبًا إكراؤُها».
هي» كانت تعرف أن العدوَّ الأكبرَ للشعر هو الموت. ليس صحيحًا أن الشعرَ يستطيع أن يتغلب على الموت.. وظيفة الشعر أن يجعلنا نتقبل الموت ونتآلف معه، بحيث نعتقد أنَّه غَلَبَ وانتصرَ عليه، بينما هو في الحقيقة ابن الموت وصوته السري». (ص205) انطلاقًا من هنا، سنعرف أن الروايةَ تمسكُ بوجود نزعة جنائزية؛ تمثلها سيادة الألوان، لاسيما البياض والشعر. مع مطالبة العين بالنزول لأدنى طبقات البياض والتأمل في خلفيات شغف الرواية بالشعر والشعراء كـ: المعري، الأعشى، بشار بن برد؛ فأسماؤهم صفاتٌ كنائية تتّحد أو تشترك في الإشارة إلى مصير العماء، وإنّ كان الأعشى يتمتّع بالصفة التى اطمأنت اسمًا له. وفي ضوء وحشة الموت في جوّ أبي العلاء أحمد بن عبداللـه بن سليمان الضرير، رهين المحبسين، مضافًا لهما محبس الموت؛ فإننا نجد دوام الودّ والألفة يربط الروائيّ وميليا بالشاعر الضرير المبصر. حضور الألوان وانتشارها، على نحو مكثف، كما لو أن ميليا تحاكي المعري الذي تحدى وأعجز المبصرين باستخدامه الواسع للألوان وخلقه للصور الحسية. ومعه شعراء عمي وخلاقون. أيضًا، يتلاعب إلياس خوري باللغة العربية، في ضوء تلاعب المعري وتفلسفه وتوطينه المعاني والدلالات في الحروف والألفاظ. فلنتأمل هذا الشاهد: «كانت ميليا كالمذهولة التي تستنزف أنينها كل حروف العلة، التي اقتنعت ميليا بأنها حروف الأوجاع التي تصل كلمات اللغة العربية بعضها بالبعض الآخر جاعلة من العلة مصدر القدرة على تكييف المعاني واختصارها.. إن الحركات تشبه مجاذيف القوارب، وإنها تقود إلى ثلاثة أصوات: الألف والواو والياء، التي تختزل أوجاع الإنسان: آ / أو / أي، وتشكّل مفاصل الكلمات، وتسمح لها بتسمية الأشياء» (..) «اكتشفت أنّ الأمّ، حين تكون غائبة، ضرورة لغوية. تصرخ يا أمي لا لأنك تفكّر بالمرأة التي أنجبتك، بل لأن شفتيك في حاجة إلى الألف التي تضم الميم وتنحني على الياء» (ص289). هذا التلاعب هو أثر أصله في هذا البيت للمعري:
«أعياك خلّ، ولولا قدرة سلفت
لم يكنِ الجمعُ بين الخاء واللام».
أو قوله:
فلست لهم وإن قربوا أليفا
كما لم تأتلف ذال وظاء
وتعالوا إلى تَوسعَةِ عيوننا كقراء حتى بلوغ صفتي الجحوظ الخشوع؛ بما هما من لوازم الموت والمفاجأة والدهشة والقراءة. وهذه الأخيرة، بوصفها إحياءً أو استنهاضًا لتناصّ الرواية مع نصوص روائية أخرى، مثلاً: التناص بين «المتشائل» في رواية إميل حبيبي وبين «الأعشى» في هذه الرواية. فسعيد أبو النحس المتشائل، شخصية رواية حبيبي الرئيسية، ينتمي إلى أسرة عريقة في فلسطين، يرجع أصلها – كما يقول سعيد – إلى مَسبيّة حلبية أصلها من قبرص، من سبايا «تيمور لانك» سباها جده الأكبر أبجر بن أبجر؛ ويُفسّر سعيد لماذا «المتشائل»؟ بقوله: إنه إدغام كلمتي المتشائم بالمتفائل، فشيمة هذه العائلة بين بين، فلا هي بالمتفائلة ولا هي بالمتشائمة. أما منصور، في رواية خوري، والذي ينتمي لأسرة عريقة في فلسطين من حوران؛ فيروي أبيات الأعشى الغزلية في سياق رحيل يخص أو يمهد للدخول في السياق الجنائزي. والغزليات التي يسوقها الراوي هي تورية، تفارق عبرها الأبيات الغزل داخلة في رمزية الموت الذي هو في الحقيقة أبو الشعر. والأخير ابنه وصوته السري. منصور يطرب لموسيقى الكلام، ويمزج بين الغزل والخمريات وبين المدح والرثاء، يعيش الآن لحظات الفرح مع ميليا (المتنبئة أو العارفة)، ولكنه لا يعرف أو لا يسمع صوت الموت السري وهو يروي لها عن البياض والشعر. لقد «أراد أن ينشد القصيدة ولكنه لم يتذكّر سوى مطلعها:
«ودع هريرة إن الركب مرتحل…
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل».
معقّبًا بالحكي: «بتعرفي كيف بيكمل الأعشى القصيدة، والله كأنه عم يحكي عنك يا ميليا. «عني أنا» ؟ «تقريبًا، بدي ياك تحسي بالشعر كأنه مكتوب عنك، اسمعي: «غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوجل». وراح يتغزل شارحًا لها: «انت الوجي الوجل يا ميليا، أبيض وخايف، لا مش خايف، كأنه خايف. البياض والرقبة الطويلة هادي مش تشابه، هادي صفات، أما المشي الخايف فتشبيه. بيضا وكأنها خايفة، يعني مش خايفة»… «شو الفرق بين كأنها وبين الخايفة» ؟ سألت ميليا. «الفرق هو الشعر، هو التشبيه، يعني شيء بيخليك تفكر بشيء تاني، وإلى آخره»… «ما فهمت، قالت، «وبعدين شو الفرق بين الوصف والتشبيه»، سألت: «أبيض بعرف، يعني لونه أبيض، هيدا اسم، مش هيك» ؟ «لا يا ميليا يا حبيبتي، هادا مش اسم، هادا أفعل التفضيل، بتعرفي والله أنا ما بعرفش ليش بس أقرأ الشعر بحس حالي عم طير، الواحد بيطير على المعنى، يعني طرب، كيف بدك ياني أكتب شعر»؟… سالتْ ميليا: «الشاعر شو كان اسمه»؟ «الأعشى»، جاوبها، منصور: «كان نص أعمى منشان هيك سموه الأعشى». علامة التناص، إذًا، هي تشابه الطريقة بين منصور وسعيد، فعندما سالت ميليا عن اسم الأعشى، أجابها منصور شارحًا، بدوره، الحالة والصفة التي عليها الشاعر. وقد تمّ اتحاد الاسم في الصفة. أيضًا، سعيد أجاب، بدوره، مفسّرًا: لماذا اسم «المتشائل»؟ بأنه إدغام صفتين متناقضتين: (متشائم، متفائل) في كلمة جديدة، تكون اسمًا وصفة للعائلة. تساءلت ميليا باستغراب: «أعمى وشايف جمال المرا» ؟ أجابها منصور: «شاف بقلبه مش بعيونه، وكان ملبّك قدام المرا، متل ما أنا ملبّك معك».. «قالت هريرة لما جئت زائرها.. ويلي عليك وويلي منك يا رجل». لم تسأله ميليا لماذا لا يكتب الشعر، لأنها كانت خائفة، ولم يكن خوفها تشبيها بل صفة» (ص129).. «رأت ميليا نفسها بيضاء في المنام، ولم تفهم من أين جاءها هذا البياض» (15). حيث نمسك بإلياس خوري كما لو كان شاعرًا، يحرص على تعميق المعنى باستبدال السواد الذي أساله المعري فكرًا وشعرًا على المشاكل والأسئلة الوجودية والواقع المُواجه؛ ببياض احتفاليّ. (لعله ناقد حفّار في الطبقات الوجودية والتاريخية والدينية، وساخر). بياض أكثر اتساعًا وسيولة ورقصًا وثباتًا وانفراشًا ولبوسًا وحمولةً؛ بياض احتفاليّ وموسمي يَحلو لنا أن نُجسّده بعروس المعري، لأنّ الروائي اكتفى وحسب، بتجسيد بياضه بالعروس: ميليا، التي أحبها منصور الفلسطيني، وقرّر ألا يغادرَ بيروت للناصرة دونها، فقط لأجل هذه الصفة. وأما عند الشاعر الضرير – كما نحن نتذكر – العروسُ والصفةُ معكوستان في هذه الصورة الحسية الرائعة:
«ليلتي هذه عروس من الزنج
عليها قلائد من جمان»
وهذا البيت يذكرنا بأن الرواية مُقسّمة، إجرائيّا، إلى ثلاث ليالٍ. وقد روى منصور منذ الليلة الأولى و ما يزيد عن ثلثي الليلة الثانية، ما روى من أشعار الغزل؛ لأنّ شهر العسل الذي كان قد أمضاه في فندق «مسابكي» بشتورة، كان، حقّا، مناسبة ومقامًا ينده مثل هذه الأشعار:
«لاعبت بالخاتـم إنسانة
كمثل بدر في الدجى الناجم
وكلما حاولت أخذي به
من البان المترف الناعم
ألقته في فيها فقلت انظروا
قد أخفت الخاتمَ في الخاتم».
لكن منصور الذي أعدّ أبياتًا كثيرة من الشعر العربي كي ينشدها وهو يشرب الشمبانيا في غرفة الفندق، قبل أن يضمّ هذه المرأة الحليبية إلى ذراعيه لم يجد، أولاً، سوى هذين البيتين:
«وجبال لبنان وكـيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاءُ
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي
فـكأنها بـِبياضِها سوداءُ»
إذ يمكن تجسيد منطق الرواية بالمرآة وجهها عتمة كاملة.، بدوره، وجهُها الآخر هو اليقظة أو العين المبصرة. وكما لو أن خامة أو مادة المرآة المحسوسة هي ثيمة الرواية القادمة من العماء إلى المشاهدة. من الموت إلى الحياة، يشاهد فيها طلاب السلام، ما لا يلزم. ذلك أن ثيمة الرواية الرئيسية تتمثل بشخصيتها المحورية وتدعى: ميليا، التي تعيش على إيقاع مناماتها وتربطها أو تراها حقيقة بحياتها. إذًا، هي نبوءات، حتمًا، تؤدي، فورًا، أو لاحقًا، إلى وقائع لا منجاة من وقوع سيّئها.
خارج الرواية، نحن نَعرف، عمومًا، أن المنامات تتغذى على وقائع ومشاهدات في الحياة على اختلاف ألوانها وأضدادها. ولكن داخل الرواية ورؤيتها الفنية يكون الحدث في الواقع صورة مُعاد التقاطها من أصلها في المنام، وهذا يملي علينا ضرورة عكس اليقين ورؤية الموت محل الحياة، باعتباره احتلالا لها. النوم، في الرواية، هو ليس الخلاص المنادى كما درجت أدبيات أخرى أن تناديه.. «مثلما جرى كاتب سوناتات أسقمه الحب على مخاطبة النوم الذي يأبي الإلمام بجفني العاشق السيئ الحظ، يقول سيدني:
«تعال أيها النوم، أواه أيها النوم،
يا عقدة السلام المميزة
يا غاسل الأذهان، يا بلسم الهم
يا ثرثرة الفقير، يا مطلق سراح السجين
يا قاضيًا لا مباليا يفصل بين العالي والسافل».
كما أن مجموع الوقائع والتجارب التي تحياها ميليا، تاليًا، في اليقظة؛ ليست رموزًا فضفاضة تسمح بتناولها بإفراط على نحو فرويدي. لكنها فتحت أبوابها على الدين كقصص وحكايات منتشرة عبر حركة أصحابها ومصائرهم في التاريخ والمكان. وخلال ذلك هي تقوم بتعرية المجتمع الديني المصاب بالهرطقات والدعارة المتسترة خلف أجراس الكنيسة. وتنبش في تاريخ الأديان الذي رسّخت قصصه حوادث القتل وإسالة الدماء. ولكي تزيد من حدة الرعب والرهبة من الجليل؛ تتكئ الرواية على التفسير الشعبوي للأحلام: فرؤية تساقط الأسنان والشعر في المنام تُفسّر بالتعب والموت الذي يحياه أو يقترب منه أحد الأفراد؛ فضلاً عن الانزعاج من رؤية السمك المقلي، في فنادق طبرية، لاسيما «سمك المشط»، الذي سيمثل صورة الضحية والموت بمقارنته مع سمك البحيرة الحي الذي باركه المسيح عندما مشى على الماء. فمن الرمز الديني الحيّ إلى غرائز الحياة السياسية. بحيث لا حياة مباركة أو قفزات في هواء البحيرة التي زارها المتنبي في 328هـ، ووصف فيها الأسد ومدح أبا الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي قائد الجيش في طبرية الذي كان يهوى مبارزة الاسود، الذي ضرب الأسد بسوطه فارداه قتيلاً. وسوف نتعرف على مكانة طبرية، من الصراع، في جانب مهمّ من أحداث الرواية التي تسمح بقراءتها في ضوء التاريخ المشبع بالديني المأجور كوسيلة لبناء العُقَد والخلفيات والوقائع السياسية. حيث تشكل ظلال التاريخ الديني وظلال التاريخ السياسي على بعضها طبقة واحدة، ولا يمكن عزلهما عن بعضهما البعض. وعلى الرغم من الوجود الوهمي لهذه الطبقة، إلا أنها تضع الرواية في العمق الفني وهي تفتح عيونها على مكان الظلال والشركاء والدخلاء؛ لتتجلى ظلال التحولات على الطبقة الواحدة، عبر التداخلات السردية المعقدة، وعبر النموّ السريع للشخصيات والبدائل والأدوار المتشابهة التي ستسكن وتباشر الأدوار وتُسلّمها لبعضها البعض.. تقطع و تُوصل وتقيم. إذ تتناول الرواية الوقائع والأحداث في بلاد الشام في العهد العثماني وفي ظل الانتداب الفرنسي – البريطاني، وقبل إعلان الولادة الفعلية لواقع اسمه دولة «إسرائيل»!
ميليا البنت الوحيدة لزوجين أرثوذكسيين هما: يوسف، الابن الوحيد لسليم شاهين، وورث عنه مهنة النجارة، وسعدى ربة البيت التي أصيبت بالمرض الغامض واستجابت لكل هرطقات الراهبة ميلانة في دير الملاك ميخائيل. للزوجين، إضافة للبنت، أربعةُ أولاد، هم: سليم، نقولا، عبداللـه، موسى. وعائلة شكري حوراني المسيحية الفلسطينية الأرثوذكسية في يافا ومكونة من الأم نجيبة، ومنصور، وأمين. أما الأب فقبل موته يورّثهم محل الخردوات الذي استعمله أمين وأمه في تصليح البنادق الانجليزية لمحاربة الانجليز والهجرة اليهودية. هناك تخطيط روائي يجعل الأسماء مَدْرجًا لثيمات ومنطلقات النص الروائي. سنرى كيف أن أسماء العائلة، وأسماء أخرى في الرواية، هي صور وظلال عائلية لمفاهيم وقرابات وقرارات ومخاوف وتحولات سياسية جارحة وعميقة، جرت على بلاد الشام.
ولادة ميليا:
ولادة ميليا الصعبة، في 2 تموز (يوليو) 1923، استدعت لجوء الداية ندرة سلوم إلى يوسف، بعد أن شعرت بخطورة حالة سعدى. وضعت يدها الملوثة على فمه، لكي لا تعطيه مجالا للنقاش وإضاعة الوقت، وأمرته بإحضار الحكيم كريم تقفور حالاً، لأنّ الحالة جد مستعصية. أطاع وذهب شاعراً بالأذى على فمه من يد الداية الملوثة بإفرازات المخاض. على باب الحكيم دقّ يوسف طويلا دون مجيب، وقد أصيب لحظتها بالإرهاق، فجلس على درج بيت الحكيم. لكنه، في الحال، تذكّر أن زوجته تموت، فاتجه فورًا للبديل: الراهبة ميلانة السمينة التي ترتدي السواد، وظلها يسقط على المكان والأشياء. لم يحبها في حياته، في شيطانة استعملت الهرطقات والشعوذات لمنع عملية التواصل الجنسي بينه وبين زوجته التي قال لها يوسف «إن الراهبة ليست امرأة، بل رجل متنكر في شكل امرأة، وقال إنه يكرهها، فحجمها ليس متناسبا مع قداستها. القديسون والقديسات، قال، يمتازون في العادة بالنحول، الجسد يذوب من أجل أن تتلألأ الروح. أما المرأة، فإن جسدها الضخم يقتل روحها النحيلة، جاعلاً منها أشبه برجل يمتلك صوت امرأة. (ص53). الراهبة ميلانة تمثل هرطقة المسيحية. لأجل ذلك رفضت ميليا، التي أظهرت الرواية ارتباطها فالمرأة الزرقاء، «رغبة جدتها ملكة شلهوب بأن تسمي الصبي الذي في بطنها ميخائيل، على اسم دير الراهبة ميلانة، ستسميه عيسى» (ص153). أيضًا، الداية ندرة التي آذت يوسف، بغير قصد، هي في مشهد الولادة على صراع مع الراهبة. لأنّ الحكيم، الذي طلبت حضوره وغاب، يمثّل العِلْم. والراهبة تمثل الهرطقة. ولكن تحضر الراهبة، لأنّ يوسف الذي لم يعثر علي الحكيم في بيته، توجّه لسبب يجهله للدير؛ على الرغم من أنه يكن الكره للراهبة. وحتى لو حضر الحكيم ذاته سيغيب دوره. حادثة انكسار ساق ميليا وهي صغيرة، أظهرت أن «الطبيب الذي حضر، في التو، لم يفعل شيئًا، اكتفى بتقبيل يد الراهبة التي قالت له إن كل شيء على ما يرام» (ص300). وبين ميليا وأمها، التي أصبحت كالخاتم تضعه الراهبة في إصبعها، صراع. فهي مصابة بالمرض الغامض، وتقيم ساعاتها الطوال في دير ميخائيل مع ميلانة. لهذا السبب كبرت ميليا، منذ طفولتها، وأخذت دور الأم، وملأت فراغ المطبخ وأصبح ماهرة في الطبخ، وقارئة لا يفارق الكتاب يدها. بينما الأم أقبلت، بعد عطالتها، على الأكل بشراهة. فكانت تحمل معها إلى الدير مما تطبخه بنتها، وتأكل منه الراهبة، تغرق في الجاط، ترسم إشارة الصليب، وترندح تراتيل بيزنطية مرصعة بكلمات من السيدة العذراء»(ص138)، وتقول «هيدا مش طبيخ يا سعدى هيدا تجربة، ما بقى تجيبي من أكلات بنتك، شو هالنكهة كأنه الواحد، يا ربي تنجينا…» (ص137). فاللذة التي تشعر بها الراهبة، بتأويلها المكبوت بالاتهام، هي لذة الخطية. لكن ميليا الصبية أثبتت أن لها تجربة مبكرة مع الأمومة وتجربة ماهرة في المطبخ، وليست عاهرة متسترة خلف أجراس الكنيسة. وبقدر ما هي على صراع مع أمها الخاضعة لهرطقات الراهبة، بقدر ما هي بديل كفء يعوض عطالة أمها التي انصرفت عن دورها الاجتماعي والدنيوي. وحيث أنها بديل كفء يملأ فراغ الدور الدنيوي، تمتلك وعيًا ناقدًا لما تقوم به الراهبة ميلانة التي دأبت على أن تعالج أمها بطريقتها. حين يحضر الحكيم كريم تقفور لا تستجيب سعدى له. ترفض أخذ الدواء، وتستجيب للراهبة، وتشفى. هذا يؤكد أن المرض الغامض هو نفسي أو وهمي أكثر منه عضوي، حيث تصدّق الراهبة والواهمة، أن الخزعبلات و لحوسة الأيقونات والرندحة بتراتيل بيزنطية مرصعة بكلمات عن السيدة العذراء هي العلاج الأمثل. كانت طلبت الراهبة من ميليا، أثناء مباشرتها العلاج، أن تخرج من الغرفة، لأن الشيطان يتمثل فيها. في حين كان أبو ميليا، الذي مات في سنّ الخامسة والأربعين، يسمي ميلانة الشيطانة. إذًا، لغاية الآن، الأب وابنته، واحد في الموقف من المسيحية «القبيحة». ولكن سوف تشبه ميليا أمها عندما تتزوج الفلسطيني منصور حوراني وتعيش في الناصرة. هناك سوف يظهر لها الراهب اللبناني طانيوس الذي طردنه الراهبات من الكنيسة، فأتى إلى الناصرة. وهو الآن يلازم ميليا المأخوذة بمدينة العذراء، حيث يقوم بدور الراهبة ميلانة. وهنا يصدق حدس يوسف الذي قال لزوجته أن الراهبة ميلانة رجل متنكر في جسد امرأة. بعد انتهاء عملية الولادة وخروج الطفل للعالم، يظهر الصراع على الاسم. الراهبة ميلانة اختارت أو قررت إطلاق اسم «ميليا» على الوليد، ورضيت به سعدى. أما يوسف فقد علق معارضا «شو هالاسم ميليا.. لا أنا بدي اسميها هيلانة». و بين الشيطانة ميلانة والقديسة «هيلانة» جناس ناقص، وطباق. أراد يوسف لطفلته أن تكون سميّة القديسة هيلانة أم الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي اعتنق المسيحية. فكان الفضل لهيلانة في ولادة أوّل اميراطورية مسيحية في العالم، عاصمتها القسطنطينية التي سقطت على يد العثمانيين عام 1453 م. اليد التي قتلت الإمبراطور البيزنطي على أسورها مدافعا عنها.
بعد الانتهاء من الولادة وفرض الاسم على يوسف وبراءة الطفلة، تنتقل الرواية من ميليا الاسم إلى ميليا الصورة. فـ «بعد ذلك اليوم بأربعة وعشرين عامًا، سوف تقف سعدى مشدوهة أمام الصورة التي علقها موسى على الحائط في الليوان، في المكان نفسه الذي رفعت فيه الراهبة جسد ميليا المغسول بالماء والملح وزيت الزيتون. وسوف تقول الأم لابنها أنها رأت الصورة نفسها يوم مولد ابنتها، وسوف ينظر إليها موسى بعينين حائرتين مقفلا حاجبيه كي يسكتها.. الصورة التي علقها موسى على الحائط في الغرفة التي تعرف باسم الليوان، حيث بقيت في مكانها، ولم تسقط عن الحائط إلا عندما قرر موسى هدم البيت العتيق من أجل أن يبني على أنقاضه بناية جديدة، البيت الذي يشبه منزلين متلاصقين، بحديقة كبيرة، ستحمله ميليا معها في يقظتها ونومها حين ترحل إلى بلاد الجليل. والصفحات الممتدة من 42 إلى 58 من الرواية تتحدثّ بتركيز عن الاسم والصورة والبيت، والتقسيم أو التوزيع الجغرافي العائلي.
أصبح تعليق الصور على الحيطان تذكيرًا بالمصير الجليل، وليس تعبيرًا عن الحب الذي نمنحه لذوينا. ميليا لم تعرف ماذا جرى لصور عرسها، بعد أن غادرت بيروت مع منصور إلى الناصرة. ومنصور لم يسأل عن الصور. لقد وضع في البيت مرايا عدة.. قال إنه يريد للبيت أن يمتلئ بصورة واحدة (حية) يراها في الصباح أمام المرآة كي يبرهن لها أن لا شيء يشعل جمال المرأة مثل الحب. استبدال منصور الصور بالمرايا، ترك حيطان البيت عارية إلا من المرايا، قال لأمه التي عاتبته مرة لأنه لا يضع صورة المرحوم والده في الصالون، مثلما يفعل جميع الناس، إنه يكره الصور. «الصورة بتجمد الإنسان، وبتسويه زي الميت، أنا بحب أحتفظ بصورة الوالد زي ما هي في ذاكرتي».. فالإنسان لا يموت، نحن نميته حين نعلق صورته على الحائط، وأن والده يعيش في ذاكرته، ولا يريد أن يقتله.(ص294). صورة ميليا التي علقها موسى على الجدار الأبيض في الليوان، سوف تبقى في مكانها، في البيت الذي ورثه موسى عن أمه. لقد ترك الصورة كأنها صارت جزءا من الحائط. الصورة المطبوعة على ورقة كبيرة بيضاء، والموضوعة في إطار خشبي أسود، تظهر ملامح ميليا بشعرها الطويل وعينيها اللوزيتين العسليتين، وأنفها الصغير، وشفتاها المكتنزتين، وعنقها الطويل، وخديها الضامرين، وحاجبيها الرفيعين المقفلين. صورة نصفية صنعها المصور شريف فاخوري، الذي أدخل رأسه في علبة خشبية مغطاة بقماشة سوداء، وأوقف ميليا أمام الحائط الأبيض ساعتين كاملتين، كي يختار لها الوضعية الأجمل. وبدت في الصورة كأنها تنبثق من الحائط. إمراة بيضاء وملامح سوداء، والتماعة ضوء تخرج من العينين» (ص42).
لحظة مخاض وولادة سعدى لميليا الاسم والصورة، هي بمثابة الخلفية و النبوءة الرئيستين معًا، من خلفيات ونبوءات الرواية المخيفة. صورة ميليا التي «ولدت يوم الاثنين 2/ تموز 1923، على سرير أبيض، وضع إلى جانب الحائط الأبيض الذي علق عليه موسى صورة شقيقته» (ص44). هي الصورة التي كرهتها ميليا، لأنها نبوءة الموت متجسّدا في إجراء شقيقها عندما قصد منه التدليل على حبه لها في الحياة. وسبب تعليقه الصورة، لأنّ شقيقته ستترك بيت بيروت لأجل العيش مع زوجها منصور في فلسطين. ولكن من الحبّ ما قتل! وقد أكثرت ميليا من صراخها: «ليش قتلتها يا موسى» كلازمة. وعندما نبحث حول عام ولادتها، نجد أن في العام نفسه حدثين مرتبطين، أشد الارتباط، الأول: استقلال الجمهورية التركية، في 29 اكتوبر من نفس ولادة ميليا. والثاني: قيام الانتداب الفرنسي البريطاني بترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين وسوريا. وكان سبق الولادة انتهاء عهد الحكم التركي، وبداية عهد الانتداب الفرنسي البريطاني. في الثالثة من بعد ظهر السبت 12 كانون الثاني (يناير) 1946، كان الزواج، بعد أن عاشت العروس نشوة استقلال لبنان في 22 تشرين ثاني (نوفمبر) 1943. العرس قبل (النكبة)، ولكنه قبيل عرس جلاء آخر جندي فرنسي من لبنان في 31 كانون أول (ديسمبر) 1946. لقد «صار نوم ميليا منذ لحظة موافقتها على الزواج يشبه السقوط في حفرة عميقة معتمة» (ص42). ولأجل الحفرة ذاتها لم يتمكن منصور من عمل العرس في بلاده التي ذهبت إليها العروس لأول مرة تحديدًا إلى يافا من أجل المشاركة في مأتم شقيق زوجها أمين، هناك رأت البلاد التي تسمى: (فلسطين). فكان استشهاد أمين على يد الانجليز، ولادةً لفلسطين في وعي ميليا. في بيروت لم تكن ترى البلاد، رغم أنها عاشت نشوة الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، ولكنها لم تكن تبالي. لم تسمع بفصيل الأوّل وحكاية مملكته التي أسسها في دمشق وامتدت إلى بيروت إلا من زوجها منصور في فندق «مسابكي». هناك أوقفها تحت صورة رجل زاحل النظرات، قيل انه ملك البلاد السورية. ويمكن رصد صراع الفصول بين زمن ولادتها في ذروة الصيف حيث «شمس بيروت الرصاصية تقرع الشوارع بحبال من نار»، وبين زمن زواجها في كانون أول (ديسمبر)، عندما لم يتمكن منصور من عمل العرس في بلاده، ولم تتمكن أسرته من المجيء لبيروت. خلفية العرس تشبه خلفية المأتم. ولكن الاختلاف – الذي هو في طبيعة الوصف لا في الغرض من الوصف- أن خلفية المأتم سوداء، تحيل على زواج حسيبة أم يوسف من والده سليم شاهين في الليل.. حيث.. أصرت العروس (حسيبة) على مطلب واحد؛ أن تتزوج سليم في الليل. وكان لها ما طلبت. خرجت من منزلها متدثرة بفستانها الأسود الطويل، محاطة بوالدها وشقيقاتها الثلاثة وأزواجهن. وكان الليل يغطي موكب العرس الجنائزي. وعلى باب الكنيسة كان سليم في انتظارها لابسًا عباءة حريرية مقصبة وطربوشا أحمر. وكان وحده، مثلما طلبت العروس» (ص195). أما خلفية عرس حفيدتها ميليا، فأخذت تتجلي في الطبيعة: «بياض الثلج الذي كان يهطل والضباب في الطريق» التي سارت فوقها السيارة الأمريكية التي قادها سائق لا اسم له، في الرواية، فسمّي بمهنته، ووصفته ميليا بالأصلع وعيناه مبرقتان. وصل الاثنان، بعد مشقة الطقس، إلى فندق مسابكي بشتورة، والذي ارتاده الملوك والرؤساء والشعراء والفنانون. إذ أصر منصور على قضاء شهر العسل هناك. في بهو الفندق وقف منصور إلى جانب عروسه، وكانت الصور. أرادها تقف تحت صورة تجمع الشيخ بشارة الخوري رئيس جمهورية الاستقلال في لبنان، وجميل مردم بيك رئيس الحكومة السورية، شرح لها كيف يلخّص هذا الحائط المليء بالصور تاريخ سورية ولبنان وفلسطين» (ص328). في غرفة الفندق الخاصة بهما، أصاب منصور من أصابه من أثر أوصاف الطبيعة أو أحداث الطقس من ثلوج وعواصف وبرد شديد، فلم يستطع أن يباشر قدرته، في ليلة الفندق الأولى، إذ عطلت الطبيعة طبيعته. والحمد لله، فلم يصب بالهبل الذي يصيب الرجال في ليلة الدخلة! أما السائق، مجهول الاسم، فقد سمع يتهامس مع إحدى الخادمتين وتحملان اسمًا واحدًا: وديعة. ولكن الرواية لم تتحدث عن مشهد السائق في الغرفة، وعما إذا عاش بطولته مع الخادمة. واكتفت بالاهتمام بوضع منصور الصحي، وخوف ميليا عليه من الموت.
حكايات عائلة سليم
لوهلة أولى، عند النظر في إطلاق ما ليس دارجًا أن تطلقه العائلات المسيحية على أبنائها، كـ اسم عبداللـه، ذي الميزة الإسلامية. سنجد أن هذه الملاحظة، التي قد تكون خارج محلها، مرتبطة ارتباطا يكاد يكون متينًا؛ بوعينا المتسائل في ضوء ما نعرفه عن المسيحية التي تقول بأبوة الله لابنه المسيح. ولكن قد تتلاشى الوهلة حين معايشتنا لأسرة أرثوذكسية تقطن هنا، ولها دور في التاريخ العربي، والسياسي، والثقافي، وتسمي ابنها عبداللـه. وكذلك، أن يجعل الروائي الشابين نقولا ذا الاسم المسيحي الصرف، وعبداللـه ذا الميزة الإسلامية – اللذين ورثا عن يوسف دكان النجارة، وحولاه لصناعة التوابيت، ولولا أن الله فتحها بوجه نقولا (تحديدًا) وصار يعمل توابيت؛ لكانت أسرة يوسف ماتت من الجوع – أن يجعل الشابين «يرويان عن زيارة قاما بها إلى منزل ساحر آشوري يدعى الدكتور شِيْحَا، جاء من العراق ويدعو الناس إلى دين جديد يمزج فيه الإسلام بالمسيحية» (ص131)
فهذا ليس عفوا. كما وأنه ليس من قبيل الصدفة، في شيء، أن تطلق الرواية على قسيس الطائفة الأرثوذكسية في طبرية اسم عبداللـه صايغ؛ الذي عرف بتعصبه للعرب، وتصديه للقسيس يعقوب جاموس البروتستانتي المتصهين الذي دخل طبرية هو وابنته سوزان وأكلا سمك الشمط المقلي. لذلك، فإننا نرى الأسماء، في ذلك، سياسة روائية تتوزع على مسارات تأخذ شكل المنامات والحكايات العائلية. قد ينم اختيار الدارج وذي الصبغة العربية الدينية التوحيدية عن أفكار التآخي، التمازج، الترابط بين المسيحي والمسلم وارتباطهما بالله والوطن. بيد أننا سنكتشف التزام الياس خوري بتفكيك ارتباط المسيحي بالدين، ويعمّق انتماءه الوطني. سيتجلي ذلك في شخصية منصور الفلسطيني العلماني الذي يضجر من قصص المسيح والحكايات الدينية المنسوجة عن الأرض المقدسة. إذن، لسياسة تفكيكية ناقدة وجرئية وساخرة، يجعل الروائي عائلة شاهين على المذهب الأرثوذكسي، أي الإيمان القويم والسلوك الأخلاقي المعتدل والسليم. أراد ذلك ليدحض أن يكون أفرادها على الإيمان القويم والالتزام الصحيح. وحدها الهرطقات والخطايا تصف وتشير إلى من ينظر للكنيسة كمرجعية. لكن الصراعات طاقتها السياسية أعلى من الدينية، وإن كانت الرواية تقصد الدين، والمسيحية تحديدًا بكل مذاهبها، للتعرية وتوسيع وتشعيب الصراعات والانشقاقات. وهناك أمر مسكوت عنه، فتتبع مسار حكاية الجد سليم المسيحي الأرثوذكسي، والتأمل في صورته التي احتلت مشهدًا كبيرًا في الرواية؛ يجعلنا، وانطلاقًا من قصة مرضه الذي تذكره الرواية، نقرأ اسمَه وصورته الإسلامية العثمانية التي احتلت مشهدا كبيرًا في المنطقة. تحرير المشهد من اسم وصورة سليم الجد المريض؛ ما هو إلا توريث الاسم والصورة للحفيد الخطاء الأناني. حيث يحافظ الخط الدرامي على القول بطريقة فنية أن: مخطئًا يورث أخطاءه لمخطئ قادم. شواهد ذلك نجدها، يقينا، في تركّز أخطاء العائلة في مثنّى سليم. فسليم الجد أصابه مرض وأثر في قدراته على الإنجاب، دون أن يؤثر على انتصاب رمزيته التي طبعها أواخر عهده بخيانة زوجته حسيبة، مع عاهرة من مصر تسكن بيروت وتدعى مريم. وتقول الحكاية أنه بعد ولادة يوسف، أصيب سليم الكبير بمرض الأبو كعيب» الذي يصيب الأطفال محدثًا لهم تورما في غدد اللعاب، وأما حين يصاب البالغون، فإن المسألة تتخذ وجها آخر. إذ يصبح الخطر هو إصابة الرجل بالحجز عن الإنجاب. فإذا سقّط «الأبو كعيب» على الخصيتين، فمعناها العوض بسلامتكم. وهذا ما حصل لسليم. عانى الرجل طويلا من هذا المرض اللعين وجاء الطبيب العربي أكثر من مرة. ووصف له أعشابًا مرة كان عليه أن يغليها ويشرب ماءها. وعندما شفي تماما، قال له الطبيب إن العوض على الله، وإنه لن يستطيع بعد اليوم إنجاب الأولاد، وعليه أن يكتفي بابنه الوحيد الذي أعطاه إياه الله. وهنا اتخذت الأمور منعطفًا جديدًا، ولم يعد سليم قادرا على القيام بواجباته الزوجية. فجأة ارتخى كل شيء فيه، وفكر في الانتحار. ذهب إلى الطبيب الذي أكد له أن المرض يقطع البذرة لكنه لا يؤثر على الانتصاب» (ص197). حيث تتمثل الآن رمزية الانتصاب في الجمهورية التركية. وقد تطلعت العائلة، بعد انقطاع البذرة، إلى السلامة والمستقبل المطمئن، وأرادت دفن حكايته وخلع صورته التي احتلت المشهد كله، وما كادت تدفن وتخلع. لأن أخطاء سليم الحفيد، الذي راح يعالج خطأ القدر بخطأ جديد، تمت للأنانية وللفقر والذي أعيا سلامة العائلة. وتمت للأهواء المذهبية و التحيزات السياسية. فبسبب الفقر يسافر سليم إلى مدينة حلب السورية، ومعه صديقه نجيب خطيب أخته ميليا. هناك يتم زواجهما: الأول من أنجيل، والثاني من أوديت. البنتان من عائلة غنية في حلب. ولأجل أن يتخلص من البنتين دفعة واحدة، أصر الوالد على تزويج البنت الكبيرة كشرط لزواج أنجيل الصغيرة، ولم يجد سليم طريقة للغنى أسرع من سرقة نجيب من ميليا، فقد دعى صديقه إلى وجبة الثراء السريعة، قدم له فكرة الزواج من أوديت، فامتثل نجيب للفكرة. وتثبت السنون أن سليم لم يعثر على الخلاص و السلامة؛ لا في الفكرة، و لا في الطريقة، ولا في نجيب الذي اختفى وتحول اسمه رمزا للخيانة في منام ويقظة ميليا التي كانت رأته ذات منام «يجلس مع فتاة أخرى في حديقة منزلها. تقف بعيدًا وتراقب كيف يمدّ الرجل يده إلى شعر الفتاة السمراء، ثم ينحني ويطبع قبلة على عنقها، قبل أن يختفيا تحت شجرة التين الكبيرة. فترفض أن تجلس معه أو أن تكلمه حين يأتي لزيارتهم في اليوم التالي. ولا تعود الأمور إلى سابق عهدها، إلا حين يمحو منام جديد منامها السابق. بعد عشرة أعوام جاء سليم، من حلب، مريضًا بالفشل، يشكو من عدم الراحة، يعترف بخطئه ويعري أمه أمام إخوته، حين يخبرهم بأنها باركت خطوته وتواطأت معه، لا تستطيع أن تدافع عن نفسها يشتم عبداللـه أمه وأخاه سليم لأنه حطم حياة شقيقته من أجل لا شيء. تبكي الأم وتبدأ عوارض المرض. يركض عبداللـه كي يستدعي الطبيب بينما يدخل موسى غرفته ويغلق على نفسه الباب ويقرر ألا يتكلم مع أمه بعد اليوم. ولكن هذا النوع من القرارات العائلية سرعان ما سوف يتلاشى. لكن نقولا الذي شعر بأن السبب وراء مجيء سليم هو المطالبة بورثته من الدكان؛ يرفض بشدة عودته للعمل معه ومع عبداللـه في محل التوابيت، فيعود إلى حلب. سليم الكبير كان أول من دق جرس كنيسة مار جرجس ببيروت، لكن سليم الصغير، وريث المذهب والاسم، اعتنق المذهب الكاثوليكي، ودخل في سلك الرهبان الجزويت، ودرس الحقوق في جامعتهم وأصيب، بالتالي، بلوثة الهبل والهرطقة، أو بلغة الراهبة ميلانة: تخلي عن الإيمان القويم، من أجل أن يلحق الفرنساوية! وهنا يحبن طرح السؤال السياسي، لا المذهبي: هل كان أمر سليم الصغير إشارة لاحتلال فرنسا أملاك الجد سليم «الرجل المريض»؟ وهل كان الزواج كاثوليكيا بين البيروتيين والحلبيتين؟ أما ميليا وأبوها، ستجمعهما صورة الضحية. يوسف ضحية أبيه سليم الذي عشق عاهرة مصرية سمّت نفسها مريم لم يستطع أن يتأكد يومًا من حقيقة اسمها، يبدو أنها من السلالة السرية التي خلفتها حملة إبراهيم باشا في الساحل الشامي. وهنا يقع السؤال الذي احتار يوسف في الجواب عليه. من هي هذه المرأة، وكيف دخلت في حياة العائلة؟ وقد كلفه السؤال عينه اليمنى. وذلك الشعور الذي رافقه طوال حياته، وانتقل إلى أولاده، بأن الأب يستطيع أن يقتل أبيه. وعندما انكشف المستور، قال سليم لحسيبة إنه اعتقده لصا يتسلل إلى البيت العتيق، فرماه بحجر، ولم يخطر في باله أن يكون ابنه الوحيد من يتلصص عليه. أصاب الحجر عين الصبي التي صارت نصف مغمضة، ودخل سليم إلى بيت عشيقته المصرية مليئًا بالزهو». (ص198). لكن حسيبة كانت تعرف أنه كاذب، وما حصل ليوسف هو بسبب القحبة المصرية مريم التي لم تكن عشيقة سليم، كانت عشيقة رجل آخر هو الخواجة سرجيوس أفتيموس الذي لم يكن متزوجًا، ولكنه كان أحد أوائل اللبنانيين الذين خلعوا العباءة والطربوش ولبسوا الثياب الإفرنجية.. أعزب مزمن، درس هندسة العمارة في باريس، وكان من جيل المهندسين اللبنانيين الذين أدخلوا نظام الأعمدة الطلياني على البيوت البيروتية الفسيحة، التي بنتها طبقة تجار الحري. أما لماذا يقيم رجل عازب علاقة سرية يحرص بشدة على عدم انكشافها، فهذا أحد أسرار العائلات البيروتية الغنية التي أسست لانقراضها عبر العزوبية، وصنعت تقليدًا اجتماعيا قائما على حياة مزدوجة ظاهرها التدين والمثابرة على الصلوات في الكنيسة، وباطنها علاقات داعرة مع محظيات سريات ينتمين إلى واحدة من سلالتين: السلالة المصرية التي تأسست مع غزوة إبراهيم باشا، وهي سلالة حديثة مقارنة بالسلالة اليونانية التي يقال إنها تأسست مع الإسكندر المقدوني، والتي جسدتها السيدة ماريكا اسبيريدون» (ص199)، تلك الداعرة «عشيقة المطران، إنها نسخة جديدة من القديسة مريم المصرية التي بدأت حياتها كعاهرة ثم تابت على يد القديس أنطونيوس الكبير. أما ماريكا فلم تتب، تأتي إلى الكنيسة صباح الأحد وبرفقتها ثلاث نساء يونانيات، يحضرن القداس ويتناولن، ثم يعدن إلى شارع الخطأ الذي أطلق عليه اسم المتنبي، حيث يتابعن عملهن.. تزوره الكنائس التي يصلي فيها المطران أيام الآحاد، كمتدينة، تلاحق المطران وتدفع تبرعات للكنيسة. وكانت اشترت أضخم ثريا ببيروت، وأهدتها لكنبسة مار جرجس» (ص256) بعد أربعين سنة سيتعرف اسكندر شاهين، بطريق الصدفة، على ماريكا. واسكندر هذا هو الابن البكر لموسى شاهين، الذي أصيب بلوثة الأدب. سوف يشتغل في الجورنال الذي أسسه سعيد الصباغة مع آخرين، وكان يدعى «الأحرار» والفكرة من تأسيس هذه الجريدة كانت إنشاء وسيلة لنشر أفكار الحركة الماسونية التي كانت ناشطة في سورية ولبنان، وتدعو إلى الأفكار العلمانية وتسخر من رجال الدين. يكتب اسكندر كل كلام سيدة الكار ماريكا وتفاصيل العلاقات الجنسية مع الرجال، لاسيما المطران و سعيد الصباغة، ويقدمه له بعد تغيير اسمه، لأجل نشره، يأخذ الخواجة سعيد المقال ويضعه في الجارور، ويقول للصحافي الشاب إنه يقدر المجهود الكبير الذي بذله في كتابة مقاله الشيق، لكنه لن يستطيع نشره، لان في ذلك إساءة لذكرى المطران بما يحمله هذا من احتمالات الفتنة الطائفية في بلد كلبنان.. وحين يطلب الصحافي الشاب المقال لا يحصل عليه. وهكذا لم يبق من حكاية ماريكا في الذاكرة سوى اسمها الذي يثير الرغبة والذكريات.. «(ص262). أما حسيبة، فسيدافع زوجها سليم عن نفسه بفضح حكاية غرامية مدفونة وحيّة في قلبها. قالت سعدى أنها سمعت والدة زوجها، في أول أيام خرفها، تتكلم الفرنسية مع رجل وهمي اسمه فردينان، ذلك الضابط الفرنسي الذي كان يربطه بها علاقة غرامية.. وعدها بالزواج ثم اختفى، مثلما يفعل كل الجنود» (ص194). ولعل هذه إشارة تجسّد علاقة الحب والتنصل، الظهور والاختفاء، حسب السياسة، بين فرنسا ولبنان. أيضًا، ميليا ضحية شقيقها سليم الذي انشق عن الأرثوذكسية إلى الكاثوليكية، وقتلها في قلبها عندما سرق منها خطيبها نجيب وسافرا معا إلى حلب، حيث تزوجا من أختين متشابهتين من مدينة حلب السورية. ولعل في هذا التزاوج الإجابة على سؤالنا السابق: هل كان الزواج بين اللبنانيين والسوريتين كاثوليكيا؟ في الواقع لم يتم الزواج بين حسيبة والضابط الفرنسي الذي اختفى. وكان هذا الاختفاء من دواعي نشوة ميليا باستقلال بلبنان. لا، لم تكن فرحة كاملة، لأنها حلمت حقيقتها وحقيقة جدتها حسيبة معًا في منام واحد «عندما رأت نجيب يلبس ثياب جندي فرنسي، ويركض بين الأشجار، كأنه يهرب منها. امتلأت الأرض بالموت، ونجيب اختفى. أرادت أن تصرخ لنجيب كي يأتي لإنقاذها، لكن صوتها اختنق في حنجرتها ونجيب اختفى» (ص133). ميليا التي ترى صورًا تختار من بينها ما تشاء، وتقوم بتركيب العناصر على ذوقها، في اليقظة رأت أن نجيب المحامي يصير وديع الفران، ووديع يصير كاهن كنيسة الملاك ميخائيل.. وسوف يبقى اسم نجيب لديها يشير إلى الخيانة، وأما فردينان في قلب جدتها حسيبة فهو اسم الحبّ المدفون حيّا في صدرها. كان حبّا وبقي، ولم يكن قصة. بعد عام ظهر منصور في حياة ميليا. وقبل أعوام بعيدة كان سليم بديلا، لا بل محتلا لجسد حسيبة. كان منصور الذي قدم من الناصرة إلى بيروت لأسباب تجارية، عاشقا لميليا وبديلا لنجيب. كل ما حدث مع منصور في زيارته لبيروت بمثابة إرهاصات النكبة. فكانت ميليا منجاة وعوضًا عن ابنه عمته الأرملة التي تقيم في الناصرة، سميحة التي وافق على الزواج منها ولكنها أحبت شابا واعتنقت المذهب البروتستانتي لأجله. الخلاف الذي أفضى بمنصور للانتقال من يافا إلى الناصرة، كان خلافا على طريقة العمل المسلّح الذي كانا يقومان به ضد الانجليز والعصابات الصهيونية. منصور أراد السرية في العمل العسكري، لكن أمين الذي سيمثل عرب الداخل، كان ثرثارًا، ويفتقر إلى الحس الأمني. على هذا الأساس نشأ الخلاف بين الأخوين. الذي فهمه الجميع بأنه خلاف على إدارة محل الحديد، انحازت أمهما نجيبة لأمين، فاختار منصور الإقامة في الناصرة، ومن هناك سيبدأ حياته من جديد، ويفتح محلا للأقمشة، ويسافر إلى بيروت لجلب الأقمشة الإفرنجية. عندما وصوله بيروت يقوم يزيارة بيت صديقه من آل رحال. ومن حديقة بيت الخواجة رحال، يرى ميليا في حديقتها فتاة بيضاء حليبية. يحبها من أول نظرة، ويتعلق بها، ويقرر عدم مغادرة بيروت بدونها. ولكنه يتزوجها في 2/ كانون أول (ديسمبر) 1946، في بيروت، ولا يحضر أحد من أسرته، بسبب الأحداث الجارية في فلسطين. ولا يحضر سليم العرس. يقضي شهر العسل في فندق «مسابكي» بشتورة. وبعد فترة ينتقل للعيش في مدينة الناصرة التي ستوقظ في ميليا الإحساس بالمسيحية بوصفها المرأة الزرقاء. ولكن منصور أصرّ على ميليا أن تنبش حكايتي سليم الجد والأخ المدفونتين، و قد أرادت العائلة طمرهما في عتمة النسيان.
عند الورقة رقم 47 من الليلة الثانية، من ليالي الرواية، توقّف منصور عن أشعار الغزل والحب الحسي الذي اعتاد أن يرويه لعروسه البيضاء، وقد شهد الوجه الثاني من ورقة الليلة الثانية رقم 48 الفاصلة والحاسمة؛ انتقال وتحوّل منصور الصوتي من أشعار الغزل للهتاف بأشعارٍ، موضوعها العدوُّ الأكبر. سيان الموت وإسرائيل. «من أين أتى منصور بهذه اللغة الجديدة؟، وقف في المطبخ، وحدثها عن الشاعر الفارس عبد الرحيم محمود، ودار بينه وبينها مساجلة شعرية تخللتها وأعقبتها مناقشة، ولم ترحب ميليا بكلمات: مهاوي الردى، ممات يغيظ العدى، الرحيل، السيف، الفتك، تضريب الأعناق، الهبوات السود، العسكر البكر. وتتحدى ميليا زوجها الذي كان طلب منها الانتقال معه للعيش في يافا، وكان سر تحوله هو استشهاد أخيه أمين: «جِبلي شاعر متل المتنبي، ساعتها بروح معك محلّ ما بدك، ساعتها بكون طعم الحب من طعم الشعر وبكون طعم الشعر من طعم الحب، بس هيدى، تبع يلي بده يحمل روحه… «أخو الشهيد أمين الذين قتله الانجليز، لأنه كان يساهم في أعمال المقاومة عبر وضعه محل الخردوات الذي ورثه عن أبيه شكري حوراني في خدمة المقاومين، قال: «هيدا شاعر عظيم، ما اكتفى بالكتابة، حمل السلاح وراح على الحرب ومات، وسمى ابنه الطيب حتى تصير الناس تنده له أبو الطيب» (ويخذل الطيّبُ، أو على الأرجح، يتاجر بشرف أبيه!). ومُجدّدا ميليا لمنصور: «الشهيد على راسي، بس شاعر هالبلاد بعد ما خلق، ولمن رح يجي وقته رح تعرفوا انتم الفلسطينيين ان هالبلاد ما بتصنع إلا بالشعر، هالبلاد مش أرض، هيدي كلام معجون بالقصص، من وقت ما مشي المسيح على الأرض صار التراب مصنوع من أحرف وكلمات «في البدء كانت الكلمة، والكلمة كان عند اللـه، وكان الكلمة، يعنى هو الكلمة، والشعر هو أعلى درجات الكلام، وبكرا يا حبيبي بعد شي خمسين سنة لمن بيولد بهالأرض شاعر عظيم ساعتها بتصيروا تعرفوا ان الحرب ما رح تربحوها إلا بالكلمة يلي هي أقوى من السلاح» وبلغة ناهية ومعاتبة يرد الزوج الفلسطيني: «أولاً لا تقولي انتم، ليش إنت مش نحن» ؛ تسارع ميليا الزوجة البيروتية: «معك حق يا حبيبي، بعتذر. أنا صرت نحنا، ولمن بحكي عنكم بكون عم بحكي عن نحنا».. «وتانيا مش رح ننطر خمسين سنة حتى يظهر الشاعر تبعك، رح نحارب بالشعر يللي منعرف نكتبه، ورح ننتصر» (ص281- 282). وهكذا حتى نهاية الرواية مع نهاية الليلة الثالثة، والتي سلكت فيها الأحداث مسارات سردية تمرّ على النكبة أو الليلة السوداء. وقد انتهت الرواية، تماماً، عندما حاولت ميليا، أن تستفيق من هذا المنام. حاولت أن تفتح عينيها لكن المنام لا يتوقف. حاولت أن تفتح فلم تستطع، فعرفت أنها ماتت.
من هو موسى ؟
لن توافق أو تصادق، دائمًا، الرواية على وعينا الجاهز عندما ننسب موسى، بدافع الاسم، لليهود ككلمة جامعة لليهودي والإسرائيلي والصهيوني؛ لأن في ذلك إجحافًا ومصادرة وقتلا. فضلا عن أنه أصغر أحفاد عائلة سليم شاهين المسيحية الأرثوذكسية! عدم الموافقة والمصادقة سوف يجعل الرأي فضفاضًا أو مبنيّا على سيْر الأحداث. موسى مركزي ومنتشر ومحيّر، فهو يظهر، بشكل مكثف، الشقيق القريب من ميليا والمتعاطف معها والمحب لها. حتى أن منصور يغار منه إذ جاء اسمه على لسان ميليا أو إلى منامها. الرواية لم توافق، ولكن ميليا قالت لموسى إنها موافقة على الزواج، من منصور الفلسطيني، لأنّ العريس يشبهه؛ بخلاف أخوانها الثلاثة الكبار: سليم، نقولا، وعبداللـه. الذين كانوا يعاملونها بوصفها امرأة ويمارسون عليها تسلطهم الرجولي، أما موسى شقيقها الصغير فينظر إليها كأنها أمّه، وهي سعيدة بالدورين اللذين جعلا منها امرأة وأما وحولاها إلى محور حياة العائلة» (ص139). «موسى كان سرق، وهو صغير، قروش ميليا القليلة التي تخبئها تحت فراشها. نهضت في الصباح، فلم تجدها، وعندما عاد موسى من المدرسة، وبخته، واصطبغ وجه الفتى باللون الأحمر، حاول نفي التهمة، قبل أن ينهار بين يدي شقيقته ويعترف بجريمته، لحظتها , طبعت ميليا قبلة على أهدابه وسامحته» (ص78). هو الذي بَتّ في أمر زواجها. وهو الوحيد الذي ورث بيت أمه، دون الثلاثة أوّلهم سليم الذي ورث الاسم عن جده، سليم كان يمنع خروج ميليا إلى البحر. وموسى الوحيد الذي علّق صورتها على الحائط الأبيض، متزامنّا ذلك مع زواجها، حيث تشاءمت ميليا وبكت لأنّ الصورة أعلنت موتها. «المرأة التي رأتها، في منامها الأول، ليلة الزواج، كانت صورة مطابقة لها. فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها ممددة على بياض السرير، وبياض بشرتها التي ترشح شفافية، عندها، قال منصور إن بياضها شفاف كالماء، وإنها مرآة حياته»(ص126). موسى الذي دخل طبرية وعمل في أحد فنادقها محاسبًا لمدة سنة، بعد أن أنهى البكالوريا (وقد أخذ منصور الفلسطيني يغلي من الغضب، وشعر بأنه كان مخدوعاً، لأن زوجته ميليا لم تخبره بقصة ذهاب موسى إلى فلسطين، إلا بعد ثلاثة أشهر من زواجهما) هو على الأرجح، ليس صهيونيًا ولا بروتستانتيا ولا إسرائيليا بالمعنى الحالي. بعد أن عاد لبيروت أسرّ المتهم لميليا بقصة حبه لفتاة تدعى «سوزان» رآها مع والدها في فندق «الشاطئ» بطبرية. وسوزان حبيبة موسى الوهمية، هي بنت القسيس يعقوب جاموس (لاحظوا إنه سَمّيُّ النبي إسرائيل، والعائلة ليست بقرة) الذي اهتدى إلى المسيحية في أمريكا. فهو ينتمي إلى عائلة يهودية أقامت في صفد منذ أواسط القرن التاسع عشر، يتكلم بلكنة فلسطينية غريبة. عشق سائحة أمريكية تكبره بخمسة عشر عامًا، ولحق بها إلى مدينة بورتلاند، حيث تزوجها في كنيسة بروتستانتية تتبع السبتيين. المجموعة الأرثوذكسية في طبرية التي تحولت إلى البروتستانتية، كانت تتبع المرسلين الأمريكيين وكنيستهم المسيحية. وكان على رأس تلك الكنيسة، في طبرية، قسيس سوري الأصل يدعى عبداللـه صايغ، عرف بتعصبه للعرب، وكرهه للهجرة اليهودية. قاد القسيس عبداللـه حملة شعواء على القسيس يعقوب متهما إياه بالشعوذة، ومنع أفراد رعيته من التكلم معه؛ لأنه ليس مسيحيّا، بل لا بد أن يكون جاسوسًا صهيونيّا يعمل من أجل تمزيق الطائفة المسيحية الفلسطينية، (وبنفيّ منا: ليس جاموسًا ولا حتى بقرة موسى. مثلما لعب إلياس خوري في روايته على الجناس الناقص والطباق بين ميلانة وهيلانة). رعيّة الجاسوس الوحيدة كانت ابنته الجميلة التي لم تكن تتكلم سوى الانجليزية. وهنا تعلو مكانة طبرية السياسية على مكانتها الدينية أو تفضي المكانات إلى بعضها. فهي نقطة من نقاط الصراع في الرواية والواقع بين سوريا وواقع اسمه دولة «إسرائيل». ولأن الشيء بالشيء يذكر، فهنا نذكّر بالمطلب العربي المتداول، كاستحقاق، في المحافل الدولية: (الانسحاب إلى حدود 1923). مثل هذا الشرط يجري على لسان لبنان بخصوص مزارع «شبعا» اللبنانية. فعند البحث حول تاريخ ميلاد ميليا، نجد أن الانتداب الفرنسي البريطاني، في هذه السنة تحديدًا، قام بترسيم الحدود المتعارف عليها، الآن، بين لبنان وفلسطين وسوريا. ما يؤكد أن ولادة ميليا متزامنة مع ولادة الخلفية السياسية والظروف والتقلبات المصاحبة في بلاد الشام. أما «سوزان»، بنت يعقوب ورعيته، فهي تمثل الهجرة المضادة، لكونها عادت إلى أمريكا، لأنها لم تستطع التأقلم مع الحياة في الأراضي المقدسة. رفضت أن تتعلّم العربية، أما الكلمات العبرية التي تعلمتها في أمريكا، فقد نسيتها. قالت لوالدها إنها منذ وطئت قدماها هذه البلاد، وهي تشعر بالخوف، ولا ترى في مناماتها سوى < الكوابيس > عن الموت» (ص353). وعندما نحصي كم مرة وردت كلمة كوابيس في الرواية التي وقعت قرابة 400 صفحة؛ لن نحصل إلا على الناتج: واحد. ولعل ما سيخفف من خطر هذه النتيجة الإيمان بحقيقة الواحد المتعدد. وفيما يتعلق بتجارب ميليا العاطفية السابقة مع وديع صاحب الفرن الذي ورثه عن والده، ونجيب صديق أخيها سليم، الذي رأته، في منام، بملابس ضابط فرنسي؛ فقد أفضت بها إلى نتيجة واحدة: فـ «عندما أخبرها موسى عن رغبة منصور في الزواج منها، وأن عليها أن تذهب لتعيش معه في مدينته البعيدة، رأت في عيني شقيقها ذلك السؤال الذي لا جواب له، لماذا على المرأة أن تتبع الرجل إلى حيث لا تدري، ولماذا الدنيا هيك، والآن بعد تجربتها مع وديع ونجيب، صارت الأمور أكثر غموضًا، وديع علمها أن الرجولة تعني أن يملك الإنسان وجوها متعددة، ونجيب كشف لها مأزق الرجل الذي يبحث عن مكان يحمله. أما المرأة فعليها أن تكون الوجوه والأمكنة وكل شيء، أي لا شيء» (ص124). وما حدث في طبرية بين يعقوب وسوزان من جهة وموسى من جهه ثانية؛ يشير إلى الاختلاط والتداخل المقصود: العاطفي بالديني بالسياسي. موسى الذي لا يحب سوى السمك الحقيقي «السلطان إبراهيم»، كان أجبر، من باب الإحراج، فأكل من «سمك المشط» الذي يكرهه، عندما دعاه يعقوب جاموس للمائدة. وسيروي لأخته والحنين يطفح من عينيه وقلبه عن «سوزان»، الفتاة الجميلة، الحلم أو الوهم، التي استغل والدها حب البيروتي لها, وَشوّهه باختراعه قصة اتهم فيها موسى بالاعتداء على ابنته ومحاولته فض بكارتها. وقد نسج هذا الادعاء الكاذب، إما لكي لا يعرف موسى السبب الحقيقي الذي حمل سوزان على الإسراع بترك البلاد المقدسة. أو بعد أن فشلت كل محاولات يعقوب التبشيرية مع موسى حين راح «يسأل سوزان عن رأيها في الحمام التركي الذي ذهبت إليه، لم تجاوب، ولكن القسيبس يعقوب ألقى عليه محاضرة عن أهمية الحمامات العربية في صوغ الثقافة الأندلسية، وقال إن اليهود والعرب المسلمين كانوا يتحممون معًا في قرطبة وغرناطة، وإنّ التسامح هو الماء، لذا فإن جوهر المسيحية هو المعمودية، المسيحية الكاثوليكية لم تفهم هذا، لذا قام القشتاليون بتدمير الحمامات وإحراق الكتب، بعد احتلال الأندلس. «هذه هي الهمجية يا ابني لماذا لا تأتي للصلاة في كنيستنا» (ص351). وقد اقترح القسيس على موسى بأن يأتي معه إلى بورتلاند، «الشغل كتير بأميركا، بتدخل معنا بالكنيسة، وبتصير واحدا من الأخوة، وبزوجك سوزان، شو رأيك»؟ (ص352) هل كانت سياسة الفتاة متفقة مع أبيها؟ لقد أحس موسى بالخديعة قادمة من القسيس ورعيته الوحيدة.
موسى، بناء على قصته مع يعقوب، يقترب من وصف العلماني الذي لا يحب الأديان ولا السياسة. وهناك تشابه بينه وبين منصور في كون الأخير علمانيا، لا يهتم لمكانة الناصرة الدينية، ولكنه سيختلف معه، لأنه يولي اهتماما بالتاريخ والسياسة. عند موسى «السمك الحقيقي هو «السلطان إبراهيم»، سمك ملون بالمرجان والشمس والملح، وأن لا شيء يعلو سمك البحر المالح، وأن هذه البحيرة التي شهدت حكاية المسيح صارت مملة، وأنه يريد العودة إلى بيروت حيث ينام ملء جفونه لأن رطوبة البحر ورائحة الملح تحمله إلى النوم الحقيقي» (ص353) وهنا نلحظ خروج موسى من مأزق البحيرة إلى مدى لبنان المفتوح على البحر والطبيعة بمعزل عن محمولاتها ودلالاتها الدينية والسياسة. وأما يعقوب الذي دخل في المأزق، فينظر إليه العرب بوصفه يهوديّا، واليهود يقولون إنه خائن دين أجداده، لذا سوف يلحق بابنته ويعود. ولكن هل علّم يعقوب طبرية أو فلسطين – مثلما علّم وديع ميليا – أن الرجولة تعني أن يملك الإنسان وجوها متعددة، أم أنه يشبه نجيب لأنه كشف لها مأزق الرجل الذي يبحث عن مكان يحمله؟ وعلى المرأة أن تكون الوجوه والأمكنة وكل شيء، أي لا شيء. أما منصور حوراني الرجل الفلسطيني المسيحي الأرثوذكسي الوطني، يعيش في محيط عقائدي متعدد، ولا يجد حرجا من لفظ «لا اله إلا الله». حين عاد إلى الناصرة بميليا التي تزوجها في بيروت. وجد أن زوجته مأخوذة بالمدينة التي تشبه مريم. في حين أنه لم يكن يعظم مكانة المدينة الدينية، فهو يراها «مكانًا للسياح والمجاديب». قال إنه لا يحب حكايات المسيح: «بزهق لمّا بسمع الحكاية نفسها.. أنا قصص المسيح بتزهقني، بس شو بدّي أعمل، خلقت مسيحي وهيّاني. والله لما إجيت أسكن بالناصرة ما فكرت بالموضوع، بس خلص، ما في الواحد يعيش بمدينة الله..» (ص346) قيل إن عمته الأرملة «وردة» أرادته زوجا لابنته الوحيدة، وسحبته إلى الناصرة. لكن الحقيقة أن منصور ذهب من تلقاء نفسه، ولم يكن يمانع في الزواج من سميحة، ولكنها كانت على علاقة مع شاب من أسرة سعيد، اعتنقت المذهب البروتستانتي من أجله» (ص143). لم يجد منصور في قصة اعتناق سليم المذهب الكاثوليكي ما يغضب، قال «كلهم زي بعضه»، لحظتها، نهشته نظرات حماته سعدى وهي تقول عبارتها الشهيرة: «الله روم»، كلما حاول أحد مناقشتها في خيارات ابنها الدينية الجديدة. «لكن نحن لسنا من الروم»، أراد منصور أن يقول لهم مستندا إلى ما رواه كاهن يافوي، في غمرة النقاش الصاخب الذي دار في فلسطين ضد الطغمة اليونانية التي تسيطر على كنيسة القدس الأرثوذكسية. قال الكاهن إن كلمة روم كانت في الأصل شتيمة ألصقها بنا أتباع الكنيسة السريانية كي يقولوا إننا عملاء الدولة البيزنطية. نحن عرب أرثوذكس اخترنا الإيمان بالطبيعتين الإلهية والإنسانية للسيد المسيح عليه السلام، أما كلمة روم فقد تبنيناها لأننا، من صغر عقولنا، لبسنا التهمة التي ألصقها بنا أعداؤنا» (ص157) وعند العودة إلى خروج موسى من مأزق البحيرة إلى مدى لبنان المفتوح على البحر حيث اليونان، وتسميته ابنه البكر «اسكندر»؛ نلاحظ سيطرة الطغمة اليونانية على أسقفية كنيستهم التي يطالبون بتعريبها. وقد يكون الانفتاح على البحر حيث رومية ؛ ليعيد هذا الانفتاح موسى لحظيرة الاتهام وإثارة شبهات حوله. أو قد يكون تحوّل أو انشقّ عن مذهب العائلة، كما فعلها سليم بانشقاقه واعتناقه الكاثوليكية. وربما كذّب على نفسه وصدقها بأنه من السلالة اليونانية التي يقال إنها تأسست مع الاسكندر المقدوني، والتي جسدتها الداعرة ماريكا اسبيريدون «التي كانت على علاقة مع الماسوني اللببرالي سعيد صباغة, صاحب جورنال «الأحرار»، الذي عمل فيه الشاب اسكندر موسى، وخصص لنشر أفكار الحركة الماسونية التي كانت ناشطة في سورية ولبنان، وتدعو إلى الأفكار العلمانية وتسخر من رجال الدين.
نصــر جميـل شعـث
شاعر وناقد من فلسطين